الأربعاء، 20 فبراير 2013

مبادئ أساسية للتعامل مع السنة


كتبهامصطفى الكومي ، في 21 يناير 2011 الساعة: 18:30 م

ثالثاً
مبادئ أساسية للتعامل مع السنة


      معالم وضوابط
    الدكتور يوسف القرضاوي
  بسم الله الرحمن الرحيم

































ومن هنا ينبغي لمن يتعامل مع السنة النبوية , لكي ينفي عنها انتحال المبطلين وتحريف الغالين وتأويل الجاهلين أن يتشبث بعدة أمور , تعتبر مبادئ أساسية في هذا المجال :ـ
أولا ـ أن يستوثق من ثبوت السنة وصحتها حسب الموازين العلمية الدقيقة التي وضعها أئمة الإثبات , والتي تشمل السند والمتن جميعا سواء كانت السنة قولا أم فعلا , أم تقريرا .
   ولا يستغني باحث هنا عن الرجوع إلى أهل الذكر والخبرة في هذا الشأن , وهم صيارفة الحديث الذين أفنوا أعمارهم في طلبه ودراسته وتمييز صحيحه من سقيمه , ومقبوله من مردوده ." وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ(فاطر14) .     
 وقد أسس القوم للحديث علما ثابت الجذور ,باسق الفروع , هو للحديث بمنزلة علم أصول الفقه للفقه , وهو في الواقع مجموعة من العلوم بلغ بها العلامة بن الصلاح (65 نوعا).
وزاد عليها من بعده حتى أوصلها السيوطي في (تدريب الرواي على تقريب النواوي) إلى (93 نوعا) .
ثانيا ـ أن يحسن فهم النص النبوي , وفق دلالات اللغة , وفي ضوء سياق الحديث , وسبب وروده , وفي ظلال النصوص القرآنية والنبوية الأخرى وفي إطار المبادئ العامة , والمقاصد الكلية للإسلام ,مع ضرورة التمييز بين ما جاء منها على سبيل تبليغ الرسالة , وما لم يجيء كذلك , وبعبارة أخرى : ما كان من السنة تشريعا وما ليس بتشريع , وما كان من التشريع له صفة العموم والدوام , وما له صفة الخصوص أو التأقيت , فإن من أسوأ الآفات في فهم السنة خلط أحد القسمين بالآخر.
ثالثا ـ أن يتأكد من سلامة النص من معارض أقوى منه , من القرآن , أو أحاديث أخرى أوفر عددا , أو أصح ثبوتا , أو أوفق بالأصول وأليق بحكمة التشريع , أو من المقاصد العامة للشريعة , التي اكتسبت صفة القطعية , لأنها لم تؤخذ من نص واحد أو نصين بل أخذت من مجموعة من النصوص والأحكام أفادت ـ بانضمام بعضها إلى بعض ـ يقينا وجزما بثبوتها .
السنة التي يرجع إليها في التشريع والتوجيه
   إن السنة هي المصدر الثاني للإسلام , في تشريعه وتوجيهه . يرجع إليها الفقيه لاستنباط الأحكام , كما يرجع إليها الداعية والمربي , ليستخرجا منها المعاني الملهمة , والقيم الموجهة والحكم البالغة , والأساليب المرغبة في الخير , المرهبة عن الشر .
   ولا بد للسنة لكي تقوم بهذه المهمة أن يترجح لدينا ثبوتها عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذا يترجم في علم الحديث بان يكون الحديث الذي يستشهد به صحيحا أو حسنا , والصحيح يشبه مرتبة الممتاز أو الجيد جدا في التقدير الجامعي . والحسن يشبه مرتبة الجيد أو المقبول , ولهذا كان أعلى الحسن قريبا من الصحيح كما أن أدناه قريب من الضعيف .
وعلماء الأمة متفقون على هذا الشرط في الأحاديث التي يحتج بها في الأحكام الشرعية العملية , التي هي عماد علم الفقه , وأساس الحلال والحرام .
   ولكنهم مختلفون في الأحاديث التي تتعلق بفضائل العمال والأذكار والرقائق والترغيب والترهيب , ونحوها , مما لا يدخل في باب التشريع الصريح , فمن علماء السلف من تساهل في روايته , ولم ير في إخراجه بأسا .
 وهذا التساهل ليس على إطلاقه , فله مجاله , وله شروطه , ولكن الكثيرين أساءوا استخدامه , فشردوا به عن سواء السبيل , ولوثوا به نبع الإسلام المصفى .
وكتب المواعظ و الرقائق و التصوف حافلة بهذا النوع من الأحاديث .
وكذلك كثير من كتب التفسير , حتى إن منها من التزم إخراج الحديث الموضوع الشهير في مضل سور القرآن , وقد كشف الأئمة الحفاظ عواره , وبينوا بطلانه , ولم يعد هناك عذر لمن يرويه , ويسود به صفحات كتابه !
   ولكن أمثال الزمخشري والثعالبي والبيضاوي وإسماعيل حقي وغيرهم , أصروا على إخراج الحديث المكذوب .
 بل أكثر من ذلك وجدنا مفسرا مثل صاحب (روح البيان) يبرر ذكر الحديث ويقف موقف المحامي عنه , إنه ليقول في جراءة يحسد عليها : في أخر تفسير سورة التوبة :"واعلم أن الأحاديث التي ذكرها صاحب "الكشاف" في أواخر هذه السورة , وتبعه القاضي البيضاوي والمولى أبو السعود رحمهم الله من أجلة المفسرين : قد أكثر العلماء القول فيها , فمن مثبت , ومن ناف , بناء على زعم وصفها كالإمام الصغاني وغيره ".
   "واللائح لهذا العبد الفقير سامحه الله القدير :أن تلك الأحاديث لا تخلو إما أن تكون : صحيحة قوية , أو سقيمة ضعيفة , أو مكذوبة موضوعة .
   فإن كانت صحيحة قوية فلا كلام فيها , وإن كانت ضعيفة الأسانيد , فقد اتفق المحدثون على أن الحديث الضعيف يجوز العمل به في الترغيب والترهيب فقط , كما في "الأذكار للنووي , و"إنسان العيون" لعلي بن برهان الدين الحلبي , و" الأسرار المحمدية" لابن فخر الدين الرومي وغيرها .
   وإن كانت موضوعة : فقد ذكر الحاكم وغيره أن رجلا من الزهاد انتدب في وضع الأحاديث في فضل القرآن وسوره , فقيل له : لم فعلت هذا ؟ فقال : رأيت الناس زهدوا في القرآن , فأحببت أن أرغبهم فيه , فقيل له : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :"من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " فقال ما كذبت عليه , وإنما كذبت له "!!
   أراد : أن الكذب عليه يؤدي إلى هدم قواعد الإسلام , وإفساد الشريعة والأحكام وليس كذلك : الكذب له : فإنه للحث على اتباع شريعته , واقتفاء أثره في طريقته , قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : الكلام وسيلة إلى المقاصد , فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعا , فالكذب حرام , فإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق : فالكذب فيه مباح عن كان تحصيل ذلك المقصود مباحا , وواجب إن كان ذلك المقصود واجبا , فهذا ضابطه(12) انتهى.
   ولا نملك هنا إلا أن نحوقل ونسترجع !
  ثم إن المرء ليعجب غاية العجب أن يصدر مثل هذا الكلام من رجل حشر نفسه في زمرة المفسرين لكتاب الله , ووصفه بعضهم بأنه فقيه وأصولي ! وأي فقه عند هذا الذي يجهل الأوليات عند العلماء المحققين ؟!
   جهل هذا الشيخ ذو النزعة الصوفية أن الله أكمل لنا الدين , وأتم به علينا النعمة , فلم نعد في حاجة إلى من يكمله لنا , باختراع أحاديث من عنده , كأنما يستدرك على الله تعالى , أو يمتن على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ , يقول له : أنا أكذب لك , لأتمم لك دينك الناقص , وأسد ما فيه من فجوات , بما أضعه من أحاديث !
   أما كلام الإمام بن عبد السلام , ففي موضوع غير هذا , مما رخصت فيه الأحاديث مثل الكذب في الحرب , وإصلاح ذات البين , وإنقاذ بريء فار من ظالم يطارده , ونحو ذلك مما هو مذكور في مظانه .
 على أن كلام ابن عبد السلام نفسه يرد على دعوى هذا المدعي , فقد ذكر أن كل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعا , فالكذب حرام . وهنا تقول : إن كل الفضائل التي ترغب فيها الأحاديث المكذوبة , وكل الرذائل التي ترهب منها .. يمكن التوصل إليها بالأحاديث الصحاح والحسان من غير شك , فالكذب إذن حرام بيقين , بل من أكبر الكبائر .
رد الأحاديث الصحيحة كقبول الأحاديث الموضوعة
   إذا كان من الخطأ والخطل والخطر قبول الأحاديث الباطلة و الموضوعة , وعزوها إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ , فمثله في البطلان رد الأحاديث الصحاح الثابتة بالهوى والعجب والتعالم على الله ورسوله , وسوء الظن بالأمة وعلمائها وأئمتها في أفضل أجيالها , وخير قرونها .
   إن قبول الأحاديث المكذوبة يدخل في الدين ما ليس منه , أما رد الأحاديث الصحيحة , فيخرج من الدين ما هو منه , ولا ريب أن كليهما مرفوض مذموم :
قبول الباطل , ورد الحق .
 وللمنحرفين والمبتدعين من قديم شبهات ودعاوي , كر عليها العلماء والمحققون بالنقض والإبطال .
قال الإمام الشاطبي :
   ربما احتج طائفة من نابتة المبتدعة على رد الأحاديث بأنها إنما تفيد الظن , وقد ذم الظن في القرآن , كقوله تعالى:" إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى(النجم:23) . وقال:" إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا(النجم:28) وما جاء في معناه حتى احلوا أشياء مما حرمها الله تعالى على لسان نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ , وليس تحريمها في القرآن نصا , وإنما قصدوا من ذلك أن يثبت لهم من أنظار عقولهم ما استحسنوا .
 والظن المراد في الآية وفي الحديث أيضا غير ما زعموا , وقد وجدنا له محال ثلاثة :
(أحدها) : الظن في أصول الدين , فإنه لا يغني عند العلماء , لاحتماله النقيض عند الظان , بخلاف الظن في الفروع , فإنه معمول به عند أهل الشريعة , والدليل الدال على إعماله , فكان الظن مذموما إلا ما تعلق منه بالفروع , وهذا صحيح ذكره العلماء في (هذا) الموضع .
(والثاني) : أن الظن هنا هو ترجيح أحد النقيضين على الآخر من غير دليل مرجح . ولا شك أنه مذموم هنا لأنه من التحكم , ولذلك أتبع في الآية بهوى النفس في قوله :
"إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ .." فكأنهم مالوا إلى أمر بمجرد الغرض والهوى ولذلك أثبت ذمه , بخلاف الظن الذي أثاره دليل , فإنه غير مذموم في الجملة , لأنه خارج عن اتباع الهوى , ولذلك أُثبت وعُمل بمقتضاه حيث يليق العمل بمثله كالفروع .
   (الثالث) : أن الظن على ضربين : ظن يستند إلى أصل قطعي , وهذه هي الظنون المعمول بها في الشريعة أينما وقعت , لأنها استندت إلى أصل معلوم , فهي من قبيل المعلوم جنسه , وظن لا يستند إلى قطعي , بل إما مستند إلى غير شيء أصلا وهو مذموم ـ كما تقدم ـ وإما مستند إلى ظن مثله , فذلك الظن إن استند أيضا إلى قطعي , فكالأول , أو إلى غير شيء , وهو مذموم , فعلى كل تقدير : خبر واحد صح سنده , فلابد من استناده إلى أصل في الشريعة قطعي فيجب قبوله , ومن هنا قبلناه مطلقا , كما أن ظنون الكفار غير مستندة إلى شيء , فلا بد من ردها وعدم اعتبارها , وهذا الجواب الخير مستمد من أصل وقع بسطه في كتاب الموافقات والحمد لله .
   ولقد بالغ بعض الضالين في رد الأحاديث , ورد قول من اعتمد على ما فيها حتى عدوا القول به مخالفا للعقل , والقائل به معدود في المجانين .
   فحكى أبو بكر بن العربي عن بعض من لقى بالمشرق من المنكرين للرؤية , أنه قيل له : هل يكفر من يقول بإثبات رؤية الباري أم لا ؟ فقال : لا ! لأنه قال بما لا يعقل , ومن قال بما لا يعقل لا يكفر ! قال بن العربي : فهذه منزلتنا عندهم ! فليعتبر الموفق فيما يؤدي إليه اتباع الهوى , أعاذنا الله من ذلك بفضله (13) أ.هـ.
وذكر الإمام ابن قتيبة في كتابه (تأويل مختلف الحديث) كثيرا من الشبهات الكلية والجزئية , التي أثارها أعداء السنة , وأبطلها شبهة شبهة , ولم يدعهم حتى أحال نارهم رمادا .
وفي عصرنا برز للسنة أعداء جدد , بعضهم من خارج ديارنا , كالمبشرين والمستشرقين , وبعضهم من داخل الدار , ممن تتلمذ عليهم وتأثر بهم مباشرة , أو غير مباشرة .
   ولقد استخدم هؤلاء المحدثون أسلحة الخصوم القدماء , وأضافوا إليها أسلحة حديثة , مما أوحت به ثقافة العصر , وأجلب هؤلاء وأولئك بخيلهم ورجلهم على السنة وكتبها ورجالها ومناهجها , وأيدتهم في ذلك جهات ومؤسسات ذات قدرات ومكايد , ولكن الله تعالى قيض للسنة من جهابذة العصر من قاوم شبهات المشككين بالحجج البالغة , وأباطيل المزيفين بالحقائق الدامغة , "فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ(الأعراف:119).
   وحسبنا من هؤلاء الفقيه الداعية المجاهد الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله , في كتابه القيم النافع "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" جعله الله في ميزانه حسنات ودرجات عنده (14).
   بيد أن الذي ألفت النظر إليه هنا هو رد السنة وصحاح الأحاديث , بناء على فهم خاطئ لاح في ذهن امريء غير متخصص ولا متثبت , مما يدلنا على ضرورة التأني والتحري والتدقيق في فهم السنة , والرجوع إلى مصادرها وأهلها , وهو ما ننبه عليه في الصفحات التالية .
رد الأحاديث الصحيحة لسوء فهمها
 إن من الآفات التي تتعرض لها السنة أن يقرأ بعض الناس المتعجلين حديثا فيتوهم له معنى في نفسه هو , يفسره به , وهو معنى غير مقبول عنده , فيتسرع برد الحديث لاشتماله على المعنى المرفوض .
ولو أنصف وتامل وبحث , لعلم أن معنى الحديث ليس كما فهم , وانه فرض عليه معنى من عنده لم يجيء به قرآن ولا سنة , ولا ألزمت به لغة العرب , ولا قال به عالم معتبر من قبله .
حديث :"اللهم أحيني مسكينا..":
قرأ بعضهم الحديث الذي رواه بن ماجة عن أبي سعيد الخدري والطبراني عن عبادة بن الصامت :"اللهم أحيني مسكينا , وأمتني مسكينا , واحشرني في زمرة المساكين "(15) .
   ففهم من المسكنة الفقر من المال , والحاجة إلى الناس , وهذا ينافي استعاذة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من فتنة الفقر (1) , وسؤاله من الله تعالى العفاف والغنى(17) , وقوله لسعد : "إن الله يحب العبد الغني التقي الخفي "(18) وقوله لعمرو بن العاص : "نعم المال الصالح للمرء الصالح "(19).
   من أجل ذلك رُد الحديث المذكور , والحق أن المسكنة هنا لا يراد بها الفقر , كيف وقد استعاذ بالله منه وقرنه بالكفر "اللهم أني أعوذ بك من الكفر والفقر "(20) ؟ وفد امتن ربه عليه بالغنى فقال :"وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى(الضحى:8) .
 إنما المراد بها التواضع وخفض الجناح , قال العلامة ابن الأثير : أراد به التواضع والإخبات , ألا يكون من الجبارين المتكبرين .
 وهكذا عاش ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعيدا عن حياة المستكبرين ولو في الشكل والصورة , يجلس كما يجلس العبيد والفراء , ويأكل كما يأكلون . ويأتي الغريب فلا يميزه من أصحابه , فهو معهم كواحد منهم . وهو في بيته يخصف نعله بيده , ويرقع ثوبه , ويحلب شاته ويطحن بالرحا مع الجارية والغلام .
   ولما دخل عليه رجل هابه فارتعد , فقال له : هون عليك , فلست بملك , إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة .
تجديد الدين
   وقرا بعضهم الحديث الذي رواه أبو داود والحاكم وصححه غير واحد عن أبي هريرة مرفوعا:"إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل سنة من يجدد لها دينها "(21) .
   ففهم من التجديد أنه تطوير الدين وتغييره ليلائم الزمن فقال : الدين لا يجدد , الدين ثابت لا يتغير , وليست مهمة الدين أن يلائم التطور , إنما مهمة التطور أن يلائم الدين . إن زعم تجديد الدين يعني أننا في عصر تخرج طبعة جديدة , منقحة لمبادئه وتعاليمه , تساير حاجات الناس , وتواكب التطور , وهذا قلب للحقائق , فليرفض الحديث الذي يقول هذا .
 وما يقوله هذا القائل صحيح لو كان المراد بالتجديد ما فسره به .
   إن التجديد المراد ـ كما شرحته في بحث لي ـ هو تجديد الفهم له ـ والإيمان به والعمل به . فالتجديد لشيء ما , هو محاولة العودة به إلى ما كان عليه يوم نشا وظهر بحيث يبدو مع قدمه كأنه جديد , وذلك بتقوية ما وهى منه , وترميم ما بلى , ورتق ما انفتق , حتى يعود أقرب ما يكون إلى صورته الأولى .
   فالجديد ليس معناه تغيير طبيعة القديم , أو الاستعاضة عنه بشيء آخر مستحدث مبتكر , فهذا ليس من التجديد في شيء .
   ولنأخذ بذلك مثلا في الحسيات , إذا أردنا تجديد مبنى أثري عريق , فمعنى تجديده , الإبقاء على جوهره وطابعه ومعالمه , وكل ما يبقي على خصائصه وترميم كل ما أصابه من عوامل التعرية , وتحسين مداخله وتسهيل الطريق إليه , والتعريف به …الخ . وليس من التجديد في شيء أن نهدمه , ونقيم عمارة ضخمة على أحدث طراز مكانه .
   وكذلك الدين : لا يعني تجديده إظهار طبعة جديدة منه , بل يعني به العودة إلى حيث كان في عهد الرسول وصحابته ومن تبعهم بإحسان (22) .  
بني الإسلام على خمس
   ومن أعجب ما سمعته في عصرنا من رد الحديث الصحيح بالفهم القاصر أن بعض الناس قد رد أشهر حديث يحفظه المسلمون , صغرهم وكبارهم , وعامتهم وخاصتهم , وهو حديث ابن عمر وغيره :"بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله , وان محمد رسول الله , وإقام الصلاة , وإيتاء الزكاة , وصوم رمضان , وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا ".
   وحجة هذا المقتحم الجريء : أن الحديث لم يذكر الجهاد , مع أهميته في الإسلام , فكان هذا دليلا على وضعه !
   وجهل هذا أن الجهاد إنما يجب على بعض الناس دون بعض , ولا يفترض عينا إلا في ظروف خاصة ولاعتبارات معينة , بخلاف هذه المباني الخمسة , التي طابعها العموم لكل الناس .
