الأربعاء، 20 فبراير 2013

من الواقع التاريخي في الإسلام(3)


كتبهامصطفى الكومي ، في 12 أكتوبر 2010 الساعة: 20:56 م

الشهيد سيد قطب
من الواقع التاريخي في الإسلام(3)
ومضى عليّ إلى رحمة ربه , وجاء بنو أمية .
فلئن كان إيمان عثمان وورعه ورقته , كانت تقف حاجزاً أمام أمية .. لقد انهار هذا الحاجز .. وانفتح الطريق للانحراف .
لقد اتسعت رقعة الإسلام فيما بعد , ولكن روحه انحسرت بلا جدال . ولولا قوة كامنة في طبيعة هذا الدين , وفيض عارم في طاقته الروحية , لكانت أيام أمية كفيلة بتغيير مجراه الأصيل . ولكن روحه ظلت تقاوم وتغالب , وما تزال فيها الطاقة الكامنة للغلب والانتصار . غير أنه منذ أمية انساحت حدود بيت مال المسلمين فصار نهباً مباحاً للملوك والحاشية والمتسلقين ؛ وتخلخلت قواعد العدل الإسلامي الصارم , فأصبح للطبقة الحاكمة امتيازات , ولأذيالها منافع , ولحاشيتها رسوم ؛ وانقلبت الخلافة ملكاً , وملكاً عضوضاً , كما قال عنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وثبة من وثبات الاستشفاف الروحي العميق . وعدنا نسمع عن الهبات للمتملقين والملهين والمطربين , فيهب أحد ملوك أمية اثني عشر ألف دينار لمعبد , ويهب هارون الرشيد ـ من ملوك العباسيين إسماعيل بن جامع المغني في صوت واحد أربعة آلاف دينار , ومنزلاً نفيس الأثاث والرياش … وتنطلق الموجة في طريقها لا تقف إلا فترة بين الحين والحين .
ولا بد أن نذكر هنا عهد عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ فقد كان بقية من عهد الخلافة , وإشعاعة مضيئة تنير الطريق . لقد بدأ عهده برد الحكم المغصوب إلى صاحب الحق الأول فيه : إلى الأمة المسلمة , التي يجب أن تختار إمامها حرة طائعة مختارة , لا بقوة الجند , ولا بسلطان الوراثة .. صعد المنبر فقال : " أيها الناس . إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي مني فيه , ولا طلبة له , ولا مشورة من المسلمين . وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم " فصاح الناس : قد اخترناك يا أمير المؤمنين , ورضينا بك , قال : الأمر باليمن والبركة . وبذلك رد الأمر إلى نصابه في ولاية الأمر , فلا ولاية بغير شورى ورضى وقبول .
 عندئذ خطب الناس فقال :"أيها الناس . إنه قد كان قبلي ولاة تجترون مودتهم بأن تدفعوا بذلك ظلمهم عنكم . ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . من أطاع الله وجبت طاعته , ومن عصى الله فلا طاعة له .أطيعوني ما أطعت الله فيكم , فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم ..".
وحينما باشر سلطته بدأ برد المظالم , مبتدئاً بنفسه . فقال :"إنه لينبغي ألا أبدأ بأول من نفسي . فنظر إلى ما في يديه من أرض أو متاع فخرج منه , حتى نظر إلى فص خاتم كان في يده فقال :هذا أعطانيه الوليد من غير حقه , مما جاء من أرض المغرب فرده . وخرج مما كان في يده من القطائع , وكان في يده قطائع باليمامة , والمكيدس وجبل الورس باليمن , وفدك , فخرج من ذلك كله , ورده إلى بيت المسلمين . إلا أنه ترك عيناً بالسويداء , وكان استنبطها بعطائه . فكانت تأتيه غلتها كل سنة . مائة وخمسون ديناراً أو أقل أو أكثر .
" ولما أزمع أن يرد ما لديه أمر فنودي في الناس :الصلاة جامعة ؛ وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإن هؤلاء القوم قد كانوا أعطونا عطايا ما ينبغي لنا أن نأخذها , وما كان ينبغي لهم أن يعطوناها ؛ وإن ذلك قد صار إليّ , وليس عليّ فيه دون الله محاسب , ألا وإني قد رددتها , وبدأت بنفسي وأهل بيتي . اقرأ يا مزاحم ـ وقد جيء قبل ذلك بسفط فيه تلك الكتب ـ فجعل مزاحم يقرا كتاباً كتاباً فيأخذه عمر , وبيده مقص فيقصه به , حتى لم يبق فيه شيء إلا شقه .
"ثم ثنى بزوجته فاطمة بنت عبد الملك بن مروان , وكان عندها جوهر أمر لها به أبوها لم يُر مثله فقال لها : اختاري إما أن تردي حليك إلى بيت المال , وإما أن تأذني لي في فراقك , فإني أكره أن أكون أنا وهو في بيت واحد , قال : لا , بل اختارك يا أمير المؤمنين عليه وعلى أضعافه لو كان لي . فأمر به فحمل حتى وضع في بيت مال المسلمين . فلما مات عمر واستخلف يزيدبن عبد الملك , قال لأخته فاطمة : إن شئت رددته عليك , قالت : فإني لا أشاؤه , طبت عنه نفساً في حياة عمر وأرجع فيه بعد موته ! لا والله أبداً . فلما رأى ذلك قسمه بين أهله وولده .  
" ولم يكتف عمر برد ما كان في يده من المظالم , بل ذكروا أنه كان لا يأخذ من بيت المال شيئاً , ولا يجري على نفسه من الفيء درهماً ؛ وكان عمر بن الخطاب يجري على نفسه في ذلك درهمين في كل يوم , فقيللعمر بن عبد العزيز: لو أخذت ما كان يأخذ عمر بنالخطاب , فقال : إن عمر بن الخطاب لم يكن له مال , وأنا مالي يغنيني .
" كذلك حمل بني مروان على النزول عما كان في أيديهم من الأموال بغير استحقاق , وردها إلى ذويها . روى أنه جاءه رجل ذمي من أهل حمص فقال : يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله , قال : وما ذاك ؟ قال : العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي ـ والعباس جالس ـ فقال له يا عباس ما تقول ؟ قال : أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك , كتب لي بها سجلاً , فقال : ما تقول يا ذمي ؟ قال : يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله عز وجل , فقال عمر : نعم كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد بن عبد الملك . يا عباس أردد عليه ضيعته . فردها عليه . " وكان للوليد بنعبد الملك ابن يقال له روح , وكان نشأ في البادية فكأنه أعرابي , فأتى ناس من المسلمين إلى عمر يخاصمون روحاً في حوانيت بحمص وكانت لهم , أقطعه إياها أبوه الوليد ـ فقال عمر : أردد عليهم حوانيتهم , قال له روح : إنها لي بسجل الوليد , قال : ما يغني عنك سجل الوليد , الحوانيت حوانيتهم قد قامت لهم البينة عليها , خل لهم حوانيتهم . فقام روح والحمصي منصرفين فتوعد روح الحمصي , فرجع إلى عمر فقال : هو والله يتوعدني يا أمير المؤمنين , فقال عمر لكعببن حامد ـ وهو على حرسه ـ أخرج إلى روح يا كعب , فإن سلم إليه حوانيته فذاك , وإلا فأتني برأسه . فخرج بعض من سمع ذلك ممن يعنيه أمر روح , فذكر له الذي أمر به عمر , فخلع فؤاده , وخرج إليه كعب وقد سل من السيف شبراً فقال له : قم فخل له حوانيته , قال : نعم نعم ! فخلى له حوانيته .
" وتتابع الناس في رفع المظالم إليه , فما رفعت إليه مظلمة إلا ردها سواء كانت في يده أو في يد غيره , حتى أخذ أموال بني مروان وغيرهم مما صار إليهم ظلماً . وكان يرد المظالم إلى أهلها بغير البينة القاطعة , وكان يكتفي باليسير , فإذا عرف وجه مظلمة الرجل ردها عليه ولم يكلفه تحقيق البينة لما يعرف من ظلم الولاة قبله للناس . وقد ذكروا أنه أنفذ بيت مال العراق في رد المظالم حتى حمل إليها من الشام .
" وكان سليمان بن عبد الملك قد أمر لعنبسة بنسعيد بن العاص ـ من البيت الأموي ـ بعشرين ألف دينار فدارت في الدواوين حتى انتهت إلى ديوان الختم فلم يبق إلا قبضها , فتوفى سليمان قبل أن يقبضها , وكانعنبسة صديقاً لعمر بن عبد العزيز , فغدا يريد كلام عمر فيما أمر له به سليمان , فوجد بني أمية حضوراً بباب عمر يريدون الإذن عليه ليكلموه في أمورهم , فلما رأواعنبسة قالوا : ننظر ما يصنع به قبل أن نكلمه . فدخلعنبسة عليه فقال له : يا أمير المؤمنين , إن أمير المؤمنين سليمان قد كان أمر لي بعشرين ألف دينار حتى انتهت إلى ديوان الختم ولم يبق إلا قبضها , فتوفى على ذلك , وأمير المؤمنين أولى باستتمام الصنيعة عندي , وما بيني وبينه أعظم مما كان بيني وبين أمير المؤمنين سليمان ؛ فقال له عمر : كم ذلك ؟ قال عشرون ألف دينار . قال عمر : عشرون ألف دينار تغني أربعة آلاف بيت من المسلمين , وأدفعها إلى رجل واحد ! والله ما لي إلى ذلك من سبيل . قال عنبسة : فرميت بالكتاب الذي فيه الصك, فقال عمر : لا عليك أن يكون معك , فلعله أن يأتيك من هو أجرأ على هذا المال مني فيأمر لك به ! فأخذته وخرجت إلى بني أمية فأعلمتهم ما كان من ذلك , فقالوا ليس بعد هذا شيء , أرجع إليه فاسأله أن يأذن لنا أن نلحق بالبلدان ؛ فرجعت إليه فقلت : يا أمير المؤمنين إن قومك بالباب يسألونك أن تجري عليهم ما كان من قبلك يجري عليهم . فقال عمر : والله ما هذا المال لي وما لي إلى ذلك من سبيل . قلت : يا أمير المؤمنين , فيسألونك أن تأذن لهم يضربون في البلدان . قال : ما شاءوا ذلك لهم , وقد أذنت لهم . قلت : وأنا أيضاً ؟ قال وأنت أيضاً قد أذنت لك ؛ ولكني أرى لك أن تقيم , فإنك رجل كثير النقد , وأنا أبيع تركة سليمان فلعلك أن تشتري منها ما يكون لك في ربحه عوض مما فاتك , قال : فأقمت فابتعت من تركة سليمان بمائة ألف , فخرجت بها إلى العراق فبعتها بمائتي ألف دينار , وحبست الصك ؛ فلما توفى عمر وولى يزيد بن عبد الملك أتيته بكتاب سليمان , فأنفذ لي ما كان فيه .
" وجمع عمر بني مروان فقال لهم : إنكم قد أعطيتم حظاً وشرفاً وأموالاً , وإني لأحسب شطر أموال هذه الأمة أو ثلثيها في أيديكم , فأدوا ما في أيديكم من حقوق الناس , ولا تلجئوني إلى ما أكره فأحملكم على ما تكرهون . فلم يجبه أحد منهم .فقال أجيبوني . فقال رجل منهم : والله لا نخرج من أموالنا التي صارت إلينا من آبائنا فنفقر أبناءنا ونكفر آباءنا , حتى تزايل رؤوسنا أجسادنا . فقال عمر : والله لولا أن تستعينوا عليّ بمن أطلب هذا الحق له , لأضرعت خدودكم عاجلاً . ولكني أخاف الفتنة , ولئن أبقاني الله لأردّنَّ إلى كل ذي حق حقه إن شاء الله "(1) .
ولكنه لم يعش ليرد لكل ذي حق حقه كما كان يريد ؛ فجاء من بعده يسيرون على نهج أُمَيَّة , ولا يسيرون على نهج عمر ! فلما أن جاء بنو العباس جاءوا ملوكاً وقد فسدت الأرض , وبعُد الناس عن تقاليد الدين , بما باعدت أمية بينهم وبينه ذلك الأمد الطويل . وما كان ملوك بني العباس خيراً من ملوك بني أمية , فإنه لكذلك الملك العضوض !
*      *      *
وإذ كنا لا نؤرخ هنا للدولة الإسلامية , ولكن للروح الإسلامي في الحكم , فإننا نكتفي في إبراز مظاهر التحول والانحسار في هذا الروح بإثبات ثلاث خطب من عهد الملوك . وبموازنتها بالخطب الثلاث التي سبقت في عهد الخلفاء يتبين الفارق العميق .
خطب معاوية في أهل الكوفة بعد الصلح فقال :
" يا أهل الكوفة ! أتراني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج , قد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون ؟ ولكنني قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم ؛ وقد آتاني الله ذلك , وأنتم كارهون . ألا إن كل مال أو دم أصيب في هذه الفتنة فمطلول , وكل شرط شرطته , فتحت قدمي هاتين ".
           وخطب كذلك في أهل المدينة فقال: " أما بعد , فإني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم , ولا مسرة بولايتي . ولكني جالدتكم بسيفي مجالدة . ولقد رضت لكم نفسي على عمل ابن أبي قحافة , وأردتها على عمل عمر , فنفرت من ذلك نفاراً شديداً ؛ وأردتها على منيات عثمان , فأبت عليّ ؛ فسلكت بها طريقاً لي ولكم فيه منفعة ؛ ومؤاكلة حسنة ومشاربة جميلة , فإن لم تجدوني خيركم , فإني خير لكم ولاية …"
وخطب المنصور العباسي ـ وقد فعلت الموجة الأموية فعلها في تصور الحكم حتى انتهت به أيام العباسيي إلى نظرية الحق الإلهي المقدس التي لا يعرفها الإسلام . فقال:
" أيها الناس : إنما أنا سلطان الله في أرضه , أسوسكم بتوفيقه وتأييده ؛ وحارسه على ماله , وأعمل فيه بمشيئته وإرادته , وأعطيه بإذنه , فقد جعلني الله عليه قفلاً ؛ إن شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم ؛ وإن شاء أن يقفلني عليه أقفلني "!
وبذلك خرجت سياسة الحكم نهائياً من دائرة الإسلام , وتعاليم الإسلام .
*      *      *
فأما سياسة المال فكانت تبعاً لسياسة الحكم , وفرعاً عن تصور الحكام لطبيعة الحكم وطريقته , ولحق الراعي و الرعية . فأما في حياة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه وفي خلافة عليّ بن أبي طالب , فكانت النظرة السائدة هي النظرة الإسلامية : وهي أن المال العام مال الجماعة ؛ ولا حق للحاكم بنفسه أو بقرابته أن يأخذ منه شيئاً إلا بحقه ؛ ولا أن يعطي أحداً منه إلا بقدر ما يستحق , شأنه شأن الآخرين . وأما حين انحرف هذا التصور قليلاً في عهد عثمان , فقد بقيت للناس حقوقهم ؛ وفهم الخليفة أنه في حل ـ وقد اتسع المال عن المقررات للناس ـ أن يطلق فيه يده يبر أهله ومن يرى من غيرهم حسب تقديره .وأما حين صار الحكم إلى الملك العضوض , فقد انهارت الحدود والقيود , وأصبح الحاكم مطلق اليد في المنع والمنح , بالحق في أحيان قليلة وبالباطل في سائر الأحيان . واتسع مال المسلمين لترف الحكام وأبناءهم وحاشيتهم ومملقيهم إلى غير حد , وخرج الحكام بذلك نهائياً من كل حدود الإسلام في المال.
هذه صورة مجملة نعرض لها نماذج نفصلها من وقائع التاريخ . كانت موارد بيت المال منذ أيام الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هي :
 الزكاة المفروضة على المسلمين في أموالهم بحسب فئاتها المعروفة في الذهب والفضة والزروع والثمار , والماشية , وفي عروض التجارة , وفي الركاز .. والمتوسط العام فيها هو نصف العشر , وتنفق في مصارفها الثمانية المعروفة .
والجزية على الرؤوس للمصالحين عليها من الذميين . وهي مقابل ضريبة الدم وضريبة الزكاة التي يدفعها المسلمون .
والفيء , وهو ما يصل إلى المسلمين من المشركين عفواً من غير قتال , وكله لله والرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل بنص القرآن .
والغنيمة , وهي ما يصل إلى المسلمين من المشركين بالحرب . وأربعة أخماسها للمحاربين , وخمسها كالفيء في مصرفه .
أو الخراج ـ بدل الغنيمة ـ وهو مال مقرر على الأراضي التي كانت في يد المشركين واستولى عليها المسلمون حرباً , أو صولح عليها المشركون وبقيت في أيديهم , كالنظام الذي اتبعه عمر بن الخطاب في أرض فارس .
وفي أيام الرسول لم تكن موارد بيت المال وفيرة , لأن المهاجرين قد تركوا ديارهم وأموالهم , فوسعهم الأنصار وشاركوهم وآخوهم . وكان عدد المسلمين بعد محدوداً ؛ وقبل الغزو لم يكن لبيت المال إلا مورد التطوع للإنفاق في سبيل الله .
فلما بدأت الغزوات وفرضت الزكاة في السنة الثانية من الهجرة وجد المورد الأساسي ـ وهو الزكاة ـ ومورد آخر هو مورد الغنيمة الذي يحصل المحاربون على أربعة أخماسه . وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعطي الراجل سهماً والفارس سهمين ـ وقيل ثلاثة ـ مقرراً مبدأ
الرجل وبلاؤه" كما كان يعطي الأعزب سهما والمتزوج سهمين مقرراً مبدأ " الرجل وحاجته" . وأما الخمس فكان يوزع حسب مصارفه التي ذكرنا ..ثم حدث أن وقع أول فيء في غزوة بني النضير , فجعله الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمهاجرين خاصة , لم يعط إلا رجلين من الأنصار فقيرين ؛ وجاء القرآن بعد ذلك فقرر المبدأ الإسلامي العام :"..كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ..".
ثم أخذت موارد المسلمين تتسع باتساع رقعة الإسلام وتوالي الفتوح , فأخذ الرخاء يشمل شيئاً فشيئاً جموع المسلمين على السواء . إذ كانوا جميعاً شركاء في موارد بيت المال , بالأنصبة التي حددها الإسلام .
وحين لحق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالرفيق الأعلى , وارتد من ارتد ومنعوا الزكاة , وقف أبو بكر وقفته المشهورة وقال قولته الخالدة "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقاتلتهم على منعه " مخالفاً في ذلك عمر بن الخطاب الذي كان يرى ـ قبل أن يفيء إلى رأي أبي بكر ويشرح الله له صدره ويعلم أنه الحق ـ أن القوم يقولون : لا إله إلا الله .. فلا يجوز قتالهم . وقد بلغ من معارضته أن يقول في شيء من الحدة : كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . فمن قالها فقد عصم مني ماله ودمه إلا بحق الإسلام , وحسابهم على الله " فأجابه أبو بكر في تصميم :" والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة . فإن الزكاة هي حق المال ". وعندئذ يقول عمر : فوالله ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق ".
وبهذا الموقف الخالد تقرر نهائياً في الواقع التاريخي أصل من أصول سياسة المال في الإسلام . هو القتال والقتل لتقرير حق الجماعة في المال في الحدود التي شرعها الله . وبالمقادير التي حددها الله .
وسار أبو بكر في توزيع أموال الزكاة على مصارفها المعهودة سيرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكذلك في أخماس الغنيمة وسائر الموارد . فكان يأخذ لنفسه ذلك القدر الضئيل الذي فرضه له المسلمون ـ وقيل إنه درهمان في اليوم ـ ثم يعطي أصحاب الفرائض فرائضهم , وما بقي في بيت المال ينفق في تجهيز الجيوش للجهاد .
وقد حدثت في عهد أبي بكر سابقة اختلف عليها هو وعمر . فقد رأي أبو بكر أن يسوي في القسمة بين السابقين الأولين والمتأخرين في الإسلام , وبين الأحرار والموالي , وبين الذكور والإناث . ورأى عمر مع جماعة من الصاحبة أن يقدم أهل السبق في الإسلام على قدر منازلهم ؛ فقال أبو بكر :"أن يسوي في القسمة بين السابقين الأولين والمتأخرين في الإسلام , وبين الأحرار والموالي , وبين الذكور والإناث . ورأى عمر مع جماعة من الصحابة أن يقدم أهل السبق في الإسلام على قدر منازلهم ؛ فقال أبو بكر :" أما ما ذكرتم من السوابق والقدم والفضل , فما أعرفني بذلك . وإنما ذلك شيء ثوابه على الله جل ثناؤه , وهذا معاش , فالأسوة فيه خير من الأثرة ".
وظلت هذه المساواة مرعية , واليسر يفيض على المسلمين سواء , كلما اتسعت الموارد , حتى كان عهد عمر بن الخطاب فظل مستمسكاً برأيه الذي رآه :"لا أجعل من قاتل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كمن قاتل معه ".
وقد حدث أن جاءه يوماً عامله بالبحرين أبو هريرة بمال كثير . وروايته :" قدمت من البحرين بخمسمائة ألف درهم , فأتيت عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ممسياً , فقلت : يا أمير المؤمنين : اقبض هذا المال , قال : وكم هو ؟ قلت : خمسمائة ألف درهم . وقال : وتدري كم خمسمائة ألف ؟ قلت : نعم مائة ألف ومائة ألف ـ خمس مرات ـ قال : أنت ناعس ! اذهب الليلة فبت حتى تصبح ! فلما أصبحت أتيته , فقلت : اقبض مني هذا المال . قال : وكم هو ؟ قلت : خمسمائة ألف درهم . قال : أمن طيب هو ؟ قلت :لا أعلم إلا ذاك , فقال عمر رضي الله عنه :أيها الناس إنه قد جاءنا مال كثير . فإن شئتم أن نكيل لكم كلنا , وإن شئتم أن نعدّ لكم عددنا , وإن شئتم أن نزن لكم وزناً , فقال رجل من القوم : يا أمير المؤمنين دوّن للناس دواوين يعطون عليها , فاشتهى عمر ذلك . ففرض للمهاجرين خمسة آلاف خمسة آلاف , وللأنصار ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف , ولأزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اثنى عشر ألفاً …" وقد أثبتنا هذه الرواية هنا لما تبين من رأي عمر في تفضيل بعض الناس على بعض , ولما تصور من درجة الثراء حتى يحسب فيها نصف مليون درهم حلماً من الأحلام يتحدث به النيام ! وقد تغير ذلك كله فيما بعد الفتوح العظام . وقال أبو يوسف في كتاب الخراج :"وحدثني شيخ من أهل المدينة عن إسماعيل بن محمد السائب عن زيد عن أبيه قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : والله الذي لا إله إلا هو , ما أحد إلا وله في هذا المال حق , أُعطيه أو مُنعه , وما أحد أحق به من أحد إلا عبد مملوك , وما أنا فيه إلا كأحدكم . ولكنا على منازلنا من كتاب الله عز وجل , وقسمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فالرجل وبلاؤه في الإسلام , والرجل وقدمه في الإسلام , والرجل وغناؤه في الإسلام , والرجل وحاجته في الإسلام . والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو مكانه قبل أن يحمر وجهه ـ أي في طلبه ـ …"
" ثم إنه فرض لكل رجل شهد بدراً خمسة آلاف درهم في كل سنة ؛ وفرض لكل من كان له إسلام كإسلام أهل بدر من مهاجرة الحبشة ومن شهد أحداً أربعة آلاف درهم في كل سنة ؛ وفرض لأبناء البدريين ألفين ألفين إلا حسناً وحسيناً فإنه ألحقهما بفريضة أبيهما لقرابتهما من رسول الله , ففرض لكل واحد منهما خمسة آلاف درهم ؛ وفرض لكل رجل هاجر قبل الفتح ثلاثة آلاف درهم , ولكل رجل من مسلمة الفتح ألفين , ولغلمان أحداث من أبناء المهاجرين والأنصار كفرائض مسلمة الفتح . وفرض للناس على منازلهم وقراءتهم القرآن وجهادهم . ثم جعل من بقي من الناس باباً واحداً . ففرض لمن جاء من المسلمين إلى المدينة , وأقام بها , خمسة وعشرين ديناراً , وفرض لأهل اليمن وقيس بالشام والعراق ألفين إلى ألف إلى تسعمائة إلى خمسمائة إلى ثلاثمائة . ولم ينقص أحداً عن ثلاثمائة . وقال لئن كثر المال لأفرضن ّ لكل رجل أربعة آلاف درهم : ألف لسفره , وألف لسلاحه , وألف يخلفها لأهله , وألف لفرسه وبغله "(2) .
" غير أن عمر خرج عن القاعدة التي وضعها لتنظيم العطاء في أمر الرجال ونساء زاد في عطائهم على عطاء أمثالهم ممن في طبقتهم . فرض لعمر بن أبي سلمة أربعة آلاف درهم . عمر هذا هو ابن أم سلمة أم المؤمنين . وقد اعترض محمد بن عبد الله بن جحش , وقال لأمير المؤمنين :" لم تفضل عمر علينا ؟ فقد هاجر آباؤنا وشهدوا" وأجابه ابن الخطاب بقوله : "أفضله لمكانه من النبي ـ محمد صلى الله عليه وسلم ـ , فليأتني الذي يستعتب بأم مثل أم سلمة أعتبه " وفرض لأسامة بن زيد أربعة آلاف درهم , فقال عبد الله بن عمر :"فرضت لي ثلاثة آلاف , وفرضت لأسامة أربعة آلاف , وقد شهدت ما لم يشهد أسامة " وأجابه عمر :"زدته لأنه كان أحب إلى رسول الله ـ محمد صلى الله عليه وسلم ـ منك , وكان أبوه أحب إلى رسول الله ـ محمد صلى الله عليه وسلم ـ من أبيك !" وفرض لأسماء بنت عميس زوج أبي بكر ألف درهم , ولأم كلثوم بنت عقبة ألف درهم , ولأم عبد اللهبن مسعود ألف درهم ؛ فزادهن على أمثالهن لمكانتهن الخاصة إذ كن أزواجاً وأمهات لرجال لهم على غيرهم منزلة وفضل "(25) . هما رأيان إذن في تقسيم المال . رأي أبي بكر ورأي عمر . وقد كان لرأي عمر ـ رضي الله عنه ـ سنده :" لا أجعل من قاتل رسول الله ـ محمد صلى الله عليه وسلم ـ كمن قاتل معه " و…
" فالرجل وبلاؤه في الإسلام …" ولهذا الرأي أصل في الإسلام وهو التعادل بين الجهد والجزاء . وكان لرأي أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ سنده كذلك :"إنما أسلموا لله وعليه أجرهم , يوفيهم يوم القيامة , وإنما هذه الدنيا بلاغ ". ولكننا لا نتردد في اختيار رأي أبي بكر إذ كان أقمن أن يحقق المساواة بين المسلمين ـ وهي أصل كبير من أصول هذا الدين ـ وأحرى ألا ينتج النتائج الخطرة التي نشأت عن التفاوت , من تضخم ثروات فريق من الناس , وتزايد هذا التضخم عاماً بعد عام بالاستثمارـ والمعروف اقتصادياً أن زيادة الربح تتناسب إلى حد بعيد مع زيادة رأس المال ـ هذه النتائج التي رآها عمر في آخر أيام حياته فآلى لئن جاء عليه العام ليسوين في الأعطيات , وقال قولته المشهورة :" لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء "!
ولكن واأسفاه ! لقد فات الأوان , وسبقت الأيام عمر , ووقعت النتائج المؤلمة التي أودت بالتوازن في المجتمع الإسلامي , كما أدت فيما بعد إلى الفتنة , بما أضيف إليها من تصرف مروان وإقرار عثمان !
رجع عمر إذن عن رأيه في التفرقة بين المسلمين في العطاء , حينما رأى نتائجه الخطرة , إلى رأي أبي بكر . وكذلك جاء رأي عليّ مطابقاً لرأي الخليفة الأول ـ ونحن نميل إلى اعتبار خلافة علي ـ رضي الله عنه ـ امتداداً طبيعياً لخلافة الشيخين قبله , وأن عهد عثمان الذي تحكم فيه مروان كان فجوة بينهما ـ لذلك نتابع الحديث عن عهد عليّ , ثم نعود للحديث عن الحالة في أيام عثمان .
اختار عليّ مبدأ المساواة في العطاء , وقد نص عليه في خطبته الأولى حيث قال : " ألا وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله يرى أن الفضل له على سواه بصحبته , فإن الفضل غداً عند الله , وثوابه وأجره على الله . ألا وأيما رجل استجاب لله ولرسوله , فصدق ملتنا ودخل ديننا , واستقبل قبلتنا , فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده . فأنتم عباد الله , والمال مال الله , يقسم بينكم بالسوية ؛ ولا فضل فيه لأحد على أحد ؛ وللمتقين عند الله أحسن الجزاء ".
هذا هو المبدأ الإسلامي السليم الذي يتفق مع روح المساواة الإسلامية ؛ ويكفل للمجتمع الإسلامي التوازن , فلا يدع الثروات تتضخم إلا بقدر الجهد والعمل وحدهما , لا بفضل إتاحة فرصة لا تتاح للآخرين , بوجود وفر من المال للعمل فيه أكبر مما لدى الآخرين . وقد كان عمر في آخر أيامه على أن يفيء إلى هذا المبدأ ؛ ولكنه عوجل فاستشهد ولم ينفذ عزيمته التي اعتزم , بل عزيمتيه : عزيمته في أن يأخذ فضول الأغنياء فيردها على الفقراء , إذ كانت هذه الفضول قد نشأت ـ في الأغلب ـ من تفريقه في العطاء ؛ وعزيمته في أن يسوي بينهم في العطاء فلا تعود هذه الفوارق إلى الظهور كما ظهرت ؛ ولا يختل المجتمع الإسلامي كما بدأ يختل .
وجاء عثمان ـ رضي الله عنه ـ فلم ير أن يأخذ بالعزيمتين أو أحدهما .. ترك الفضول لأصحابها فلم يردها وترك الأعطيات كذلك على تفاوتها . ولكن هذا لم يكن كل ما كان . بل وسع أولاً على الناس في العطاء فازداد الغنى غنى , وربما تبحبح الفقير قليلاً , ثم جعل يمنح المنح الضخمة لمن لا تنقصهم الثروة ؛ ثم أباح لقريش أن تضرب في الأرض تتاجر بأموالها المكدسة , فتزيدها أضعافاً مضاعفة ؛ ثم أباح للأثرياء أن يقتنوا الضياع والدور في السواد وغير السواد ؛ فإذا نوع من الفوارق المالية الضخمة يسود المجتمع الإسلامي في نهاية عهده يرحمه الله .
كان أبو بكر وكان عمر من بعده يتشددان في إمساك الجماعة من رؤوس قريش بالمدينة , لا يدعونهم يضربون في الأرض المفتوحة , احتياطاً لأن تمتد أبصار هؤلاء الرؤوس إلى المال والسلطان , حين تجتمع إليهم الأنصار بحكم قرابتهم من رسول الله , أو بحكم بلائهم في الإسلام وسابقتهم في الجهاد . وما كان في افتيات على الحرية الشخصية كما يفهمها الإسلام ؛ فهذه الحرية محدودة بمصلحة الجماعة والنصح لها . فلما جاء عثمان أباح لهم أن يضربوا في الأرض . ولم يبح لهم هذا وحده بل يسر لهم وحضهم على توظيف أموالهم في الدور والضياع في الأقاليم , بعدما آتى بعضهم من الهبات مئات الآلاف .
لقد كان ذلك كله براً ورحمة بالمسلمين وبكبارهم خاصة . ولكنه أنشأ خطراً عظيماً لم يكن خافياً على فطنة أبي بكر , وفطنة عمر بعده . أنشأ الفوارق المالية والاجتماعية الضخمة في الجماعة الإسلامية , كما أنشأ طبقة تأتيها أرزاقها من كل مكان دون كد ولا تعب ؛ فكان الترف الذي حاربه الإسلام بنصوصه وتوجيهاته , كما حاربه الخليفتان قبل عثمان ,وحرصاً على ألا يتيحياه .
عندئذ ثار الروح الإسلامي في نفوس بعض المسلمين , يمثلهم أشدهم حرارة وثورة أبو ذر . ذلك الصحابي الجليل الذي لم تجد هيئة الفتوى المصرية في الزمن الأخير إلا أن تخطئه في اتجاهه ؛ وإلا أن تزعم لنفسها بصراً بالدين أكثر من بصره بدينه ! ثم عادت ـ في مناسبة أخرى ـ فأصدرت فتوى بصواب اتجاهه , عندما تغيرت الظروف الأولى ! كان دين الله سلعة تتجر بها الهيئة في سوق الرغبات !
قام أبو ذر ينكر على المترفين ترفهم الذي لا يعرفه الإسلام ؛ وينكر على معاوية وأمية خاصة سياستهم التي تقر الترف , وتستزيد منه وتتمرغ فيه ؛ وينكر على عثمان نفسه أن يهب من بيت المال المئات والألوف , فيزيد في ثراء المثرين وترف المترفين .
علم أن عثمان أعطى مروان بن الحكم خُمس خراج إفريقية , والحارث بن الحكم مائتي ألف درهم , وزيد بن ثابت مائة ألف … وما كان ضمير أبي ذر ليطيق شيئاً من هذا كله . فانطلق يخطب في الناس :
"لقد حدثت أعمال ما أعرفها . والله ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيه . والله إني لأرى حقاً يطفأ وباطلاً يحيا , وصادقاً مكذباً , وأثرة بغير تقى .. يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء . وبشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاو من نار , تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم .. يا كانز المال اعلم أن في المال ثلاثة شركاء : القدر لا يستأمرك أن يذهب بخيرها أو شركها من هلاك أو موت ؛ والوارث ينتظر أن تضع رأسك ثم يستاقها وأنت ذميم , وأنت الثالث , إن استطعت ألا تكون أعجز الثلاثة فلا تكونن .. إن الله عز وجل يقول : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ".
"اتخذتم ستور الحرير , ونضائد الديباج ؛ وتألمتم الاضطجاع على الصوف الأذربي , وكان رسول الله ينام على الحصير ؛ واختلف عليكم بألوان الطعام , وكان رسول الله لا يشبع من خبز الشعير ".
وروى مالك بن عبد الله الزيادي عن أبي ذر :"أنه جاء يستأذن عثمان بن عفان , فأذن له وبيده عصاه . فقال عثمان : يا كعب , إن عبد الرحمن توفى وترك مالاً , فما ترى فيه ؟ فقال : إن كان يصل فيه حق الله فلا بأس عليه . فرفع أبو ذر عصاه فضرب كعباً. وقال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : " ما أحب لو أن لي هذا الجبل ذهباً أنفقه ويتقبل مني , أذر خلفي منه ست أواق" أنشدك الله يا عثمان . أسمعته ـ ثلاث مرات ـ قال نعم "(3).
وما كانت مثل هذه الدعوة ليطيقها معاوية , ولا ليطيقها مروان بن الحكم ؛ فما زالا به عند عثمان يحرضانه عليه حتى كان مصيره إلى "الربذة" منفياً من الأرض في غير حرب لله ورسوله , وفي غير سعي في الأرض بالفساد . كما تقول شريعة الإسلام !
لقد كانت هذه الصيحة يقظة ضمير مسلم لم تخدره الأطماع , أمام تضخم فاحش في الثروات , يفرق الجماعة الإسلامية طبقات , ويحطم الأسس التي جاء هذا الدين ليقيمها بين الناس .وبحسبنا أن نعرض هنا نموذجا للثروات الضخام أورده المسعودي , قال "في أيام عثمان اقتنى الصحابة الضياع والمال : فكان لعثمان يوم قتل عند خازنه خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم , وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار , وخلف إبلاً وخيلاً كثيرة . وبلغ الثُمْن الواحد من متروك الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار , وخلف ألف فرس وألف أمة . وكانت غلة طلحة من العراق ألف دينار كل يوم , ومن ناحية السراة أكثر من ذلك . وكان على مربط عبد الرحمن بن عوف ألف فرس , وله ألف بعير , وعشرة آلاف من الغنم ؛ وبلغ الربع من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفاً . وخلف زيد بن ثابت من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلف من الأموال والضياع , وبنى الزبير دارة بالبصرة , وبنى أيضاً بمصر والكوفة والإسكندرية وكذلك بنى طلحة دارة بالكوفة , وشيد دارة بالمدينة , وبناها بالجص والآجر والساج . وبنى سعد بن أبي وقاص دارة بالعقيق , ورفع سمكها وأوسع فضاءها , وجعل على أعلاها شرفات . وبنى المقداد دارة بالمدينة , وجعلها مجصصة الظاهر والباطن . وخلف يعلي بن منبه خمسين ألف دينار وعقاراً , وغير ذلك ما قيمته ثلاثمائة ألف درهم "(4).
هذا هو الثراء الذي بدأ صغيراً بإيثار بعض المسلمين على بعض في العطاء في أيام عمر ـ ذلك الإيثار الذي كان معتزماً إبطاله وتلافي آثاره لولا أن عاجلته الطعنة التي لم تصب قلب عمر وحده , وإنما أصابت قلب الإسلام ـ ثم نما وازداد بإبقاء عثمان عليه , فضلاً على العطايا والهبات والقطائع . ثم فشا فشواً ذريعاً بتجميع الأملاك والضياع وموارد الاستغلال , بما أباحه عثمان من شراء الأرضين في الأقاليم وتضخيم الملكيات في رقعة واسعة ؛ وبمقاومة الصيحة الخالصة العميقة التي انبعثت من قلب أبي ذر ؛ وكانت جديرة لو بلغت غايتها , ولو وجدت من الإمام استماعاً لها , وأن تعدل الأوضاع , وأن تحقق ما أراده عمر في أواخر أيامه من رد فضول الأغنياء على الفقراء , بما يبيحه له سلطان الإمامة لدفع الضرر عن الأمة , بل بما يحتمه عليه تحقيقاً لمصلحة الجماعة .
وبقدر ما تكدست الثروات وتضخمت في جانب , كان الفقر والبؤس في الجانب الآخر حتماً , وكانت النقمة والسخط كذلك . وما لبث هذا كله أن تجمع وتضخم , لينبعث فتنة هائجة , يستغلها أعداء الإسلام , فتودي في النهاية بعثمان . وتودي معه بأمن الأمة الإسلامية وسلامتها ؛ وتسلمها إلى اضطراب وفوران لم يخب أواره حتى كان قد غشى بدخانه على روح الإسلام , وأسلم الأمة إلى ملك عضوض .
لذلك لم يكن غريباً أن يغضب أصحاب الأموال , والمستنفعون من تفاوت الحظوظ في العطاء , على سياسة المساواة والعدالة التي اعتزمها عليّ بعد عثمان ؛ وأن يتظاهروا بأنهم إنما ينصحون بالعدول عن هذه السياسة خوفاً عليه من الانتقاض , فما كان جوابه إلا أن يستلهم روح الإسلام في ضميره القوي فيقول :
"أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه ؟ لو كان هذا المال لي لسويت بينهم ؛ فكيف وإنما المال مال الله ؟ ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف ؛ وهو يرفع صاحبه في الدنيا ؛ ويضعه في الآخرة ".
*      *      *
فأما بنو أمية فقد ساروا في سياسة المال سيرة أخرى . حتى كان عمر بن عبد العزيز , فصنع الذي أسلفنا في رد المظالم ؛ وفي الكف عن بعثرة أموال المسلمين في غير حقها ؛ فلم يكن لبني أمية إلا ما لسائر الناس ؛ ولم يكن للمتملقين والملهين نصيب في هذا المال , فقد انقطع عن الشعراء المداح , ولم يجزهم بشيء من بيت المال .
وفي خبر له مع جرير أن جريراً مدحه فقال له عمر :" يا ابن الخطفى : أمن أبناء المهاجرين أنت فنعرف لك حقهم ؟ أم من أبناء الأنصار فيجب لك ما يجب لهم ؟ أم من فقراء المسلمين , ما أنا بواحد من هؤلاء , وإني لمن أكثر قومي مالاً , وأحسنهم حالاً ؛ ولكني أسألك ما عودتنيه الخلفاء : أربعة آلاف درهم وما يتبعها من كسوة وحملان . فقال له عمر :" كل امرئ يلقى فعله , وأما أنا فما أرى لك في مال الله حقاً ؛ ولكن انتظر حتى يخرج عطائي , فأنظر ما يكفي عيالي سنة منه فأدخره لهم ؛ ثم إن فَضَلَ فضْلُ صرفناه إليك ". فقال جرير : لا بل يوفر أمير المؤمنين ويُحمد , وأخرج راضياً , قال :"فذلك أحب إليّ " . فخرج فلما ولى قال عمر :إن شر هذا ليُتّقى ؛ ردوه إليّ . فردوه فقال : "إن عندي أربعين ديناراً وخلعتين , إذا غسلت إحداهما لبست الأخرى وأنا مقاسمك ذلك , على أن الله جل وعز يعلم أن عمر أحوج إلي ذلك منك " فقال له :قد وفرك الله يا أمير المؤمنين , وأنا والله راض . قال :" أما وقد حلفت فإن ما وفرته علَيّ ولم تضيق به معيشتنا آثر في نفسي من المدح , فامض مصاحباً".
لا عجب إذن حين تحفظ أموال المسلمين فترد على المستحقين أن يروي الرواة أن الناس اكتفوا في عهد عمر بن عبد العزيز حتى لا تجد الصدقات في بعض الأقطار من يأخذها لاغتناء عامة الأمة باستحقاقاتهم الأخرى عن أموال الصدقات . وفي ذلك يقول يحي ابنسعد :
" بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية , فاقتضيتها , وطلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد بها فقيراً ولم نجد من يأخذها منا , فقد أغنى عمر بن عبد العزيزالناس ؛ فاشتريت بها رقاباً فأعتقتهم ".
إنما الفقر والحاجة ثمرة التضخم والزيادة . والفقراء في كل وقت هم ضحايا الأغنياء المفحشين . والأغنياء المفحشون في الغالب هم نتاج الأعطيات والإقطاعيات , المحاباة والظلم والاستغلال !
*      *      *
وفي أيام بني أمية ثم في أيام بني العباس من بعدهم , كان بيت المال مباحاً للملوك كأنه ملك لهم خاص ؛ وذلك على الرغم من وجود بيتين للمال : بيت المال العام , وبيت المال الخاص والأول مفروض أن موارده ومصارفه للجماعة ؛ والثاني مفروض أن موارده ومصارفه من خاصة السلطان . لكنا نجد أحياناً أن أموالاً عامة تحمل إلى بيت المال الخاص . وأن مصارف خاصة تؤخذ من بيت المال العام !
جاء في كتاب الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري تأليف آدم ميتز وترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة :
"أما العطايا وكل ما يتعلق بنفقات درا الخلافة فكان يؤخذ من بيت المال العام . وعندنا بيان يرجع إلى أول القرن الرابع مشتمل على وجوه الأموال التي تحمل إلى بيت مال الخاصة :
1ـ الأموال المختلفة التي يتركها الآباء لأبنائهم ففي بيت المال . ويقال : إن الرشيد خلف أكبر مقدار من المال , وهو ثمانية وأربعون ألف ألف دينار , وكان المعتضد(279ـ289هـ) يستفضل من كل سنة من سنى خلافته بعد النفقات , مما كان يحصله بيت مال الخاصة ألف ألف دينار , حتى اجتمع في بيت المال تسعة آلاف ألف دينار , وكان يريد أن يتممها عشرة آلاف ألف دينار , ثم يسبكها ويجعلها نقرة واحدة , ونذر عند بلوغ ذلك أن يترك عن أهل البلاد ثلث الخراج في تلك السنة . وأراد أن يطرح السبيكة على باب العامة ليبلغ أصحاب الأطراف أن له عشرة ألاف ألف دينار وهو مستغن عنها , فاخترمته المنية قبل بلوغ الأمنية . ثم جاء المكتفي بعد المعتضد (289ـ295هـ)فأبلغ المدخر إلى أربعة عشر ألف ألف دينار .
2ـ مال الخراج والضياع العامة الذي يرتفع من أعمال فارس وكرمان (بعد إسقاط النفقات)
وبلغ مقدار ذلك في كل سنة منذ عام299إلى عام 320هـ(911ـ932م)ثلاثة وعشرين ألف ألف درهم , منها أربعة آلاف ألف درهم كانت تحمل إلى بيت مال العامة , والباقي وهو تسعة عشر ألف ألف درهم إلى بيت مال الخاصة . ويجب أن نسقط من ذلك النفقات الحادثة التي تتطلبها هذه البلاد , ففي عام303هـ(915م) أنفق الخليفة لفتحها ما يزيد على سبعة آلاف ألف درهم .
3ـ أموال مصر والشام . وكانت جزية أهل الذمة مثلاً تحمل إلى بيت مال الخليفة باعتباره أمير المؤمنين لا إلى بيت مال العامة . وهذا ما يجب للخليفة نظرياً !
 4ـ المال الذي يؤخذ من المصادرة لأموال الوزراء المعزولين والكتاب والعمال وما يحصل من ارتفاع ضيعاتهم , والمال الذي يؤخذ من التركات (5).
5 ـ ما كان يحمل إلى بيت مال الخاصة من أموال الضياع والخراج بالسواد والأهواز والمشرق والمغرب .
6 ـ ما كان يستفضله الخلفاء , فكان كل الخليفتين الأخيرين في القرن الثالث الهجري ( وهما المعتضد والمكتفي) يستفضل في السنة ألف ألف دينار وكان سبيل المقتدر أن يستفضل مثلها , فيكون مبلغه في خمس وعشرين ألف ألف دينار , أعني نحواً من نصف ما خلفه الرشيد ".
ومن هذا النص يبدو كم عدا من يسمون خلفاء من الملوك على أموال المسلمين العامة , وكم بعدت سياسة المال عن أصول الإسلام , وكم ارتفع الثراء والترف في جانب والبؤس والشقاء في جانب , وكم اختل المجتمع الإسلامي نتيجة بعده عن النهج الإسلامي , وتنكره للمبادئ الإسلامية .
*      *      *
ولكن الواقع التاريخي للإسلام ـ على الرغم من هذا كله ـ استطاع أن يقرر عدة مبادئ أساسية في " سياسة المال" وأن يحقق الكثير من نظريات الإسلام ومبادئه على الرغم من النكسة التي أصابته في مطلع عهده , على أيدي بني أمية .
استطاع الواقع التاريخي أن يقرر:
 أن الفقراء أولى من أولى السابقة في الإسلام بالمال العام . وجاء في مسند أحمد بن حنبل :"حدثنا بكر بن عيسى , حدثنا أبو عوانة عن المغيرة عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال : أتيت عمر بن الخطاب في أناس من قومي , فجعل يفرض للرجل من طيئ في ألفين ويعرض عني . قال فاستقبلته فأعرض عني , ثم أتيته من حيال وجهه فأعرض عني . قال : فقلت : يا أمير المؤمنين . أتعرفني ؟ قال : فضحك حتى استلقى لقفاه , ثم قال : نعم والله إني لأعرفك . آمنت إذ كفروا , وأقبلت إذ أدبروا , ووفيت إذ غدروا , وإن أول صدقة بيضت وجه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووجوه أصحابه , صدقة طيئ جئت بها إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ثم أخذ يعتذر , ثم قال : إنما فرضت لقوم أجحفت بهم الفاقة , وهم سادة عشائرهم , لما ينوبهم من الحقوق ".
وهذه من عمر الذي آثر أولي السابقة في تقدير العطاء , لها قيمتها , ولها دلالتها . فالحاجة هي المبرر الأول للاستحقاق في المجتمع الإسلامي. وهو مبدأ عميق الدلالة في كراهة الإسلام للحاجة والفاقة , وحثه على إزالتها أولاً قبل كل رعاية لأي اعتبار آخر .
2ـ أن الإسلام يكره تكدس الثراء في جانب والحرمان في جانب . وفي سبيل إزالة هذه الحالة يبيح لولي الأمر المسلم الذي ينفذ شريعة الله , حرية التصرف . في المال العام . وهذا المبدأ وعاه الواقع التاريخي عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في توزيع فئبني النضير على المهاجرين الفقراء خاصة ـ عدا رجلين فقيرين من الأنصار ـ حتى يعيد بعض التوازن للمجتمع الإسلامي في أول فرصة عرضت له . ثم جاء القرآن مصدقاً لهذه السابقة التاريخية :"..كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ .." .
وهذه السابقة لها دلالتها ولها قوتها . فولي الأمر المسلم وهو الذي ينفذ شريعة الله يملك دائما أن يخص الفقراء من المال العام , بما يعيد التوازن إلى الجماعة الإسلامية , وبما يحقق رغبة الإسلام في ألا توجد فوارق بين الطبقات تحل بهذا التوازن العام .
3ـ مبدأ الضريبة المتفاوتة حسب المقدرة والعجز .. فحين فرضت الجزية على الذميين .
جعلت بالفئات الآتية :
(أ‌)                أغنياء ويؤخذ منهم48درهماً عن كل رأس في العام .
(ب‌)           أوساط ويؤخذ منهم24 درهماً.
(ت‌)           فقراء يتكسبون ويؤخذ منهم 12درهماً .
(ث‌)     ولا تؤخذ جزية من مسكين يتصدق عليه , ولا من عاجز عن العمل , ولا من أعمى أو مقعد أو مجنون أو ذي عاهة على وجه العموم . ولا تجوز الجزية إلا على الرجال الأحرار العقلاء .. فلا جزية على امرأة أو صبي .
وحين وقعت المجاعة في عام الرمادة بسبب القحط , لم يرسل عمر جباته ليقبضوا الزكاة , بل ترك الناس حتى يرتفع الجدب , فلما اطمأن الناس وعاد الرخاء , بعث عماله فتقاضوا من القادرين حصتين : حصة عن عام الرمادة وحصة عن العام الحاضر , وأعفى غيرهم , ثم أمر أن ترد على هؤلاء إحدى الحصتين , ويقدم العمال عليه بالثانية .
4 ـ مبدأ عدم الحجز على الضرورات وفاء للضريبة , وعدم استيفائها كذلك بالقوة .. قال علي بن أبي طالب لأحد عماله :".. ولا دابة يعملون عليها ؛ ولا تضربن أحداً منهم سوطاً في درهم , ولا تقمه على رجله في طلب درهم , ولا تبع لأحد منهم عرضاً في شيء من الخراج . فإنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو .."(6) .
5 ـ مبدأ "الرجل وحاجته" بجانب مبدأ " الرجل وبلاؤه".. فقد فرض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأعزب حظا من الغنيمة وللمتزوج حظين . ولهذا الفرض دلالته في أن الحاجة مبرر كالجهد للعطاء . فجهد المتزوج في الجهاد كجهد الأعزب . ولكن حاجته مضاعفة . فضوعف له حظه . فالحاجة وجدها مبرر كاف للتملك في الإسلام . ولهذا قيمته في الضمان الاجتماعي .
6 ـ مبدأ الضمان الاجتماعي العام لكل عاجز وكل محتاج . فقد فرض عمر للمولود مائة درهم , فإذا ترعرع بلغ به مائتين , فإذا بلغ زاده . وكان يفرض للقيط مائة ؛ ولوليه كل شهر رزقاً يعينه عليه , ويجعل رضاعه ونفقته من بيت المال ثم يسويه عند كبره بسواه من الأطفال . وهذه سماحة من عمر توحيها سماحة الإسلام , فاللقيط بريء , لا يحمل وزر أبويه الجارمين . وقد أثبتنا من قبل كيف فرض لليهودي الأعمى ؛ وللمجذومين من النصارى . وهي سماحة الإسلام في نفس عمر للناس جميعاً لا للمسلمين وحدهم , وتأمين للمجتمع من غوائل الحاجة والعجز والحرمان .
7 ـ مبدأ من أين لك هذا ؟ فلا حصانة للحاكم تمنع الجماعة أن تحاسبه على ما كسبه من مال , ليتبين لها إن كان ذلك ماله أو مالها . وتقرير هذا المبدأ كفيل بأن يتردد الحاكم مرتين قبل أن يقدم على اغتيال المال العام . وقد قرره عمر مع ولاته جميعاً , وأقره علىّ مع بعض الولاة .
8 ـ مبدأ الزكاة العام الذي لم ينقض حتى في أشد العهود ظلاماً وفسوقاً عن روح الدين .فما من أحد أنكره نظرياً أو عملياً , منذ حروب الردة في أوائل عهد أبي بكر . إلى أن غلبت المدنية الغربية في عصرنا الحاضر , فنقض آخر مبدأ حي من مبادئ الإسلام !
9 ـ مبدأ التكافل العام الذي يجعل كل أهل بلد مسؤولين مسؤولية مباشرة عمن يتلفه الجوع , مسؤولية جنائية يؤدون فيها الدية , بوصفهم قتلة لذلك الذي أتلفه الجوع وهو بينهم مقيم . ومما يؤيد هذا المبدأ حق الجائع أو العطشان أن يقاتل من في يده الطعام والماء حين يخشى على نفسه التلف , فإذا قتله فلا دية عليه ولا عقاب .
10 ـ مبدأ تحريم الربا , والإنظار عند العسرة للمدين . ولقد ظل الربا محرماً حتى أباحته المدنية المادية , يحملها إلينا القانون الفرنسي , وجعلته أصلاً من أصول الحياة الاقتصادية العامة , في غير ما ضرورة ملجئة إلا انعدام العنصر الخلقي في الحياة , وانتفاء روح التعاون والبر من صدور الناس . تلك الروح التي يجعلها الإسلام أساس المجتمع وركن التعاون بين الناس .
وذلك كله غير تقاليد البر والمواساة والتكافل في المجتمع ـ عن غير طريق التشريع ـ والماضي القريب الذي شهده آباؤنا ـ لا أجدادنا ـ في الريف الإسلامي في كل مكان , والذي ما تزال بقية منه حتى بعد أن طغت الحضارة المادية الغربية على العالم الإسلامي , يشهد بأثر الروح الإسلامي في المجتمعات الإسلامية , حيث كان فيض ذلك الروح يغني عن التشريع والإلزام . وهذه الأوقات الكثيرة , والحبوس المنوعة , التي صرفت اليوم عن أهدافها , وانتهبها الناهبون تحت مختلف العنوانات والتعلات , شاهد بعوامل الرحمة والبر والتكافل والتأمين الإجتماعي في نفوس أجيال المسلمين البعيدة والقريبة , قبل أن تفسدها الحضارة المادية الجامدة , القاسية القلب والشعور .
ولقد بلغت الرغبة في الضمان الاجتماعي للضعفاء مبلغاً جعلها تتجاوز الإنسان إلى الحيوان . وقد حبست بعض الحبوس على ضعاف الحيوان لتتخذ لها المأوى , وتنال الحماية من التشرد والجوع !
*      *      *
هذا هو الإسلام على الرغم مما اعترض خطواته العملية الأولى , من انحراف في تصور معنى الحكم وسياسة المال كانت له آثار ضخام .
هذا هو الإسلام في واقعه التاريخي الذي حققه فعلاً . فأما الإسلام في مبادئه العامة , فهو على استعداد دائم للوفاء بالحاجات المتجددة في كل المجتمعات التي تقوم على أساسه , وتتخذ شريعته شريعة . وهو يفي بهذه الحاجات في شمول وتوازن , بريء من التخبطات التي تتأرجح فيها التجارب البشرية والمذاهب البشرية بين التفريط والإفراط . والتي تكلف البشرية ثمناً غالياً من الضحايا والتضحيات(7) .
فأما حاضر الإسلام ومستقبله فسنتحدث عنهما في فصل آت .

الشهيد سيد قطب

ـــــــــــــــــــــــــ
 (1)من كتاب "عمر بن عبد العزيز"للأستاذ أحمد زكي صفوت .
(2) كتا الفاروق عمر جزء2للدكتور هيكل .
(3)المصدر السابق .
(4)حديث رقم 453 المسند جزء أول نشر الأستاذ أحمد محمد شاكر
(27)عن كتاب عثمان للأستاذ صادق عرجون.
(5)كان الخليفة يرث مال الخدم ومن لا ولد له من موالي أسرة الخلافة . ولما كان هؤلاء في الغالب سادة ذوي مناصب تدر الرزق الكثير فإن مالاً كثيراً كان يجري إلى خزانة الخليفة .
(6)كتاب الخراج لأبي يوسف
(7)يراجع فصل "تخبط واضطراب" في كتاب :"الإسلام ومشكلات الحضارة"للمؤلف
الشهيد سيد قطب