الجمعة، 15 مارس 2013

والآن أيتها الجماهير ...


سيد قطب
والآن أيتها الجماهير ...
   الآن ينبغي أن تتولى الجماهير الكادحة المحرومة المغبونة قضيتها بأيديها . ينبغي أن تفكر في وسائل الخلاص .. وتختار .
   إن أحدا لن يقدم لهذه الجماهير عونا إلا أنفسها  , فعليها أن تعني هي بأمرها , ولا تتطلع إلى معونة أخرى .
   أنه لا الأحزاب التي تتولى الحكم جماعة أو فرادى , ولا الصحافة الحزبية أو غير الحزبية , ولا هيئة الأمم , أو إحدى دولها الرأسمالية , ولا الشيوعية كذلك في النهاية . . أنه لا أحد من هؤلاء جميعا سيمد يده إلى الجماهير الكادحة في مصر , إلا أن تمد تلك الجماهير يدها إلى قضيتها .
   ونظرة إلى ظروف هذه المؤسسات وحقيقتها تكفي لإقناع من يريد الاقتناع , أن الاعتماد على أي منها في نصرة قضية الجماهير , إن هو إلا مجرد تواكل وغفلة و تقصير .
***
   هذه التشكيلات الحزبية . ومن تمثل ؟ أنها لا تمثل الجماهير قطعا لا بعقليتها ولا بمصلحتها ولا بظروفها . من هم الذين يشترط القانون أن يكونوا شيوخا في البرلمان ؟ أنهم الذين يملكون نصابا معينا من المال !
   أفي تلك الملايين من الجماهير الكادحة واحد فقط تنطبق عليه هذه الشروط ؟!
   ومن هم الذين تسمح لهم الظروف أن يكونوا نوابا في البرلمان ؟
      إنهم الذين يملكون أولا أن يدفعوا التأمين وهو مائة جنيه وخمسون , ثم يملكون ثانيا آلاف الجنيهات على أن ينفقوا على المعركة الانتخابية , وسماسرتها وحفلاتها وتنقلاتها وولائمها وذيولها , ثم يملكون ثالثا أن يتصلوا بحزب يرشحهم ويسندهم ويتقاضى منهم جزاء الترشيح ضريبة خزانته التي تتراوح بين المئات والألوف . . أ فبين الجماهير الكادحة من تنطبق عليه هذه الشروط ؟!
   كلا ! وليس وراء الجماهير الفقيرة المستغلة تنظيمات وتشكيلات قوية من النقابات والاتحادات , تتولى إدارة المعركة الانتخابية بأموالها وبنفوذها , كي تقدم إلى البرلمان مرشحين منها , يعبرون عن آلامها وآمالها .
   وإذن فستبقى الجماهير الكادحة المحرومة المغبونة في جانب , وتبقى التشكيلات الحزبية و البرلمانية في جانب , ويبقى الصراع بين المصالح المتعارضة قائما . إلى أن تتولى الجماهير أمر نفسها , فتنشئ من التشكيلات ما يملك الانتصار في معركة الانتخابات وغير الانتخابات . وإلى أن يتم هذا فلا ينبغي أن تعلق الجماهير أملا على الصراع الحزبي القائم , ولا أن تتطلع إلى حزب دون حزب , ولا أن ترجو النصفة على وثبة حزب من هذه الأحزاب على كراسي الحكم , بانتخاب أو بغير انتخاب .
   هذه الحقيقة تؤيدها كل تجارب الماضي الحزبي والبرلماني في مصر منذ ربع قرن مضى . أن هذا الصراع الحزبي لم يكن مرة واحدة على مصلحة الجماهير , وإنما كان دائما على كراسي الحكم , وما ورائها من مغانم , ومن إرضاء و إغناء للمحاسيب و الهتافة والأقارب والأصهار !
   فأما حين يلوح في الأفق شبح الخطر على مصلحة صغيرة من مصالح الرأسمالية , فينسى المتصارعون أحقادهم , ويترك المتخاصمون خصوماتهم , ويقف الجميع صفا واحدا في وجه ذلك الخطر الصغير , الوفدي و السعدي و الدستوري سواء , يدافعون عن مصالح الرأسمالية المهددة , ضد مصلحة الجماهير المحرومة .
   وما على من يتشكك في الحقيقة البارزة إلا أن يعود إلى مضابط البرلمان , عند نظر مشروع الضريبة التصاعدية , أو مشروع الأرباح الاستثنائية , أو مشروع ضريبة التركات , أو مشروع نقابات العمال , وبخاصة مسألة حرمان خدم البيوت من تكوين النقابات . . أو كل مشروع يحمل رؤوس الأموال شيئا من التكاليف التي تحملها رؤوس الأموال في كل جوانب الأرض , إلا في أرض الإقطاع .
   إنه سيجد المعارضين يمثلون أشخاصهم ومصالح طبقتهم ولا يمثلون أحزابهم وهيئاتهم . ذلك أنهم جميعا رأسماليون قبل أن يكونوا وفديين أو سعديين أو دستوريين ؟
   وها نحن أولاء أما مثل قريب , يدركه كل فرد في هذه الأمة , لأنه يتجرعه ويكتوي بناره : ها نحن أولاء أمام الغلاء الفاحش , الذي يفغر فاه كالغول ليلتهم الأخضر و اليابس , ويمتص دماء الملايين في نهم بشع لتنتفخ بها الأوداج , وتتخم بها الكروش .. فماذا صنعت الدولة وماذا صنع البرلمان لمكافحة ذلك الغول الجبار ؟
   بيانات وأحاديث , ثم بيانات وأحاديث , ثم حملات تفتيشية على الأسواق . الأسواق هنا في القاهرة حيث الحلقة الأخيرة وحدها من سلسلة الغلاء الطويلة .
   إن الغلاء لا يمنع هنا بل يصب . و القائمون بالأمر يعرفون , ولكنهم لا يجرؤون على أن يمسوا ذلك المنبع بسوء , لأنهم هم ممثلوه و المنتفعون به , والمشتركون فيه !
   إن أقواتنا وأشياءنا تأتي لنا من مصدرين : مصدر داخلي مما نزرعه ونربيه ونصنعه في الداخل , ومصدر خارجي مما نستورده من مأكولات ومصنوعات وأدوات وخامات .
   و الدولة تعلم أن المالك يؤجر الفدان الواحد بخمسين وستين جنيها إلى ثمانين . فماذا تنتظر إلا أن تكون أسعار الحاصلات الناشئة من هذا الفدان عالية , وأسعار الماشية التي ترعى هذا الفدان عالية , وأسعار منتجات ألبانها كلها عالية . . . وما الذي يجدي أن تحارب الغلاء هنا في القاهرة , وتدعه في منبعه يتزايد ويتصاعد في سعار ؟
   إن الحل ميسور : أن تتحكم الدولة في التصدير والاستيراد , وأن تشتري لحسابها كل المحصولات التي تصدر إلى الخارج وفي أولها القطن بسعر يجزي الزارع , ثم تبيعها هي لحسابها بالأسعار العالمية , فأما الحصيلة الناشئة من الفرق , فتساهم بها في تخفيض سعر الواردات حين تباع للمستهلك , وتسد بها الفرق بين ثمن شرائها المرتفع وثمن بيعها المناسب للجماهير .
   وبعد ذلك لا قبله تجدي التسعيرة , وتجدي حملات التفتيش , ولكن من الذي يفعل ذلك . أهي حكومة الرأسمالية وبرلمان الرأسمالية ؟ ولحساب من . لحساب الجماهير . ومصلحة الجماهير ؟!
   والمشروعات المعطلة التي لا تنتهي أبدا , بينما الثروة القومية تنهار ومستوى الدخل الفردي ينحط , و المتعطلون يملأون جنبات الوادي . لم تُنَفذ ؟ لأن تنفيذها يقتضي مالا , و المال في جيوب الأثرياء . والأثرياء في الوزارة وفي البرلمان !!
   هذا و الجماهير تتصايح : يسقط ويحيا . و الحواة يلهونها بالجلاء و الوحدة . والاستعمار لا يحفل هذا الصياح , لأنه يعلم جيدا أن هذه بضاعة معدة للتصدير إلى الداخل , وأن مصالحه الأساسية مصونة , لا بجيوش الاحتلال , ولكن بالمحالفة الطبيعية التي بينه وبين رؤوس الأموال ! فما عليه أن تهتف الجماهير حتى تتمزق حناجرها , وهذه الجماهير لا تملك من الأمر شيئا , والذين يملكون الأمر كله يحرصون على بقائه سندا لهم ضد الجماهير , التي ستفرغ إلى تحقيق العدالة الاجتماعية في اللحظة التي تفرغ فيها من تسوية القضية المصرية .
   إن الغفلة و البله هما اللذان يصوران للجماهير في مصر أن حزبا ما في هذا البلد يرغب رغبة حقيقة في الجلاء و الوحدة , وفي حل القضية المصرية على أساس يبعد نفوذ الاستعمار , وقوة الاستعمار , وقوة الاستعمار . وأن هذه الأحزاب جميعا لتعلم أن تلك القضية هي "عدة الشغل!" التي تلعب عليها , فضلا على أن الاستعمار هو خط الدفاع الأخير لحماية المصالح الحقيقية التي تمثلها !
   كل ما هناك من فروق , هو فروق الأساليب التي تخاطب بها الجماهير ... فرجل كصدقي لم يكن يخفي حرصه على ربط مصر بعجلة الإمبراطورية عن طريق الدفاع المشترك . لأن الرجل كان يعرف حلفاءه الطبيعيين , وحلفاء اتحاد الصناعات الذي كان على رأسه . . .فأما الآخرون فقد يهتفون مع الجماهير : يسقط الاستعمار . . كي تذهب الجماهير فتستنيم , أو لتشق حناجرها بالهتاف للمجاهدين ! وذلك اعتمادا على غفلة الجماهير الساذجة , وأنها لا تدرك المحالفة الطبيعية بين مصالح الاستعمار الحقيقية في هذه البلاد , والمصالح الحقيقية التي تمثلها كل الأحزاب !
فأما الصحافة فليست في وضع يمكنها من الوقوف في صف الجماهير ضد الطغاة و المستغلين , ولا ضد الاستعمار و وراءه الرأسمالية العالمية القوية .
   إن الصحيفة مؤسسة تجارية قبل كل شيء , وعليها أن توازن ميزانيتها على الأقل لتعيش , وقد أصبحت المنافسة الصحفية عنيفة في دائرة القراء المحدودين , وهذه المنافسة تقتضي تحسينات صحفية , وتكاليف متصاعدة , وموارد مالية كبيرة .
    والرواج في التوزيع لا يقلل من نفقات الجريدة , بل يزيد خسائرها إذا وقفت عند حدود البيع . ذلك أن تكاليف النسخة الواحدة من أية جريدة كبيرة , يومية أو أسبوعية , أكثر من السعر الذي تباع به هذه النسخة في السوق . وهذه حقيقة قوية يجب أن تكون في الحساب , ليعرف الجمهور الكادح أنه ليس هو الذي يمول الجريدة الرائجة بقروشه ملاليمه ! إنما تعتمد هذه الصحف في وجودها وبقائها وربحها على موارد أخرى غير القروش و الملاليم . تعتمد أولا على الإعلانات . وهذه الإعلانات تملكها شركات رأسمالية ضخمة , تخدم بدورها المؤسسات الرأسمالية التي تتولى الإعلان عنها .. وتعتمد ثانيا على المصروفات السرية المؤقتة أو الدائمة : المؤقتة التي تدفعها الوزارات لصحافتها الحزبية , أو الصحف التي تريد شراءها , أو ضمان حيادها , (وهي في العادة دفعات ضخمة ) . و الدائمة التي تتولى إدارة المطبوعات صرفها إما لصحف وإما لصحفيين بصفة دائمة على اختلاف العهود و لخدمة الأغراض الحكومية الدائمة التي لا تتعلق بحزب دون حزب .. وتعتمد ثالثا على المصروفات السرية  لأقلام المخابرات الدولية , وبخاصة إنجلترا وأمريكا .. ذلك عدا نفقات الدعاية المباشرة للشركات وللبيوتات ولبعض الجهات .
   هذه الموارد هي التي تعوض الفرق بين تكاليف النسخة و سعرها الذي تباع به في السوق .ثم تشتري المطابع الضخمة و توفر وسائل الدعاية والإعلان للصحيفة . فأما الرواج وحدة بارتفاع مقطوعية البيع , فقد كان من شأنه أن يضاعف خسائر هذه الصحف لا أن يكون سببا للربح , فكلما زاد عدد النسخ زادت الخسارة!
   إن فائدة الرواج في مقطوعية البيع فائدة غير مباشرة , ذلك أنها ترفع سعر الإعلان في الصحيفة , وترفع سعرها في دائرة المصروفات السرية , داخلية كانت أو خارجية , وهذه هي كل قيمة الرواج بالنسبة إلى أية صحيفة .
   فإذا عرفنا هذه الحقيقة أدركنا أن الصحافة ليست في وضع يمكنها من الوقوف في صف الجماهير . إنما هي تعطي الجماهير بقدر القروش الملاليم التي تدفعها ثمنا للنسخ الموزعة , وتعطي الممولين الحقيقيين : سواء كانوا أصحاب المؤسسات الرأسمالية , أو الجهات الحكومية , أو أقلام المخابرات الدولية بقدر جنيهاتها و دولاراتها , وتقسم جهودها بين الفريقين قسمة بارعة تناسب غفلة الجماهير وسذاجتها , وذكاء الجبهة الأخرى وخبرتها !
فأما صحافة الرأي التي تعمل للجماهير الكادحة وحدها , فهي مطاردة من الدولة , ومن الرأسمالية المحلية و العالمية , ومن قوى الاستعمار جميعا ... ثم هي مطاردة من الجماهير الساذجة ذاتها , لأن مواردها لا تسمح لها بالمظاهر الصحفية الخلابة , ولأن ضمائرها لا تسمح لها بصور الأفخاذ والنهود , وبتلهية الجماهير نفسها , ولا تقف بجانبها بقروشها وملاليمها , على حين تستند الصحافة الأخرى إلى الجنيهات و الدولارات المتدفقة من الجبهة الأخرى .
   إن صور الأفخاذ و النهود هي للتسلية التي تقدمها صحافة الرأسماليين للجماهير المحرومة , كي تلهيها عن استمتاع الرأسماليين الفاجر بتلك الأفخاذ و النهود الحقيقية لا بصورها !.. والدردشة الفارغة التي تملأ صفحات وصفحات , هي المخدر الذي تسرق به هذه الصحف جهد القارئ واهتمامه , لتشغله عما هو فيه من بؤس وحرمان . وما يمكن أن يخدم الرأسمالية أحد , كما يخدمها بهاتين الوسيلتين الخبيثتين , اللتين تقبل عليهما الجماهير البلهاء إقبالها على الحشيش والأفيون !

* * *
   واليوم تبشر الرأسمالية الجماهير المحرومة ببشارة جديدة .. تبشرها بجهود هيئة الأمم في محاربة الفقر , وبحلقات الدراسات الاجتماعية التي تشرف عليها لدراسة مشكلات الجماهير , وبالنقطة الرابعة في برنامج ترومان .
   فماذا بالله يريد الجاحدون في هذا البلد العاق , الذي لا يعرف الفضل , ولا الشكر الجميل ؟
   فأما الرأسمالية في هذا البلد فهي حريصة على الاستفادة من جهود هيئة الأمم هذه , وهي حفية بحلقات الدراسة الاجتماعية التي تعقدها , وتنشر الصحف أخبارها , وتشغل بها الناس أياما وأسابيع . أليست وسيلة أساسية من وسائل تلهية الجماهير وتخديرها وإنامتها إلى حين ؟!
   وصحافتها لا تني تنشر بالخط العريض تلك الأنباء الناطقة بعطف المنظمات الدولية واهتمامها البالغ بقضية العدالة الاجتماعية في مصر .
   أليست وسيلة بارعة وسائل استمالة الجماهير إلى الاستعمار , لتلقى عليه أعباءها الثقال , وتكل إليه تحقيق العدالة الاجتماعية التي تتلهف عليها ولا تراها؟!
   ولكن الجماهير ينبغي أن تعلم أن المصلحة المشتركة بين الرأسمالية العالمية تعقد بين ممثليها جميعا في الشرق و الغرب حلفا طبيعيا , ضد الجماهير ومصالح الجماهير . وأن المصالح المشتركة بين الاستعمار والرأسمالية المحلية تعقد بينهما كذلك محالفة طبيعية قوية الأواصر .
   ينبغي أن تدرك الجماهير أن الاستعمار لا يحب أن يواجه الجماهير بوجهه الكالح , فلابد من ستار , يحكم بواسطته , وينفذ أغراضه عن طريقه , ويضمن مصالحه بواسطته . هذا الستار هو الطبقة الرأسمالية الحاكمة , التي يكل إليها مقاليد الأمور ويستريح , ومحال أن يحاربها أو أن تحاربه إلى الحد الذي يقتل أو يضعف , ويمكن للجماهير .
   ينبغي أن تعرف الجماهير أن الاستعمار منذ قدومه قد عمل على تكوين هذه الطبقة . وأن الخونة الذين مهدوا له الطريق , وخذلوا الجيش المصري أو خانوه أو غشوه , قد أغدق عليهم الاستعمار ومكن لهم في الأرض , وذرياتهم اليوم من أصحاب البيوتات في مصر ومن ذوي الضياع الواسعة , وممن يسمون في هذا البلد المسكين :"أصحاب البيوت الكريمة العريقة!"
   وأخيرا يجب أن تعرف الجماهير أن الاستعمار حريص على تجويع الجماهير . لأنه يعرف ـ كما قال ممثله مرة "جورج لويد" في كتابه : أن الرخاء في سنة 1919 هو الذي شجع على قيام الثورة المصرية . لهذا يجب أن تجوع الجماهير في مصر . كي لا تفيق من البحث عن اللقمة , فتتجه للثورة على الاستعمار من جديد !
* * *
    بقيت الشيوعية التي يحلم بها الكسالى في مصر على دخان الحشيش وخدره اللذيذ ! .
   هم يقولون لك : لا فائدة ! فلتنتظر الخلاص على يدي "بابا ستالين "!
   إن الرأسمالية ستحارب كل دعوة إلى العدالة الاجتماعية , وتناهضها بالقوة و بالحيلة و بالمال , وبشراء الذمم واستغفال الجماهير .
   كل هذا صحيح ! ولكن متى انتصرت قضية واحدة في تاريخ الدنيا بغير صراع قصير أو طويل ؟
   إن الشعوب التي لا تكافح من أجل الحرية لن تستحق الحرية . وإذا نحن جلسنا مستريحين , ندخن الحشيش , أو نحلم بالأماني , فستأتي الشيوعية ــ لو جاءت ــ لتجدنا ذيولا ذليلة , تسومنا سوم العبيد .
   إن الكرامة الإنسانية وحدها توجب علينا أن نعمل شيئا نستحق به الخلاص و الحرية . وإلا فسنخرج من ذل إلى ذل , يتغير عنوانه , ويتبدل أسياده , و العبيد هم العبيد !

* * *
الآن أيتها الجماهير . . لقد تبين أن أحدا لن يمد يده إليك ما لم تمدي أنت يدك إليك ! وأن الطرق جميعا لا تؤدي إلى الخلاص الحق , اللهم إلا طريقك الواحد الأصيل !
   أيتها الجماهير .. لقد تعين لك طريق الكرامة الإنسانية , وطريق العدالة الاجتماعية , وطريق المجد الذي عرفته الأمة الإسلامية مرة , و الذي تملك أن تعرفه مرة أخرى .. لو تفيق .
   أيتها الجماهير . . ها هو ذا الإسلام حاضر يلبي كل راغب في العزة والاستعلاء و السيادة . وكل راغب في المساواة و الحرية و العدالة . وكل من يؤمن بنفسه وقومه ووطنه . وكل من يشعر أن له مكانا كريما في ذلك الوجود .
  أيتها الجماهير .. هذا هو الطريق .. هذا هو الطريق ..
سيد قطب

عداوات الشيوعية و الشيوعيين


سيد قطب
عداوات حول حكم الإسلام
عداوات الشيوعية و الشيوعيين
   الشيوعية دعوة قاست من رجال الدين الأمرّين , وهي تكافح لتحطيم حكم القياصرة , وإعطاء الجماهير ضروريات حياتها التي كانت محرومة منها .
   وهي نظرية فلسفية تنكر أن يكون في هذه الحياة مؤثر في سيرها , خارج عن مادتها , فهي تنكر منذ اللحظة الأولى أن يكون هناك إله , ليس كمثله شيء في هذه الحياة .
   وهي تقرر أن المؤثرات في سير التاريخ كلها ناشئة من الماديات الواقعية . فهي تنكر منذ اللحظة الأولى أن يكون هناك رسل يوحى إليهم .
   وهي تعتنق مذهب التفسير المادي للتاريخ . فهي تنكر منذ اللحظة الأولى أن يكون للأفراد ــ رسلا أو أبطالا ــ أدوار إنشائية في تطور المجتمع .
   وهي ــ على ما فيها في الجانب الاقتصادي من موافقات كثيرة لبعض النظم الإسلامية ــ تناقض فكرة الإسلام الأساسية عن الكون و الحياة والإنسان , وتعاديه عداء شديدا بسبب هذا الاختلاف الأساسي في طبيعة التفكير .
   والشيوعية تعد نفسها في مرحلة حرب وكفاح , فكل عقيدة فيها جانب للروح , و فيها حساب لله , تعدها الشيوعية عدوة لها , ولو كانت هنالك مشابه كثيرة في الجانب الاقتصادي بينهما . بل إن الشيوعية لتعادي الإسلام أكثر مما تعادي المسيحية , لأن المسيحية لن تعد قوة إيجابية في طريقها , ولأن الإسلام يملك أن يحقق عدالة اجتماعية اقتصادية ــ بجانب احتفاظه بالله في العقيدة واحتفاظه بالروح في الحياة ــ ومثل هذا خطر كل الخطورة على الدعوة الشيوعية التي تعتمد أول ما تعتمد على سوء الأحوال الاجتماعية , ويأس الجماهير من أن تجد لها طريقا إلى العدالة غير الشرعية .
وقد أحست الشيوعية هذا في السنوات الأخيرة , فأخذت تجند لمحاربة الدعوة إلى الحكم الإسلامي جهودها , وتبث ضد هذه الفكرة دعايتها . وهذه الدعاية تأخذ  طريقها في شعبتين : الشعبة الأولى : هي تشويه صورة الحكم الإسلامي, مستغلة تلك الصورة المزورة للحكومة الإسلامية في بعض الشعوب الشرقية . وبيان عدم جدية هذا الحكم , وغموض الأسس التي يتركن إليها وصلاحية هذا الغموض للتأويل والاستغلال ضد الجماهير , وضد الحرية و المفكرين الأحرار .
   والشعبة الثانية: هي الإلحاح في القول بأن العالم ينقسم فقط إلى كتلتين اثنتين : الشرقية و الغربية . وأن عدم الانضمام إلى الجبهة الشرقية , معناه تقوية الجبهة الغربية . وكذلك أي تفكير في إيجاد كتلة ثالثة و معناه تجزئة القوى مما يقوي جبهة الرأسمالية !
   ولقد كشفنا ما في هذا القول وذاك من مغالطة , وما يخفي وراءه من أغراض . و المهم أن يفطم الناس حين يسمعون الدعوة ضد الحكم الإسلامي إلى بواعثها الحقيقة .
   إن الشيوعيين يتعصبون لمذهبهم تعصبا يجعله في نظرهم غاية في ذاته , لا وسيلة لتحقيق عدالة اجتماعية , لذلك يهمهم أن يسدوا في وجوه الجماهير أي طريق آخر يمكن أن يحقق لها عدالة حقيقية , كي لا يبقى هنالك إلا طريق واحد : طريق الشيوعية .
   ولا يجوز أن نغفل كذلك أن ليس التعصب المذهبي وحده هو الذي يملي على دعاة الشيوعية خطتهم , بل إن الدولة الروسية لها من ذلك شيء ! فالشيوعية وسيلة إلى السيطرة على كل دولة تعتنقها , وليس مجرد اعتناقها كافيا إن هي رفضت النفوذ الروسي . وهذه يوغوسلافيا شيوعية لا يطعن أحد في شيوعيتها , ولكنها رفعت رأسها أمام ذلك النفوذ , فحلت عليها اللعنة , ولم تشفع لها شيوعيتها !
   وفي مصر تتدخل عوامل أخرى غير التعصب للشيوعية , ويجب أن نحسب لهذه العوامل حسابها .. أن في مصر شيوعيين لأنهم يحبون الشيوعية , بل لأنهم يكرهون الإسلام , فكل ما يحارب الإسلام إذن هو لها صديق !
   وهم يتظاهرون أمام المغفلين من المسلمين بأنهم مجردون من كل تعصب ديني , ولا يحفلون كل الأديان : وهم في حقيقتهم صليبيون , ينصبون للإسلام وحده "وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ"!
   وما أحب أن أفيض في هذا الموضوع , ولكن أحب أن أنبه كل مسلم من الأبرياء الذين تخدعهم هذه المؤامرة إلى أن يتأكد من الباعث الأول على الطعن في الإسلام وحكم الإسلام . فقد لا تكون الشيوعية إلا ستارا لذلك الطعن الخبيث . وأحب لكل فتى من فتيان المسلمين انزلقت خطاه إلى خلية شيوعية , أن يلتفت , فإن وجد فيها معه أحد من هؤلاء الصليبيين المستترين , فليأخذ حذره أنها عمل لحساب الصليبية , لا لحساب الشيوعية , ولا العدالة الاجتماعية .
   و وددت أن أنتهي إلى هذا الحد في الفصل , أولا دعاية تنبض في خاطري حول بعض شيوعيينا المصريين الأعزاء , الذين يتحدثون أحيانا ضد حكومة الإسلام !
   معظم هؤلاء الأعزاء , يتناولون الحديث في هذه الشؤون , وهم "منسجمون" في خدر الحشيش اللذيذ , وأمامهم جمرات الفحم وحولها دخان النرجيلة المناوي !
   هؤلاء الرفاق المِرَيّحون , لا يريدون مواجهة الواقع السيئ في دنيا الناس ــ ونحن نشفق عليهم فهم ضحايا بريئة لذلك الواقع الأليم ــ وهم يهربون منه في خدر الحشيش اللذيذ , يحلمون الأحلام المريحة عن "بابا ستالين" وهو يدس لهم في " شجرة الهدايا " عدالة اجتماعية لذيذة , لا يتعبون حتى في تناولها .
   فما لهم إذن ولهذا الإسلام المتعب , الذي يكلفهم جهدا ومشقة , بل ويفرض عليهم الصحو و العمل . . دعنا يا عم دعنا من هذا الإسلام , ومن متاعبه الجسام . وغدا نصحو من المنام , على وقع خطوات "ستالين الهمام" .


سيد قطب


والآن أيتها الجماهير ...

عداوات المستهترين و المنحلين


سيد قطب
عداوات حول حكم الإسلام
عداوات المستهترين و المنحلين
   لقد انتهينا في مصر إلى مجتمع منحل مستهتر مريض . بفعل جميع العوامل السيئة الناشئة من الاختلال الاجتماعي الذي وصفنا أعراضه فيما سبق , والناشئة كذلك من التيار العالمي المنحدر بين الحربين العالميتين الكبيرتين , الحروب بطبيعتها تخلخل بناء المجتمع , وتجرف معها الاستهتار والانحلال على الأقل بحكم التعرض للخطر و الموت , الذي يجعل انتهاب اللذائذ المتاحة أمرا تدفع إليه دوافع الفطرة و الضرورة .
   وأيا ما كانت الأسباب , فقد انتهينا إلى مجتمع تشيع فيه الفاحشة , ويطفو على سطحه الاستهتار , ويبدو الانحلال في كل جوانبه . سواء ما يتعلق بالجنس , وما يتعلق بالمخدرات , وما يتعلق بالذمة و الضمير و الخلق في العمل و السلوك .
   هذه الجموع المستهترة المنحلة من الرجال و النساء يهولها ــ من غير شك ــ أن تسمع شيئا عن حدود الإسلام , التي تفزع الفاحشين و الفاحشات , بل عن أوامره ونواهيه التي تكبح النفوس وتزجر الجناة , وتمنعهم بحكم العرف وحكم القانون من التبجح والاستهتار .
   وتدخل الأوكار النسوية المتناثرة هنا وهناك في هذا المجال , تلك الأوكار التي تشتغل بتفاهاتها الفارغات من النسوة و الفتيات , على سنة الفراغ و التبطل الموحي بكل تافه من الأفكار والأعمال .
   ولقد أسلفت أن لا خوف من الإسلام على امرأة فاضلة , تزاول نشاطها الإنساني في حدود الشرف والكرامة . ولكن هذه الأوكار التي أعنيها تعرف أن هذا الشرط لا ينطبق على نشاطها , وأن الحرية الواسعة الكريمة التي يمنحها الإسلام للمرأة , لا تسع ذلك اللون من النشاط !
   هذه الجموع من الرجال و النساء , ومن الشبان و الفتيات , هذه الجموع التي لا تجد في الحرية الواسعة الكريمة التي يتيحها الإسلام للشرفاء والشريفات , كفاية لنشاطها . . تفرغ من حكم الإسلام , بحاسة الخوف على الذات , وحب السلامة , والأمن الذي تيسره لها الأوضاع الاجتماعية القائمة , بما فيها من انحلال و اختلال . فهي إذن بطبيعتها عدوة لحكم الإسلام الذي ليس فيه لها أمان !
   وتملك هذه الجموع نوادي وصحفا , كما تملك نفوذا في جهاز الحكم ومرافق المجتمع , بل إن نفوذها ليفرق كل نفوذ آخر في هذه البلاد ! إنه النفوذ الذي يرتكن إلى شهوات الجسم ونزوات الجسد , وإلى المال وإلى الحكم , ويستخدم كل هذه القوى في مقاومة كل نظام يمكن أن يحد من الفوضى , وذلك الفساد .
   وما زلت أذكر منذ سنوات كلمة أحد الوزراء في ذلك العهد , في رواق من أروقة مجلس النواب , وقد خرج في أثناء مناقشة حادة حول "إلغاء بيوت الدعارة العلنية ومكافحة بيوتها السرية" .. قال ــ لا بارك الله له في بدن ولا عافية !ــ "ونحن إذن أين نذهب ؟" واتبعها بقهقهة غليظة تابعه فيها الذيول والأذناب !
   مثل هذا الوزير كثيرون في مصر. . . وكثيرات ! يسمون هذه الفوضى الحيوانية السائدة في مصر حرية , ويسميها بعضهم تقدما وحضارة , ويباهي بالحديث فيها بشعور الحيوان المنطلق الشهوات . وبعضهم يسميها طلاقة فنية , لأن الفن في نظرهم لا يكون إلا إباحية قذرة مريضة , وكأن الفن لا يعمر روح "إنسان" !
   وما أريد أن أخط هنا خطبة منبرية في الوعظ الشريف , كالتي صاغها أقلام السادة الأجلاء من كبار العلماء ! ولكني أريد أن أدل على أن اختلال المجتمع المصري قد آتى كل ثماره الخبيثة العفنة الكريهة , وأن الحكم الإسلامي سيتولى علاج هذه الثمار باجتثاث الأصل الذي يطلعها , بل بتطهير التربة التي تنبت فيها .
   والذي ضد حكم الإسلام , إنما ينبعث من المواخر والأوكار و الجيف الطافية على وجه ذلك المستنقع الآسن الفسيح . المستنقع الذي لا يخوض فيه اللصوص و السكارى و النخاسون و الرقيق الأبيض فحسب بل تخوض فيه رؤوس كبيرة كثيرة في هذا البلد , وبيوتات فوق مستوى الشبهات !
   فإذا سمع الناس هذه الضجة ضد حكم الإسلام , ورأوا احتفالا بمثيريها الأقزام , فليعرفوا أن الزفة ليست للقزم الذي يلبس الريش , ولكن للمستنقع الذي تخشى ديدانه من المطهر الفتاك !

سيد قطب

عداوات الشيوعية و الشيوعيين

عداوات المستغلين و الطغاة


سيد قطب
عداوات حول حكم الإسلام
عداوات المستغلين و الطغاة
سلفت الإشارة إلى ما بين حكم الإسلام و بين المستغلين و الطغاة من صدام , إلا أن يكون الإسلام ستارا وهميا , لا حقيقة واقعة . ولكن الطغاة و المستغلين لا يطمئنون أبدا إلى دوام الغفلة من الجماهير , ولا يأمنون أن تستيقظ وهي في ظل حكم إسلامي . فتطالب بحقيقته لا قشوره , ويصبح في يدها يومئذ سلاح قوي , وحجة يصعب تفنيدها , و منبه كان يستخدم من قبل للتخدير !
   وإن المستغلين و الطغاة ليعرفوا جيدا أن الجماهير تصعب قيادتها و تسخيرها ضد عقيدتها الدينية , فهم يرخصون لها بقشور هذه العقيدة وبخرافاتها , فأما أن تصبح حقيقة وجَدّا , فدون هذا وتتحرك الرغبة في الدفاع عن النفس و الدفاع عن المصلحة , و هما في واد و الحكم الإسلامي في واد .
   إنه لا ضير من الإسلام حين يكون تمتمة بالشفاة وطقطقة بحبات المسابح , أو أدعية و ترتيل , أو محملا يطاف به سبعا , ويسلم مقود الجمل الذي يحمله رسميا ! أو مولدا تطلق فيه "السواريخ" أو مشيخة طرق أو نقابة أشراف تخلع فيها الخلع وتمنح فيها الألقاب . . إلى آخر أجهزة التخدير التي يستغلها الطغاة و المستغلون ليلهوا بها الجماهير فأما حين يصبح حكما جادا ينفذ شرائع الإسلام في الحكم و المال , ويمنح الحقوق الإنسانية والاجتماعية و القانونية لكل فرد وكل جماعة , ولا يفرق بين الشعائر التعبدية و الشرائع القانونية .. فدون هذا ويصبح الإسلام خطرا يتقي , وكارثة تدفع , ومعركة يخوضها الطغاة و المستغلون بكل ما يملكون !
   وحينئذ يخلو الاستعمار إلى الاستغلال , ويخلو الاستغلال إلى الاستعمار , وتتلاقى مصلحتهما المشتركة في دفع هذا الخطر , و رد هذا الأذى , و الوقوف في وجه الطوفان , الذي لو اندفع لأغرق هؤلاء و هؤلاء !
  وحينئذ يستهين هؤلاء وهؤلاء حتى بخطر الشيوعية , الذي لا يقاومه شيء كما تقاومه العدالة الإسلامية . لأن الشيوعية خارج الأبواب , تمكن مدافعتها بالقوة و بالمغالطة . والإسلام داخل الأبواب , ومعه حجته التي تصعب فيها المغالطة والالتواء !
   إن الإسلام الذي يثير في نفس الفرد العزة و الكرامة , ويمنعه الخضوع لحكم يخالف شريعته , ويمنحه الامتداد والاستعلاء أمام كل سلطة و كل جبروت .. وهذا الإسلام لا يوافق السلطات الاستبدادية في الحكم , ولا يضمن معه المستبدون البقاء .
   وإن الإسلام الذي يضع في يد الدولة تلك السلطات الواسعة , لتحدد الملكيات و الثروات , ولتأخذ منها لإصلاح المجتمع وتدع ما لا يضر , ولتتحكم في إيجارات العقار , وفي نسب الأجور , ولتؤمم المرافق العامة , و تمنع الاحتكار , و لتحرم الربا و الربح الفاحش والاستغلال .. هذا الإسلام لا يوافق الطبقات المستغِلة , ولا يضمن معه المستغِلون البقاء .
    وعندئذ لا يسلط المستبدون و المستغِلون على دعوة الإسلام الحديد و النار فحسب , بل يسلطون عليها رجال الدين المحترفين و الكتاب المأجورين , و الصحافة الهازلة , تتخذ منها غرضا للتهكم , وموضوعا للسخرية , ويجد فيها التافهون من فتيان الصحافة في مصر مادة للتسلية تتفق مع تفاهة تفكيرهم , وضحالة ثقافتهم , وضآلة شأنهم في أية حياة أخرى جادة كريمة , كالحياة الدافقة في ظل الإسلام .
   و العجيب أن جماعة من المفكرين الجادين , ينساقون كذلك مع التيار , ويؤمنون بذلك الإيحاء الذي تسلطه الرأسمالية على دعوة الإسلام , فيتصورون أن الحكم الإسلامي سينالهم بالأذى , ويشفقون منه على حرية الفكر , كما تخوّفهم أبواق المستغلين و الطغاة !
  إن حكم الإسلام لن يمس تفكيرا مستقيما بسوء , و لن يمس وضعا مستقيما بأذى . ولكنه حرب على الأوضاع الظالمة , و السلطات الفاشية , و مادة قاتلة للتفكير الأعوج و الهذر السخيف , لا بقوة الحديد و النار على طريقة حكم الاستبداد , و لكن بالجدل الحسن , و بدفعة الحياة الجادة التي لا تسمح بالهذر الفارغ , ولا تجد المتبطلين الذين يستمعون إلى هذا الهذر في جد الحياة .

معركة الإسلام و الرأسمالية
سيد قطب
عداوات حول حكم الإسلام
عداوات المحترفين من رجال الدين
   لعل أغرب العداوات لحكم الإسلام هي عداوة المحترفين من رجال الدين , المحترفين على اختلاف مللهم ونحلهم و فرقهم وطرائقهم . ولكنها في الواقع ليست غريبة إلا ظاهر الأشياء . إن هؤلاء جميعا إنما يعرفون أن ليس في الإسلام "رجال دين" يرتزقون باسم الدين وحده ولا يؤدون عملا آخر منه يأكلون .
   إن الدين ليس حرفة في الإسلام , إلا إن يكون اشتغالا بتعليم الناس , شأنه شأن أية مادة من مواد المعرفة الإنسانية الأخرى . أو قضاء في أحوالهم المختلفة شأنه شأن أي تخصص في عمل من الأعمال .
   وأن هؤلاء جميعا ليعرفون أن الإسلام يطارد الدجالين , الذين يجمعون حوله الترهات و الخرافات , فالإسلام عقيدة بسيطة واضحة , لا تعتمد على المعجزات و الكرامات و الشفاعات و الدعوات . إنما تعتمد على العقيدة المستقيمة , و السلوك النظيف , و العمل الصالح , و الجد و الإنتاج .
   ولو حكم الإسلام فسيكون أول عمل له أن يطارد المتبطلين الذين لا يعملون شيئا ويعيشون باسم الدين , و الدجالين الذين يلبسون وضوح الإسلام بغموض الأساطير , و يستغفلون باسمه عقول الجماهير , الدراويش الذين لا يعرف لهم الإسلام مكانا في ساحته , لا عملا في دولته . وهم في مصر كثير جد كثير .
   و المحترفون من رجال الدين يعرفون أن لهم وظيفة أساسية في المجتمعات الإقطاعية و الرأسمالية , وظيفة ترزقهم الدولة عليها و تيسر لهم مزاولتها و الكسب منها في المجتمع .. تلك هي وظيفة التخدير و التغرير بالجماهير الكادحة العاملة المستغلة المحرومة , فأما حين يحكم الإسلام , فيعطي هذه الجماهير حقها , و يكف المستغلين و المستبدين عنها , و يحدد الثراء الفاحش الذي يؤذي بمجرد وجوده نفوس المحرومين الممنوعين . . حين يتم هذا فما وظيفة هؤلاء المحترفين في المجتمع ؟ وما مكانهم في الدولة ؟ وما عملهم في الجماهير ؟
   إن حرفة الدين جزء من النظم الاجتماعية المختلة , و قطعة أصيلة من أجهزة الحكم فيها , فإذا صحت تلك الأوضاع , وسلمت تلك الأجهزة , فحرفة الدين تصبح بلا طلب ولا ضرورة , لأن الدين ذاته سيستحيل عملا وسلوكا , و نظاما ومجتمعا , ولا يظل أقوالا وشعائر وتمتمة و تراتيل .
   وتلك حقيقة واضحة لا يدركها أولئك المحترفين بأفكارهم وعقولهم , فهم يدركونها بحسهم و فطرتهم . وما ينبغي أن نشك في ذكاء هذا الفريق من الناس فإن الكثيرين منهم طاقة كبيرة من الذكاء و المهارة و البراعة , يستغلونها استغلال الحواة , ويستخدمونها استخدام السحرة , ولو عاشوا في ظل نظام صالح يستغل هذه الطاقة استغلالا سليما , فربما كسب المجتمع منها كسبا عظيما ! فأما الآن فهم مجرد تروس في جهاز الاستغلال . وهم مستنفعون مستغِلون بدورهم , وهم يدركون أخطار الحكم الإسلامي , وأقل هذه الأخطار الاستغناء عن خدمتهم السلبية التي لا يعرفها الإسلام !

سيد قطب

عداوات المستهترين و المنحلين

عداوات المستعمرين


سيد قطب
عداوات حول حكم الإسلام
عداوات المستعمرين
   يصعب الفصل بين عداء الصليبية للإسلام وعداء الاستعمار . فكلاهما يغذي الآخر ويسنده ويبرره . والإسلام عقيدة استعلاء تكافح الاستعمار حين تستيقظ في نفوس أصحابها ، ورجعة الحكم إلى الإسلام توقظ هذه الروح بشدة ، فتفسد على الاستعمار خطة الاستغلال والاستذلال .
   إن الإسلام يحرم على أتباعه أن يخضعوا لأي حكم أجنبي ، بل لأي تشريع لا يتفق مع شريعة الإسلام . وتلك عقبة في طريق الاستعمار كؤود . والمستعمرون ليسوا في غفلة مثقفينا الفضلاء ، ولا في بلاهة حكامنا النابغين ! إنهم يقيمون استعمارهم على دراسات كاملة متشعبة لكل مقومات الشعوب التي يستعمرونها ، كي يقتلوا بذور المقاومة ، أو يتفادوها أو يداروها . وقد قام الاستشراق على هذا الأساس . قام ليساعد الاستعمار من الوجهة العلمية ، وليمد جذوره في التربة العقلية كذلك . ولكننا نحن هنا نعبد المستشرقين ببلاهة ، ونعتقد في سذاجة أنهم رهبان العلم والمعرفة ، وأنهم بعدوا عن نشأتهم الأولى ، وقطعوا صلتهم بالعلة التي نشأوا منها ! وبخاصة إذا مَوَّه علينا بعضهم بكلمة طيبة تقال عن ديننا وعن نبينا ، كي تكون هي الطعم لتستنيم أفكارنا إلى الإيحاء في ناحية أخرى !
   وإن الإنسان ليضحك أحيانا ــ ولو أنه ضحك مر ــ و "المثقفون!" فينا يتعالمون بالحديث عن "الإخلاص العلمي" للمستشرقين . فإذا خطر لك أن تتشكك في براءة هؤلاء القديسين , فأنت غير مثقف ! أو متعصب تحشر الدين في كل مجال !
   ومرة أخرى تسأل : ألا مَن للأقزام بمن يقنعهم أنهم ليسوا بعد إلا أقزام ؟!
   ولقد كان الإنجليز يعرفون أن جيوش الاحتلال ستترك مصر يوما ما , وإن قريبا وإن بعيدا . فلم يكن لهم بد من أسناد للاستعمار غير جيوش الاحتلال . فأقاموا هذه الأسناد في الميدان الاقتصادي لاحتلال الأسواق المصرية ومحاولة إغلاق الأسواق العالمية الأخرى في وجه الحاصلات المصرية , وأقاموها في دنيا المال بتبعية نقدنا لنقدهم أو لخزانتهم ...إلخ .
   ولكن هذه الأسناد كلها لم تكن لتقوى على البقاء , لولا الاستعمار الروحي و الفكري الذي عنى به الاستعمار في خلال القرن الماضي , وما يزال يُوَلّيه أكبر عناية في هذه الأيام . لقد ذهب الانجليز البيض من الدواوين ليحل محلهم " الانجليز السمر " من المصريين المقربين ، المستعمرة أرواحهم وأفكارهم ، المصنوعين على عين الاستعمار ، لأداء أغراض الاستعمار .. وكانت عناية الانجليز البيض شديدة بوزارة المعارف بوصفها المشرفة على تكوين الأجيال ، حتى إذا ما تركوها اليوم للانجليز السمر تركوها مطمئنين ، فما تزال النظم والبرامج والكتب وطرائق التدريس كلها تعمل للاستعمار الروحي والفكري في نفوس الأجيال . وكلها إيحاءات بنبذ العنصر الديني ! وبإقصاء الإسلام لا عن الحكم وحده بل عن الحياة جميعا .
   لقد ربى الاحتلال أجيالا متعاقبة , ما تزال تتكاثر بحكم العقلية المشرفة على وزارة المعارف , تنظر إلى الإسلام على أنه بقية من بقايا التأخر والانحطاط , وتعد التجرد منه تجردا من تهمة الجمود و الجهل , ودليلا على "الثقافة!" و التحرر .
   وبرامج التاريخ في المدرسة المصرية وكتبه على وجه خاص من أمكر ما يستطيع الاستعمار أن يصنع , ومن أفتك ما يقتل الروح القومية و الروح الدينية سواء , فالطالب الثانوي ــ بل الجامعي ــ يخرج من دراسة التاريخ ــ بما في ذلك التاريخ الإسلامي ــ لا يعرف شيئا عن فكرة الإسلام الاجتماعية , ونظرته الإنسانية , وكل ما يدرسه غزوات وحروب , ووقائع وأحداث , ينتهي منها إلى أن الإسلام كان معركة حربية , ولم يكن يوما ما معركة فكرية ولا اجتماعية ولا إنسانية !
   وساعد الاستعمار على تشويه الفكرة الإسلامية كلها عامل آخر . عامل لم يكن الاستعمار ليجد أفتك منه ولا أفعل في تشويه الإسلام . أولئك الذين اصطلح الناس على أن يسموهم رجال دين , من الأشياخ و الدراويش , يمثلون جمود الفكر , وضيق الأفق , أو يمثلون الخرافة و الجهالة , ثم يصبغون ذلك كله بصبغة الدين , فيظهرونه بشعا شائها منفرا , فيذهبون بكرامة الدين وجديته واحترامه , وبخاصة حين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا , فيناصرون الاستغلال و الطغيان , باسم الإسلام , وباسم القرآن !
   وبذلك تعاون التعليم الاستعماري القائم في وزارة المعارف بإشراف مصنوعات الاحتلال المشرفة على البرامج و النظم و المناهج و الكتب , مع رجال الدين المزعومين , على أن يبلغ الاحتلال غايته , وأن يبلغ الاستعمار الروحي و الفكري ذروته , حتى بعد ذهاب الاحتلال !
    وفي عناية الانجليز بوزارة المعارف تضرب مقالا قريبا حاضرا قد لا يلتفت إليه الكثيرون .
   لقد كان الإنجليز يعرفون أن في مصر رجلا اسمه الدكتور طه حسين . وكان الدكتور طه هو الدكتور طه الكاتب الأديب الأستاذ الجامعي كما هو . لم يزد عليه إلا أن أصبح يوما وزيرا للمعارف .
    وكان الإنجليز يعرفون أن ميول الرجل ــ حسب ثقافته ــ ميول فرنسية . فلما أن صارت إليه وزارة المعارف , أدركوا أن هنالك خطرا على الثقافة الإنجليزية قد يصيبها مع وجود هذا الوزير.
   وهنا فقط تذكروا أن طه حسين أديب كبير , يستحق الدعوة إلى إنجلترا , و الضيافة على الحكومة البريطانية , و المعهد البريطاني , و التكريم بالألقاب الجامعية من جامعات الانجليز . فقط عندما صار وزيرا للمعارف .
   إنه الاستعمار يخشى على حبائله في وزارة المعارف أن تنكشف أو أن تتزعزع !
    والاستعمار يقوم في وجه الحكم الإسلامي , لغرض معلوم مفهوم , وهو منطقي مع نفسه , فما يعقل وهو يحارب الإسلام عقيدة مستكنة , أن يدع هذه العقيدة تستحيل شريعة , ويدع قوتها الروحية تستحيل قوة مادية . و المستعمرون لا يجهلون جهالتنا , ولا يغفلون غفلتنا عن دعوة القرآن القوية : " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ " ولا يغيب عن أذهانهم أن الحكم الإسلامي سيرد جهاز الدولة كله إسلاميا : جهازها الاقتصادي و الحربي و التعليمي , كما سيصوغ المجتمع صياغة إسلامية , وليس أخطر من ذلك كله على الاستعمار الظاهر و الخفي سواء .
   كذلك يدرك الاستعمار أن قيام حكم إسلامي سيرد الدولة إلى عدالة في الحكم و عدالة في المال . فيلقم أظفار دكتاتورية الحكم واستبداد المال . والاستعمار يهمه دائما أن لا تحكم الشعوب نفسها , لأنه يعز عليه حينئذ إخضاعها , فلا بد من طبقة دكتاتورية حاكمة , تملك سلطات استبدادية , وتملك ثروة قوية , هذه الطبقة هي التي يستطيع الاستعمار أن يتعامل معها , لأنها أولا قليلة العدد , ولأنها ثانيا تستعين به على البقاء , وتحتاج إليه ليسندها في وجه الجماهير . وهذه الطبقة تتولى إخضاع الجماهير وسياستها , ويتوارى خلفها الاستعمار ودكتاتورية الحكم و المال , كلاهما يعتمد على الآخر , ويتبادل معه المصلحة . وكل ما يتمتع به المستعمرون في بلادهم من حرية و عدالة اجتماعية , لا يسمحون بأن تستمتع به المستعمرات ومناطق النفوذ . لأن هذه المستعمرات ستواجههم وجها لوجه يوم تتخلص من مظالمها الاجتماعية . وكذلك المستغلون في الداخل لا يسمحون بإنهاء مشكلات الاستعمار , لأن
الجماهير ستواجههم وجها لوجه يوم تتخلص من الاستعمار !
   ولما كان الحكم الإسلامي الصحيح , مظنة أن يحقق للشعوب عدالة مطلقة في الحكم و في المال , فإن الاستعمار يحاربه حربا شعواء . يحاربه سافرا بنفسه , ويحاربه متسترا وراء الأستار: أستار الطغاة المستغلين , وأستار "المتحررين المثقفين!" وأستار المشرفين على التعليم من حيث يشعرون أو لا يشعرون !
   قد يسمح الاستعمار بقيام حكم إسلامي زائف , في بقاع جاهلة من الأرض متأخرة , وفي ظل دكتاتوريات ظالمة مستغلة , كي يكون نموذجا سيئا منفرا من حكم الإسلام , بل من ذات الإسلام !                                
   هنا ينعق الناعقون من المغفلين و المغرضين , والأقزام الذين يريدون أن يبدوا شيئا مذكورا . أنظروا ها هو ذا حكم الإسلام ! أفما ترونه مستبدا ظالما غاشما , مستهترا شهوانيا فاجرا , متأخرا منحطا جامدا .. هذا هو النموذج الحي لحكم الإسلام , وهو النموذج الدائم لكل حكم ديني على ظهر الأرض كائنا ما كان !
   ويفرك الأقزام أيديهم من الفرح , و الجماهير البلهاء تتحلق حولهم بسذاجة , و المستغلون يضحكون من الأقزام و الجماهير , ويطمئنون إلى أن حكم الإسلام عنهم بعيد . و المستعمرون يضحكون من هؤلاء و هؤلاء جميعا . وهم يتصايحون كلهم داخل المصيدة , ويتصارعون كما تتصارع الفئران الهزيلة البائسة في مصيدة الفئران !



سيد قطب

عداوات حول حكم الإسلام
عداوات المستغلين و الطغاة

عداوات حول حكم الإسلام ـ عداوات الصليبيين


سيد قطب
عداوات حول حكم الإسلام
   لقد تحدثنا منذ لحظة إلى الأبرياء , الذين تغيم الشبهات في نفوسهم حول حكم الإسلام , فيتخوفون منه ويقلقون , لا لأنهم يكرهونه , ولكن لأنهم يجهلونه , ولقد كان من حقهم علينا أن نجلو لهم هذه الشبهات , وأن نرفع عن عيونهم هذه الغشاوات , وأن نجادلهم بالتي هي أحسن , بوصفهم مجنيا عليهم بجهل هذا الدين لا جناة !
   إن هؤلاء إل فريسة فريق آخر أو فرق أخرى , ليست في مقل براءتهم , وليست في مثل غفلتهم ! إنما تكيد للإسلام كيدا عن وعي ومن قصد , وتصوره للأبرياء الجاهلين هذا التصوير البشع المخيف لغاية و لغرض . ومن حق أولئك الأبرياء الغافلين أن نكشف لهم هؤلاء الخبثاء الماكرين , وأن نطلعهم على ما خلف الستار من المكر السيئ و الغرض الدفين .
   إن لحكم الإسلام أعداء كثيرين في الخارج وفي الداخل , وفيهم الدهاة الأقوياء , وفيهم المهازيل المهابيل , غير أنهم يلتقون عند مصالح مشتركة في إقصاء الإسلام عن الحكم في الحياة , وهم يعارضون في رد الحكم إلى الإسلام بحجج شتى , وبمنطق مختلف , وبنبرات ولحون متباينة يتألف منها جميعا دوي يخيل لمن يسمعه , وهو لا يعرف مصادره أن هناك شيئا , وأن وراءه حقا ! فلننظر إذن في شأن تلك العداوات .
عداوات الصليبيين
   لقد انتهت المسيحية في أوربا وأمريكا إلى إن تصبح راية قومية تتجمع تحتها جموعهم , لا عقيدة دينية ــ كما هي طبيعة المسيحية ــ وهم إذ يتنادون اليوم باسم حماية الحضارة المسيحية من هجوم الشيوعية عليها كما كانوا يتنادون أيام الفاشية و النازية , لا يقصدون العقيدة المسيحية كديانة , بل يقصدون الأمم المسيحية كأوطان وقوميات . و المسيحية ليست إلا ستارا يتخذونه لاستجاشة حمية البلاد المسيحية جميعا , وهذا ما يفسر الانحلال الخلقي والاجتماعي الذي يتزايد في محيط البلاد المسيحية ــ منافيا لكل تعاليم المسيحية ــ في الوقت الذي ترتفع الدعوة باسم الحضارة المسيحية !
   وبهذا الوضع للمسألة لا تبدو هنالك غرابة في الجمع بين التحلل من روح المسيحية في أوربا وأمريكا , و الخصومة و العداء لغير المسلمين في البلاد الأخرى ! أنه لا غرابة ولا لغز يحير الأفهام , ولكنها اللعبة الماهرة مع المغفلين والسذج من أهل الديانات الأخرى , وبخاصة أهل الإسلام .. وأن الغرب يوحي لهؤلاء المغفلين , أن الدين عامل ثانوي لا قيمة له في حياتهم , مستشهدين بتحللهم من قيوده في مجتمعاتهم , فينعق أصحابنا بهذه الدعوة , ويسيرون عليها , ويخربون بيوتهم بأيديهم لا بأيدي أعدائهم الدهاة . ذلك بينما العالم الغربي كله ينصب للإسلام , ويكن له العداوة و البغضاء !
   إن الحروب الصليبية لم تضع أوزارها إلا في نفوس المسلمين وفي عالم المسلمين , فأما في العالم المسيحي فهي مشبوبة الأوار , وهي تشغل أذهان القوم وسياستهم مكانا بارزا يبدو في شتى مناحي الحياة . ونحن بغفلة منقطعة النظير نقدم لهم العون و المساعدة في هذه الحرب المشبوبة الأوار .
   إن الصليبيين الأحياء لم ينسوا يوما أن بيت المقدس هو البقعة التي ثارت من أجلها الحروب الصليبية , وحينما دخل الماريشال "أللنبي " بيت المقدس في الحرب العظمى الماضية تحرك لسان الصليبية الكامنة في دمه وفي دم كل صليبي . تحرك لينفث أوار الصليبية الكامن : "الآن انتهت الحروب الصليبية" !
    وحين قضت السياسة الاستعمارية و الواقع المادي أن تكون فلسطين للعرب ــ أهلها وسكانها ــ تحركت هذه الصليبية مرة أخرى بفكرة الوطن القومي لليهود , ثم انتهت إلى المأساة الأخيرة على عين انجلترا وأمريكا وبصرهما , وبأسلحتهما وأموالهما ــ تشترك معهما الشيوعية التي تطرد الدين من حسابها , إلا أن يكون هذا الدين هو الإسلام , فهي تحاربه باسمها لا باسم الصليبية , تحاربه لحسابها الخاص ولمصلحتها الخاصة ــ كما سيأتي ــ وقال المغفلون هنا : إن الدسائس الاستعمارية و المصالح الشخصية وحدها هي التي تحرك انجلترا وأمريكا . ذلك أنهم لا يفطنون إلى أن روح الصليبية كامن وراء السياسة الاستعمارية كذلك , يذكي العوامل الظاهرة ويقويها .
   وقد بقى بيت المقدس القديم وحده في أيد عربية ــ هي على حال مسلمة !ــ وهنا يجيء دور هيئة الأمم , لترد هذه البقعة إلى حكم الصليبيين مرة أخرى ! لا باسم الصليبية سافرا , ولكن باسم "التدويل" وتجد من صراع الأقزام الدائر بين الدويلات العربية , بل بين البيوت المالكة وحدها في هذه الدويلات , ومشجعا وناصرا . وتجد من ساسة الأقزام في هذه الدويلات البائسة , من يعد ذلك سياسة قومية مرسومة !
   إن الصليبيين يعرفون ويقول الصرحاء منهم ــ وقد سمعته في أمريكا بأذني ــ أن الإسلام هو الدين الوحيد الخطر عليهم . فهم لا يخشون البوذية ولا الهندوكية ولا اليهودية , إذ أنها جميعا ديانات قومية لا تريد الامتداد خارج أقوامها وأهليها , وهي في الوقت ذاته أقل من المسيحية رقيا . فأما الإسلام فهو ــ كما يسمونه ــ دين متحرك زاحف . وهو يمتد بنفسه وبلا أية قوة مساعدة . وهذا هو وجه الخطر فيه في نظرهم جميعا . ولهذا يجب أن يحترسوا منه , وأن يقاوموه ويكافحوه .
   ونحن الغافلين في الشرق لا ندرك ضخامة الجهود التبشيرية التي تبذلها أوربا وأمريكا لنشر المسيحية في أرجاء العالم كله , في مجاهله و معموره سواء , لا ندرك أن الكنيسة الكاثوليكية وحدها نحو أربعة آلاف بعثة تبشيرية , تنتشر في أنحاء الأرض , وتذهب إلى مجاهل الكونغو و التبت ووراءها الأموال الضخمة التي لا تنفد .
    وهذه الجهود لا يقوم بها المبعوثون وحدهم , بل تعتمد كل الاعتماد على الوطنيين في البلاد الأخرى , وتتخذ لها طرقا وعنوانات شتى , و تتزيا بأزياء كثيرة ليس الزي الديني إلا واحد منها . ففي مصر مثلا يعد رجل كجورجي زيدان منشئ دار الهلال , ورجل كسلامة موسى الكاتب الصحفي , رسولين مهمين للتبشير , يجدان في غفلة المصريين و الشرقيين ــ بما في ذلك أصحاب الصحف و القراء ــ مجالا طيبا للعمل , الذي لا تنهض به جمعيات تبشيرية كاملة , باسم الثقافة والأدب و الصحافة !
   و الحكومات تشجع هذه البعثات وتؤيدها , لأنها ترمي من وراء المسيحية إلى أهداف سياسية واقتصادية , وتعد المسيحية علما قوميا ينتشر ظله في هذه الأصقاع كما أسلفنا .
   والدين الوحيد الذي يقف في وجه هذه الجهود , هو الإسلام وحده كما تقول تقريراتهم , وكما يفصح أحيانا بعض الصرحاء منهم !
   وهؤلاء الصليبيون يعرفون أن الإسلام ليس شيئا آخر غير حكم الإسلام , فهو لا يستطيع أن يتحقق كاملا وقويا في هذه الأرض بغير هذا الحكم , الذي يحوّل العقيدة شريعة , ثم يقف ليحميها ويدفع عنها .
   لذلك يحاربون رجعة الحكم إلى الإسلام محاربة قوية لا هوادة فيها . يحاربونها بنفوذهم وبقوتهم , كما يحاربونها بوساطة المغفلين منا , وذوي المصالح الذين يخشون حكم الإسلام عليها .
   وعلى حين تنكر أوربا وأمريكا على الإسلام أن يحكم في أية بقعة من بقاع الأرض وأن تقوم على أساسه دولة تحمل لواءه , وتعمل بفكرته , و تنفذ قوانينه . وعلى حين ينعق الناعقون هنا و هنالك في الأقطار الإسلامية ممن استعمرت أوربا وأمريكا أرواحهم .. بأن الزمن قد مضى فلم يعد يحتمل قيام دولة على أساس الدين ..
    على حين هذا و ذاك تنبت كالشوكة دولة إسرائيل ! ترتكز على الدين ــ وعلى الدين و حده ــ فاليهودية ليست جنسية بل ديانة . تضم الروسي والألماني و البولندي والأمريكي و المصري و اليمني . . . وكل من هب و دب على وجه هذه الأرض من الأجناس . وعلى اليهودية وحدها ترتكز إسرائيل بتشجيع إنجلترا وتمويل أمريكا . فأما روسيا الشيوعية فلنضع حديثها في هذه المأساة على جنب ! فإن نكيرها على الدين أشد , وإنكارها لقيام دولة على الدين أعنف . ولكن هذا كله يتبخر وتتبخر معه مبادئ الشيوعية الأساسية , عندما يطل وجه المصلحة الشخصية !
   وما يلقاه الحكم الإسلامي من عنت الصليبية في مصر تجد منه "الباكستان" اليوم ما تجد في قضية كشمير مع الهند . المغفلون هنا لا يفطنون إلى أنها روح الصليبية التي تملي على هذه الدول المسيحية سياستها , فيحاولون أن يردوها إلى أسباب أخرى !
   إن أجهزة الدعاية الأمريكية في الشرق هي التي تتولى الدعاية للهند ، بأموال أمريكية يظهر صداها في صحافة الشرق واضحا ! لماذا ؟ لأن الهند ليست مسلمة ، ولأن بينها وبين أول دولة مسلمة في الشرق نزاعا . والكثرة من الحاكمين في الدولة الأمريكية تخرجوا في المعاهد التبشيرية . وهي حقيقة أفضى إلى بها أحد الأساتذة الإنجليز الذين التقيت بهم في أمريكا ، وعدّ لي عشرات من الأسماء البارزة في وزارة الخارجية الأمريكية وفي السلك السياسي ــ ولم يكن يفضي إليّ بهذه الحقيقة بريئا لوجه الله ! وإنما هو ــ كما عرفت فيما بعد ــ أحد رجال قلم المخابرات البريطاني الذين يهمهم ألا يثق الشرقيون كثيرا في نيات أمريكا ! مما دعاني إلى التشكك في بياناته لي فتحققتها بوسائل أخرى .
    إن الإسلام لا يجوز أن يحكم .. هذه رغبة العالم الصليبي . وعلينا نحن أن نذعن . وأن نصدق ما يوحى إلينا به الصليبيون في الشرق و الغرب , في سذاجة و غفلة , باسم التحرر و الثقافة ! ألا مَن للأقزام , بمن يقنعهم أنهم ليسوا بعد إلا الأقزام ؟!
عداوات حول حكم الإسلام
عداوات المستعمرين