الأربعاء، 20 فبراير 2013

تحقيق القول في رواية الحديث الضعيف في الترغيب والترهيب


كتبهامصطفى الكومي ، في 21 يناير 2011 الساعة: 19:08 م

تحقيق القول في رواية الحديث الضعيف في الترغيب والترهيب
ثانياً
السنة في مجال الدعوة والتوجيه


      معالم وضوابط
    الدكتور يوسف القرضاوي
  بسم الله الرحمن الرحيم

































 وأعتقد أن سبب رواج هذا النوع من الأحاديث الواهية والمنكرة والموضوعة لدى جمهرة الخطباء والمذكرين والواعظين هو إطلاق القول بأن جمهور العلماء يجيزون رواية الحديث الضعيف في فضائل الأعمال , والرقائق والزهد والترغيب والترهيب والقصص ونحوها , مما لا يتعلق به حكم شرعي من الأحكام الخمسة , من حل وحرمة , كراهة , إيجاب , واستحباب .
   وفي ذلك قال الإمام المنذري في مقدمة كتاب "الترغيب والترهيب" : إن العلماء أساغوا التساهل في أنواع من الترغيب والترهيب , وحتى إن كثيرا منهم ذكروا الموضوع ولم يبينوا حاله !
 ونحو هذا قاله الحاكم في (مستدركه) في أول"كتاب الدعاء": وأنا بمشيئة الله أجري الأخبار التي سقطت على الشيخين في "كتاب الدعوات" على مذهب أبي سعيد , عبد الرحمن بن مهدي في قبولها , ثم ساق بسنده إليه قوله :ـ
   إذا روينا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحلال والحرام شددنا في الأسانيد , وانتقدنا الرجال . وإذا روينا في فضائل الأعمال , والثواب والعقاب , والمباحات , والدعوات , تساهلنا في الأسانيد (14) .
   و روى الخطيب في (الكفاية) بسنده عن أحمد , قال :ـ
   " إذا روينا عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحلال والحرام والسنن والأحكام , تشددنا في الأسانيد , وإذا روينا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في فضائل الأعمال , وما لا يضع حكما ولا يرفعه , تساهلنا في الأسانيد .
   وقال : أحاديث الرقاق يحتمل التساهل فيها حتى يجيء فيه حكم .
   وعن أبي زكريا العنبري , قال الخبر إذا ورد لم يحرم حلالا ولا يحل حراما , ولم يوجب حكما , وكان في ترغيب أو ترهيب , أو تشديد , أو ترخيص وجب الإغماض عنه , والتساهل في رواته(15) .
   ولكن إلى أي حد يكون هذا الإغماض والتساهل في الأسانيد ؟.
   فبعض الناس فهموا من هذا أن يقبل الحديث في الترغيب والترهيب وإن انفرد به من فحش غلطه , أو كثرت مناكيره , أو اتهم بالكذب .
   بل ذهب بعض جهلة الصوفية إلى تجويز رواية الحديث الموضوع , المختلق المصنوع ! ما دام يرغب في الخير أو يرهب من الشر بل أباح بعضهم لنفسه أن يخترع أحاديث في فضائل سور القرآن , بعض أعمال الخير بهذا الغرض .
   ولما ذكروا بالحديث المتواتر المعروف :"من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" قالوا بكل وقاحة :نحن لم نكذب عليه وإنما نكذب له !
   وهذا عذر أقبح من ذنب , لأن مقتضى كلامهم أن دينه ناقص وهم يكلمونه , والله تعالى يقول :".. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.."(المائدة :3) .
ومن هنا بيَّن المحققون المراد بالتساهل في الأسانيد بعبارة بينة .
   يقول العلامة ابن رجب الحنبلي في (شرح علل الترمذي) شارحا لقوله :"فكل من روى عنه حديث ممن يتهم , أو يضعف لغفلته , أو لكثرة خطئه , ولا يعرف ذلك الحديث إلا من حديثه فلا يحتج به " قال :ـ  
"أما ما ذكره الترمذي … فمراده انه لا يحتج به في الأحكام الشرعية , والأمور العملية , وإن كان قد يروي حديث بعض هؤلاء في الرقاق والترغيب والترهيب , فقد رخص كثير من الأئمة في رواية الأحاديث الرقاق ونحوها عن الضعفاء , ومنهم : ابن مهدي , واحمد بن حنبل " .
   وقال رواد بن الجراح : سمعت سفيان الثوري , يقول :"لا تأخذوا هذا العلم في الحلال والحرام إلا من الرؤساء المشهورين بالعلم , الذين يعرفون الزيادة والنقصان , ولا بأس بما سوى ذلك من المشايخ".
 وقال ابن أبي حاتم : ثنا أبي , نا عبدة , قال : قيل لابن المبارك ـ و روى عن رجل حديثا ـ فقيل هذا رجل ضعيف ! فقال يحتمل أن يروي عنه هذا القدر أو مثل هذه الأشياء . قلت لعبدة : مثل أي شيء كان ؟ قال : في أدب , في موعظة , في زهد .
 وقال ابن معين في موسى بن عبيدة ـ الربذي , وهو عابد مشهور , ضعيف في الرواية ـ: يكتب من حديثه الرقائق .
   وقال ابن عيينة :"لا تسمعوا من بقية ـ يعني بن الوليد ـ ما كان في سنة , واسمعوا منه ما كان في ثواب وغيره ".
   وقال أحمد في إسحاق ـ يريد :محمد بن إسحاق صاحب (السيرة) المشهورة ـ:"يكتب عنه المغازي وشبهها" .
   وقال ابن معين في زياد البكائي :"لا بأس به في المغازي , وأما في غيرها فلا " .
   قال ابن رجب :ـ
" وإنما يروى في الترهيب والترغيب والزهد والآداب أحاديث أهل الغفلة الذين لا يتهمون بالكذب , فأما أهل التهمة فيطرح حديثهم , كذا قال ابن أبي حاتم وغيره (16) ".
   وفي هذه الأقوال وما شابهها نتبين أن أحدا من أئمة الحديث لم يقل برواية أحاديث الترغيب والترهيب , عن كل من هب ودب من الرواة , وإن كانوا مجهولين أو متهمين , أو فاحشي الغلط .
إنما أجازوا رواية بعض الرواة الذين في حفظهم بعض اللين أو الضعف وإن لم يكونوا (من الرؤساء المشهورين بالعلم , الذين يعرفون الزيادة والنقصان) كما قال الإمام الثوري .
   فهؤلاء لا ريبة في صدقهم وعدالتهم , وإنما الريبة في حفظهم ويقظتهم وإتقانهم .
   ولهذا ذكر الحافظ ابن حجر لقبول الضعف في الرقاق والترغيب , شروطا ثلاثة نقلها عنه الحافظ السيوطي في (تدريب الراوي) :ـ
الأول : متفق عليه , وهو أن يكون الضعف غير شديد , فيخرج من انفرد من   الكذابين والمتهمين بالكذب , ومن فحش غلطه .
الثاني : أن يكون مندرجا تحت أصل عام , فيخرج ما يخترع بحيث لا يكون له أصل أصلا .
الثالث : أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته , لئلا ينسب إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما لم يقله , إنما يعتقد الاحتياط.
   قال : والأخيران عن ابن عبد السلام , وعن صاحبه ابن دقيق العيد , والأول نقل العلائي والاتفاق عليه (17).
حقائق يجب التنبيه عليها
ومن اللازم هنا أن أنبه على عدة حقائق تلقى الضوء على هذا الموضوع الذي أساء فهمه الكثيرون , وكدر صفاء الثقافة الدينية لدى الكثيرين , ممن لا يزالون يوجهون الجماهير الغفيرة من المسلمين .
رفض بعض العلماء الحديث الضعيف ولو في الترغيب والترهيب
الحقيقة الأولى :
   أن من العلماء قديما وحديثا من سوى بين أحاديث الترغيب والترهيب والرقاق والزهد وغيرها من أحاديث الأحكام , فلم يقبل من الحديث إلا الصحيح والحسن . وابن رجب في (شرح العلل) :ـ
   " وظاهر ما ذكره مسلم (ت 261هـ) في مقدمته يقتضي ألا تروى أحاديث الترغيب والترهيب إلا عمن تروى عنه الأحكام"(18).
   " فقد شنع في مقدمة صحيحه على رواة الأحاديث الضعيفة , والروايات المنكرة"(19) .
   والظاهر أنه مذهب الإمام البخاري(ت:233هـ) أيضا , وهو مذهب إمام الجرح والتعديل يحيى بن معين(ت:456هـ) والقاضي ابن الغربي من المالكية(ت:543هـ) , وأبو شامة من الشافعية (20) .
 ومن المعاصرين : الشيخ أحمد محمد شاكر , والشيخ محمد ناصر الدين الألباني .
يقول العلامة شاكر في كتابه (الباعث الحثيث) الذي شرح (اختصار علوم الحديث) لابن كثير , بعد أن ذكر ما أجازه بعضهم من رواية الضعيف من غير بيان ضعفه بشروطه التي ذكرناها ـ يقول :ـ
" والذي أراه أن بيان الضعف في الحديث الضعيف واجب على كل حال , لأن ترك البيان يوهم المطلع عليه أنه حديث صحيح , خصوصا إذا كان الناقل من علماء الحديث الذين يرجع إلى قولهم في ذلك , وأنه لا فرق بين الأحكام وبين فضائل الأعمال ونحوها في عدم الأخذ بالرواية الضعيفة , بل لا حجة لأحد إلا بما صح عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حديث صحيح أو حسن , وأما ما قاله أحمد بن حنبل وابن مهدي وابن المبارك : … وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا فإنما يريدون به ـ فيما أرجح والله أعلم ـ الأخذ بالحديث الحسن الذي لم يصل إلى درجة الصحة , فإن الاصطلاح في التفرقة بين الصحيح والحسن لم يكن في عصرهم مستقرا واضحا , بل كان أكثر المتقدمين لا يصف الحديث إلا بالصحة والضعف فقط "(21). اهـ . بتصرف قليل .
 وللإمامين ابن تيمية وابن القيم كلام في هذا المعنى نفسه فسَّرا به ما روي عن الإمام أحمد أنه يأخذ بالحديث الضعيف , ويقدمه على الرأي والقياس , فأفاد أن مراده الحسن , إذ الترمذي هو الذي شهر هذا التقسيم , كما هو معروف .
   وأما الشيخ الألباني فقد أفاض في ذلك في مقدمات عدد من كتبه وبخاصة صحيح الجامع الصغير وزيادته , وصحيح الترغيب والترهيب .
عدم رعاية الشروط التي اشترطها الجمهور
الحقيقة الثانية :
   أن الشروط الثلاثة التي اشترطها الذين أجازوا رواية الضعيف في الترغيب والترهيب والرقائق ونحوها , لم تراع ـ للأسف ـ من الناحية العلمية , فأكثر الذين يشتغلون بأحاديث الزهد والرقائق ,لا يميزون بين الضعيف وشديد الضعف , ولا يدققون في أن يكون الحديث مندرجا تحت أصل شرعي ثابت بالقرآن , أو بصحيح السنة , بل ربما يغلب عليهم ـ كما قلت من قبل ـ الشغف بما كان فيه إثارة وإغراب , ولو منكرا شديد النكارة , أو تلوح عليه دلائل الوضع .
منع الرواية بصيغة الجزم
الحقيقة الثالثة :
أن العلماء ذكروا هنا تنبيها مهما , وهو ألا يقول في الحديث الضعيف : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هكذا بصيغة الجزم والقطع .
   قال ابن الصلاح في النوع الثاني والعشرين من (علوم الحديث) :ـ
   " إذا أردت رواية الضعيف بغير إسناد , فلا تقل فيه : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " كذا كذا " وما أشبه هذا من الألفاظ الجازمة , بأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال كذلك وإنما تقول فيه : روي عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كذا وكذا , أو بلغنا عنه كذا وكذا , أو ورد عنه , أو جاء عنه , أو روى بعضهم وما أشبه ذلك .
   وهكذا الحكم فيما تشك في صحته و ضعفه , وإنما تقول : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما ظهر لك صحته بطريقه الذي أوضحناه أولا . والله اعلم (22) ".
   وما قاله ابن الصلاح وافقه عليه النووي , وابن كثير , والعراقي , وابن حجر , وكل من كتب في مصطلح الحديث .
   ولكن الخطباء , والمذكَّرين والمؤلفين الذين يرون الأحاديث الضعيفة لا يلقون بالا لهذا التنبيه , ويصدرون أحاديثهم دائما بقولهم : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
في الصحيح والحسن ما يغني
الحقيقة الرابعة:
 أنه إذا كان لدينا في الموضوع الواحد حديث أو أكثر من صنف الصحيح والحسن , وحديث أو أكثر من صنف الضعيف , فالأجدر بنا أن نستغني بما لدينا من الصنف الأول عن الثاني , ولا داعي لأن نعبئ حوافظنا من الضعيف , فإن ذلك سيكون حتما على حساب الصحيح .
 ولهذا ورد عن الصحابة : ما اجتهد قوم في بدعة إلا أضاعوا مثلها من السنة .
وهذا أمر مشاهد .
   ومن هنا روى الخطيب في (الكفاية) عن الإمام ابن مهدي , قال : لا ينبغي للرجل أن يشغل نفسه بكتابة أحاديث الضعاف , فإن أقل ما فيه أن يفوته ـ بقدر ما يكتب من حديث أهل الضعف ـ يفوته من حديث الثقات(23) …
   وإذا كانت طاقة الإنسان في الحفظ والتذكر والاستيعاب والهضم محدودة ولا بد فليصرفها إذن فيما هو أحق وأولى , ولا يختلف اثنان أن الصحيح أولى بأن توجه إليه الطاقات , وتصرف إليه الجهود و الأوقات من الضعيف .
التحذير من اختلال النسب بين الأعمال
الحقيقة الخامسة :
أن أحاديث الرقائق والترغيب والترهيب ـ إن كانت لا تشتمل على حكم يحلل
أو يحرم ـ نجدها تشتمل على شيء آخر , له أهميته وخطورته , وإن لم يلتفت إليه أئمتنا السابقون , وهو ما يترتب عليها "اختلال النسب" التي وضعها الشارع الحكيم للتكاليف والأعمال , فلكل عمل ـ مأمور به أو منهي عنه ـ وزن أو "سعر" معين في نظر الشارع بالنسبة لغيره من الأعمال , ولا يجوز لنا أن نتجاوز به حده الذي حده له الشارع , فنهبط به عن مكانته , أو نرتفع به فوق مقداره .
   ومن أشد الأمور خطرا إعطاء قيمة لبعض الأعمال الصالحة , أكبر من حجمها وأكثر مما تستحقه , بتضخيم ما فيها من ثواب , حتى تطغى على ما هو أهم منها وأعلى درجة في نظر الدين .
   وفي مقابل ذلك إعطاء أهمية لبعض الأعمال المحظورة , وتضخيم ما فيها من عقاب بحيث تجور على غيرها .
   وقد ترتب على التهويل والمبالغات في الوعد بالثواب , والوعيد بالعقاب : تشويه صورة الدين في نظر المثقفين المستنيرين , حيث ينسبون هذا الذي يسمعونه أو يقرءونه إلى الدين نفسه , والدين منه براء .
   وكثيرا ما أدت هذه المبالغات ـ وخصوصا في جانب الترهيب ـ إلى نتائج عكسية واضطرابات نفسية , وكثيرا ما بغَّض هؤلاء المبالغون رب الناس إلى الناس , ونفَّروهم منه , وأبعدوهم عن رحابه .
    والواجب أن نبقي الأعمال على مراتبها الشرعية , دون أن تقع في شرك المبالغات التي تشدنا إلى أحد طرفي الإفراط والتفريط , كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : عليكم بالنمط الوسط , الذي يرجع ليه الغالي (أي المبالغ) ويلحق به التالي .