   ولو كان منطق هذا الإنسان صحيحا , لوجب عليه أن يرد آيات القرآن التي وصفت المؤمنين , والمتقين , وعباد الرحمن , والأبرار , والمحسنين , وأولي الألباب وغيرهم ممن اثنى الله عليهم في كتابه , ووعدهم بأجزل المثوبة . ولم يذكر في أوصافهم الجهاد .
  اقرأ في ذلك أوصاف المتقين في أوائل (البقرة) الآيات )2ـ5) وأهل البر والصدقة في آية (ليس البر) وأوصاف المؤمنين في أول الأنفال (2ـ4) وأوصاف أولي الألباب في سورة الرعد (20ـ22) وأوصاف المؤمنين الوارثين للفردوس في أول سورة المؤمنون (1ـ10) وأوصاف عباد الرحمن في أواخر سورة الفرقان (63ـ77) وأوصاف المتقين المحسنين في سورة الذاريات (15ـ23) وأوصاف المكرمين في جنات الله في سورة المعراج (32ـ35) وكل هذه المواقع وغيرها في كتاب الله العزيز , لم تذكر الجهاد فهل يرد هذا الجهول المتطاول هذه الآيات من كتاب الله العزيز ؟!
   وقد عرض شيخ الإسلام ابن تيمية لتعليل حصر الإسلام في الخمس المذكورة , ولماذا لم يذكر الواجبات الأساسية الأخرى , مثل الجهاد , وبر الوالدين وصلة الرحم ونجو ذلك , فقال :
   ومما يسأل عنه أنه إذا كان ما أوجبه الله من العمال الظاهرة أكثر من هذه الخمس فلماذا قال الإسلام هذه خمس , وقد أجاب بعض الناس بأن هذه أظهر شعائر الإسلام وأعظمها , وبقيام العبد بها يتم إسلامه , وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده .  
   و"التحقيق " أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكر الدين الذي هو استسلام العبد لربه مطلقا والذي يجب لله عبادة محضة على الأعيان , فيجب على كل من كان قادرا عليه ليعبد الله بها مخلصا له الدين , وهذه هي الخمس , وما سوى ذلك فإنما يجب بأسباب لمصالح , فلا يعم وجوبها جميع الناس .
   بل إما أن يكون فرضا على الكفاية , كالجهاد والأمر بالمعروف , والنهي عن المنكر , وما يتبع ذلك من إمارة , وحكم وفتيا , وإقراء , وتحديث , وغير ذلك .
وإما أن يجب بسبب حق للآدميين يختص به من وجب به عليه , وقد يسقط بإسقاطه , وإذا حصلت المصلحة أو الإبراء , إما بإبرائه وإما بحصول المصلحة فحقوق العباد مثل قضاء الديون , ورد الغصوب , والعواري والودائع والإنصاف من المظالم من الدماء والأموال والأعراض , إنما هي حقوق الآدميين . وإذا برئوا منها سقطت وتجب على شخص دون شخص , في حال دون حال , لم تجب عبادة محضة لله على كل عبد قادر , ولهذا يشترك فيها المسلمون واليهود والنصارى , بخلاف الخمسة فإنها من خصائص المسلمين .
  وكذلك ما يجب من صلة الأرحام , وحقوق الزوجة , والأولاد , الجيران والشركاء والفقراء , وما يجب من أداء الشهادة , والفتيا , والقضاء والإمارة والأمر بالمعروف , والنهي عن المنكر والجهاد , كل ذلك يجب بأسباب عارضة على بعض الناس دون بعض , لجلب منافع ودفع مضار , لو حصلت بدون فعل الإنسان لم تجب , فما كان مشترك فهو واجب على الكفاية , وما كان مختصا فإنما يجب على زيد دون عمرو , لا يشترك الناس في وجوب عمل بعينه على كل أحد قادر سوى الخمس , فإن زوجة زيد وأقاربه ليست زوجة عمر وأقاربه فليس الواجب على هذا مثل الواجب على هذا , بخلاف صوم رمضان , وحج البيت , والصلوات الخمس , والزكاة , فإن الزكاة و إن كانت حقا ماليا فإنها واجبة لله , والأصناف الثمانية مصارفها , ولهذا وجبت فيها النية  , ولم يجز أن يفعلها الغير عنه بلا إذنه , ولم تطلب من الكفار , وحقوق العباد لا يشترط لها النية , ولو أداها غيره عنه بغير إذنه برئت ذمته ويطالب بها الكفار(23).
من المجازفة التسرع برد الصحيح وإن أشكل
         
 إن المسارعة برد كل حديث يشكل علينا فهمه ـ وإن كان صحيحا ثابتا ـ مجازفة لا يجتريء عليها الراسخون في العلم .
 إنهم يحسنون الظن بسلف الأمة , فإذا ثبت أنهم تلقوا حديثا بالقبول , ولم ينكره إمام معتبر , فلا بد أنهم لم يروا فيه مطعنا من شذوذ أو علة قادحة .
 والواجب على العالم المنصف أن يبقى على الحديث , ويبحث عن معنى معقول أو تأويل مناسب له .
وهذا هو الفرق بين المعتزلة وأهل السنة في المجال .
   فالمعتزلة يبادرون برد كل ما يعارض مسلماتهم المعرفية والدينية من مشكل الحديث , وأهل السنة يعملون عقولهم في التأويل , والجمع بين المختلف والتوفيق بين المتعارض في ظاهره .
   ومن أجل هذا ألّف الإمام أبو محمد ابن قتيبة (ت 27هـ ) كتابه المعروف "تأويل مختلف الحديث" ردا على الزوابع التي أثارها المعتزلة حول بعض الأحاديث , والتي زعموا أنها معارضة للقرآن , أو العقل , أو يكذبها العيان أو تناقضها أحاديث أخرى .
 وجاء بعده محدث الحنفية الإمام أبو جعفر الطحاوي (ت321هـ) فألف كتابه (مشكل الآثار) في أربعة مجلدات , محاولا أن يجد لهذه الأحاديث المشكلة تأويلا مقبولا , ووجها معقولا.
   من هنا ينبغي التدقيق البالغ في فهم الحديث إذا صح ثبوته عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والحذر كل الحذر من رده بمجرد استبعادات عقلية قد يكون الخطأ كامنا فيها ذاتها .
   وأوضح مثل لذلك بعض ما جاء عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها .
   فقد أنكرت بعض الأحاديث لظنها أنها مخالفة للقرآن , أو للأصول الثابتة من الإسلام , أو غير ذلك , في حين أنها أحاديث رواها صحابة لا يشك في صدقهم ولا في ضبطهم , ومعناها صحيح .
خذ مثلا حديث (الهرة) وما جاء من عقوبة على تعذيبها حتى ماتت , فقد روى الإمام أحمد , عن علقمة , قال : كنا عند عائشة , فدخل أبو هريرة فقالت :أنت الذي تحدث : أن امرأة عذبت في هرة ربطتها , فلم تطعمها ولم تسقها ! فقال : سمعته منه , يعني النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ , فقالت : هل تدري ما كانت المرأة ؟ إن المرأة مع ما فعلت كانت كافرة , وإن المؤمن أكرم على الله عز وجل من أن يعذبه في هرة ! فإذا حدثت عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فانظر كيف تحدث !(24) .
   أنكرت عائشة أم المؤمنين على أبي هريرة تحديثه بهذا الحديث بصيغته وحسبت أنه لم يضبط لفظه حين سمعه من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
 وحجة عائشة أنها تستكثر أن يعذب إنسان مؤمن من اجل هرة ! وأن المؤمن أكرم على الله من أن يدخله النار من أجل حيوان أعجم !
   غفر الله لعائشة , لقد غفلت عن شيء هنا في غاية الأهمية , وهو ما يدل عليه العمل . إن حبس الهرة حتى تموت جوعا , لهو برهان ناصع على جمود قلب تلك المرأة وقسوتها على مخلوقات الله الضعيفة , وأن أشعة الرحمة لم تنفذ إلى حناياها .
ولا يدخل الجنة إلا رحيم ,. ولا يرحم الله إلا الرحماء , فلو رحمت من في الأرض لرحمها من السماء .      
   إن هذا الحديث وما جاء في معناه ليعد فخرا للإسلام في مجال القيم الإنسانية , والتي تحترم كل مخلوق حي ,وتجعل في رعاية كل كبد رطبة أجرا .
   ومما يتمم هذا المعنى ما جاء في الحديث الآخر الذي رواه البخاري : أن رجلا سقى كلبا , فشكر الله له , فغفر له .
 وإن امرأة بغيا سقت كلبا , فغفر الله لها !
   على أن أبا هريرة لم ينفرد برواية هذا الحديث , حتى يظن أنه لم يضبط ألفاظه , كيف وهو أحفظ الصحابة على الإطلاق ؟
   فقد روى أحمد والبخاري ومسلم عن ابن عمر عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ , قال :"عذبت امرأة في هرة ! حبستها حتى ماتت جوعا , فدخلت فيها النار , قال الله : لا أنت أطعمتيها ولا سقيتها حين حبستيها , ولا أنت أرسلتيها , فأكلت من خشاش الأرض "(25) .
ورواه الإمام أحمد عن جابر عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :
"عذبت امرأة في هر ربطته حتى مات , ولم ترسله فيأكل من خشاش الأرض"(26).
فلم ينفرد أبو هريرة برواية الحديث , ولو أنه انفرد ما ضره ذلك شيئا .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(12) نقل ذلك منكرا ومنددا , الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في تعليقه على(الأجوبة الفاضلة) للكنوي ص133,134 ط. ثانية , القاهرة ,1984م .
 (13) الاعتصام للشاطبي ج/235ـ 237.
(14) ومن هؤلاء :د. محمد مصطفى الأعظمي الذي رد على (شاحت) والشيخ عبد الرحمن بن يحي المعلمي اليماني صاحب كتاب "النوار الكاشفة" والشيخ محمد عبد الرازق حمزة صاحب كتاب "ظلمات أبي رية" والشيخ محمد أبو شهبة صاحب كتاب" دفاع عن السنة " والدكتور عجاج الخطيب و كتابه " السنة قبل التدوين" وكذا كتابه عن أبي هريرة وغيرهم ممن لا يتسع المقام لذكرهم.
(15) انظر صحيح الجامع الصغير (1261) , وقد زعم بعضهم أن ضعيف , وهو كذلك من طريق عائشة , وليس من الطريقين المذكورين .
(16)رواه البخاري ومسلم عن عائشة , والمصدر السابق(1288) .
(17) رواه مسلم والترمذي وابن ماجة عن ابن مسعود . نفسه(1275) .
(18) رواه أحمد ومسلم عن سعد بن أبي وقاص . نفسه(1882) .
(19) رواه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي . انظر الحديث الأول من تخريج مشكلة الفقر .
(20) رواه الحاكم والبيهقي في الدعء عن انس . صحيح الجامع (1285) .
(21) رواه أبو داود في كتاب الملاحم من سننه برقم (4270) والحاكم في المستدرك (4/522) والبيهقي في معرفة السنن والاثار وغيرهم , وصححه العراقي والسيوطي كما في فيض القدير (282/2) .
(22) انظر : بحثنا :"تجديد الدين في ضوء السنة " بالعدد الثاني من مجلة بحوث السنة والسيرة في قطر ص 29 . وقد نشر في كتاب "من اجل صحوة راشدة" نشر المكتب الإسلامي بيروت .
(23) من كتاب (الإيمان) لابن تيمية ضمن مجموع الفتاوي ج7/314ـ316 .
(24) تورده الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10/190) وقال :رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح . أ هـ . أما دخول المراة النار بسبب حبس الهرة فقد رواه عن أبي هريرة الشيخان وغيرها , انظر : صحيح الجامع الصغير(3374) .
(25),(26) انظر : صحيح الجامع الصغير وزيادته , الحديث : (3995,3996) .
الباب الثاني
السنة ..
مصدرا للفقيه والداعية
ـ السنة في مجال الفقه والتشريع
ـ السنة في مجال الدعوة والتوجيه 

ليست هناك تعليقات: