الاثنين، 18 فبراير 2013

التفريق بين الغيب والشهادة


كتبهامصطفى الكومي ، في 21 يناير 2011 الساعة: 19:51 م

سابعاً
التفريق بين الغيب والشهادة


      معالم وضوابط
    الدكتور يوسف القرضاوي
  بسم الله الرحمن الرحيم

































   تعرضت السنة لموضوعات تتعلق بـ (عالم الغيب) ـ بعضها يتصل بغير المنظور من عالمنا هذا , مثل الملائكة الذين جندهم الله تعالى لوظائف شتى "..وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هو.."(المدثر:31). مثل الجن , سكان الأرض , المكلفين مثلنا , ممن يروننا ولا نراهم , ومنهم الشياطين , جنود إبليس الذي أقسم أمام الله تعالى على إغوائنا وتزيين الباطل والشر لنا :" قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(ص:83).
   ومثل العرش والكرسي واللوح والقلم .
 وبعض هذه الغيبات تتعلق بالحياة البرزخية , حياة ما بعد الموت قبل قيام الساعة , مما يتصل بسؤال القبر ونعيمه أو عذابه . وبعضها الآخر يتعلق بالحياة الآخرة , بالبعث والحشر والموقف وأهوال يوم القيامة , والشفاعة العظمى , والميزان والحساب , والصراط , والجنة وألوان النعيم فيها , من مادي وروحي ودرجات الناس فيها , والنار وأنواع العذاب فيها , من حسي ومعنوي , ودركات الناس فيها .
   وكل هذه الأمور أو جلها مما تعرض له القرآن الكريم , ولكن السنة المشرفة توسعت وفصلت فيما أجمله القرآن .
 ولابد أن نشير هنا إلى بعض ما وردت به الأحاديث هنا لا يبلغ مرتبة الصحة التي يعتد بها , فلا ينبغي أن يلتفت إليه .
   إنما الكلام هنا فيما ثبت وصح من أحاديث المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
   والواجب على العالم المسلم هنا أن يسلم بما صح ثبوته حسب قواعد أهل العلم , وسلف الأمة المقتدى بهم , ولا يجوز رده لمجرد مخالفته لما عهدناه , أو استبعاد وقوعه تبعا لما ألفناه , ما دام في دائرة الممكن عقلا , وإن كنا نعتبره مستحيلا في العادة , فقد استطاع الإنسان , بما أوتي من علم , أن يصنع أشياء كانت في حكم المستحيل عادة , ولو حكيت لأحد الأقدمين , لرمي من يحكيها بالجنون , فكيف بقدرة الله تعالى , الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ؟
   لهذا قرر علماءنا أن الدين قد يأتي بما يحار فيه العقل , ولكنه لا يمكن أن يأتي بما يحيله العقل . فلا يتناقض صحيح المنقول , وصريح المعقول , بحال من الأحوال .
   وما يظن من تناقض بينهما , فلا بد أن غلطا قد وقع , فإما أن يكون النقل غير صحيح أو يكون العقل غير صريح , أعني أن ما ظنه الإنسان ديناً ليس من الدين , أو ظنه علما أو عقلا ليس من العلم والعقل .
   ولقد غلت بعض المدارس أو الفرق الإسلامية , مثل المعتزلة في رد بعض ما تستبعده عقولهم من صحاح الأحاديث , كما رأينا موقف بعضهم من رد الأحاديث التي تحدثت عن سؤال الملكين في القبر , وما بعقب ذلك من نعيم أو عذاب .
   ومثل ذلك موقفهم من أحاديث (الميزان) و (الصراط) .
   وموقفهم من رؤية المؤمنين لله تعالى في الجنة .
   ومن بعض الأحاديث التي تتحدث عن الجن وعلاقتهم ببني الإنسان .
 وقد ذكر الإمام الشاطبي في كتابه القيم (الاعتصام) أن من خصال أهل الابتداع والانحراف : ردهم للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم , ويدعون أنها مخالفة للمعقول , وغير جارية على مقتضى الدليل , فيجب ردها , كالمنكرين لعذاب القبر , والصراط والميزان , ورؤية الله عز وجل في الآخرة , وكذلك حديث الذباب ومقله , وأن أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء , وأنه يقدم الذي فيه الداء , وحديث الذي أخذ أخاه بطنه فأمره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسقيه العسل , وما أشبه ذلك من الأحاديث الصحيحة المنقولة نقل العدول .
   ربما قدحوا في الرواة من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم ـ وحاشاهم ـ وفيمن اتفق الأئمة من المحدثين على عدالتهم وإمامتهم , كل ذلك ليردوا به على من خالفهم في المذهب , وربما ردوا فتاويهم وقبحوها في أسماع العامة , لينفروا الأمة عن اتباع السنة وأهلها .
   وقد جعلوا القول بإثبات الصراط والميزان والحوض قولا بما لا يعقل ! وقد سئل بعضهم : هل يكفر من قال برؤية الباري في الآخرة ؟ فقال : لا يكفر لأنه قال ما لا يعقل , ومن قال ما لا يعقل فليس بكافر !
   وذهبت طائفة إلى نفي أخبار الآحاد جملة , والاقتصار على ما استحسنته عقولهم في فهم القرآن , حتى أباحوا الخمر بقوله "لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا.."(المائدة:93) .
   ففي هؤلاء وأمثالهم قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "لا ألفين أحدهم متكئا على أريكته يأتيه الأمر م أمري مما أمرت به ونهيت عنه , فيقول لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه "(131) , وهذا وعيد شديد تضمنه النهي , لا حق بمن ارتكب رد السنة "(132)أ هـ .
   ومن ذلك : استبعاد بعض أدعياء الجديد من المعاصرين الحديث الصحيح :"إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها ماء عام ولا يقطعها ".
   و الحديث متفق عليه , رواه الشيخان عن سهل بن سعد , وأبي سعيد وأبي هريرة (133) , ورواه البخاري أيضا عن انس , ولهذا قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى :
"وَظِلٍّ مَمْدُودٍ(الواقعة:30) , فهذا حديث ثابت عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ , بل متواتر مقطوع بصحته عند أئمة الحديث .
   والظاهر : أن الأعوام من أعوام الدنيا , ولهذا يقول في رواية أبي سعيد :(الراكب الجواد المضَّمَر السريع ) لا يعلم إلا الله النسبة بين الزمن في دنيانا , والزمن عند الله , وفي القرآن :" وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ(الحج:47) .
   وإذا صح الحديث لم يسعنا إلا أن نقول مطمئنين : آمنا وصدقنا , موقنين أن للآخرة قوانينها الخاصة المخالفة لقوانين هذه الدنيا . حتى قال ابن عباس : ليس في الجنة من الدنيا إلا الأسماء !
   ومثل ذلك ما جاء في عذاب أهل الكفر في النار , مثل ضخامة ضرس الكافر , وبعد ما بين منكبيه , وغلظ جلده , فالتسليم بها هو الأسلم والبحث في تفصيلها لا طائل تحته .
   كما أن الداعية الموفق لا يشغل عقول قرائه أو مستمعيه بهذا النوع من الأحاديث التي من شأنها أن تثير إشكالات عند العقل المعاصر , ولا يتوقف على العلم بها صلاح دين ولا سعادة دنيا , إنما تذكر في مناسبتها عند الاقتضاء .
   وأولى ما يشغل به المسلم نفسه أن يسأل الله الجنة , وما قرب إليها من قول وعمل , وأن يستعيذ به من النار , وما قرب إليها من قول وعمل , وأن يسلك سلوك أهل الجنة , وينأى بنفسه عن سلوك أصحاب النار .
   والموقف السليم الذي يفرضه منطق الإيمان , ولا يرفضه منطق العقل : أن نقول في كل ما أثبته الدين من الغيبيات : آمنا وصدقنا , كما نقول في كل ما جاءنا به من التعبديات : سمعنا وأطعنا .
   أجل , تؤمن بما جاء به النص , ولا نسأل عن كنهه وكيفه , ولا نبحث عن تفصيله , فإن عقولنا كثيرا ما تعجز عن الإحاطة بهذه الأمور الغيبية , فإن الله تعالى الذي خلق الإنسان لم يؤهله لمثل هذا الإدراك , لأنه لا يحتاج إليه للقيام بمهمته في الخلافة في الأرض .
    ولو أن المدرسة العقلية الكلامية التي يمثلها المعتزلة , وفقت إلى إدراك هذه الحقيقة , والتسليم بها , وما كانوا بحاجة إلى إنكار الأحاديث الصحاح التي أثبتت رؤية المؤمنين لله تعالى في الآخرة , و أنهم يرون ربهم كما يرون القمر ليلة البدر , والتشبيه للرؤية في الوضوح لا للمرئي , بالإضافة إلى ظاهر القرآن الذين تعسفوا في تأويله , من مثل قوله تعالى :" وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ(القيامة:23) .
   والخطأ الأساسي الذي وقعوا فيه قياس الغائب على الشاهد , والآخرة على الأولى , وهو قياس مع الفارق , فلكل دار قوانينها .
   لهذا أثبت أهل السنة الرؤية , مع اتفاقهم على أنها لا تكون على المعهود من رؤية البصر المعروفة لنا في مجرى العادة بل هي ـ كما قال الإمام محمد عبده ـ رؤية لا كيف فيها ولا تحديد , ومثلها لا يكون إلا ببصر يختص الله به أهل الدار الآخرة , أو تتغير فيها خاصته المعهودة في الحياة الدنيا , وهو ما لا يمكننا معرفته , وإن كنا نصدق بوقوعه متى صح الخبر (134) .
   وقد علق السيد رشيد رضا على كلام شيخه في وسيلة الرؤية في الآخرة بقوله :" الإدراك في الحقيقة للروح , وإنما الحواس آلات لها , وقد ثبت بالتجارب القطعية لدى علماء الشرق والغرب في هذا العصر : أن من الناس من يبصر ويقرأ وهو مغمض العينين , فيما يسمونه قراءة الأفكار , ويبصر بعض الأشياء دون بعض في العمل النومي , ومنهم من يبصر الشيء مع الحجب الكثيرة , والبعد الشاسع كمن أبصر وهو بمصر قريبه في الإسكندرية خارجا من داره إلى المحطة ـ إلى آخر ما تقدم في حاشية ص 105 . فإذا كان هذا قد ثبت في هذا العالم على خلاف المألوف في الرؤية لكل الناس ـ فهل يليق بعاقل أن يستشكل ما هو أغرب منه , وأبعد عن المألوف في الجنة , وهي من عالم الغيب المخالفة سننه ونواميسه لعالم الشهادة , وهل استشكال منكري الرؤية إلا بسبب قياس عالم الغيب على عالم الدنيا في الرؤية والمرئي ؟ وهو قياس باطل , وبطلانه في المرئي أظهر (135) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
132ـ الاعتصام ج 1/321 , 232 مطابع شركة الإعلانات الشرقية .
133ـ انظر اللؤلؤ والمرجان ـ الأحاديث 1799 ـ 1800 ـ 1801
134ـ رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده ص187 , 188.
135ـ المصدر السابق .
ثامناً
التأكد من مدلولات ألفاظ الحديث
كيف نتعامل مع السنة النبوية
معالم وضوابط
الدكتور يوسف القرضاوي 

ليست هناك تعليقات: