الثلاثاء، 28 مايو 2013

الحاكم الإله


إذا الشعب يوما أراد الخنوع. . . فلابد للقضاء أن يركب
ـ عندما يملي القضاء على مجلس الشورى المنتخب ما يجب أن يضعه من مواد في أي قانون فهذا يعني أن القضاء هو السلطة التشريعية الأعلى التي تعلو سلطة الشعب .
ـ عندما يحل القضاء قرار رئيس الجمهورية المنتخب بالدعوة للإنتخابات فهذا يعني أن القضاء هو السلطة التنفيذية العليا التي تعلو رئيس الجمهورية المنتخب .
ـ عندما يبرئ القضاء أقطاب الفساد في النظام السابق فهو يخرج لسانه للشعب قائلا " أنا ها هدم ثورتكم  " .
ـ عندما يبرئ القضاة المتورطين في أحداث العنف والتحريق و المولوتوف والقتل فهو يشعل ويساعد على إشتعال الشارع المصري .
ـ عندما يحاكم القضاء رموز الثورة ويترك قاتلي الثوار فقد انضم إلى فريق الثورة المضادة وأداة في يد القوى العالمية التي تخرب مصر . 
ـ عندما يرفض القضاء رفع الحصانة عن القضاة المتورطين في رشاوي واستيلاء على أراضي الناس فقد حصلوا على السلطة المطلقة التي لم تكن لمبارك أصلا والتي هي مفسدة مطلقة .
ـ عندما يحكم القضاة بأحقية الجيش والشرطة بالتصويت تطبيقا لمبدأ المساواة ويرفضون ان يطبق نفس المبدأ على تسويتهم ببقية موظفى الدولة في سن المعاش فهذه عدالة عرجاء عوراء لا تستحق منصة القضاء .
ـ عندما يعرف القضاة ما يجره إشراك الجيش في التصويت في الانتخابات من خراب وصراع داخل وحدات الجيش فهذا يعني أنه متآمر على مصر , وإن كان لايعرف فهو غير جدير بمنصة القضاء , ولكن يمكن أن يجلس في منصة جبهة الخراب أو منصة قاضي الغرام بالسلطة .
ـ عندما يطلب القضاء دخول العسكر المعترك السياسي فهو مشترك في المؤامرة الصهيوامريكية على مصر ويجب أن يحاكم بتهمة الخيانة العظمى .
ـ عندما يعلو صوت قضاة معينين ـ من قبل الطاغية مبارك ـ على صوت السلطات المنتخبة من الشعب  إذن مبارك هو الذي يحكم .

ـ عندما يفتح القضاة باب الإستعانة بالخارج فهو يصرح لكل ذي هبة و دبة بالعمالة و الخيانة .
ـ عندما تجعل اللجنة التأسيسية للدستور المجلس التشريعي مراقب من القضاء و الشعب ويجعل السلطة التنفيذية مراقبة من القضاء والسلطة التشريعية و الشعب بينما القضاء مرفوع عنه الرقابة و المحاسبة من أي سلطة أخرى فقد وضعه في منصب الحاكم الإله .
ـ الكل منتظر متى تأتي الضربة القاضية ويحل مجلس الشورى ليكون القضاء هو صاحب السلطة المطلقة التي ستحكم على مرسي بالحل ثم بالسجن , وتسلم السلطة لمجلس رئاسي عالماني عسكري ونعود وكأنك يا ابو زيد ما غازيت ساعتها انتظروا هدم الأقصى وفتح السجون وتعليق المشانق للإسلاميين .
   قد بدت البغضاء في أحكامهم , وما زال القضاة يوجهون لكماتهم للشعب في مجلس شوراه المرتعش المتردد , و الجمهور المتفرج أمام الشاشات بما فيهم الثوار سابقا الغافلون حاليا ينتظرون مشاهدة الضربة القاضية وحل مجلس الشورى , ليصبح ـ بدون مبالغة ـ هو السلطة الأعلى والمطلقة وهو المتصرف الأوحد بشئون الوطن والحاكم الإله الذي لا معقب لحكمه ولا راد لقضاءه .
ـ إذا كان رأي علماء الدين في القوانين رأيا استشاريا فلماذا لا يكون رأي الدستورية كذلك بالنسبة لسلطة الشعب التي هي أعلى السلطات .

ويرجع سبب هذا كله إلى اللجنة التأسيسية التي أثبتت أنها طائفية من طائفة "أصله طيب وعلى نياته" والتي فشلت في عمل التوازن بين  السلطات فرفعت القضاء فوق سلطة الشعب الذي هو أعلى السلطات , وإلى مجلس شورى مرتعش لم يلتحم بالشعب , ورئيس حليم ـ مع من لايفسرون الحلم إلا بالضعف ـ لم يستطع أن يوظف الإعلام لحماية وعي المصريين , وكذلك شعب يقول لمرسي ومجلس شوراه إذهبوا أنتم فقاتلوا تصحبكم السلامة و الدعوات إنا عليكم متفرجون .
موضوعات ذات صلة على صفحة.. القضاء

الخميس، 16 مايو 2013

المستقبل لهـذا الـديــن ..سيد قطب ..الإسلام منهج حياة

المستقبل لهـذا الـديــن سيد قطب الإسلام منهج حياة


المستقبل لهـذا الـديــن

سيد قطب
الإسلام منهج حياة
الإسلام منهج. منهج حياة. حياة بشرية واقعية بكل مقوماتها. منهج يشمل التصور الاعتقادي الذي يفسر طبيعة (الوجود)، ويحدد مكان (الإنسان) في هذا الوجود، كما يحدد غاية وجوده الإنساني.. ويشمل النظم والتنظيمات الواقعية التي تنبثق من ذلك التصور الإعتقادي وتستند إليه، وتجعل له صورة واقعية متمثلة في حياة البشر. كالنظام الأخلاقي والينبوع الذي ينبثق منه، والأسس التي يقوم عليها، والسلطة التي يستمد منها. والنظام السياسي وشكله وخصائصه. والنظام الاجتماعي وأسسه ومقوماته. والنظام الاقتصادي وفلسفته وتشكيلاته. والنظام الدولي وعلاقاته وارتباطاته..
ونحن نعتقد أن المستقبل لهذا الدين، بهذا الاعتبار. باعتباره منهج حياة، يشتمل على تلك المقومات كلها مترابطة، غير منفصل بعضها عن بعض. المقومات المنظمة لشتى جوانب الحياة البشرية، الملبية لشتى حاجات (الإنسان) الحقيقية، المهيمنة على شتى أوجه النشاط الإنسانية.
وهذا الدين - بهذا الإعتبار - ليس مجرد عقيدة وجدانية منعزلة عن واقع الحياة البشرية في كل مجالاتها الواقعية - إن صح أن هناك ديناً إلهيا يمكن أن يكون مجرد عقيدة وجدانية منعزلة عن واقع الحياة البشرية ( ) - وليس مجرد شعائر تعبدية يؤديها المؤمنون بهذا الدين فرادى أو مجتمعين ، فتكون لهم صفة هذا الدين ! وليس مجرد طريق إلى الآخرة لتحقيق الفردوس الأخروي؛ بينما هناك طريق آخر أو طرق أخرى لتحقيق الفردوس الأرضي، غير منهج الدين، وغير نظم وتنظيمات الدين !
وهذا الدين من الوضوح في هذا المعنى - ومن العمق والقوة كذلك - بحيث يبدو أن ليس هنالك أمل في نجاح أية محاولة لتصويره في صورة العقيدة الوجدانية المنعزلة عن واقع الحياة البشرية، والتي لا علاقة لها بتنظيمات الحياة الواقعية، وتشكيلاتها وأجهزتها العملية. أو العقيدة التي تعد الناس فردوس الآخرة إذا هم أدوا شعائرها وعباداتها، دون أن يحققوا  – في واقع مجتمعهم – أنظمتها وشرائعها وأوضاعها المتميزة المتفردة الخاصة ! فهذا الدين ليس هذا. ولم يكن هذا. ولا يمكن أن يكون هذا.. ربما استطاعت أية نحلة في الأرض تزعم لنفسها أنها (دين) ويزعم لها أهلها أنها (دين) أن تكون كذلك! أما (هذا الدين) فلا. ثم لا. ثم لا..
*     *     *
ونحن نعرف أن هناك جهوداً جبارة تبذل-منذ قرون- لحصر الإسلام في دائرة الاعتقاد الوجداني والشعائر التعبدية، وكفه عن التدخل في نظام الحياة الواقعية؛ ومنعه من الهيمنة الكاملة على كل نشاط واقعي للحياة البشرية-كما هي طبيعته، كما هي حقيقته، وكما هي وظيفته.
لقد كانت هذه الخصائص في هذا الدين.. خصائص الشمول والواقعية والهيمنة.. هي التي تعبت منها الصليبية العالمية في هجومها على (الأمة المسلمة) في (الوطن الإسلامي). كما أنها هي التي تعبت منها الصهيونية العالمية كذلك، منذ عهد بعيد! ومن ثم لم يكن بد أن تبذلا معاً الجهود الجبارة لحصر هذا الدين في دائرة الاعتقاد الوجداني والشعائر التعبدية؛ وكفه عن التدخل في نظام الحياة الواقعية؛ ومنعه من الهيمنة على نشاط الحياة البشرية.. وذلك كله كخطوة أولى، او كموقعة أولى، في معركة القضاء عليه في النهاية!
وبعد أن أفلحت تلك الجهود الجبارة؛ ونالت انتصارها الحاسم على يد (اتاتورك)-البطل!!!- في إلغاء الخلافة الإسلامية؛ وفصل الدين عن الدولة؛ وإعلانها دولة (علمانية) خالصة. عقب محاولات ضخمة بذلت في شتى أقطار (الأمة المسلمة) في (الوطن الإسلامي) التي وقعت في قبضة الاستعمار قبل ذلك، لزحزحة الشريعة الإسلامية عن أن تكون هي (المصدر الوحيد) للتشريع؛ والاستمداد من التشريع الأوروبي؛ وحصر الشريعة في ذلك الركن الضيق المسدود: ركن ما سموه (الأحوال الشخصية)!
بعد أن أفلحت تلك الجهود الضخمة، ونالت انتصارها الحاسم على يد (البطل!!!) أتاتورك.. تحولت إذن إلى الخطوة التالية - او الموقعة التالية- ممثلة في الجهود النهائية، التي تبذل الآن في شتى أنحاء (الوطن الإسلامي) - او بتعبير أدق الذي كان إسلامياً- لكف هذا الدين عن الوجود أصلاً؛ وتنحيته حتى عن مكان العقيدة، وإحلال تصورات وضعية أخرى مكانه ؛ تنبثق منها مفاهيم وقيم، وأنظمة وأوضاع ، تملأ فراغ ( العقيدة ) ! وتسمى مثلها .. عقيدة ..
وصاحب هذه المحاولة ضربات وحشية تكال لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان على ظهر هذه الأرض؛ تشترك فيه كل المعسكرات المتخاصمة التي لا تلتقي على شيء في مشارق الأرض ومغاربها، إلا على الخوف من البعث الإسلامي الوشيك؛ الذي تحتمه طبائع الأشياء، وحقائق الوجود والحياة، ودلالات الواقع البشري من هنا و من هناك ..
ولكننا نعلم كذلك أن هذا الدين اضخم حقيقة، واصلب عوداً، واعمق جذوراً، من أن تفلح في معالجته تلك الجهود كلها، ولا هذه الضربات الوحشية كذلك. كما أننا نعلم أن حاجة البشرية إلى هذا المنهج اكبر من حقد الحاقدين على هذا الدين؛ وهي تتردى بسرعة مخيفة في هاوية الدمار السحيقة؛ ويتنادى الواعون منها بصيحة الخطر، ويتلمسون لها طريق النجاة.. ولا نجاة إلا بالرجوع إلى الله.. والى منهجه القويم للحياة.
إن هتافات كثيرة من هنا ومن هناك تنبعث من القلوب الحائرة. وترتفع من الحناجر المتعبة.. تهتف بمنقذ، وتتلفت على (مخلِّص). وتتصور لهذا المخلص سمات وملامح معينة تطلبها فيه. وهذه السمات والملامح المعينة لا تنطبق على أحد إلا على هذا الدين!
فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه هذا الدين، ومن حاجة البشرية إلى هذا المنهج، نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع، في أن المستقبل لهذا الدين، وان له دوراً في هذه الأرض هو مدعو لأدائه  - أراد أعداؤه كلهم أم لم يريدوا - وان دوره هذا المرتقب لا تملك عقيدة أخرى- كما لا يملك منهج آخر- أن يؤديه. وأن البشرية بجملتها لا تملك أن تستغني طويلاً عنه.
إن البشرية قد تمضي في إعتساف تجارب متنوعة هنا وهناك- كما هي الآن ماضية في الشرق وفي الغرب سواء- ولكننا نحن مطمئنون إلى نهاية هذه التجارب، واثقون من الأمر في نهاية المطاف.
إن هذه التجارب كلها تدور في حلقة مفرغة، وداخل هذه الحلقة لا تتعداها- حلقة التصور البشري والتجربة البشرية والخبرة البشرية المشوبة بالجهل والنقص والضعف والهوى – في حين يحتاج الخلاص إلى الخروج من هذه الحلقة المفرغة، وبدء تجربة جديدة أصيلة، تقوم على قاعدة مختلفة كل الاختلاف: قاعدة المنهج الرباني الصادر عن علم (بدل الجهل) وكمال (بدل النقص) وقدرة (بدل الضعف) وحكمة (بدل الهوى).. القائم على أساس: إخراج البشر من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده دون سواه.
*     *     *
إن مفرق الطريق بين منهج هذا الدين، وسائر المناهج غيره: أن الناس في نظام الحياة الإسلامي يعبدون إلهاً واحداً، يفردونه-سبحانه- بالألوهية والربوبية والقوامة -    بكل مفهومات القوامة- فيتلقون منه -وحده- التصورات والقيم والموازين، والأنظمة والشرائع والقوانين، والتوجيهات والأخلاق والآداب.. بينما هم في سائر النظم يعبدون آلهة وأرباباً متفرقة، يجعلون لها القوامة عليهم من دون الله، حين يتلقون التصورات والقيم والموازين، والأنظمة والشرائع والقوانين والتوجيهات والآداب والأخلاق، من بشر مثلهم. فيجعلونهم - بهذا التلقي- أرباباً، و يمنحونهم حقوق الألوهية والربوبية والقوامة عليهم.. وهم مثلهم بشر.. عبيد كما انهم عبيد..
ونحن نسمي هذه النظم التي يتعبد الناس فيها الناس-كما يسيمها الله سبحانه- نظماً جاهلية. مهما تعددت أشكالها وبيئاتها وأزمانها. فهي قائمة على ذات الأساس الذي جاء هذا الدين-يوم جاء- ليحطمه، وليحرر البشر منه، وليقيم في الأرض ألوهية واحدة للناس؛ وليطلقهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده؛ بالمعنى الواسع الشامل لمفهوم (العبادة) ومفهوم ( الإله) ومفهوم (الرب) ومفهوم (الدين) ( ).
لقد جاء هذا الدين ليلغي عبودية البشر للبشر، في كل صورة من الصور، وليوحد العبودية لله في الأرض، كما أنها عبودية واحدة لله في هذا الكون العريض.
(أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً، واليه يرجعون)..
[ آل عمران: 83 ]
*     *     *
والمنهج الإسلامي المنبثق من هذا الدين- بهذا الاعتبار- ليس نظاماً تاريخياً لفترة من فترات التاريخ، كما انه ليس نظاماً محلياً لمجموعة من البشر في جيل من الأجيال، ولا في بيئة من البيئات.. إنما هو المنهج الثابت الذي ارتضاه الله لحياة البشر المتجددة، لتبقى هذه الحياة دائرة حول المحور الذي ارتضى الله أن تدور عليه أبداً، وداخل الإطار الذي ارتضى الله أن تظل داخله أبداً، ولتبقى هذه الحياة مكيفة بالصورة العليا التي اكرم الله فيها الإنسان عن العبودية لغير الله..
وهذا المنهج حقيقة كونية قائمة بإزاء البشرية المتجددة قيام النواميس الكونية الدائمة. التي تعمل في جسم الكون منذ نشأته، والتي تعمل فيه اليوم وغداً، والتي يلقى البشر من جراء المخالفة عنها، والاصطدام بها، ما يلقون من آلام ودمار ونكال!
والناس.. إما أن يعيشوا بمنهج الله هذا بكليته فهم مسلمون، وإما أن يعيشوا بأي منهج آخر من وضع البشر، فهم في جاهلية لا يعرفها هذا الدين.. ذات الجاهلية التي جاء هذا الدين ليحطمها، وليغيرها من الأساس. ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله..
والناس إما أن يعيشوا بمنهج الله بكليته فهم في توافق مع نواميس الكون، وفطرة الوجود، وفطرتهم هم أنفسهم. وإما أن يعيشوا بأي منهج آخر من صنع البشر، فهم في خصام مع نواميس الكون، وتصادم مع فطرة الوجود، ومع فطرتهم هم أنفسهم، بوصفهم قطاعاً في هذا الوجود.. تصادم تظهر نتائجه المدمرة من قريب او من بعيد..
*     *     *
ونحن- كما قلنا- نستيقن أن الناس عائدون إلى الله؛ عائدون إلى منهجه هذا للحياة. وان المستقبل لهذا الدين عن يقين.
ونحن مستيقنون كذلك أن كل الجهود التي بذلت او سوف تبذل لزحزحة هذا الدين عن طبيعته  هي انه منهج للحياة البشرية الواقعية، في كل مجالاتها العملية والشعورية، سوف تبوء بالفشل والخيبة. وقد بانت بوادر الفشل والخيبة.. لأن هذه العزلة ليست من طبيعة هذا الدين. كما أنها في الحقيقة ليست من طبيعة أي دين!!!

كُلُّ ديِن منهَج حَيَاة



كُلُّ ديِن منهَج حَيَاة
المستقبل لهذا الدين 
سيد قطب

هنالك ارتباط وثيق بين طبيعة(النظام الاجتماعي) وطبيعة(التصور الاعتقادي) .. بل هنالك ما هو اكبر من الارتباط الوثيق. هنالك الانبثاق الحيوي: انبثاق النظام الاجتماعي من التصور الاعتقادي.. فالنظام الاجتماعي بكل خصائصه هو أحد انبثاقات التصور الاعتقادي؛ إذ هو ينبت نباتاً حيويا وفطريا، ويتكيف بعد ذلك تكيفاً تاما بالتفسير الذي يقدمه ذلك التصور للوجود، ولمركز الإنسان في هذا الوجود، ولغاية وجوده الإنساني.
وهذا الانبثاق ثم هذا التكيف هو الوضع الصحيح للأمور. بل هو الوضع الوحيد. فما من نظام اجتماعي يمكن أن ينشأ نشأة طبيعية سوية، وان يقوم بعد ذلك قياماً صحيحاً سليماً، إلا حين ينبثق من تصور شامل لحقيقة الوجود؛ ولحقيقة الإنسان، ولمركز الإنسان في هذا الوجود، ولغاية الوجود الإنساني.. إذ أن غاية أي نظام اجتماعي ينبغي أن تكون هي تحقيق غاية الوجود الإنساني.. كذلك فان الحقوق المخولة للإنسان بحكم حقيقة مركزه في هذا الوجود هي التي ترسم خط سيره، وتحدد وسائله التي له حق استخدامها لتحقيق غاية وجوده، كما تحدد نوع الارتباطات التي تقوم بينه وبين هذا الوجود، ونوع الارتباطات التي تقوم بين أفراد جنسه ومنظماته وتشكيلاته.. إلى آخر ما يعبر عنه باسم (النظام الاجتماعي)..
وكل نظام اجتماعي يقوم على غير هذا الأساس، هو نظام غير طبيعي. نظام متعسف. لا يقوم على جذوره الفطرية.. ولا أمل في أن تعمر مثل هذه النظم طويلاً. ولا أمل في تناسق حركة (الإنسان) في ظلها مع الحركة الكونية. ولا مع الفطرة البشرية؛ ولا مع احتياجات الإنسان الحقيقية.
ومتى فقد هذا التناسق فلا مفر من تعاسة الناس وشقوتهم بمثل هذه النظم، مهما استطاعت أن توفر لهم من التسهيلات المادية والإنتاجية.. ثم لا مفر بعد ذلك من تحطم هذه النظم، لتعارضها مع فطرة الكون، وفطرة الإنسان..
*    *    *
هذا الانبثاق ثم هذا التكيف وجه من وجوه الارتباط بين التصور الاعتقادي والنظام الاجتماعي.. يمكن تعميمه حتى يشمل لا مجرد النظام الاجتماعي، بل منهج الحياة كله، بما فيه مشاعر الأفراد وأخلاقهم وعباداتهم وشعائرهم وتقاليدهم؛ وكل نشاط إنساني في هذه الأرض جميعاً.
كما أن للمسألة كلها وجهاً آخر.. إن كل (دين) هو منهج للحياة بما انه تصور اعتقادي.. او بتعبير أدق بما انه يشمل التصور الاعتقادي وما ينبثق منه من نظام اجتماعي. بل من منهج يحكم كل نشاط الإنسان في هذه الحياة الدنيا.
كذلك عكس هذه العبارة صحيح.. أن كل منهج للحياة هو (دين). فدين جماعة من البشر هو المنهج الذي يصرف حياة هذه الجماعة..
غير انه إن كان المنهج الذي يصرف هذه الجماعة من صنع الله-أي منبثقاً من تصور اعتقادي رباني- فهذه الجماعة في (دين الله).. وان كان المنهج الذي يصرف حياة هذه الجماعة من صنع الملك، او الأمير او القبيلة او الشعب-أي منبثقاً من مذهب او تصور او فلسفة بشرية- فهذه الجماعة  في (دين الملك) او(دين الأمير) او(دين القبيلة) او(دين الشعب) .. وليست في (دين الله) لأنها لا تتبع منهج الله، المنبثق ابتداء من دين الله، دون سواه( )!.
والمحدثون من أصحاب المذاهب والنظريات والفلسفات الاجتماعية لم يعودوا يحجمون، او يتحرجون، من التصريح بهذه الحقيقة: وهي انهم إنما يقررون(عقائد)؛ ويريدون اخذ الناس بها في واقع الحياة؛ وانهم يريدون إحلال هذه العقائد الاجتماعية او الوطنية او القومية محل العقيدة الدينية..
فالشيوعية ليست مجرد نظام اجتماعي.. إنما هي كذلك تصور اعتقادي. تصور يقوم على أساس مادية هذا الكون، ووجود المتناقضات في هذه المادية.. هذه المتناقضات المؤدية إلى كل التطورات والانقلابات فيه. وهو ما يعبر عنه بالمادية الجدلية، كما يقوم على التفسير الاقتصادي للتاريخ، ورد التطورات في الحياة البشرية إلى تطور أداة الإنتاج.. الخ. ومن ثم فهي ليست مجرد نظام اجتماعي، إنما هي تصور اعتقادي يقوم عليه-او يدعي انه يقوم عليه-نظام اجتماعي.. وذلك بغض النظر عما بين اصل التصور وحقيقة النظام الذي يقوم الآن من فجوات ضخام!
كذلك سائر مناهج الحياة وأنظمتها الواقعية، يسميها أصحابها (عقائد) ويقولون: (عقيدتنا الاجتماعية) او(عقيدتنا الوطنية) او(عقيدتنا القومية).. وكلها تعبيرات صادقة في تصوير حقيقة الأمر: وهو أن كل منهج للحياة او كل نظام للحياة هو (دين) هذه الحياة، ومن ثم فالذين يعيشون في ظل هذا المنهج او في ظل ذلك النظام.. دينهم هو هذا المنهج او دينهم هو هذا النظام.. فان كانوا في منهج الله ونظامه فهم في (دين الله).. وان كانوا في منهج غيره او نظامه، فهم في (دين غير الله).

والأمر فيما نحسب واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.
*     *      *
ونظراً لهذه الحقيقة البسيطة لم يكن هناك دين الهي هو مجرد عقيدة وجدانية، منعزلة عن واقع الحياة البشرية في كل مجالاتها الواقعية. ولا مجرد شعائر تعبدية يؤديها المؤمنون بهذا الدين فرادى او مجتمعين. ولا مجرد (أحوال شخصية) تحكمها شريعة هذا الدين، بينما تحكم سائر نواحي الحياة شريعة أخرى مستمدة من مصدر آخر، تؤلف منهجاً آخر للحياة غير منبثق انبثاقاً من (دين الله).
وما يملك أحد يدرك مفهوم كلمة (دين) أن يتصور إمكان وجود دين الهي ينعزل في وجدان الناس، او يتمثل فحسب في شعائرهم التعبدية، او(أحوالهم الشخصية)، ولا يشمل نشاط حياتهم كله، ولا يهيمن على واقع حياتهم كله، ولا يقود خطى حياتهم في كل اتجاه، ولا يوجه تصوراتهم وأفكارهم ومشاعرهم وأخلاقهم ونشاطهم وارتباطاتهم في كل اتجاه..
لا.. وليس هناك دين من عند الله هو منهج للآخرة وحدها، ليتولى دين آخر من عند غير الله وضع منهج للحياة الدنيا!
هذا تصور مضحك لحقيقة الواقع الكوني والبشري.. وذلك أن مقتضى هذا التقسيم المفتعل أن يكون لله-سبحانه-جانب واحد من جوانب هذه الحياة ينظمه، ويشرف عليه، وينحصر (اختصاصه) فيه، ويكون لغير الله جوانب أخرى كثيرة ينظمها ويشرف عليها (أرباب) اخرون، يتعلق بها اختصاصهم.
انه-كما ترى- تصور مضحك للغاية، مضحك إلى حد أن الذين يفكرون على هذا النحو، سيضحكون من أنفسهم، ومن تفكيرهم، ويسخرون من سذاجتهم وركة أفكارهم.. لو انهم رأوا الأمر حقيقة من هذه الزاوية الصحيحة، وتحت هذا النور الهادئ الهادي..
*     *      *
على أن للمسالة وجهاً آخر.. إن (الشخصية الإنسانية) (وحدة). وحدة في طبيعتها وكينونتها. وحدة تؤدي كل وظائفها كوحدة. وهي لا تستقيم في حركتها ولا تتناسق خطواتها إلا حين يحكمها منهج واحد منبثق في اصله من تصور واحد..
فأما حين تحكم ضمير الإنسان ووجدانه شريعة، ثم تحكم واقعه ونشاطه شريعة.. وكل من هذه وتلك ينبثق من تصور مختلف .. هذه من تصور البشر، وتلك من وحي الله.. فان شخصيته تصاب بما يشبه داء الفصام (شيزوفرنيا)! ويقع فريسة لهذا التمزق بين واقعه الشعوري الوجداني، وواقعه الحركي العملي، ويصيبه القلق والحيرة.. كما نشاهد اليوم في أرقى البلاد الأوروبية والامريكية، ثمرة للصراع بين بقايا الوجدان الديني الذابلة وواقع الحياة العملية، القائم على تصورات وقيم لا علاقة لها بالوجدان الديني.. وذلك بعد (الفصام النكد) الذي وقع هناك بين الدين والحياة، وكانت له أسبابه الخاصة في تاريخ النصرانية بها( ).
و(دين الله) هو الذي يقدم التفسير الشامل الكامل للوجود، وعلاقته بخالقه العظيم. ولمركز الإنسان في هذا الوجود؛ ولغاية وجوده الإنساني.. ومن ثم يحدد تحديداً سليماً نوع الارتباطات التي تحقق غاية وجود النوع البشري، في حدود مركز هذا النوع في الوجود، وحقوقه المخولة له بحكم هذا المركز، والوسائل التي يبلغ بها هذه الغاية، ولا تخرج عن حدود حقوقه ومركزه، والتي يبلغ بها من ثم رضى خالقه العظيم؛ وسعادة الدنيا والآخرة، بمنهج واحد لا يمزقه كل ممزق؛ ولا يصيب شخصيته بداء الفصام اللعين! ولا ينتهي به إلى التصادم مع فطرته وفطرة الكون كله في نهاية المطاف!
من ثم جاء كل دين من عند الله، يقدم للبشر الأساس التصوري الاعتقادي، الذي يقوم عليه نظام حياتهم  كلها: الوجدانية والعملية.. جاء ليرد البشر إلى ربهم؛ ويرد نظام حياتهم إلى منهجه المتفرد.. كما يقع التواؤم والتناسق بين ضميرهم وواقعهم؛ وبين وجدانهم ونشاطهم؛ وبين حركتهم ونواميس الكون أيضاً..
وجاء كل دين من عند الله لينفذ في الدنيا الواقع، وليتبعه الناس في نشاطهم الحيوي كله، لا ليبقى مجرد شعور وجداني قابع في ضمائرهم. ولا مجرد تهذيب روحي في أخلاقهم. ولا مجرد شعائر تعبدية في محاريبهم ومساجدهم؛ ولا مجرد أحوال شخصية في جانب واحد من حياتهم: "وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله"..
[النساء: 64]
*     *      *
وهكذا جاءت التوراة تتضمن عقيدة وشريعة، وكلف أهلها أن يتحاكموا إليها في كل شؤون حياتهم؛ لا أن يجعلوها مواعظ تهذيبية لا تتجاوز وجدانهم، ولا شعائر تعبدية يقيمونها في هياكلهم:
"إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور. يحكم بها النبيون الذين اسلموا للذين هادوا، والربانيون والاحبار، بما استحفظوا من كتاب الله، وكانوا عليه شهداء، فلا تخشوا الناس واخشون، ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون. وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالاذن، والسن بالسن، والجروح قصاص. فمن تصدق به فهو كفارة له. ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الظالمون".
[المائدة:44-45]
وهذا الذي ذكره القرآن من شريعة التوراة مثل للكثير الذي تحتويه، والذي نظم به موسى-عليه السلام- ومن بعده أنبياء بني إسرائيل حياتهم الواقعية عدة قرون.
ثم جاء المسيح-عليه السلام- بالنصرانية.. أرسله الله إلى بني إسرائيل -فهو أحد أنبيائهم- ومن ثم جاء مصدقاً لشريعة التوراة- مع بعض تعديلات خفيفة، لرفع بعض الأثقال التي فرضت عليهم في صورة عقوبات تأديبية، او كفارات عن معصية؛ كالذي أشار إليه القرآن الكريم:
"وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر. ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها-إلا ما حملت ظهورهما او الحوايا او ما اختلط بعظم- ذلك جزيناهم ببغيهم، وإنا لصادقون"..
[الأنعام:146]
وقد أقرت هذه الشريعة المعدلة لتكون نظاما للحكم والحياة أيضاً:
"وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم، مصدقاً لما بين يديه من التوراة، وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة، وهدى وموعظة للمتقين. وليحكم أهل الإنجيل بما انزل الله فيه. ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الفاسقون".
[المائدة:46-47]
ثم جاء محمد-صلى الله عليه وسلم- بالاسلام، لا ينقض الشرائع السماوية الصحيحة قبله،ولكن يصدقها، ويهيمن عليها. بما انه الرسالة الأخيرة الشاملة للبشرية كافة، المعلنة عن الرشد الانساني، المتضمنة للتفسير الواسع الكلي، الذي يقوم عليه نظام الحياة الإنسانية، الذي يخرج الناس من (الجاهلية) إلى (الربانية) ويكل واقعهم إلى شريعة الله، كما يكل ضمائرهم إلى تقوى الله:
"وأنزلنا إليك الكتاب بالحق، مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه.. فاحكم بينهم بما انزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق. لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً.ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم. فاستبقوا الخيرات. إلى الله مرجعكم جميعاً، فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون.. وان احكم بينهم بما انزل الله؛ ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما انزل الله إليك. فإن تولوا فاعلم إنما يريد الله إنَّ يصيبهم ببعض ذنوبهم. وان كثيراً من الناس لفاسقون.. أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن احسن من الله حكماً لقوم يوقنون".
[المائدة:48-50]
ومن قبل هذه الديانات الرئيسية جاء كل دين ليرد الناس إلى ربوبية الله وحده؛ والى منهج الله وحده.. ومنذ نوح-عليه السلام- توالت الرسل على هذا المنهج الواحد، يختلف في تفصيلات الشريعة ويتفق في اصل التصور؛ وفي الغاية الأساسية الكبرى؛ وهي: إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله دون سواه. وإبطال الألوهيات والربوبيات الزائفة ورد الألوهية والربوبية إلى الله دون سواه..
وفي موضع آخر يُجمل القرآن الكريم هذه الحقيقة.. ويبين طبيعة ذلك المنهج الواحد الموصول بالله. بما ان الله هو خالق الكون والناس، وبيده مقاليد الكون والناس؛ ويبين كذلك مقام هذا الدين الأخير، وسبب مجيئه مهيمناً على الجميع، ويعلن المفاصلة بين أهل هذا الدين، وسائر الجاهليين:
"وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله. ذلكم الله ربي، عليه توكلت، واليه أنيب. فاطر السموات والأرض، جعل لكم من أنفسكم أزواجاً، ومن الأنعام ازواجاً، يذرؤكم فيه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. له مقاليد السماوات والأرض،يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، إنه بكل شيء عليم. شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه. كبر على المشركين ما تدعوهم إليه. الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب. وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم، بغياً بينهم، ولولا كلمة سبقت من ربك إلى اجل مسمى لقضي بينهم. وان الذين أوتوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب.. فلذلك فادع واستقم كما امرت، ولا تتبع أهواءهم. وقل: آمنت بما انزل الله من الكتاب، وأمرت لأعدل بينكم . الله ربنا وربكم. لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. لا حجة بيننا وبينكم. الله يجمع بيننا واليه المصير".
[الشورى:10-15]
وفيما يروي لنا القرآن عن شعيب-عليه السلام-وعن قومه، أهل مدين، يرد ذكر التشريع للحياة العملية، واعتراض القوم عليه، لعدم إدراكهم طبيعة الدين: وانه منهج للحياة شامل، لا للضمير المكنون وحده، ولا للشعائر التعبدية في الهياكل-شأنهم شأن أهل الجاهلية الحاضرة سواء!:
"والى مدين أخاهم شعيباً. قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره؛ ولا تنقصوا المكيال والميزان. أني أراكم بخير، وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط. ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين، بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين، وما انا عليكم بحفيظ.. قالوا: يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا، أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ انك لأنت الحليم الرشيد..!".
[هود:84-87]
كذلك تبدو تلك الحقيقة في حكاية القرآن الكريم لقول صالح-عليه السلام-لقومه:
"فاتقوا الله وأطيعون. ولا تطيعوا أمر المسرفين. الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون"..
[الشعراء:150-152]
فهو يردهم إلى دين الله ومنهجه للحياة، عن دين المسرفين المفسدين ومنهجهم.. أي انه يردهم من العبودية للعبيد، إلى العبودية لله في نظام الحياة.
وفي موضع آخر يحدد الله وظيفة الرسل كافة، ووظيفة كتاب الله عامة: بأنها الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه:
"كان الناس أمة واحدة. فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وانزل معهم الكتاب بالحق، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه"..
[البقرة:213]
فينتهي كل جدل في وظيفة الكتاب وفي وظيفة الرسل. ويتحدد معنى دين الله، ومرادفته لنظام الحياة الذي يريده الله..
*     *      *
ولا حاجة بنا إلى الإطالة اكثر من هذا-في البحث المجمل- عن طبيعة (الدين) وشموله لنظام الحياة الواقعية. فانه لا معنى للدين أصلاً إذا هو تخلى عن تنظيم الحياة الواقعية؛ بتصوراته الخاصة، ومفاهيمه الخاصة، وشرائعه الخاصة، وتوجيهاته الخاصة، فهذه الحياة الإنسانية لابد أن يقوم نظامها الأساسي على قاعدة التصور الاعتقادي، الذي يفسر حقيقة الوجود، وعلاقته بخالقه، ومركز الإنسان فيه، وغاية وجوده الإنساني، ونوع الارتباطات التي تحقق هذه الغاية. سواء الارتباطات بين الإنسان وربه. او الارتباطات بين الإنسان والكون من حوله. او الارتباطات بين الإنسان وسائر الأحياء. او الارتباطات بين بني الإنسان. كما يرتضيها الله لعباده.
وإلا يجئ هذا التفسير الشامل الكامل من عند الله، وإلا يقيم نظام الحياة كله على هذا التفسير الشامل الكامل، فهي إذن أهواء البشر. وهي إذن ( الجاهلية) التي جاء كل دين من عند الله لإخراج الناس منها، ورفعهم إلى (الربانية).
وإلا تكن العبودية لله وحده-ممثلة في التلقي عنه في هذا كله-فهي العبودية للعبيد.. وقد جاء دين الله لتحرير العباد من عبادة العبيد!
لا حاجة بنا للإطالة اكثر من هذا في هذه الحقيقة البديهية التي ما كان يجوز أن تكون موضع جدال. لولا تلك الملابسات النكدة التي قامت في أوروبا، وأدت إلى ذلك ( الفصام النكد) بين الدين والدولة. بل بين الدين والحياة.
إنما المهم أن نلقي الآن نظرة سريعة على تلك الملابسات النكدة.. التي عصمنا منها الله في تاريخنا وديننا. فاجتلبنا ثمارها النكدة لأنفسنا من هناك!

الفصَــامُ النَّكِـــدْ



الفصَــامُ النَّكِـــدْ
المستقبل لهذا الدين
سيد قطب



ليس من طبيعة (الدين) أن ينفصل عن الدنيا وليس من طبيعة المنهج الإلهي أن ينحصر في المشاعر الوجدانية، والأخلاقيات التهذيبية، والشعائر التعبدية. او في ركن ضيق من أركان الحياة البشرية.. ركن ما يسمونه (الأحوال الشخصية).

ليس من طبيعة (الدين) أن يفرد لله -سبحانه- قطاعاً ضيقاً في ركن ضئيل-او سلبي- في الحياة البشرية، ثم يسلم سائر قطاعات الحياة الإيجابية العملية الواقعية لآلهة أخرى وأرباب متفرقين، يضعون القواعد والمذاهب، والأنظمة والأوضاع، والقوانين والتشكيلات على أهوائهم، دون الرجوع إلى الله!

ليس من طبيعة (الدين) أن يشرع طريقاً للاخرة، لا يمر بالحياة الدنيا! طريقاً ينتظر الناس في نهايته فردوس الآخرة عن غير طريق العمل في الارض، وعمارتها، والخلافة فيها عن الله، وفق منهجه الذي ارتضاه!

ليس من طبيعة (الدين) أن يكون هذا المسخ الشائه الهزيل! ولا هذه الألعوبة المزوقة التي يلهو بها الأطفال! ولا هذه المراسم التقليدية التي لا علاقة لها بنظم الحياة العملية!

ليس من طبيعة (الدين) -أي دين فضلاً عن دين الله- أن يكون هذا العبث الممسوخ الهزيل.. فمن أين إذن جاءته هذه السلبية الهازلة ؟ وكيف إذن وقع ذلك (الفصام النكد) بين الدين والحياة ؟.

لقد تم ذلك (الفصام النكد) في ظروف نكدة! وكانت له آثاره المدمرة في أوروبا.. ثم في الأرض كلها، حين طغت التصورات الغربية، والأنظمة الغربية، والأوضاع الغربية، على البشرية كلها في مشارق الأرض ومغاربها..

ولم يكن بد-وقد انفصمت حياة المخاليق عن منهج الخالق- ان تسير في هذا الطريق البائس؛ وان تنتهي إلى هذه النهاية التعيسة؛ وان تحيط بالبشر الدائرة التي يتعذبون الآن في داخلها، ويذوق بعضهم بأس بعض، بينما هم عاجزون عن معرفة طريق الخلاص منها.. وهم يصطرخون فيها..!!.

وليس هنا مجال الحديث عن الشقوة التي تصطرخ فيها البشرية فسيجيء شيء عنها في الفصول التالية. فلنعد إلى الحديث عن تلك الظروف النكدة، التي وقع فيها ذلك (الفصام النكد).

*    *    *

لقد جاءت اليهودية لتكون منهجاً لحياة بني إسرائيل-كما جاء كل دين قبلها ليكون منهج حياة لمن جاءهم- كذلك جاءت النصرانية - بعد اليهودية - لتكون المنهج المعدل لبني إسرائيل.

ولكن اليهود لم يقبلوا رسالة المسيح-عليه السلام- ولم يقبلوا منه التخفيف الذي جاءهم به من عند الله. وهو يقول لهم-كما حكى القرآن الكريم:

"ومصدقاً لما بين يدي من التوراة، ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، وجئتكم بآية من ربكم، فاتقوا الله وأطيعون"..

[آل عمران:50]

ومن ثم قاوموا المسيح-عليه السلام- وقاوموا دعوته إلى السماحة والسلام والتطهر الروحي، والتخفف من المراسم الشكلية التي لا رصيد لها من تقوى القلوب! وانتهى بهم الامر إلى إغراء (بيلاطس) الحاكم الروماني على ارض الشام يومئذ بمحاولة قتل المسيح-عليه السلام-وصلبه. لولا أن توفاه الله ورفعه إليه (في صورة لا نعلم كيفيتها لأنه ليس عندنا نص قاطع من قرآننا ولا سنة نبينا عليها).

وأيا ما كان الأمر، فقد سارت الأمور بعد ذلك الحين بين اليهود واتباع عيسى-عليه السلام- سيرتها البائسة. فبذرت بذور الحقد على اليهود في نفوس الذين صاروا نصارى. كما بذرت بذور الكره في نفوس اليهود على هؤلاء! وانتهت بانفصال اتباع المسيح عن اليهود، وانفصال النصرانية عن اليهودية (وهي جاءت في الأصل لتكون تجديداً لليهودية وتعديلاً طفيفاً في أحكامها، مع الإحياء الروحي والتهذيب الخلقي العميق الواضح في دعوة المسيح عليه السلام).

ولما وقعت الجفوة والفرقة-بل البغضاء والحقد- بين اتباع عيسى عليه السلام واليهود، انفصل كتابهم الإنجيل-في حسهم- عن التوراة-وان بقيت التوراة وكتبها معدودة عندهم من الكتاب المقدس- وانفصلت شريعتهم عن شريعة التوراة. بينما جسم الشريعة لبني إسرائيل كلهم في التوراة.. وبذلك لم يعد للنصرانية بهذا الانفصال شريعة مفصلة تنظم الحياة!

ولكن التصور الاعتقادي-كما جاء به المسيح عليه السلام من عند الله- كان كفيلاً-لو ظل سليماً- أن يقدم التفسير الصحيح للوجود، ولمركز الإنسان في هذا الوجود، ولغاية وجوده الإنساني.. هذا التفسير الذي يمكن ان يقوم عليه نظام اجتماعي. كما كان ذلك التصور - لو ظل سليماً كما جاء من عند الله- كفيلاً أن يرد النصارى إلى الشريعة التي تضمنتها التوراة، مع التعديلات التي جاء بها المسيح للتخفيف في بعض تكاليف العبادة وتكاليف الحياة.

غير ان الذي حدث، هو ان عهداً طويلاً من الاضطهاد الفظيع قد اظل اتباع عيسى عليه السلام. سواء من اليهود المنكرين، او من الرومان الوثنيين، الذين كانوا يحكمون وطن المسيح. مما اضطر الحواريين-تلاميذ المسيح- واتباعهم وتلاميذهم الى التخفي، والتنقل والعمل سراً، فترة من الوقت طويلة. ومما اضطرهم كذلك إلى تناقل نصوص الانجيل، وتاريخ عيسى عليه السلام، وأحداث الفترة التي عاشها بينهم تناقلاً خاطفاً، في ظروف لا تسمح بالدقة ولا بالتواتر.. مما انتهى إلى رواية نصوص الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى-عليه السلام- في ثنايا روايات عن حياته وأعماله؛ يختلف بعضها عن بعض؛ فيما سمي بالأناجيل.. وهي كلام هؤلاء التلاميذ ورواياتهم عن حياة المسيح، متضمنة في ثناياها بعض ما يروى من كلام السيد المسيح.. وقد كتب اقدم هذه الأناجيل بعد المسيح بجيل كامل، ويختلف المؤرخون للنصرانية اختلافاً كبيراً في تحديد تاريخه ما بين40 سنة و64 سنة، كما يختلفون في اللغة التي كتب بها.. إذ لم توجد سوى ترجمة له..

ولقد كان من نصيب (بولس) ( الذي لم ير المسيح -عليه السلام- وإنما دخل النصرانية من الوثنية الرومانية) أن يتولى نشر النصرانية في أوروبا. مطعمة بما رسب في تصوراته من الوثنية والفلسفة الإغريقية.. وكانت هذه كارثة على النصرانية منذ أيامها الأولى في أوروبا.. فوق ما لحق بها من تحريف في فترة الاضطهاد الأولى. فترة تناقل الروايات في ظروف لا تسمح بتمحيصها ولا بتواترها!.

(وكتب بولس رسائله بعد ذلك-بعد القرن الأول الميلادي- وهي شاهد على امتزاج الأمثلة الدينية بصور الفلسفة-ولا سيما فلسفة الحلول- وكان يقول: ان المسيح جالس على يمين الله، ويدعو لمن يطلب لهم الخير "أن تسكن فيهم كلمته" ويسأل لهم الغفران منه، ويبشرهم بأنهم سيبلغون المجد متى عاد إلى الأرض! ويبدو من جملة كلامه انه كان ينتظر معاده في زمن قريب. وكثيراً ما أشار إليه-صلوات الله عليه- باسم:"ربنا يسوع المسيح"! وسمى نفسه باسم:"رسول يسوع المسيح بحسب أمر الله مخلصنا وربنا يسوع المسيح!") ( ).

*      *      *

ولكن الكارثة العظمى كانت في الحدث الذي تم بعد ذلك. وكان ظاهره انتصار النصرانية، وهو دخول الإمبراطور الروماني (قسطنطين) في النصرانية، واستطاعة الحزب النصراني أن يصبح هو الحاكم سنة 355م.

ويصف درابر الأمريكي في كتابه(الدين والعلم) هذا الحادث وآثاره النكدة يقول:

( دخلت الوثنية والشرك في النصرانية بتأثير المنافقين، الذين تقلدوا وظائف خطيرة، ومناصب عالية في الدولة الرومية، بتظاهرهم بالنصرانية ولم يكونوا يحفلون بأمر الدين، ولم يخلصوا له يوما من الأيام.. وكذلك كان (قسطنطين).. فقد قضى عمره في الظلم والفجور؛ ولم يتقيد بأوامر الكنيسة الدينية إلا قليلاً في آخر عمره (سنة 337م).

( ان الجماعة النصرانية، وان كانت قد بلغت من القوة بحيث ولت قسطنطين الملك، ولكنها لم تتمكن من أن تقطع دابر الوثنية، وتقلع جرثومتها. وكان نتيجة كفاحها ان اختلطت مبادئها، ونشأ من ذلك دين جديد، تتجلى فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء.. هنالك يختلف الإسلام عن النصرانية، إذ قضى على منافسه (الوثنية) قضاء باتا، ونشر عقائد خالصة بغير غبش ..

(وان هذا الإمبراطور الذي كان عبداً للدنيا، والذي لم تكن عقائده الدينية تساوي شيئاً، رأى لمصلحته الشخصية، ولمصلحة الحزبين المتنافسين-النصراني والوثني-ان يوحدهما ويؤلف بينهما: حتى إن النصارى الراسخين أيضاً لم ينكروا عليه هذه الخطة. ولعلهم كانوا يعتقدون أن الديانة الجديدة ستزدهر إذا طعمت ولقحت بالعقائد الوثنية القديمة! وسيخلص الدين النصراني عاقبة الأمر من أدناس الوثنية وأرجاسها) ( ).

*      *      *

ولكن الديانة الجديدة لم تتخلص-بعد ذلك- قط من أدناس الوثنية وأرجاسها-كما أمل النصارى الراسخون- فقد ظلت تتلبس بهذه الأساطير والتصورات الوثنية. ثم زادت الطينة بلة. فأصبحت تتلبس كذلك بالخلافات السياسية والعنصرية، وأصبحت العقيدة تغير وتنقح لتحقيق أهداف سياسية:

يقول (الفرد بتلر) في كتابه: (فتح العرب لمصر) ترجمة الأستاذ (محمد فريد أبو حديد):

(إن ذينك القرنين-الخامس والسادس- كانا عهد نضال متصل بين المصريين والرومانيين. نضال يذكيه اختلاف في الجنس واختلاف في الدين. وكان اختلاف الدين اشد من اختلاف الجنس إذ كانت علة العلل في ذلك الوقت، تلك العداوة بين (الملكانية) و (المونوفيسية) وكانت الطائفة الأولى-كما يدل عليها اسمها- حزب مذهب الدولة الإمبراطورية، وحزب الملك والبلاد. وكانت تعتقد العقيدة السنية الموروثة-وهي ازدواج طبيعة المسيح- على حين أن الطائفة الأخرى وهي حزب القبط المنوفيسيين-أهل مصر- كانت تستبشع تلك العقيدة وتستفظعها، وتحاربها حرباً عنيفة، في حماسة هوجاء، يصعب علينا ان نتصورها، او نعرف كنهها في قوم يعقلون. بله يؤمنون بالإنجيل!)..

ويقول (ت.و.أرنولد) في كتابه: (الدعوة إلى الإسلام) ترجمة حسن إبراهيم وزميليه، عن هذا الخلاف الطائفي السياسي العنصري وآثاره في الابتداعات والإضافات والتعديلات في النصرانية:

"… ولقد افلح (جستنيان) قبل الفتح الإسلامي بمئة عام في ان يكسب الإمبراطورية الرومانية مظهراً من مظاهر الوحدة. ولكن سرعان ما تصدعت بعد موته، وأصبحت في حاجة ماسة إلى شعور قوي مشترك، يربط الولايات وحاضرة الدولة".

(أما هرقل فقد بذل جهوداً لم تصادف نجاحاً كاملاً في إعادة ربط الشام بالحكومة المركزية. ولكن ما اتخذه من وسائل عامة في سبيل التوفيق قد أدى-لسوء الحظ- إلى زيادة الانقسام، بدلاً من القضاء عليه. ولم يكن ثمة ما يقوم مقام الشعور بالقومية سوى العواطف الدينية. فحاول بتفسيره العقيدة تفسيراً يستعين به على تهدئة النفوس، ان يقف ما يمكن ان يشجر بعد ذلك بين الطوائف المتناحرة من خصومات، وان يوحد بين الخارجين على الدين وبين الكنيسة الارثوذكسية؛ وبينهم وبين الحكومة المركزية) ( ).

(وكان مجمع خلقيدونية قد أعلن في سنة451 ميلادية أن المسيح ينبغي أن يعترف بأنه يتمثل في طبيعتيه، لا اختلاط بينهما، ولا تغير، ولا تجزؤ، ولا انفصال. ولا يمكن أن ينتفي خلافهما بسبب اتحادهما. بل الأحرى أن تحتفظ كل طبيعة منها بخصائصها، وتجتمع في أقنوم واحد، وجسد واحد. لا كما لو كانت متجزئة او منفصلة في أقنومين. بل مجتمعة في أقنوم واحد: هو ذلك الابن، والله، والكلمة)..

(وقد رفض اليعاقبة هذا المجمع، وكانوا لا يعترفون في المسيح إلا بطبيعة واحدة. وقالوا: انه مركب الأقانيم. له كل الصفات الإلهية والبشرية. ولكن المادة التي تحمل هذه الصفات لم تعد ثنائية بل أصبحت وحدة مركبة الأقانيم..

وكان الجدل قد احتدم قرابة قرنين من الزمان بين طائفة الأرثوذكس وبين اليعاقبة الذين ازدهروا بوجه خاص في مصر والشام والبلاد الخارجة عن نطاق الإمبراطورية البيزنطية، في الوقت الذي سعى فيه هرقل في إصلاح ذات البين، عن طريف المذهب القائل بان للمسيح مشيئة واحدة.. ففي الوقت الذي نجد فيه. هذا المذهب يعترف بوجود الطبيعتين، إذا به يتمسك بوحدة الأقنوم في حياة المسيح البشرية. وذلك بإنكاره وجود نوعين من الحياة في أقنوم واحد. فالمسيح الواحد-الذي هو ابن الله-يحقق الجانب الإنساني والجانب الإلهي، بقوة إلهية إنسانية واحدة. ومعنى هذا انه لا يوجد سوى إرادة واحدة، في الكلمة المتجسدة..

لكن هرقل قد لقي المصير الذي انتهى إليه كثيرون جداً ممن كانوا يأملون أن يقيموا دعائم السلام. ذلك بان الجدل لم يحتدم مرة أخرى كأعنف ما يكون فحسب. بل إن هرقل نفسه قد وصم بالالحاد، وجر على نفسه سخط الطائفتين على السواء( ).

*      *      *

هذه الملابسات التي عاجلت النصرانية في بدء نشأتها أولاً، ثم عند انتصارها السياسي على ذلك النحو ثانياً، ثم ما تلا ذلك الانتصار من خلافات سياسية وعنصرية وتحريفات وتعديلات في العقيدة بسببها ثالثاً..

كل أولئك قد ملأ التصور الاعتقادي فيها بعناصر غريبة كل الغرابة على طبيعتها، وعلى طبيعة(الدين الإلهي) كله.. ومن ثم لم يعد التصور النصراني-كما صنعته التحريفات المتوالية أولاً ثم كما صاغته المجامع المقدسة العامة والخاصة أخيراً( ) - قادراً على أن يعطي التفسير الإلهي للوجود وحقيقته، وحقيقة صلته بخالقه. وحقيقة هذا الخالق وصفاته، وحقيقة الوجود الإنساني وغايته وطريقه.. هذه المقومات التي لابد أن تصح كي يصح النظام الاجتماعي الذي ينبثق منها، ويقوم بعد ذلك عليها.

*     *     *

غير أن الأمر لم يقف عند فساد التصور الاعتقادي على هذا النحو؛ بل مضت الملابسات النكدة في طريقها خطوات أخرى عاثرة!

لقد أرادت الكنيسة أن تقف في وجه الترف الروماني، والسعار الشهواني الذي كانت الإمبراطورية الرومانية قد انتهت اليه، قبل دخولها في النصرانية، والذي يصفه درابر الأمريكي في كتابه (الدين والعلم) بقوله:

"لما بلغت الدولة الرومية في القوة الحربية والنفوذ السياسي اوجها، ووصلت الحضارة إلى أقصى الدرجات.. هبطت في فساد الأخلاق، وفي الانحطاط في الدين والتهذيب إلى أسفل الدركات.. بطر الرومان معيشتهم واخلدوا إلى الأرض، واستهتروا استهتاراً، وكان مبدؤهم ان الحياة إنما هي فرصة للتمتع، ينتقل فيها الإنسان من نعيم إلى ترف، ومن لهو إلى لذة. ولم يكن اعتدالهم إلا ليطول عمر اللذة! كانت موائدهم تزهو بأواني الذهب والفضة مرصعة بالجواهر، ويحتف بهم خدم في ملابس جميلة خلابة، وغادات رومية حسان، وغوان كاسيات عاريات غير متعففات تدل دلالاً. ويزيد في نعيمهم حمامات باذخة، وميادين للهو واسعة، ومصارع يتصارع فيها الأبطال مع الأبطال، أو مع السباع؛ ولا يزالون يصارعون حتى يخر الواحد منهم صريعاً يتشحط في دمه. وقد أدرك هؤلاء الفاتحون الذين دوخوا العالم، انه ان كان هناك شيء يستحق العبادة فهو القوة، لأنه بها يقدر الإنسان ان ينال الثروة التي يجمعها أصحابها بعرق الجبين وكد اليمين، وإذا غلب الإنسان في ساحة القتال بقوة ساعده، فحينئذ يمكن أن يصادر الأموال والأملاك، ويعين إيرادات الإقطاع، وان راس الدولة الرومية هو رمز لهذه القوة القاهرة، فكان نظام رومة يشف عن أبهة الملك. ولكنه كان طلاء خادعاً كالذي نراه في حضارة اليونان في عهد انحطاطها( ).

أرادت الكنيسة أن تقف في وجه هذا السعار الجامح، وهذا التردي الكاسح.. ولكنها لم تسلك إليه طريق الفطرة السوية المعتدلة المتزنة، ولا كان قد بقي بين يديها من حقيقة التصور النصراني الصحيح ما تقيم به الميزان بين الناس بالقسط، ولا ما تقيم به الميزان بين الإفراط والتفريط في وظائف فطرتهم الطبيعية.

عندئذ اندفع في الجانب الآخر تيار من (الرهبانية) العاتية، لعلها كانت اشأم على البشرية من بهيمة الرومان الوثنية. واصبح الحرمان من طيبات الحياة، وسحق الخصائص الفطرية في الإنسان، ومحق الطاقات والاستعدادات التي خلقها الله فيه لتكفل بقاء النوع من ناحية، كما تكفل عمارة الأرض والقيام بفرائض الخلافة فيها من ناحية أخرى.. اصبح هذا الانحراف العاتي عن الفطرة هو عنوان الكمال والتقوى والفضيلة.. الأمر الذي لم يأذن به الله، ولا يمكن أن تستقيم معه حياة!

ولم ينشئ ذلك علاجاً لذلك الانحلال. ولكنه انشأ صراعاً بين طرفين جامحين، كلاهما بعيد عن جادة الفطرة وحقيقة حاجات الإنسان.

ويصور (ليكى) في كتابه: (تاريخ أخلاق أوروبا) ما كان عليه العالم النصراني في ذلك العصر من التاريخ بين الرهبانية والفجور.. بقوله:

"إن التبذل والإسفاف قد بلغا غايتهما في أخلاق الناس واجتماعهم. وكانت الدعارة والفجور، والإخلاد إلى الترف، والتساقط على الشهوات، والتحلق في مجالس الملوك وأندية الأغنياء والأمراء، والمسابقة في زخارف اللباس والحلي والزينة في حدتها وشدتها.. كانت الدنيا في ذلك الحين تتأرجح بين الرهبانية القصوى والفجور الأقصى. وان المدن التي ظهر فيها اكثر الزهاد كانت اسبق المدن في الخلاعة والفجور( ).

وهكذا عجز نظام الرهبنة، المنبثق من تصورات كنسية ومجمعية منحرفة عن اصل التصور النصراني الرباني، عن أن يكون حتى نظاماً أخلاقياً للعالم النصراني. وخلف في النفوس جفوة للدين-والدين منه براء!-وترك فيها تحفزاً للانتقاض عليه وعلى نظامه الذي لا تطيقه الفطرة.. وكان عاملاً نكداً من عوامل ذلك ( الفصام النكد) في نهاية المطاف!

*      *      *

ثم كانت الطامة يوم اكتشف الناس، الذين تأخذهم الكنيسة بهذا الحرمان القاسي، وتنذرهم باستحالة نفاذهم إلى الجنة إذا هم زاولوا من طيبات الحياة شيئاً!..

نقول: كانت الطامة يوم اكتشف الناس ان حياة رجال الكنيسة الشخصية، لا تعج بالمتاع بالطيبات فحسب! ولا تسقط في الترف فحسب! وإنما هي تعج بالفواحش والمناكر في اشد صورها شذوذاً وفحشاً ونكراً!

يقول درابر في كتابه: (الدين والعلم):

لم تكن الرهبانية والنظام الديني السلبي إلا مصادمة للفطرة. فبقيت مقهورة بعوامل الديانة الجديدة وسلطانها الروحي، وساعدتها عوامل أخرى. ثم قهرت الطبيعة، وتسرب الضعف والانحراف إلى المراكز الدينية، حتى صارت تزاحم المراكز الدنيوية-وربما تسبقها في فساد الأخلاق والدعارة والفجور. لذلك وقفت الحكومة المآدب الدينية، والأولياء وذكرياتهم، التي وجدت فيها الخلاعة والفجور حمى ومرتعاً، واتهم القسوس بكبائر ومنكرات.

(ويقول الراهب جروم (jerume) : ان عيش القسوس ونعيمهم كان يزري بترف الأمراء والأغنياء المترفين. وقد انحطت أخلاق البابوات انحطاطاً عظيماً، واستحوذ عليهم الجشع وحب المال، وعدوا طورهم، حتى انهم كانوا يبيعون المناصب والوظائف كالسلع، وقد تباع بالمزاد العلني، ويؤجرون ارض الجنة بالوثائق والصكوك وتذاكر الغفران، ويأذنون بنقض القانون، ويمنحون شهادات النجاة، وأجازات حل المحرمات والمحظورات، كأوراق النقد وطوابع البريد، ويرتشون ويرابون. وقد بذروا المال تبذيراً، حتى اضطر البابا (إنوسنت الثامن) أن يرهن تاج البابوية! ويذكر عن البابا (ليو العاشر) انه انفق ما ترك البابا السابق من ثروة واموال، وانفق نصيبه ودخله، واخذ إيراد خليفته المترقب سلفاً وأنفقه! ويروى ان مجموع دخل فرنسا لم يكن يكفي البابوات لنفقاتهم وإرضاء شهواتهم!) ( ).

ومسألة صكوك الغفران التي يشير إليها درابر في الفقرة السابقة، كانت الكنيسة قد قررت أن تمنح لنفسها الحق في إعطائها في أحد المجامع الكنسية الكثيرة، التي كانت تجتمع بين الحين والحين. وتغير وتبدل وتحرف وتنشئ وتضيف ما تشاؤه الأهواء (المقدسة!) إلى العقيدة النصرانية!

(وقد جاء في كتاب: تاريخ الكنيسة في بيان قرار المجمع الثاني عشر في هذا الشأن:

(أنهى المجمع تعليمه، فيما يتعلق بأمر الغفران، فقال: ان يسوع المسيح لما كان قد قلد كنيسته سلطان منح الغفرانات ، وقد استعملت الكنيسة هذا السلطان الذي نالته من العلي منذ الأيام الأولى، قد أعلم المجمع المقدس وأمر، بان تحفظه للكنيسة، في الكنيسة، هذه العملية الخلاصية للشعب المسيحي، والمثبتة بسلطان المجامع.. ثم ضرب بسيف الحرمان من يزعمون ان الغفرانات غير مفيده، او ينكرون على الكنيسة سلطان منحها. غير انه قد رغب في ان يستعمل هذا السلطان باعتدال واحتراز، حسب العادة المحفوظة قديماً، والمثبتة في الكنيسة، لئلا يمس التهذيب الكنسي تراخ بفرط التساهل).

"…وهذا نص صك الغفران، الذي كان يباع بيع السلعة":

(ربنا يسوع يرحمك (يا فلان)، ويحلك باستحقاقات الآمة الكلية القداسة. وأنا بالسلطان الرسولي المعطى لي، احلك من جميع القصاصات، والأحكام والطائلات الكنسية التي استوجبتها وأيضاً من جميع الإفراط والخطايا والذنوب التي ارتكبتها-مهما كانت عظيمة وفظيعة- ومن كل علة-وان كانت محفوظة لأبينا الأقدس البابا والكرسي الرسولي- وأمحو جميع أقذار الذنب، وكل علامات الملامة، التي ربما جلبتها على نفسك في هذه الفرصة. وارفع القصاصات التي كنت تلتزم بمكابدتها في المطهر؛ وأردك حديثاً إلى الشركة في أسرار الكنيسة، وأقرنك في شركة القديسين. أردك ثانية إلى الطهارة والبر اللذين كانا لك عند معموديتك، حتى انه في ساعة الموت يغلق أمامك الباب الذي يدخل منه الخطأ إلى محل العذاب والعقاب، ويفتح الباب الذي يؤدي الى فردوس الفرح. وان لم تمت سنين مستطيلة، فهذه النعمة تبقى غير متغيرة، حتى تأتي ساعتك الأخيرة.. باسم الأب والابن والروح القدس..) ( ).

فإذا أضفنا هذه إلى تلك.. إذا أضفنا عنت الكنيسة في اخذ الناس بالحرمان القاسي، باسم الدين-والدين بريء!- إلى ترف رجال الكنيسة وفساد حياتهم.. إلى مهزلة صكوك الغفران، أدركنا طرفاً من تلك الملابسات النكدة، التي أدت في النهاية إلى (الفصام النكد) في تاريخ أوروبا المنكود!..

*      *      *

غير أن الأمر لم يقف عند هذه الحدود.. فقد دخلت الكنيسة في نزاع طويل وحاد مع الأباطرة والملوك-لا على الدين والأخلاق- ولكن على السلطة والنفوذ.

وبدأ النزاع والمنافسة بين البابوية والإمبراطورية في القرن الحادي عشر، فاشتدت بعنف، وحمى وطيسها، وانتصرت فيها البابوية أولاً حتى أن هنري الرابع ممثل الإمبراطورية اضطر في سنة 1077م أن يتقدم بخضوع نحو البلاط البابوي في قلعة كانوسا.. ولم يسمح له البابا بالدخول إلا بعد أن يشفع له الرجال، فسمح له بالمثول بين يديه، فدخل الإمبراطور حافياً. لابساً الصوف، وتاب على يديه؛ فغفر له البابا زلته.. وكانت الحرب بين البابوية والإمبراطورية بعد ذلك سجالاً حتى ضعفت البابوية( ).

وقد حدث في سنة 1245-كما جاء في كتاب (سوسنة سليمان)-أن المجمع الثالث عشر انعقد في ليون من أعمال فرنسا، بأمر البابا. (إنوسنت) الرابع، لأجل عزل فردريك ملك فرنسا وحرمه. ولكن كنيسة فرنسا لم تسلم بصحته او بسلطانه! ( ).

ولما كانت الكنيسة-إلى جوار صراعها مع الأباطرة والملوك على السلطة- قد فرضت لنفسها سلطاناً على الجماهير؛ واستغلته ابشع استغلال، في فرض الإتاوات المالية الباهظة التي تجبى إليها مباشرة؛ مما جعل الناس يئنون تحت هذا الإرهاق، فقد استغل الحكام الساخطون هذا الضغط العام ليثيروا السخط العام على الكنيسة؛ واستخدموا لهذه الغاية كل وسيلة؛ وفي أولها فضح رجال الدين؛ وكشف أقذارهم وأدناسهم، وبيان خبايا حياتهم الشخصية، التي يخفونها وراء وقار الزي الكهنوتي والمراسم الكنسية!!!

*     *     *

وكانت القاصمة التي تم بها ذلك (الفصام النكد) وانتهى بها الأمر في أوروبا بين الدين والحياة، وانقطع بها نهائياً ما بين التصور الاعتقادي والنظام الاجتماعي من سبب.. بل كانت الجناية الكبرى التي جنتها الكنيسة الغربية على نفسها، وعلى الدين النصراني، ثم على الدين كله في الأرض جميعاً-إلى أن يأذن الله بتغيير الأحوال- هي ذاك:

لقد احتجزت (الكنيسة) لنفسها حق فهم (الكتاب المقدس) وتفسيره، وحظرت على أي عقل من خارج (الكهنوت) أن يحاول فهمه او تفسيره.

ثم اتبعت هذا بإدخال معميات في العقيدة لا سبيل لإدراكها او تصورها او تصديقها.. وقد ذكرنا مثلاً من هذه المعميات في النص الذي نقلناه عن (سيرت.م.أرنولد)عن حقيقة السيد المسيح وطبيعته..

ثم أدخلت مثل هذه المعميات في الشعائر التعبدية.. والمثال الصارخ لها هو مسألة (العشاء الرباني) الذي كان أحد الحالات التي ثار عليها مارتن لوثر وكالفن وزنجلي فيما سمي (بالإصلاح الديني).

ومسألة العشاء الرباني مسألة مستحدثة ما جاء بها (الكتاب المقدس) عندهم، وما تعرض لها النصارى الأولون، ولا (المجامع المقدسة) الأولى.. وقصتها كما يلي:

إن النصارى يأكلون في الفصح خبزاً، ويشربون خمراً، ويسمون ذلك (العشاء الرباني).

وقد زعمت الكنيسة أن ذلك الخبز يستحيل إلى جسد المسيح وذلك الخمر يستحيل إلى دم المسيح المسفوك. فمن أكلهما وقد استحالا هذه الاستحالة فقد ادخل المسيح في جسده. بلحمه ودمه...

وقد فرضت الكنيسة على الناس قبول هذا الزعم ومنعتهم من مناقشته. وإلا عرضوا أنفسهم للطرد والحرمان.

ثم لم تكتف الكنيسة بتلك المعميات والخرافات في العقيدة وفي الشعائر-مع كف الناس عن البحث عن أصولها في (الكتاب المقدس) ومحاولة فهمه او تفسيره- بل اتبعتها بأمثالها في الكون والحياة. فادعت آراء ونظريات جغرافية وتاريخية وطبيعية مما كان سائداً في عصرها، مليئة بالخطأ والخرافة عن الكون والحياة والإنسان. وجعلتها (مقدسة) لا تجوز مناقشتها ولا تصحيحها ولا تجربتها، ولا القول بسواها.

وكانت هذه هي القاصمة! لأنها الباطل الذي يسهل على التجربة بيان بطلانه، وكشف زيفه! ولأنها المنطقة التي أطلق الله فيها العقل الإنساني ليرتادها، وهو مزود بكل المؤهلات التي تمكنه من كشفها وتحقيقها، ولم يفرض عليه فيها نظرية معينة!

وفي هذا يقول السيد أبو الحسن الندوي ما يغنينا عن الإعادة، ويصور اثر هذه القاصمة في ذلك (الفصام النكد) تصويراً مختصراً دقيقاً في كتابه القيم " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " :

( .. ولكن من أعظم أخطاء رجال الدين في أوروبا، ومن اكبر جناياتهم على أنفسهم وعلى الدين الذي كانوا يمثلونه، انهم دسوا في كتبهم الدينية المقدسة، معلومات بشرية، ومسلمات عصرية، عن التاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية، ربما كانت أقصى ما وصلوا إليه من العلم في ذلك العصر، وكانت حقائق راهنة لا يشك فيها رجال ذلك العصر، ولكنها ليست أقصى ما وصل إليه العلم الإنساني.

( وإذا كان ذلك في عصر من العصور غاية ما وصل إليه علم البشر فانه لا يؤمن عليه التحول والتعارض. فان العلم الإنساني متدرج مترق فمن بنى عليه دينه فقد بنى قصراً على كثيب مهيل من الرمل. ولعلهم فعلوا ذلك بنية حسنة ولكنه كان اكبر جناية على أنفسهم وعلى الدين فان ذلك كان سبباً للكفاح المشئوم بين الدين والعقل والعلم، الذي انهزم فيه الدين، ذلك الدين المختلط بعلم البشر، الذي فيه الحق والباطل، والخالص والزائف.. هزيمة منكرة، وسقط رجال الدين سقوطاً لم ينهضوا بعده. وشر من ذلك كله وأشأم: أن أوروبا أصبحت لا دينية.

ولم يكتف رجال الدين بما ادخلوه في كتبهم المقدسة، بل درسوا كل ما تناقلته الألسن، واشتهر بين الناس، وذكره بعض شراح التوراة والإنجيل ومفسريها من معلومات جغرافية وتاريخية وطبيعية. وصبغوها صبغة دينية، وعدوها من تعاليم الدين وأصوله التي يجب الاعتقاد بها، ونبذ كل ما يعارضها، وألفوا في ذلك كتباً وتآليف، وسموا هذه الجغرافيا التي ما انزل الله بها من سلطان: (الجغرافيا المسيحية) (Christian Geography) وعضوا عليها بالنواجذ، وكفروا كل من لم يدن بها.

وكان ذلك في عصر انفجر فيه بركان العقلية في أوروبا، وحطم علماء الطبيعة والعلوم سلاسل التقليد الديني. فزيفوا هذه النظريات الجغرافية التي اشتملت عليها هذه الكتب وانتقدوها في صرامة وصراحة، واعتذروا عن عدم اعتقادها والإيمان بها بالغيب؛ وأعلنوا اكتشافاتهم واختباراتهم. فقامت قيامة الكنيسة، وقام رجالها المتصرفون في زمام الأمور في أوروبا وكفروهم، واستحلوا دماءهم وأموالهم في سبيل الدين المسيحي، وأنشأوا محاكم التفتيش، التي تعاقب-كما يقول البابا-(أولئك الملحدين والزنادقة الذين هم منتشرون في المدن والبيوت والأسراب والغابات والمغارات والحقول!).. فجدت واجتهدت وسهرت على عملها، واجتهدت ألا تدع في العالم النصراني عرقاً نابضاً ضد الكنيسة، وانبثت عيونها في طول البلاد وعرضها، وأحصت على الناس الانفاس، وناقشت عليها الخواطر، حتى يقول عالم نصراني: " لا يمكن لرجل ان يكون مسيحياً ويموت حتف انفه" ( يقصد الموت موتة طبيعية).

( ويقدر أن من عاقبت هذه المحاكم يبلغ عددهم ثلاثمئة ألف. احرق منهم اثنان وثلاثون ألف أحياء! كان منهم العالم الطبيعي المعروف (برونو)، نقمت منه الكنيسة آراء من اشدها قوله بتعدد العوالم، وحكمت عليه بالقتل، واقترحت بان لا تراق قطرة من دمه! وكان ذلك يعني أن يحرق حياً! وكذلك كان! وكذلك عوقب العالم الطبيعي الشهير (جاليليو) بالقتل لأنه كان يعتقد  بدوران الأرض حول الشمس!.

( هنالك ثار المجددون المتنورون، وعيل صبرهم، واصبحوا حرباً لرجال الدين وممثلي الكنيسة، والمحافظين على القديم، ومقتوا كل ما يتصل بهم، ويعزى إليهم، من عقيدة، وثقافة، وعلم، وأخلاق، وآداب، وعادوا الدين المسيحي اولاً، والدين المطلق ثانية، واستحالت الحرب بين زعماء الدين المسيحي-وبلفظ اصح الديانة البولسية- حرباً بين العلم والدين مطلقاً! وقرر الثائرون أن العلم والدين ضرتان لا تتصالحان، وان العقل والنظام الديني ضدان لا يجتمعان؛ فمن استقبل أحدهما استدبر الآخر، ومن آمن بالأول كفر بالثاني. وإذا ذكروا الدين ذكروا تلك الدماء الزكية التي أريقت في سبيل العلم والتحقيق، وتلك النفوس البريئة التي ذهبت ضحية لقسوة القساوسة ووساوسهم، وتمثل لأعينهم وجوه كالحة عابسة وجباه مقطبة، وعيون ترمي بالشرر، وصدور ضيقة حرجة، وعقول سخيفة بليدة؛ فاشمأزت قلوبهم؛ وآلوا على أنفسهم كراهة هؤلاء، وكل ما يمثلونه، وتواصوا به، وجعلوه كلمة باقية في أعقابهم!

( ولم يكن عند هؤلاء الثائرين من الصبر والمصابرة على الدراسة والتفكير، ومن الوداعة والهدوء، ومن العقل والاجتهاد، ما يميزون به بين الدين، ورجاله المحتكرين لزعامته، ويفرقون به بين ما يرجع إلى الدين من عهدة ومسؤولية. وما يرجع إلى رجال الكنيسة من جمود واستبداد وسوء تمثيل، فلا ينبذوا الدين نبذ النواة.. ولكن الحفيظة وشنآن رجال الدين، والاستعجال.. لم يسمح بالنظر في أمر الدين والتريث في شأنه كغالب الثوار، في أكثر الأعصار والأمصار!!!.)

*     *     *

هذه-باختصار وإجمال شديدين- أهم الملابسات النكدة لذلك (الفصام النكد) الذي تعاني أوروبا-وتعاني معها البشرية كلها اليوم مع الأسف- آثاره التعيسة، وتتجرع كأسه المريرة.

وهذا هو (الدين) الذي ثارت عليه أوروبا.. ثم تابعها في الثورة الببغاوات والقرود في الأرض كلها، دون تفرقة بين دين ودين!

وهذا هو(الدين) الذي ثارت عليه أوروبا.. الدين الذي شوهت معالمه منذ أول خطوة. ثم زيفت خصائصه الربانية، وتصوراته السماوية، وقيمه وأسسه.. ذلك التزييف الشنيع!

هؤلاء هم (رجال الدين) الذين قدموا هذه الجناية على أنفسهم وعلى الدين، وعلى البشرية المنكودة، بقيادة الغرب الموتور من الدين المزيف، ومن رجال الدين المزيفين!

وهي كلها-ولله الحمد- ملابسات (أوروبية) بحتة، وليست إنسانية عالمية-ومتعلقة بنوع معين من (الدين) لا بحقيقة الدين. وخاصة بحقبة من التاريخ خاصة، تملك البشرية أن تتخلص من آثارها التعيسة، حين تفتح أعينها على الحقيقة من وراء دخان المعركة التاريخية!

ولكن هذا الخلاص لن يجيء أبداً عن طريق العقلية الغربية، ولن ينبثق أبداً من هذه العقلية المكبلة بأغلال ذلك التاريخ المرير، وبالرواسب التي خلفتها تلك المعركة التعيسة، وبالموجات التي أطلقتها في الفكر والضمير، وفي الأدب والفن، وفي السياسة والاقتصاد، وفي كل أوضاع الحياة التي قامت على ذلك (الفصام النكد)  بعد ما تعمقت جذوره في تربة الغرب المنكود!