رواية الحديث الضعيف في فضائل الأعمال لا تعني إثبات حكم به
الحقيقة السادسة:
   أن العلماء الذين أجازوا رواية الضعيف بشروطه , وبعبارة الأقدمين منهم :
تساهلوا في أسانيد رواته , إنما قصدوا بذلك الحث على عمل صالح ثبت صلاحه بالأدلة الشرعية المعتبرة , أو الزجر عن عمل سيء ثبت سوءه بالأدلة الشرعية , ولم يقصدوا أن يثبتوا بالحديث الضعيف صلاح العمل أو سوءه , ولكن كثيرا من عامة الناس ـ بل من المحدثين أنفسهم ـ لم يفرقوا بين جواز رواية الضعيف بشروطه وإثبات العمل به .
   ولهذا رأينا أكثر بلاد المسلمين يحتفلون بليلة النصف من شعبان , ويخصون ليلتها بالقيام , ونهارها بالصيام , بناء على الحديث المروي فيها , عن علي رضي الله عنه مرفوعا:" إذا كانت ليلة النصف من شعبان , فقوموا ليلها وصوموا يومها : فإن الله تبارك وتعالى يزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا , فيقول : ألا من مستغفر فأغفر له …الحديث" رواه ابن ماجه , وأشار المنذري إلى ضعفه , وكذا ضعفه البوصيري في زوائد ابن ماجه (24) .
   ورأينا أكثر بلاد المسلمين كذلك يحتفلون بيوم عاشوراء , يذبحون الذبائح , ويعتبرونه عيدا أو موسما, يوسعون فيه على الأهل والعيال , اعتمادا على حديث ضعيف , بل موضوع في رأي ابن تيمية وغيره , وهو الحديث المشهور على الألسنة :"من أوسع على عياله يوم عاشوراء , أوسع الله عليه سائر سنته " قال المنذري : رواه البيهقي وغيره من طرق عن جماعة من الصحابة .
 وقال البيهقي : هذه الأسانيد وإن كانت ضعيفة فهي إذا ضم بعضها إلى بعض أخذت قوة , والله أعلم .
   وهذا القول فيه نظر .
   وقد جزم ابن الجوزي , وابن تيمية في (منهاج السنة) وغيرهما بأن الحديث موضوع , وحاول العراقي وغيره الدفاع عنه وإثبات حسنه لغيره ! وكثير من المتأخرين يعز عليهم أن يحكموا بالوضع على حديث !
   والذي يترجح لي أن الحديث مما وضعه بعض الجهال من أهل السنة في الرد على مبالغات الشيعة في جعل يوم عاشوراء يوم حزن وحداد , فجعله هؤلاء يوم اكتحال واغتسال , وتوسعة على العيال !!
   وكثير من المفاهيم المغلوطة , والبدع المنتشرة بين جماهير المسلمين , ترجع إلى أحاديث ضعيفة , راجت في عصور التخلف بينهم , وتمكنت من عقولهم وقلوبهم , وطاردت الأحاديث الصحاح التي يجب أن تكون ـ بجوار القرآن الكريم ـ أساس الفهم والسلوك , كما بين ذلك الإمام الشاطبي في (الاعتصام).
   ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام ناصع في بيان المراد بقول العلماء : يعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال أو في الترغيب والترهيب , قال :ـ
(… ما عليه العلماء من العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال ليس إثبات الاستحباب بالحديث الذي لا يحتج به , فإن الاستحباب حكم شرعي فلا يثبت إلا بدليل شرعي , ومن خبر عن الله أنه يحب عملا من الأعمال من غير دليل شرعي فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله , كما لو أثبت الإيجاب أو التحريم , ولهذا يختلف العلماء في الاستحباب , كما يختلفون في غيره , بل هو أصل الدين المشروع .
   وإنما مرادهم بذلك أن يكون العمل مما قد ثبت أنه مما يحبه الله , أو مما يكرهه الله بنص أو إجماع , كتلاوة القرآن , التسبيح و الدعاء والصدقة , والعتق , والإحسان إلى الناس , وكراهة الكذب والخيانة , ونحو ذلك … فإذا روى حديث في فضل بعض الأعمال المستحبة وثوابها , وكراهة بعض الأعمال وعقابها , فمقادير الثواب والعقاب وأنواعه , إذا روى فيها حديث لا نعلم أنه موضوع جازت روايته والعمل به , بمعنى : أن النفس ترجو ذلك الثواب , أو تخاف ذلك العقاب , كرجل يعلم أن التجارة تربح , ولكن بلغه أنها تربح ربحا كثيرا فهذا إن صدق نفعه , وإن كذب لم يضره .
   ومثال ذلك : الترغيب والترهيب بالإسرائيليات والمنامات , وكلمات السلف والعلماء ووقائع العلماء , ونحو ذلك مما لا يجوز إثبات حكم شرعي به , ولا استحباب ولا غيره , ولكن يجوز أن يذكر في الترغيب والترهيب , والترجية والتخويف . فما حسنه أو قبحه بأدلة الشرع , فإن ذلك ينفع ولا يضر , وسواء كان في نفس الأمر حقا أو باطلا , فما علم أنه باطل موضوع لم يجز الالتفات إليه , فإن الكذب لا يفيد شيئا , وإذا ثبت أنه صحيح أثبت به الأحكام , وإذا احتمل الأمرين روى لإمكان صدقه ولعدم المضرة في كذبه , وأحمد إنما قال :"إذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد" ومعناه : إنما نروى في ذلك بالأسانيد , وإن لم يكن محدثوها من الثقات الذين يحتج بهم .وكذلك قول من قال : يعمل بها في فضائل الأعمال , وإنما العمل بما فيها من الأعمال الصالحة , مثل التلاوة والذكر , والاجتناب لما كره فيها من الأعمال السيئة .
   فإذا تضمنت أحاديث الفضائل الضعيفة تقديرا وتحديدا , مثل : صلاة في وقت معين بقراءة معينة , أو على صفة معينة لم يجز ذلك , لأن استحباب هذا الوصف المعين لم يثبت بدليل شرعي بخلاف ما لو روى فيه :" من دخل السوق فقال :" لا إله إلا الله …كان له كذا وكذا "(25) . فإن ذكر الله في السوق مستحب لما فيه من ذكر الله بين الغافلين , كما جاء في الحديث المعروف :"ذاكر الله في الغافلين كالشجرة الخضراء بين الشجر اليابس (26) ".
 فأما تقدير الثواب المروي فيه فلا يضر ثبوته ولا عدم ثبوته .
   فالحاصل : أن هذا الباب يروى و يعمل به في الترغيب والترهيب , لا في الاستحباب , ثم اعتقاد موجبه وهو مقادير الثواب والعقاب يتوقف على الدليل الشرعي (27) أهـ .
ورغم هذا البيان رأينا الكثيرين يثبتون التحديدات والتقديرات بالحديث الضعيف .
شرطان مكملان لقبول رواية الضعيف
الحقيقة السابعة والأخيرة :
   أننا إذا أخذنا برأي الجمهور في جواز رواية الضعيف في الترغيب والترهيب بالشروط الثلاثة التي ذكروها , فينبغي ـ في نظري ـ أن نضيف إليها شرطين مكملين ذكرتهما في كتابي (ثقافة الداعية) وهما :ـ
1 ـ ألا يشتمل على مبالغات وتهويلات يمجها العقل أو الشرع أو اللغة
   وقد نص أئمة الحديث أنفسهم أن الحديث الموضوع يعرف بقرائن في الرواي أو المروي .
   فمن القرائن في المروي , بل من جملة دلائل الوضع , أن يكون مخالفا للعقل , بحيث لا يقبل التأويل , ويلحق به ما يدفعه الحس والمشاهدة .
   أو يكون منافيا لدلالة الكتاب القطعية أو السنة المتواترة , أو الإجماع القطعي , منافاة لا يمكن معها الجمع بينها (أما المعارضة مع إمكان الجمع فلا ) أو يكون خبرا عن أمر جسيم تتوفر الدواعي على نقله بمحضر الجمع ثم لا ينقله منهم إلا واحد !.
   ومنها الإفراط بالوعيد الشديد على الأمر الصغير , أو الوعد العظيم على الأمر الحقير , وهذا كثير في أحاديث القصاص .
   ومما يؤسف له كثيرا من المحدثين لا يطبقون هذه القواعد عندما يروون في الترغيب والترهيب ونحوه , وربما كان لهم عذر من طبيعة عصرهم . أما عقلية عصرنا فلا تقبل المبالغات , ولا تهضمها , و ربما تتهم الدين ذاته إذا ألقى مثل هذه الأحاديث .
   ومما تمجه اللغة : كثير من الأحاديث التي رواها بعض القصاص , مثل : دراج أبي السمح في تفسير كلمات من القرآن الكريم لها مدلولاتها الواضحة في اللغة , فروى لها تفسيرات غاية في الغرابة والبعد عن المدلول اللغوي .
   فمن حديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا " ويل : واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا , قبل أن يبلغ قعره " رواه أحمد والترمذي بنحوه إلا أنه قال : " سبعين خريفا" مع أن "ويل " كلمة وعيد بالهلاك معروفة قبل الإسلام وبعده .
   ومثل ذلك ما جاء عند الطبراني والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه من تفسير "الغي" في قوله تعالى :" فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا(مريم:59) قال : " واد في جهنم " , وفي رواية " نهر في جهنم ".
   وكذلك ما رواه البيهقي وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه في قوله :"وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا(الكهف:52قال : واد من قيح ودم " .
 وأغرب منه ما رواه ابن أبي الدنيا عن شفى بن مانع :أن في جهنم واديا يدعى"أثاما" فيه حيات وعقارب …إلى آخره , يشير إلى قوله تعالى :" وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا(الفرقان:68) .
   ومما يؤسف له أن الإمام المنذري رحمه الله ذكر هذه الأحاديث في كتابه " الترغيب والترهيب".
 ولهذا أعرضنا عنها في كتابنا (المنتقى من الترغيب والترهيب".
2ـ ألا تعارض دليلا شرعيا آخر أقوى منها :ـ
 مثال ذلك : الأحاديث الضعيفة التي رويت في شأن عبد الرحمن بن عوف : أنه يدخل الجنة حبوا بسبب غناه .
   فقد يقال : إن مثل هذه الأحاديث تندرج تحت أصل التحذير من فتنة المال , وطغيان الغنى , ولكن يجب أن نذكر أنها تعارض أحاديث صحيحة جعلت عبد الرحمن بن عوف من العشرة المبشرين بالجنة , فضلا عن وقائع ثابتة , وروايات مستفيضة , ثبت أنه كان من خيار المسلمين , وكبار المتقين , وأنه يمثل الغني الشاكر حقا , ولهذا توفى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم , وهو عنه راض , وجعله عمر رضي الله عنه في الستة أصحاب الشورى , وجعل لصوته ميزة ترجيحية على غيره عند تساوي الأصوات .
   ولهذا رد الحافظ المنذري ما قد ورد من غير ما وجه ومن حديث جماعة من الصحابة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه , يدخل الجنة حبوا لكثرة ماله ….
   قال : وقد ورد من غير ما وجه , ومن حديث جماعة من الصحابة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أن عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ يدخل الجنة حبوا لكثرة ماله , و لا يسلم أجودها من مقال , ولا يبلغ منها شيء بانفراده درجة الحسن . ولقد كان ماله بالصفة التي ذكر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :" نعم المال الصالح للرجل الصالح " فأنى تنقص درجاته في الآخرة أو يقصر به دون غيره من أغنياء هذه الأمة ؟ فإنه لم يرد هذا في حق غيره , وإنما صح سبق فقراء هذه الأمة أغنيائهم على الإطلاق والله أعلم (28).
من فقه الداعية
   وينبغي للداعية الموفق ألا يحدث الناس بكل ما يعرفه من الأحاديث وإن كانت صحاحا , فقد قال العلامة القاسمي في قواعد التحديث :ـ   
   ما كل حديث صحيح تحدث به العامة ـ والدليل على ذلك ما رواه الشيخان عن معاذ ـ رضي الله عنه ـ قال : كنت ردف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على حمار , فقال : " يا معاذ ! هل تدري ما حق الله على عباده , وما حق العباد على الله ؟" قلت :"الله ورسوله أعلم "قال :" فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " قلت : يا رسول الله , أفلا أبشر به الناس ؟ " قال لا تبشرهم فيتكلوا !".
و في رواية لهما عن أنس : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لمعاذ وهو ردفه :"ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله , وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرم الله عليه النار" قال :"يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشروا ؟ " قال : " إذا يتكلوا " , فأخبر بها معاذ عند موته تأثما . و روى البخاري تعليقا عن علي ـ رضي الله عنه ـ : " حدثوا الناس بما يعرفون , أتحبون أن يكذب الله و رسوله ؟" ومثله قول ابن مسعود :" ما أنت محدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة " رواه مسلم .
   قال الحافظ بن حجر :" و ممن كره التحديث ببعض دون بعض , أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على الأمير , ومالك في أحاديث الصفات , وأبو يوسف في الغوائب , ومن قبلهم أبو هريرة كما روي عنه في الجرابين (29) وأن المراد ما يقع من الفتن , ونحوه عن حذيفة .
   وعن الحسن : أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين(30) , لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء , وبتأويله الواهي .
   وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة , وظاهره في الأصل غير مراد , فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب "انتهى.
   ولما كان النهي للمصلحة لا للتحريم , أخبر به معاذ لعموم الآية بالتبليغ .
   قال بعضهم :"النهي في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " لا تبشرهم " مخصوص ببعض الناس , وبه احتج البخاري على أن للعالم يخص العلم قوما دون قوم " كراهة أن لا يفهموا , وقد يتخذ أمثال هذه الأحاديث البطلة(31) المباحية(32) ذريعة إلى ترك التكاليف ورفع الأحكام , وذلك يفضي إلى خراب الدنيا بعد خراب العقبى . وأين هؤلاء ممن إذا بشروا زادوا جدا في العبادة ؟ وقد قيل للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :" أتقوم الليل وقد غفر الله لك ؟ " فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ (33) : " أفلا أكون عبدا شكورا".
   ولهذا أستغرب كل الاستغراب من موقف أولئك الدعاة الذين لا يفتأون يذكرون للناس حديث الذباب وغمسه في الطعام !.
   أو حديث لطم موسى لملك الموت !
   أو حديث " إن أبي وأباك في النار" جوابا لمن سأله :أين أبي؟ .
   أو الأحاديث التي اختلف السلف والخلف حول الصفات الخبرية أو الفعليه لله تعالى.
   أو أحاديث الفتن التي يوهم ظاهرها اليأس من كل إصلاح , والقعود عن أي عمل لمقاومة الفساد .
   أو غير ذلك من الأحاديث التي يدق معناها على جمهور الناس , وليس لهم بها حاجة , ولا يترتب عليها حكم , ولو عاشوا عمرهم لم يسمعوها ما نقص ذلك من دينهم حبة خردل .
   وإذا احتاج الداعية إلى شيء من هذه الأحاديث لسبب من الأسباب , فعليه أن يضعها في الإطار الصحيح , وأن يلقى عليها من أشعة البيان والتوضيح , ما يجلى معناها , وينفي الاشتباه والإشكال عنها .
   ونضرب لذلك مثالا بحديث مشهور طالما أساء الناس فهمه , ورتبوا عليه أمورا خطيرة نتيجة لفهمهم هذا . وهو حديث أنس الآتي.
هل كل زمن شرّ مما قبله
   روى البخاري بسنده إلى الزبير بن عدي , قال : أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج , فقال : اصبروا , فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه , حتى تلقوا ربكم , سمعته من نبيكم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ".
   ويتخذ بعض الناس من هذا الحديث تكأة للقعود عن العمل , ومحاولة الإصلاح والإنقاذ مدعيا أن الحديث يدل على أن الأمور في تدهور دائم , وسقوط مستمر وهوىَّ متتابع , من درك إلى درك أسفل منه , فهي لا تنتقل من سيء إلا إلى أسوأ ولا من أسوأ إلا إلى الأسوأ منه , حتى تقوم الساعة على شرار الناس ويلقى الناس ربهم .
وآخرون توقفوا في قبول الحديث , وربما تعجل بعضهم فردَّه , لأنه في ظنه يدعو :
   أولا : إلى اليأس والقنوط .
   وثانيا : إلى السلبية في مواجهة الطغاة من الحكام والمنحرفين .
   وثالثا : يعرض فكرة "التطور" التي قام عليها نظام الكون والحياة .
   ورابعا : ينافي الواقع التاريخي للمسلمين .
   وخامسا : يعارض الأحاديث التي جاءت في ظهور خليفة يملأ الأرض عدلا (وهو الذي عرف باسم المهدي ) وفي نزول عيسى ابن مريم , وإقامته لدولة الإسلام وإعلاء كلمته في الأرض كلها .
    ومن الحق علينا أن نقول : إن السابقين من علمائنا قد وقفوا عند هذا الحديث مستشكلين " الإطلاق" فيه . يعنون بالإطلاق ما فهم من الحديث :أن كل زمن شر من الذي قبله , مع أن بعض الأزمنة تكون في الشر دون التي قبلها ولو لم يكن في ذلك إلا زمن عمر بن عبد العزيز , وهو بعد زمن الحجاج ـ الذي عمت الشكوى منه ـ بيسير . وقد اشتهر الخير الذي كان في زمن عمر بن عبد العزيز , بل لو قيل : إن الشر اضمحل في زمانه , لما كان بعيدا , فضلا عن أن يكون شرا من الذي قبله .
   وقد أجابوا عن هذا بعدة أجوبة :ـ
أ ـ فالإمام الحسن البصري حمل الحديث على الأكثر الأغلب , فقد سئل عن عمر ابن عبد العزيز بعد الحجاج , فقال : لا بد للناس من تنفيس !
ب ـ وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه من قوله :"لا يأتي عليكم زمان إلا وهو أشر مما قبله , أما إني لا أعني أميرا خير من أمير ولا عاما خيرا من عام , ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون , ثم لا تجدون منهم خلفا , ويجيء يفتون برأيهم " وفي لفظ عنه :"فيثلمون الإسلام ويهدمونه " ورجح الحافظ في "الفتح" تفسير ابن مسعود لمعنى الخيرية والشرية هنا , قائلا : وهو أولى بالاتباع .
   ولكنه في الواقع لا ينفي الاستشكال من أساسه , فالنصوص تدل على أن في الغيب أدوارا للإسلام ترتفع فيها رايته وتعلو كلمته , ولو لم يكن إلا زمن المهدي والمسيح في آخر الزمان لكفى .
    والتاريخ يثبت أنه قد جاءت فترات ركود وجمود في العالم أعقبها أزمنة حركة وتجديد , ويكفي أن نذكر مثلا من ظهر في القرن الثامن من العلماء المجددين ـ بعد سقوط الخلافة الإسلامية , وتدهور الأوضاع في القرن السابع مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم و سائر تلاميذه في الشام والشاطبي في الأندلس , وابن خلدون في المغرب , وغيرهم ممن ترجم لهم ابن حجر في كتابه ( الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ).
   وفي العصور التي تلت ذلك نجد مثل ابن حجر , والسيوطي في مصر , وابن الوزير في اليمن والدهلوي في الهند والشوكاني والصنعاني في اليمن , وابن عبد الوهاب في نجد , وغيرهم من العلماء الجلاء المجتهدين والأئمة المجددين .
    وهذا ما جعل الإمام ابن حبان في صحيحه يرى أن حديث أنس ليس على عمومه , مستدلا بالأحاديث الواردة في المهدي , وانه يملأ الأرض عدلا , بعد أن ملئت جورا(34) .
ج ـ ولهذا أرى أن أرجح التفسيرات لهذا الحديث ما ذكره الحافظ في " الفتح " بقوله : " ويحتمل أن يكون المراد بالأزمنة المذكورة أزمنة الصحابة , بناء على أنهم هم المخاطبون بذلك , فيختص بهم , فأما من بعدهم فلم يقصد في الخبر المذكور لكن الصحابي فهم التعميم , فلذلك أجاب من شكا إليه الحجاج بذلك وأمرهم بالصبر , وهم ـ أو جلهم ـ من التابعين (35) " أهـ .
   وعلى هذا التفسير يحمل كلام ابن مسعود أيضا : فهو خاص بأزمنة من كان يخاطبهم من الصحابة التابعين , وقد توفى في زمن عثمان رضي الله عنهما .
   وأما زعم من زعم أن الحديث يتضمن دعوة إلى السكوت على الظلم والصبر على التسلط والجبروت , والرضا بالمنكر والفساد , ويؤيد السلبية في مواجهة الطغاة المتجبرين في الأرض …
   فالرد على ذلك من عدة أوجه :ـ
أولا : إن القائل "اصبروا" هو أنس رضي الله عنه , فليس هو من الحديث المرفوع .
وإنما استنبطه منه , وكل واحد يؤخذ من كلامه ويترك ما عدا المعصوم ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ثانيا : إن أنسا لم يأمرهم " بالرضا " بالظلم والفساد , وإنما أمرهم " بالصبر" وفرق كبير بين الأمرين , فالرضا بالكفر كفر , وبالمنكر منكر , وأما الصبر فقلما يستغني عنه أحد , وقد يصبر المرء على الشيء وهو كاره له , وساع في تغييره .
ثالثا : إن من لم يملك القدرة على مقاومة الظلم والجبروت , ليس له إلا أن يعتصم بالصبر والأناة , مجتهدا أن يعد العدة , ويتخذ الأسباب , معتضدا بكل من يحمل فكرته , ومنتهزا الفرصة المواتية , ليواجه قوة الباطل بقوة الحق , وأنصار الظلم بأنصار العدل .
    وقد صبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاثة عشر عاما في مكة على الأصنام وعبادها , فيصلي بالمسجد الحرام ويطوف بالكعبة وفيها وحولها ثلاثمائة وستون صنما , بل طاف في السنة السابعة من الهجرة مع أصحابه في عمرة القضاء , وهو يراها ولا يمسها , حتى أتى الوقت المناسب يوم الفتح فحطمها .
   ولهذا قرر علماؤنا : أن إزالة المنكر إذا ترتب عليه منكر أكبر منه وجب السكوت عنه حتى تتغير الأحوال .
   وعلى هذا لا ينبغي أن يفهم من الوصية بالصبر الاستسلام للظلم والطغيان بل الانتظار والترقب حتى يحكم الله , وهو خير الحاكمين .
رابعا : إن الصبر لا يمنع من قول كلمة الحق , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمام الطغاة المتألهين , وإن لم تكن واجبة على من يخاف على نفسه أو أهله ومن حوله , فقد جاء في الحديث " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " , "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب , ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" .
ــــــــــــــــــــــــــ
 (14) المستدرك(1/490)
(15) الكفاية للخطيب :134نشر المكتبة العلمية بالمدينة المنورة
(16) شرح علل الترمذي لابن رجب بتحقيق د. نور الدين العتر ج1ص72ـ73 .
(17) تدريب الراوي على تقريب النواوي ج 1/298,299 تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف .نشر دار الكتب الحديثة بالقاهرة .
(18) شرح علل الترمذي لابن رجب , وتحقيق د. نور الدين العتر ص74.
(19) قال مسلم في مقدمة صحيحه :" وبعد يرحمك الله فلولا الذي رأينا من سوء صنيع كثير ممن نصب نفسه محدثا فيما يلزمهم من طرح الأحاديث الضعيفة والروايات المنكرة وتركهم الاقتصار على الأحاديث الصحيحة والمشهورة مما نقله الثقات المعروفون بالصدق والأمانة بعد معرفتهم بعد وإقرارهم بألسنتهم أن كثيرا مما يقذف به إلى الأغبياء من الناس هو مستنكر ومنقول عن قوم غير مرضضين ممن ذم الرواية عنهم أئمة أهل الحديث… لما سهل عليهم الانتصاب لما سألت عن التمييز والتحصيل .
ولكن من اجل ما أعلمناك من نشر القوم الأخبار المنكرة بالأسانيد الضعاف المجهولة وقذفهم بها إلى العوام الذين لا يعرفون عيوبها خف على قلوبنا إجابتك إلى ما سألت ".
(20) تدريب الرواي على تقريب النوواي ج1/298,299
(21) الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث ص 91,92 نشر دار الكتب العلمية بيروت .   
(22) مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح , تحقيق د. عائشة عبد الرحمن , ونشر الهيئة المصرية العامة للكتاب ص217.
(23) الكفاية :ص133
(24) الحديث عن ابن ماجه برقم 1388 , وفي سنده أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة : اتهمه أحمد وابن حبان والحاكم وابن عدي بأنه يضع الحديث.
(25) يشير إلى أن الحديث ضعيف عنده رغم تعدد طرقه .
(26) جزء من حديث رواه أبو نعيم في "الحلية" عن ابن عمر وضعفه العراقي , كما في فيض القدير ج3/559 .
(27) مجموع فتاوي شيخ الإسلام ط . الرياض ج 18/65ـ 66 .
(28) انظر : الترغيب للمنذري , الحديث رقم 4576 بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد .
(29) في مسند أحمد أن أبا هريرة قال :" حفظت ثلاثة أجربة بثثت منه جرابين " وفي صحيح البخاري من حديث أبو هريرة أنه قال :" حفظت عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعائين " فأما أحدهما فبثثته , وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم ".
(30) العرنيون نفر قدموا على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأسلموا , فاجتووا المدينة , فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة , فيشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا , فصحوا , فارتدوا وقتلوا رعاتها, واستاقوا الإبل , فبعث في آثارهم فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم , وسمل أعينهم , ثم لم يحسمهم حتى ماتوا . والحديث في الصحيحين وغيرهما (راجع فتح الباري:ج12, ص98) .
(31) يقال أبطل :إذا جاء بالباطل : والبطلة : السحرة والشياطين , وفي مسند أحمد من حديث أبي أمامة :" اقرأوا البقرة , فإن أخذها بركة , وتركها حسرة , ولا تستطيعها البطلة " وأخرجه مسلم في الصلاة .
(32) كذا في الأصل ولعلها الإباحية .
(33) أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي من حديث المغيرة بن شعبة .
(34) فتح الباري ج16 ص 228 ط الحلبي .
(35) المرجع السابق .
الباب الثالث
معالم وضوابط
لحسن فهم السُّنة النبوية
كيف نتعامل مع السنة النبوية
معالم وضوابط
الدكتور يوسف القرضاوي
ـ فهم السنة في ضوء القرآن الكريم .
ـ جمع الأحاديث الواردة في الموضوع الواحد .
ـ الجمع أو الترجيح بين مختلف الحديث .
ـ فهم الأحاديث في ضوء أسبابها وملابساتها ومقاصدها.
ـ التمييز بين الوسيلة المتغيرة والهدف الثابت للحديث .
ـ التفريق بين الحقيقة والمجاز في فهم الحديث .
ـ التفريق بين الغيب والشهادة .
ـ التأكد من مدلولات ألفاظ الحديث .
أولا
فهم السنة في ضوء القرآن الكريم 

ليست هناك تعليقات: