الأربعاء، 6 فبراير 2013

الإعلام والتغيير المطلوب


الإعلام والتغيير المطلوب

كتبهامصطفى الكومي ، في 27 أغسطس 2012 الساعة: 23:29 م

         





 لقد كان كرما كبيرا قرار د/ مرسي بمنع الحبس الاحتياطي في جرائم النشر , والمثل يقول إن أكرمت الكريم ملكته وإن أكرمت اللئيم تمردا وطمع ولم يشكر وهذا ما حدث مع كثير من الصحفيين والإعلاميين عندما صدر قرار رئيسنا مرسي فطمعوا في إلغاء الحبس نهائيا ثم أخذهم الجشع وطالبوا بإلغاء مظلة القانون من فوقهم , وهذه المهنة التي  تم تجريفها من زمن الاحتلال الإنجليزي لمصر حتى الآن من كل أصحاب الأقلام الحرة الشريفة ومن ذوي الاتجاهات الإسلامية , وتم تقديم وتمكين أصحاب القلم الملق واللسان المنافق وذوي الاتجاهات العالمانية والإلحادية , حتى صرنا لا نثق في صاحب قلم إلا بعد تجربته طويلا , و لقد ضقنا ذرعا بالصحفيين والإعلاميين وصرنا نراهم متهمين بالعمالة و أنهم مجرد مرتزقة يبيعون أقلامهم وألسنتهم لمن يدفع أكثر إلى أن يثبت العكس , ورسالتهم أصبح مشكوك فيها ـ إلا قلة منهم  ـ بعد ما رأيناه لمدة 60 سنة من تحليل وتبرير الاستبداد والتوريث والنهب والسرقة والتبعية بل والاستعمار .


   والسعي الجاري حاليا لمنع حبس الإعلاميين نهائيا , كان يجب قبل التفكير في ذلك  وأولى منه ميثاق شرف وقواعد أخلاقية وتفعيلها  بدلا من تعطيلها الواضح حاليا , فلا الصحفيين ولا الإعلاميين على رأسهم ريشة لينالوا معاملة مميزة عن بقية المواطنين أمام القانون , وأصلا هذا ضد مبادئ العدل والمساواة .. أكرم لكم بدلا من البحث عن مخرج للعقاب الذي يجب أن يناله كل من أجرم بقلمه أو لسانه , أن تبحثوا كيف تحققوا استقلالية الكاتب و الإعلامي ليتحرر من الخضوع والتبعية لأي حكومة أو رجل أعمال أو أي قوة تؤثر على استقلاله. 




   كما أن السعي لإلغاء رقابة القضاء والنيابة العامة على الإعلاميين لتكون في يد النقابة فقط التي سوف تتحيز لهم حتما بغرض الفوز بأصواتهم , سوف تعطيهم مزيد من الانطلاق من عقال الأخلاق والشرف إلى مزيد من بيع القلم واللسان لمن يدفع أكثر ولمن يملك عملهم أو بطالتهم سواء كان داخليا أو خارجيا , لأن هذا المجال أصبح مطمع مُلح لكل أصحاب النفوذ ولكل القوى الخارجية المعادية , والصحفي والإعلامي قلما يستطيع أن يقاوم إغراء المال والشهرة والنفوذ , فلا يقدر على هذا إلا قليلا منهم والشرفاء فعلا قلة تأثيرها ضعيف على الرأي العام ولولا عوامل أخرى لكان حسني مبارك الآن يجهز الكرسي الآن لأبنه , وخروج الإعلاميين من عقال القانون العام معناه تنصيب فرقة طواغيت ومراكز قوى وأصحاب نفوذ جدد , وما أدراك ما سوف يجره هذا على الصحفي والإعلامي من فساد سوف يُفرم على أثره كل  من يقع في أيديهم وهم في الأصل أداه لمن يمنحهم المال والشهرة والنفوذ , لذلك لا يجب أن نعول على النقابة أن تصلح حال الإعلام بل على المجتمع وقياداته المنتخبة . 



   نحن نريد إعلام يحكمه قواعد الإسلام وأخلاقياته وليس الليبرالية الغربية التي أنتجت الرأسمالية المتوحشة والعنصرية البغيضة و قتل الشعوب والاستيلاء على ثرواتهم , فالليبرالية الغربية لا تحكمها قيم  ثابتة ولا يحكمها إلا العقل البشري الذي يصيب ويخطئ وتتحكم فيه أهواء بشرية ومصالح أصحاب النفوذ , والعقل مهما علا فهو يحتاج إلى وحي السماء ليصحح له إدراكه للأشياء التي قد يراها حسنة وهي قبيحة أو يُغيبها من منظومة القيم بينما هو يحتاجها لتصحيح مسيرته وتجنب العثرات , فالغيبة والنميمة مثلا ليست بحرام "قبيحة"في الليبرالية الغربية  ولا هي من قواعدها الأخلاقية وأضرارها على المجتمع لا تعد ولا تحصى يكفي أن نقول أنها تشعل الحرائق المجتمعية وتقلب التقي شيطان والشيطان إماما للمتقين.




    لسنا ملزمين بإتباع الغرب شبرا بشبر وخطوة بخطوة , بل يجب أن يمر على مصفاة ومقياس نأخذ منه الصالح النافع ونترك منه الطالح الضار , والحرية  المطلقة في الغرب أنتجت سيطرة أصحاب رؤوس المال على وسائل الإعلام وبالتالي على توجيه الرأي العام وانتشر الفساد بين رجال الأعمال لكنه خفي لأنه تحت سيطرتهم , وهم الذين يحددون من يحكم و الشعب يستجيب لتوجهاتهم فهم يصنعون طريقة تفكيره ويوجهونه لمصلحتهم , فأصبحت ديمقراطية الصفوة وهم قلة , واختفى تأثير دعاة الإصلاح والتغيير إلا قليلا وبلا تأثير يذكر . 

موضوعات ذات صلة على صفجة  .. الإعلام

الدائرة الإسلامية



محمد الغزالي

الدائرة الإسلامية :

       يقول المناطقة لكى يكون التعريف صحيحا يجب أن يكون جامعا مانعا. ومعنى أنه جامع أن يشمل جميع أفراد المعرف فلا يترك واحدا ، ومعنى أنه مانع ألا يسمح بدخول نوع آخر لا علاقة له بالمعرف. ونحن نريد أن نحدد الدائرة التى تعنيها كلمة "مسلم " فلا يخرج منها أحد له ذرة من دين ، ولا يدخل فيها أحد مبتوت الصلة بهذا الدين. تعنى حقيقة الإسلام عدة أمور:
    أ‌-       معرفة الله على وجه صحيح فهو سبحانه لا شريك له ، وليس كمثله شىء ، منزه عن كل نقص ، منعوت بكل كمال.
ب‌-   الاعتراف بحقوقه على خلقه ، فهو الرب المعبود ، الذى يطاع أمره وينفذ حكمه! والعلاقة بيننا وبينه بعد معرفته هى الخضوع له والسمع والطاعة لما يجىء منه 
 ج- مظهر هذا الخضوع هو اتباع النبى الخاتم الذى أتم به كل الرسالات ، وأظهر على لسانه مراده من عباده إلى آخر الدهر.. ولنستطرد قليلا فى شرح الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام، فإن هذا الرسول الكريم هو الذى عرفنا بحقيقة الدين منذ الأزل بعدما عفَّرها الأولون بالتراب حتى محوا معالمها. وهو الذى كرم إخوانه السابقين ، وكشف عنهم تهما شائنة تتصل بأخلاقهم وأعراضهم.. وهو الذى شق بسيرته الماجدة طريق الكمال الإنسانى ، فإذا هو خلال الستين عاما التى قضاها فى الدنيا نور يضىء الظلمة ، وطهر يمحو الجاهلية ، ورحمة تنشر البر والنماء ، وقدرة ترفض الضعف وتدعم الحق وتقهر الجبروت..!! ما عرفت هديا للعقل ولا صدى للفطرة ولا نداء للإنسانية إلا رأيت معنى ذلك ومبناه فى دين محمد وسيرة محمد ، ولذلك آمنت به.  
ثم أدركت لماذا تكون الإسلام من كلمتين " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ". المسلم الحق إنسان يؤمن بالله ويعمل الصالحات. يزكى بذلك نفسه ويمهد للقائه بربه. وهو يتعاون مع إخوانه المؤمنين على بناء مجتمع مؤمن صالح ينقل هذه الحقائق من السلف إلى الخلف ، ويوسع نطاقها فى الحياة بالدعوة والأسوة. وهو متهئ فى أى وقت لافتداء دينه بدمه إذا أبى الفتانون إلا إحراجه واجتياح دينه ومجتمعه ، فالمسلم يحيا لربه قبل أن يحيا لنفسه. على أن الإسلام ـ فى النفس أو فى المجتمع ـ يصح ويقل ، ويقوى ويضعف ، بل يحيا ويموت! والمجتمع الراسى على عقائده قد يصمد للأهواء والفتن أمدا طويلا ، وقد تهتز الدعائم فينفرط عقده ويسقط علمه.. وكذلك النفس الإنسانية ، إن المرء قد يكون صلب الإيمان متين الخلق فيخرج ناصع الجبين من شتى العواصف ، وهناك من يصبح مؤمنا ويمسى كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا.. ونريد هنا أن نرسم الخط الأخير الذى يفصل بين الحق والباطل ، والذى يرتد عن الإسلام من اجتازه.. والحق أن العلماء تريثوا كثيرا وهم يرسمون.. هذا الخط ، واتأدوا فى إصدار حكمهم بالتكفير لأن الأمر جد خطير..! وهم عندما يحكمون بارتداد مسلم لا يفعلون ذلك إلا بعد ما ييئسون من كل تأويل أو اعتذار. ونستطيع على ضوء ما شرحنا من حقيقة الدين أن نعرف متى يقع الانسلاخ منه.. فإذا كان الإسلام معرفة حسنة بالله ، فإنه يخرج منه من زعم أن لله ابنا ، أو ندا. أو زعم أن له خصائص البشر أو حل فى جسد. وإذا كان الإسلام التزاما بمبدأ السمع والطاعة لله رب العالمين ، فإنه يخرج منه من جحد أى واجب كالصلاة والصيام مثلا ، أو استباح أى محرم كالربا والزنا والخمر. وإذا كان الإسلام اتباعا لصاحب الرسالة الخاتمة وتصديقا لما جاء به ، فإنه يخرج منه من استهان بالرسول ، أو حقر كتابه ، أو أنكر ما هو معروف من دينه بالضرورة ، أو زعم أنه رسول خاص بالعرب ، أو أن أمد رسالته انتهى.. والأمثلة التى ضربناها نماذج يحتاج الأمر بعدها إلى تفصيل.. إن المسلمين متفقون على أن أصل الإيمان بالله الواحد لابد منه للبقاء على الإسلام ، وزيادة الإيمان أو نقصانه لا أثر لها بعد ذلك. وكذلك التصديق بنبوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فإن الريبة فى الرسول كفر صراح يخرج من الملة. أما فعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه ـ وهو عنوان الخضوع ومبدأ السمع والطاعة لله ـ فإن للعلماء الراسخين تفصيلات عاقلة عادة فى هذا الموضوع. اتفقوا على أن رفض التشريع ارتداد ، كأن يرفض أحد جلد الزانى أو قطع السارق استنكارا للعقوبة واستبشاعا لها.. أو كأن يرفض أحد إقام الصلاة وصيام رمضان ، لأن هذه الأركان تعطل الإنتاج كما يزعم بعض الرعاع. ولم يقل أحد من المتقدمين أو المتأخرين: إن رفض النصوص القطعية يبقى صاحبه فى الإسلام. أما ترك فرض أو فعل كبيرة مع الشعور بالإثم ، فإن صاحب هذا المسلك يعد مسلما عاصيا ولا يوصف بالكفر. وأساس ذلك قوله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ونرى أن هذه الآية تحتاج إلى بعض التدبر لنفقه فحواها.. ولنسأل أولا عما دون الشرك الذى يمكن أن تتناوله المغفرة… هل جحود الألوهية ـ كما يرى الماديون ـ دون الشرك؟ كلا إنه أسوأ حالا وشر مقالا ، فالمشرك يرى أن الله موجود ، ولكنه يضيف إلها ثانيا أو ثالثا ، أما المعطلة فلا يقولون بإله أصلا ولا تنتظر لهم مغفرة أبدا.. هل الاعتراف بالألوهية مع إعلان الحرب عليها دون الشرك؟ كلا ، إن إبليس يوقن بوجود الله ، ولكنه مع إصرار سابق ولاحق يقول لله : لا طاعة لك عندى ، فهل ذلك دون الشرك؟! إنه مثله أو أقبح منه! إن ما دون الشرك هو عصيان الموحدين الذين يغلبهم الهوى ، ويصيبهم العمى فلا يلزمون الصراط المستقيم. وربط مستقبلهم بالمشيئة العليا يرجع إلى أن الله وحده هو الذى يعلم ملابسات انحرافهم ، ومبلغ نشاطهم أو كسلهم فى جهاد أنفسهم. وطالما أكدنا أن المشيئة لا تعنى الفوضى ، وإنما تعنى هيمنة رب العباد على العباد فهو بهم خبير ، ولظروفهم مقدر : (هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم). وأرى أن تحديد معنى الجحود والإصرار والإدمان لا بد أن يشترك فيه لفيف من علماء الفقه والنفس والاجتماع ، فالأمر أكبر من أن يطرح على بساط البحث النظرى أو الجدل الكلامى.. وفى تاريخنا القديم حاول البعض أن يدخل فى هذه القضية بغباء ، فأساء إلى نفسه وإلى الحقيقة.. نعم حاول الخوارج بنزق أن يرسموا خط الخروج عن الإسلام ، فكفروا مسلمين صالحين ، ومالوا بقواهم على خيرة الناس فأحرجوهم وأوهنوا قواهم.. وكان رد الفعل تطرفا غبيا ، فظهر المرجئة يدخلون فى دائرة الإسلام أصحاب الشهوات الجامحة والأفكار الضالة. والغريب أنى وجدت فى هذا العصر الصنفين معا وأصحاب المنطقين الشاردين!! إننا نشكو إلى الله حكاما يخذلون الإسلام ويمالئون الشيوعية أو الصليبية العالمية ، وقبل ذلك نشكو إلى الله متدينين كذبة قست قلوبهم على عباد الله ، وذهبوا بأنفسهم مذهبا مستعليا فهم يرمون بالكفر والفسق من شاءوا ، لا سناد لهم إلا فقها قليلا وترتيلا كثيرا.. قشور من العبادة على باطن خرب ، وأثرة مفرطة ، وتطاول غريب لا يحترم علما ولا سابقة.. المسلم الحق طبيب يأسو الجراح ، ويرحم الضعاف ، ويرشد الحيارى ، ويتلطف مع الضالين حتى يثوب بهم إلى طريق الله. وهؤلاء جعلوا ما عرفوا من الدين تكأة للنيل من غيرهم والارتفاع على أنقاضهم.. كان رسول الله يأسى لعناد الكافرين ويحزن لإصرار الضالين ، ويتمنى من أقصى فؤاده لو اهتدوا إلى الحق..


وهؤلاء يجعلون من خطأ غيرهم مددا للغرور وسببا إلى احتقار الجاهلية والجهال.. الرسول يقول لمن بلغ عن معصية عاص : هلا سترته بثوبك. وهؤلاء يجدون فى المعصية فرصة للتشفى وضرب الجانى ويشعرون بفرح خبيث لسقوطه.. ذكرت فى أمراض القلوب نموذجا لأولئك المتدينين المتكبرين ، وكيف عاب بعضهم على رسول الله قسمته لمال جاءه ، تألف به بعض الناس لمصلحة الدعوة الإسلامية ، ثم قرأت فى مسلك أحدهم ما جعلنى أقول: ما أشبه الليلة بالبارحة.. جاء فى الحديث: " فقال رجل: كنا نحن أحق بهذا المال من هؤلاء! فبلغ النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله ـ فقال : ألا تأمنونى وأنا أمين مَنْ فى السماء؟ يأتينى خبر السماء صباحا ومساء! فقام رجل غائر العينين ، مشرف الوجنتين ناشز الجبهة كث اللحية محلوق الرأس مشمر الإزار ، فقال: يا رسول الله اتق الله..!! فقال: ويلك، أو لست أحق أهل الأرض أن أتقى الله؟! ثم ولى الرجل فقال خالد بن الوليد : يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال: لا، لعله أن يكون يصلى. قال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس فى قلبه. فقال رسول الله ، إنى لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس  ، ولا أشق بطونهم. ثم نظر إليه وهو مقف فقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية إن الإسراع فى اتهام الناس وتلويث سمعتهم ليس دينا ، والحكمة فى معالجة الأخطاء مطلوبة ، وفى الحديث: "إن الله يحب الرفق فى الأمر كله " . ولا يعنى هذا أبدا ترك الجرائم تسرح فى المجتمع ، كما لا يعنى إطفاء مشاعر الغضب لله والغيرة على حدوده ، ذاك شأن غير ما نحن بصدده..


قلت يوما لرجل تعود السكر: ألا تتوب إلى الله؟ فنظر إلىَّ بانكار ودمعت عيناه ، وقال: ادع الله لى..!! تأملت فى حال الرجل ورق له قلبى. إن بكاءه شعور بمدى تفريطه فى جنب الله ، وحزنه على مخالفته ، ورغبته فى الاصطلاح معه. إنه مؤمن يقينا ، ولكنه مبتلى! وهو ينشد العافية ويستعين بى على تقريبها.. قلت لنفسى: قد يكون حالى مثل هذا الرجل أو أسوأ. صحيح أننى لم أذق الخمر قط ، فإن البيئة التى عشت فيها لا تعرفها ، لكنى ربما تعاطيت من خمر الغفلة ما جعلنى أذهل عن ربى كثيرا ، وأنسى حقوقه. إنه يبكى لتقصيره ، وأنا وأمثالى لا نبكى على تقصيرنا ، قد نكون بأنفسنا مخدوعين.. وأقبلت على الرجل الذى يطلب منى الدعاء ليترك الخمر ، قلت له: تعال ندع لأنفسنا معا.. ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين). إننى أطلب من المشتغلين بالدعوة أن يتقوا الله فى الناس ، وأن يتفقهوا فى الدين فإن من يرد الله به شرا يحرمه الفقه فى الدين ، ولو كان ثرثارا يخطب فى كل ناد.


* * *


    ألف الأستاذ الشيخ يوسف القرضاوى رسالة جيدة عن "ظاهرة الغلو فى التكفير" نوصى بقراءتها ، وقد أراحنا من الكتابة فى الموضوع ، ونقتطف هذه النقول عنه نفعا لمن يطالعون كتابنا هذا. قال أرشده الله وأيد به: وجوب التفرقة بين النوع والشخص المعين: وهنا أمر يجب أن نستلفت النظر إليه ، وهو ما قرره المحققون من العلماء من وجوب التفرقة بين الشخص والنوع فى قضية التكفير. ومعنى هذا أن نقول مثلا: الشيوعيون كفار. أو الحكام العلمانيون الرافضون لحكم الشرع كفار ، أو من قال كذا أو دعا إلى كذا فهو كافر ، فهذا وذاك حكم على النوع. فإذا تعلق الأمر بشخص معين ، ينتسب إلى هؤلاء أو أولئك ، وجب التوقف للتحقق والتثبت من حقيقة موقفه ، بسؤاله ومناقشته ، حتى تقوم عليه الحجة. وتنتفى الشبهة ، وننقطع المعاذير. وفى هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن القول قد يكون كفرا ، فيطلق القول بتكفير صاحبه ويقال: من قال هذا هو كافر. لكن الشخص المعين الذى قاله لا يحكم بكفره ، حتى تقوم عليه الحجة التى يكفر تاركها". وهذا كما فى نصوص الوعيد ، فإن الله تعالى يقول: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا). "فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق ، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد. فلا يشهد على معين من أهل القبلة بالنار ، لجواز ألا يلحقه الوعيد ، لفوات شرط ، أو ثبوت مانع. فقد لا يكون التحريم بلغه ، وقد يتوب من فعل المحرم.. وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة المحرم. وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه ، وقد يشفع فيه شفيع مطاع " قال: "وهكذا الأقوال التى يكفر قائلها: قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق ". قال "وقد تكون بلغته ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من فهمها". "وقد تكون عرضت له شبهات يعذره الله بها". قال: "ومذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع والمعين "فإذا كان كل هذا الاحتياط واجبا فى شأن المصرحين بالكفر ، فكيف يجترئ مسلم على تكفير الجماهير التى تشهد أن " لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله" وإن خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا؟ إن الإيمان قد يجامع شعبة أو أكثر للكفر أو الجاهلية أو النفاق. وهذه الحقيقة قد خفيت على كثيرين فى القديم والحديث ، فحسبوا أن المرء إما أن يكون مؤمنا خالصا أو كافرا خالصا ، ولا واسطة بينهما ، إما مخلصا محضا أو منافقا محضا. وقريب منه من يقول: إما مسلم محض أو جاهلى محض. ولا ثالث لهذين الصنفين.


وهذه طريقة كثير من الناس. حيث يركزون النظر على الأطراف المتقابلة دون الالتفات إلى الأوساط. فالشىء عندهم إما أبيض فقط أو أسود فقط ، ناسين أن هناك من الألوان ما ليس بأبيض خالص ولا بأسود خالص ، بل بين بين. ولا عجب أن نجد فئة من الناس ، إذا وجدت فردا أو مجتمعا لا يتحقق بصفات الإيمان الكامل ، بل توجد فيه خصائص النفاق ، أو شعب الكفر ، أو أخلاق الجاهلية ، سارعت إلى الحكم عليه بالكفر المطلق ، أو النفاق الأكبر ، أو الجاهلية المكفرة ، لاعتقادهم أن الإيمان لا يجامع شيئا من الكفر أو النفاق بحال. وأن الإسلام والجاهلية ضدان لا يجتمعان. وهذا صحيح إذا نظرنا إلى الإيمان المطلق "أى الكامل " والكفر المطلق ، وكذلك الإسلام والجاهلية والنفاق. أما مطلق إيمان وكفر ، أو مطلق إيمان ونفاق ، أو مطلق إسلام وجاهلية ، فقد يجتمعان. كما دلت على ذلك " النصوص " وأقوال السلف رضى الله عنهم. ففى الصحيح أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لأبى ذر رضى الله عنه: إنك امرؤ فيك جاهلية هذا وهو أبو ذر فى سابقته وصدقه وجهاده. وفيه : "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق". وروى أبو داود عن حذيفة بن اليمان رضى الله عنه قال: "القلوب أربعة: قلب أغلف ، فذلك قلب الكافر ، وقلب مصفح وذلك قلب المنافق ، وقلب أجرد فيه سراج يزهر ، فذلك قلب المؤمن ، وقلب فيه إيمان ونفاق ، فمثل الإيمان فيه كمثل شجرة يمدها ماء طيب ، ومثل النفاق مثل قرحة يمدها قيح ودم ، فأيهما غلب عليه غلب ". وقد روى مرفوعا ، وهو فى مسند أحمد مرفوع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا الذى قاله حذيفة يدل عليه قوله تعالى: (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان). فقد كان قبل ذلك فيهم نفاق مغلوب ، فلما كان يوم أحد ، غلب نفاقها ، فصاروا إلى الكفر أقرب. "وروى عبد الله بن المبارك ـ بسنده ـ عن على بن أبى طالب قال: إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء فى القلب ، فكلما ازداد العبد إيمانا ازداد القلب بياضا ، حتى إذا استكمل الإيمان ابيض القلب كله. وإن النفاق يبدو لمظة سوداء فى القلب ، فكلما ازداد العبد نفاقا ازداد القلب سوادا ، حتى إذا استكمل العبد النفاق اسود القلب. وايم الله ، لو شققتم عن قلب المؤمن لوجدتموه أبيض ، ولو شقتتم عن قلب الكافر لوجدتموه أسود وقال ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق فى القلب كما ينبت الماء البقل. قال شيخ الإسلام: وهذا كثير من كلام السلف: يبينون أن القلب قد يكون فيه إيمان ونفاق. والكتاب والسنة يدلان على ذلك. قال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكر شعب الإيمان ـ وذكر شعب النفاق ، وقال من كانت فيه شعبة منهن كانت فيه شعبة من النفاق حتى يدعها ، وتلك الشعبة قد يكون معها كثير من شعب الإيمان. وقال الإمام الشهيد: لا نكفر مسلما أقر بالشهادتين ، وعمل بمقتضاهما ، وأدى الفرائض برأى أو بمعصية إلا إن أقر بكلمة الكفر ، أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة؟ أو كذب صريح القرآن ، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال ، أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر…


* * *


التكفير :


   الرغبة فى تكفير الناس ، وانتقاص أقدارهم ، وترويج التهم حولهم ، مرض نفسى بالغ الخبث ، وأصحابه يتناولهم بلا ريب الوعيد الإلهى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون)..! والتصاق هؤلاء المرضى بالإسلام ، أو تصدرهم فى ميدانه لا يغنى عنهم شيئا ، فإنهم فى الحقيقة غرباء عليه ، أو عقبات أمامه ، أو غبش فى مرآته.! محمد ـ صلوات الله عليه ـ رفيق رحيم ، وهؤلاء غلاظ قساة.. محمد يحض على ستر العيوب ، ويأخذ بأيدى العاثرين لينهضوا من كبوتهم ، وهؤلاء يكشفون العيوب ، أو يختلقونها إن لم توجد ، ثم ينتصبون ـ باسم الله ـ قضاة يقطعون الرقاب ، ويستبيحون الحقوق! وليس لله فيما يفعلون نصيب ، ولا لدينه مكان! لقد آذانى أن أجد فى مجال الدعوة فتانين من هذا النوع الهابط ، اتخذوا الإسلام ستارا لشهوات هائلة ، ولو وقعت أزمة الأمور بأيديهم لأهلكوا الحرث والنسل! كنت أقرأ للأستاذ عبد الرحمن أبى الخير كتابه "ذكرياتى مع جماعة المسلمين " " التكفير والهجرة" ، فامتلأت نفسى بمشاعر شتى من الحزن والغضب والألم ، وأدركت أن النجاح الذى يلقاه أعداء الإسلام فى تطويق حركاته لا يعود لذكائهم قدر ما يعود لغبائنا.. كان أولئك الذين تسموا بـ "جماعة المسلمين " شديدى الرغبة فى إهانة رجال الإسلام وافتراء الإفك عليهم. ألف أحدهم كتابا عن الإخوان المسلمين ، وزعم فيه أن حسن البنا ماسونى!!! قال الشيخ عبد الرحمن: "استلفتت هذه العبارة نظرى ، فاستوقفت قارئها ـ وهو المؤلف ـ فأصر عليها ، وذكر مبرراتها ، ولم تكن سوى عبارات قالها الأستاذ الإمام للصحفيين الأجانب ـ فى أحد لقاءاته بهم ـ لا دلالة فيها على شىء ، ونصحته بالعدول عما كتبه. قال الشيخ عبد الرحمن: وكم جلب على هذا النصح لقد بت ليلتها غير آمن على نفسى ، إذ نهرنى الشيخ شكرى ـ زعيم الجماعة ـ رغم كبر سنى ورغم ما يكنه لى فى نفسه من تقدير… لقد نهرنى قائلا: تنصحه؟ لا تقل ذلك! كيف تنصحه..؟ قال الشيخ عبد الرحمن: فسحبت نصيحتى على الفور ، وآثرت الصمت والاستماع دون مناقشة إلى أن انتهى المتحدث من اتهام الإمام الشهيد بأنه كان ماسونيا . أهذا جو إسلامى أم جو عصابات ؟ أهذا ميدان دعوة إلى الله أم ميدان للصد عن سبيله؟ وفى موضع آخر من الكتاب الذى يحكى الذكريات الأسيفة ، يقول المؤلف: نشرت الجمهورية نبأ تنفيذ حكم الإعدام فى الأستاذ صالح سرية ، وكارم الأناضولى المتهمين فى قضية اقتحام الكلية الفنية العسكرية ، فسألت "أبا مصعب" أن نصلى عليهما صلاة الغائب على اعتبارهما شهيدين من شهداء الحركة الإسلامية! فرفض " أبو مصعب "، وصرح بأنه لا يصلى عليهما. وكنت مندهشا لذلك فلست أعلم لهما موقفا عدائيا منا ، بل لقد بهرنى فهمهما الواعى للإسلام وما يلقى من مؤامرات. وكم هزنى شمول النظرة لدى كارم الأناضولى ، وإحساسه بطبيعة الحرب المسعورة التى شنتها الجاهلية ضد الحركة الإسلامية! وقلت: أى أبا مصعب بارك الله فيك ، لماذا لا نصلى عليهما؟ قال: لأننا قد بلغناهم الحق فرفضوه! متى بلغتموهم؟ فى سجن مزرعة طرة وغيره! علام اتفقتم وفيم اختلفتم؟ قال العلامة أبو مصعب: اختلفنا فى مسألة أقوال الصحابة وأقوال الفقهاء ، فهم يأخذون بهذه الأقوال ونحن لا نعول عليها!! ثم ماذا؟ لقد رفضا أن يبايعا الجماعة! ونحن جماعة الحق ، ومن عدانا فليس بمسلم !! نقول: إن قضية العمل بقول الصحابى ، أو اتباع إمام مجتهد ، من القضايا الثانوية فى الفقه الإسلامى ، ولم يقل أحد طوال أربعة عشر قرنا إن ذلك من أصول العقيدة أو من فروعها.. ولا عده أحد من شعب الإيمان السبعين.. فكيف يكون الرأى فى هذه القضية ـ سلبا أو إيجابا ـ مخرجا من الملة أو مدخلا فيها؟! ماذا نقول!؟ وكيف ينسلخ عن الإسلام من خالفنا فى رأى؟ أو فى أسلوب عمل ، فنعلن عليه الحرب حيا ، ونمتنع عن الصلاة عليه ميتا؟ لكن هكذا علم المهندس شكرى أتباعه!! يقول الشيخ عبد الرحمن أبو الخير: لقد اتفقنا فى الأصول ، ثم اختلفنا منذ اليوم الأول فى الفرعيات. ما هذه الفرعيات التى اختلف الشيخ عبد الرحمن فيها مع زعيم الجماعة؟ هى:


 ا ـ سحب الكفر على عصور التاريخ الإسلامى منذ القرن الرابع للهجرة.


 2 ـ كون جماعتنا هى الجماعة المسلمة الوحيدة فى العالم.


 3 ـ تكفير الإخوان المسلمين كشخصية معنوية فى ميدان الحركة الإسلامية..


نقول: العجب من تسمية هذه القضايا الخطيرة فرعيات ، وهى تدور على محور مشترك من تمزيق الأمة وتاريخها وإكنان البغضاء لعباد الله الصالحين ، من سابقين ولاحقين.. لقد وصف القرآن نماذج الإيمان الرفيع بأنهم (أشداء على الكفار رحماء بينهم). وهؤلاء الناس على العكس أشداء على المؤمنين رحماء بالكافرين!! إنه لم يقبل هدنة فى مهاجمة حسن البنا ، على حين كان متلطفا فى الحكم على قادة السياسة العربية المعاصرة فى مصر وليبيا ، ويستطيع القارئ مراجعة ذلك فى الكتاب المذكور!! وأى دارس للنفس البشرية يلمح عقدة "النقص والطموح " فى نفس هذا الداعية البائس ، غفر الله له ، وتقبل دمه فى التائبين!!..



 ***



    فى بحث سابق تحدثنا عن القلوب وأمراضها، وأرى أن هذا البحث يجب أن يمتد ويطول ، فإن العوج النفسى منتشر بين البشر انتشارا ذريعا.


واكتشاف جراثيمه قد يحتاج إلى البصر الدقيق المتفرس ، ولكنه يسهل بين العوام ويصعب بين المتدينين ، فإن الشعائر الرتيبة قد تنسج حجابا سميكا على طبائع الناس ، ولكنها لا تمحو رذائلهم إلا إذا جاهدوا أنفسهم جهادا شديدا. وكيف يجاهد نفسه معجب بها راض عنها! وفقر الثقافة الإسلامية من دعاة أطباء القلوب نقص رهيب.. وكان المفروض أن ينهض التصوف بهذا الجانب كما فعل رجاله القدامى ، ولكن أغلب الطرق تضم مجانين وملتاثين لا حصر لهم.. وأشهد أن حسن البنا كان مربيا صادق الفراسة ناجع الدواء ، وكانت طهارة باطنه لا يساويها إلا رحابة أفقه وذكاء فكره.. قلت له يوما ـ وأنا طالب محتد المشاعر ـ لماذا لا نكره فلانا وفلانا؟ فقال لى على عجل وهو ينظر إلى بجد : لا يكن فى قلبك سواد لأحد ، اكره عملهم وتمن الهدى لهم.. وحملقت فيه كأنى لا أفهم ، فأعاد النصح بحنان وعطف: لماذا يكون فى قلبك حقد على الناس؟ لقد عرفت فيما بعد ، بعض أسرار العظمة فى نفس الرجل الضخم ، ورأيت من مواريث النبوة فى أخلاق حسن البنا أنه غزير الحب للناس ، وأنه يأسى لمخطئهم ويتمنى له المتاب.. ألم يقل النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى أعقاب نكبة أحد : اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون؟ ألم يقل الله لنبيه ـ وقد برَّح به الحزن لضلال الضالين ـ (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا).. إن الذى لا يحسن التنقيب فى جنبات نفسه لاكتشاف عللها لا يصلح لا داعيا ولا مربيا.. والذى يحرص على اتهام الناس بالكفر والإغضاء عن جهادهم والشماتة فى أخطائهم هو امرؤ مريض الفؤاد.. وقد لاحظت فى المهندس شكرى أمرا جديرا بالنظر ـ لأنه منذ أخذ وحوكم وقتل ـ اتصل به رجال مريبون من سماسرة النظم العلمانية الحاضرة.. يقول الشيخ عبد الرحمن أبو الخير فيهم: ".. جاءوه على هيئة حكماء من الكبار ، وكان الشيخ شكرى فى بنائه النفسى يسره أن يأتيه كبراء الجاهلية إما على هيئة مستمعين للبلاغ! وإما فى هيئة أصدقاء ناصحين ".. وقد تساءلت : لم هذا السرور؟ وماذا يقول لهم؟ إنه مسكين بنى خطته على قتل الإسلام وهو لا يدرى. أقول للطاغوت دعنى أعمل.. "أنا لا أشكل عقبة فى طريقك ، فحجبى للنساء عن الجامعات والمدارس ، أقول للطاغوت ها أنذا أريحك من مشاكل تعليمهم وانتقالاتهم!! وهجرتى لا تشكل خطرا انقلابيا عليك ، إننى أسهم بذلك فى تخفيف مشاكل الإسكان! وبترك الوظائف أريحك من المرتبات. التى تدفعها لنا.. " . ترك التعلم ، وإيثار الهجرة ، والبعد عن الوظائف ، هذه السخافات الصغيرة وجدت جيشا من النساء والرجال يتبناها ، بينهم جامعيون وجامعيات ، وأعداد من الهمل الفارغين يمثلون مأساة إسلامية. ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه إننى أقرر بضيق أن أمثال شكرى كثيرون فى القارة الهندية وجزيرة العرب ووادى النيل.. إلخ. ناس عملهم قليل ، ودعاواهم عريضة. وينبغى أن يعرف الفارق بين بقاء الرجل فى غمار الناس وبين وجوده فى أماكن القيادة ، الرجل العادى يكفيه أى قدر من المعرفة يصحح له شئون دينه ودنياه. أما القيادة فلها نصاب آخر ينمو بقدر أعبائها وامتداد أطرافها.. لا بأس أن يكون الرجل حنبليا فقط مادام عمله بين بيته والمسجد ، أما أن يكون بهذه المثابة ثم يطلب الصدارة فى ميدان الثقافة الإسلامية فهذا سفه وقادة الأمة الإسلامية فى الميدان العلمى والاجتماعى لابد أن تكون أسهمهم ضخمة فى العلوم الدينية التقليدية ، وأطوارها خلال القرون الأولى ، وكذلك فى العلوم الأدبية والإنسانية والفلسفية ، بل لا بد أن تمتد أبصارهم إلى رحاب الإنسانية فى شتى القارات فيعرفوا ما هنالك فى القديم والحديث.. إننى أرفض الفتوى من محدث لا يعرف التفاسير! فكيف يقود الأمة رجل خفيف البضاعة إلا من قراءات قريبة؟! إنه كالفلاح الذى لا يعرف من الدنيا غير حقله والنهير الذى يرويه.

  
وقد سيطر الجهل والغرور على هذا النفر من المتدينين ، فإذا تجمُّع الشيخ شكرى بعد مقتله يتحول إلى سبعة عشر تشكيلا عليها سبعة عشر أميرا ، بعضهم ينتظر له النجاح فى امتحانات الثانوية العامة!! أرأيت هذه الفوضى فى ميدان الدعوة؟ أعرف أن وراءها أصابع أجنبية! بيد أن اللوم يرتد إلينا قبل كل شىء.. كيف؟ إننا تحدثنا بشىء من الإسهاب عن الخلاف الفقهى وطبائعه ونتائجه ، غير أن الأمر أحيانا يخرج عن دائرة هذا الخلاف ، ويمسى علامة على انهيار خلقى لا على تفاوت فكرى! سمعت من يقول: إن الشرك تطرق إلى تفكير حسن البنا! شرك؟! نعم ، فإنه جعل التوسل بالرسول إلى الله من القضايا الفرعية! قلت: إذا دعا مسلم ربه توسلا إليه بنبيه يكون مشركا؟! إذا تشددت وتحفظت وتطيرت فقل: يكون مخطئا لأنه ترك الأصح إلى الأضعف فى صيغ الدعاء المأثور.. إن الداعى على هذا النحو مسلم يقينا ، والإمام الشهيد ما أخطأ قط فى قوله: إن هذه الصيغة من التوسل لا تحوى كفرا ولا شبه كفر! أما الزعم بأن الشك تطرق إلى تفكير حسن البنا فهو سفالة مقبوحة!! ولغط آخرون من خصوم الأئمة الأربعة بكلام يثير الدهشة. قالوا فى ثورة الإخوان المسلمين على الحكم النصيرى : إن هذا الصراع سواء فى نتائجه المحتملة ، كيف؟ الإخوان مذهبيون ، واذا حدث أن انتصروا فذلك يعنى أن الأحناف مثلا سوف يحكمون ، وأبو حنيفة ليس خيرا من "أسد" النصيرى , الحق أنى ما تصورت ناسا يتسمون بالسلفيين يبلغون هذا القاع من الإسفاف ، وأدركت أننى أمام خيانة عظمى ، وأن خصوم التوحيد وأعداء الله ورسوله قد نالوا من أمتنا منالا هائلا!! تحقير لأبى حنيفة فى الأولين ، وتحقير لحسن البنا فى الآخرين ، وتبقى أمتنا بلا تاريخ. ثم ينطلق الأقزام والأمساخ يعرضون أفكارهم على الأمة اليتيمة ، لتجرى وراءهم إلى الهاوية.. إننى أحذر من الثقافة المسمومة التى تقدم للشباب الغض ، وأذكر أننى ـ بعد احتلال طائفة من الشباب للحرم المكى ـ قلت لرجل مسئول: هؤلاء ضحايا فكر معوج وتعليم مغشوش ، وقد رأيت أشباها لهم فى عواصم إسلامية كثيرة ، يلقنهم الجهل والغلو رجال لهم أسماء ولا مسميات وراءها… رأيت فى عين أحدهم نية القتل وأنا أذكر له بهدوء أن المفتى عندنا من خمسين سنة ألف رسالة عنوانها " القول الوافى فى إباحة التصوير الفوتوغرافى"، وأننا لو فرضناه مخطئا فالخلاف الفقهى فى قضية ما ، يخرجها من دائرة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فلا معنى لهذه السخائم الكامنة ضد التصوير والمصورين..! لكن الشاب كانت تبرق عيناه بنظرات الفتك ، فعلمت أننى مع ولد عديم التربية ، التحق بجماعة دينية لأنه لم يجد عصابة لقطع الطرق يلتحق بها ، فهو فاتك فى ثياب واعظ! ومع ذلك فهو ضحية متحدثين فى الدين فقدوا الإنصاف والاتزان ، يختارون من الأقوال الفقهية ما يلائم أذواقهم ـ وقد تكون سقيمة ـ ثم يعرضون ما يختارون على أنه الدين الأوحد ، مع أن ما اختاروا هو الرأى الأضعف ، ولو كان رأيا صحيحا ما جاز عرضه إلا على أنه رأى وحسب ، وليس عقيدة ينشأ عنها كفر وإيمان..


***


   إن تاريخ المسلمين العلمى أشرف كثيرا من تاريخهم السياسى ، وإن مجهود الأئمة والمربين ، من مجتهدين ومقلدين هو الذى حفظ الإسلام برغم ما أصاب أجهزة الحكم فيه من عطب بالغ.. نعم فى تاريخنا العلمى ما يستحق النقد والغربلة ، ولكنه فى صميمه تاريخ فكر دءوب وسعى مخلص وبحر متلاطم الموج من المواهب والمدارك الجديرة بالدرس. ولم تجتمع الأمة فى تاريخها العلمى على ضلالة ، ولم تعرف قداسة إلا لكلام المعصوم عليه الصلاة والسلام. ويوم يجىء رجل من وادى النيل أو صحراء نجد ليهيل التراب على ذلك التراث كله ، فهو يقطع شرايين الحياة عن الأجيال الحاضرة والمرتقبة.. وهو يخدم بذلك ـ عن وعى أو غباء ـ الغارة الاستعمارية على دار الإسلام. وهنا نستلفت النظر بقوة إلى أن ما يدبر للإسلام بليل ، أقسى وأنكى مما يلقاه فى وضح النهار.. إن المؤامرات تحاك بخبث لتدمير يومنا وغدنا ، وليست أداة ذلك الحكومات العميلة وحدها ، أو الانقلابات العسكرية المصنوعة.. بل أداة ذلك اختراق أجهزة الدعوة فى نقطة ما ، والنفاذ منها إلى داخل الجماعات الإسلامية ليتم ـ على نحو ما ـ عمل أخرق ، يطيح بالنشاط الإسلامى ويوصد أمامه أبواب الحياة.. من أجل ذلك نهيب بالشباب المسلم أن يكون يقظا ، وبالموجهين المسلمين أن يضبطوا كلماتهم وأحكامهم فلا يعطوا العدو فرصة للوثوب من خلالها.. احذروا من يجسم الشكل ويوهى الموضوع.. احذروا من يثير الفرقة ولا يبالى الجماعة.. احذروا من يصعد بالفروع إلى الأصول أو يهبط بالأصول إلى الفروع.. احذروا من يبسط لسانه فينا ولا يقول كلمة أبدا فى أعدائنا.. لقد رأيت من لم يكتب حرفا ضد الصهيونية أو الصليبية أو الشيوعية أو العلمانية.. ومع ذلك ألف كتبا ضد مسلمين ربما كانوا مخطئين أو مصيبين.. ما أخرسك هنا وأنطقك هناك؟! إن لم تكن العمالة لعدو الله فنحن أغنياء عن الحمقى الذين تهيجهم الصغائر ولا تهيجهم الكبائر!! أو الذين هم أشداء على المؤمنين رحماء بالكافرين..! آية الخوارج فى كل عصر ومصر…!


***


    خاتمة قد أعطى نفسى الحق فى مخالفة أى فكر دينى سابق أو لاحق ، ولكنى لا أعطيها أبدا حق الشذوذ أو الخروج على الإجماع.. إننى أوثر السير مع الجماعة الكبرى ، وأحب وحدة الصف والهدف ، وأرى أن الفرقة هزيمة وعذاب وشؤم ، وأرفض أن تكون القضايا الصغرى سببا فى تنافر الأفئدة ، وأوصى أن نتشبث بمعاقد الدين وعراه الوثقى. إن رب العالمين يغفر الصغائر إذا اجتنبت الكبائر ، فهلا تعلمنا من ذلك تجاوز الهنات إذا احترمت الأمهات؟ إن التعاليم العشرين التى وضعها حسن البنا ـ رضى الله عنه ـ تضمنت خيرا كثيرا ، وألحقت جماعته بالركب الإسلامى الكبير ، ولم تفردها بسمة شاذة ، ولم تجعل منه رجلا لطائفة منفصلة عن سواد الأمة. إنه إمام بين عدد من الأئمة الذين ظهروا خلال القرون الأربعة عشر يخدمون الكتاب والسنة ، ويستمدون شرفهم من الولاء المطلق لله ورسوله ، والحفاوة المطلقة بكل من يلقون فى هذا الميدان الطهور ، وإن اختلفت الملامح النفسية والفكرية.. وقد تعلمت من حسن البنا الإنصاف للغير مهما خالف فى الرأى. نعم ، عندما أخالف أحدا فى حكم ما فلا يجوز أن أهمل ما لديه من صواب كثير ، ومواهب قد أفاءها الله عليه ، يجب أن أحترم ذلك فيه ، بل يجب أن أحترم ما وراء خطئه من غيرة دينية ، تربطنى به وإن أنكرت قوله… إن الذى أقلق حسن البنا ، ويقلق كل مصلح بعده ، أصحاب الأهواء الجامحة والمعارف الضحلة عندما يستبد بهم جنون العظمة ، ويريدون فرض قماءتهم على الناس باسم الدين!! ولعل إخراجى لهذا الكتاب يرجع إلى ضرورة الحفاظ على الإسلام من هوس أولئك الأغرار ، إلى جانب أن الجمهور فقير إلى حقائق إسلامية كثيرة حرم منها دهرا.. والمسلمون ينهضون بالعلم لا غير.


 مقررات عشرة:


ذلك وقد أعطيت نفسى الحق فى إضافة عشرة مقررات أخرى أحسب أننا بحاجة إلى إشاعتها. وشرحها وارد فى كتبى الأخرى وفى مؤلفات الرجال الذين يكدحون فى الحقل الإسلامى الرحب. لا أدرى أأصبت فى هذه الإضافة أم أخطأت؟ وحسبى أن الحق قصدت..!!


* * *


    وهذه هى الإضافات التى أرى المجتمع الإسلامى محتاجا إليها:


 ا ـ النساء شقائق الرجال ، وطلب العلم فريضة على الجنسين كليهما ، وكذلك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وللنساء ـ فى حدود الآداب الإسلامية ـ حق المشاركة فى بناء المجتمع وحمايته.


 2 ـ الأسرة أساس الكيان الخلقى والاجتماعى للأمة ، والمحضن الطبيعى للأجيال الناشئة ، وعلى الآباء والأمهات واجبات مشتركة لتهيئة الجو الصالح بينهما. والرجل هو رب الأسرة ، ومسئوليته محدودة بما شرع الله لأفرادها جميعا.


3 ـ للإنسان حقوق مادية وأدبية تناسب تكريم الله له ، ومنزلته الرفيعة على ظهر الأرض ، وقد شرح الإسلام هذه الحقوق ودعا إلى احترامها.


4 ـ الحكام ـ ملوكا كانوا أم رؤساء ـ أجراء لدى شعوبهم ، يرعون مصالحها الدينية والدنيوية ووجودهم مستمد من هذه الرعاية المفروضة ، ومن رضا السواد الأعظم بها ، وليس لأحد أن يفرض نفسه على الأمة كرها ، أو يسوس أمورها استبدادا..


5ـ الشورى أساس الحكم ، ولكل شعب أن يختار أسلوب تحقيقها ، وأشرف الأساليب ما تمحض لله ، وابتعد عن الرياء والمكاثرة والغش وحب الدنيا.


6 ـ الملكية الخاصة مصونة بشروطها وحقوقها التى قررها الإسلام ، والأمة جسد واحد لا يهمل منها عضو ، ولا تزدرى فيها طائفة ، والأخوة العامة هى القانون الذى ينتظم الجماعة كلها فردا فردا ، وتخضع له شئونها المادية والأدبية.


7 ـ أسرة الدول الإسلامية مسئولة عن الدعوة الإسلامية ، وذود المفتريات عنها ، ودفع الأذى عن أتباعها حيث كانوا ، وعليها أن تبذل الجهود لإحياء الخلافة فى الشكل اللائق بمكانتها الدينية.


8 ـ اختلاف الدين ليس مصدر خصومة واستعداء ، وإنما تنشب الحروب إذا وقع عدوان أو حدثت فتنة أو ظلمت فئات من الناس.


 9 ـ علاقة المسلمين بالأسرة الدولية تحكمها مواثيق الإخاء الإنسانى المجرد ، والمسلمون دعاة لدينهم بالحجة والإقناع فحسب ، ولا يضمرون شرا لعباد الله.


10 ـ يسهم المسلمون مع الأمم الأخرى ـ على اختلاف دينها ومذاهبها ـ فى كل ما يرقى ماديا ومعنويا بالجنس البشرى ، وذلك من منطلق الفطرة الإسلامية والقيم التى توارثوها عن كبير الأنبياء ، محمد عليه الصلاة والسلام. تلك هى المبادئ العشرة التى أقترح إضافتها ، والتى أتقدم بها مع التعاليم العشرين لمجدد القرن الرابع عشر الإمام الشهيد حسن البنا ، رضى الله عنه. ولمن شاء أن يقبل أو يرفض… وآخر ما ندعو به: (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ).