الخميس، 27 سبتمبر 2012

دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين

لا تفوّت رسالة المدونة هذه!

دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين

كتبهامصطفى الكومي ، في 27 سبتمبر 2012 الساعة: 13:03 م


 دستور الوحدة الثقافية                                                                                                    
محمد الغزالي
مقدمة
   هذا كتاب يتعرض لحاضر المسلمين ومستقبلهم، ويشارك فى إنعاشهم من الغيبوبة الطويلة التى ألمت بهم! إنها إغماءة مقلقة حقا، ظنها أعداء الإسلام بوادر موت، ولكننا خبراء بأمتنا وتاريخها وكبواتها ونهضاتها، ومن أجل ذلك قررنا اعتراض العلل المؤذية ومتابعة جراثيمها هنا وهناك حتى تعود العافية ونستأنف نشاطنا العتيد.. ملهم هذا الكتاب وصاحب موضوعه الأستاذ الإمام حسن البنا ، الذى أصفه ويصفه معى كثيرون بأنه مجدد القرن الرابع عشر للهجرة.. فقد وضع جملة مبادئ تجمع الشمل المتفرق، وتوضح الهدف الغائم، وتعود بالمسلمين إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم، وتتناول ما عراهم خلال الماضى من أسباب العوج والاسترخاء بيد آسية ، وعين لماحة ، فلا تدع سببا لضعف أو خمول.. وعملى كان تأصيل هذه المبادئ وشرحها على ضوء تجاربى المستفادة خلال أربعين عاما فى ميدان الدعوة ، قضيت بعضها مع الإمام الشهيد ، وبعضها مع الرجال الذين رباهم ، وبعضا آخر مع مؤمنين أحبوا دينهم ، وجاهدوا فى سبيله ، وقاوموا ببأس شديد جميع القوى التى أغارت عليه وحاولت إطفاء نوره ، وتنكيس رايته.. إن الظروف التى بدأ فيها حسن البنا دعوته ما تزال قائمة مع خلاف طفيف حينا وكثيف حينا آخر. وهذه الظروف تنشأ من منبعين رئيسين: الاستعمار العالمى الذى اكتسح بتفوقه المدنى والعسكرى كل شبر من أرض الإسلام ، وحاول أن يغير معالمها جملة وتفصيلا لمصالحه الخاصة.. والمنبع الآخر ـ وهو الأخطر والأخبث يجئ من الأدواء التى استشرت فى الكيان الإسلامى نفسه ، نتيجة فساد عام فى أحواله المادية والأدبية ، العلمية والعملية ، الفردية والاجتماعية ، التربوية والسياسية.. والواقع أن الاستعمار العالمى انحدر إلى أقطار فقدت القدرة على الحياة الصحيحة ، واسترق جماهير كان نسبها إلى دينها أبعد شىء عن الصدق ، وقطَّع أوصالا كانت ميتة أو شبه ميتة. كان قلب العالم الإسلامى مذهولا أو مشلولا، والروس يمزقون جناحه الشرقى فى التركستان وسيبيريا. وكان قلب العالم الإسلامى مذهولا أو مشلولا ، والأمريكان يشنون حرب إبادة على مسلمى الفليبين وكان هذا القلب على بلائه وعنائه ، وأجنحته الغربية تهشِّم وتستذل. ثم أطبق الظلام على أرضه جمعاء ، واستفاقت عناصر المقاومة بعد ما فقدت الأمة الكبيرة كل شىء تقريبا ، وتوزعت جهود المقاومين على جبهات عديدة مضنية. كان ذلك فى مبادئ القرن الرابع عشر وأواسطه ، ولا ريب أن الأخلاف العانين كانوا يحصدون ثمرات انحراف قديم ، وإسفاف غبرت عليه أيام كالحة! ومن الخطأ القول بأن حسن البنا أول من رفع راية المقاومة فى هذا القرن الذليل. لقد سبقه فى المشرق العربى، والمغرب العربى، وأعماق الهند وإندونيسيا، وغيرهما، رجال اشتبكوا مع الأعداء فى ميادين الحرب والسياسة والتعليم والتربية، وأبلوا بلاء حسنا فى خدمة دينهم وأمتهم. وليس يضيرهم أبدا أنهم انهزموا آخر الأمر، فقد أدوا واجبهم لله ، وأتم من بعدهم بقية الشوط الذى هلكوا دونه.. إن حسن البنا استفاد من تجارب القادة الذين سبقوه ، وجمع الله فى شخصه مواهب تفرقت فى أناس كثيرين. كان مدمنا لتلاوة القرآن يتلوه بصوت رخيم ، وكان يحسن تفسيره كأنه الطبرى أو القرطبى ، وله مقدرة ملحوظة على فهم أصعب المعانى ثم عرضها على الجماهير بأسلوب سهل قريب.. وهو لم يحمل عنوان التصوف ، بل لقد ابعد من طريقة كانت تنتمى إليها بيئته. ومع ذلك فإن أسلوبه فى التربية وتعهد الأتباع وإشعاع مشاعر الحب فى الله كان يذكر بالحارث المحاسبى وأبى حامد الغزالى… وقد درس السنة المطهرة على والده الذى أعاد ترتيب مسند أحمد بن حنبل ، كما درس الفقه المذهبى باقتضاب فأفاده ذلك بصرا سديدا بمنهج السلف والخلف. ووقف حسن البنا على منهج محمد عبده وتلميذه صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا و وقع بينه وبين الأخير حوار مهذب. ومع إعجابه بالقدرة العلمية للشيخ رشيد، وإفادته منها، فقد أبى التورط فيما تورط فيه. ولعله كان أقدر الناس على رفع المستوى الفكرى للجماهير مع محاورة لبقة للابتعاد عن أسباب الخلاف ومظاهر التعصب.. وقد أحاط الأستاذ البنا بالتاريخ الإسلامى ، وتتبع عوامل المد والجزر فى مراحله المختلفة ، وتعمق تعمقا شديدا فى حاضر العالم الإسلامى ، ومؤامرات الاحتلال الأجنبى ضده… ثم فى صمت غريب أخذ الرجل الصالح يتنقل فى مدن مصر وقراها ، وأظنه دخل ثلاثة آلاف قرية من القرى الأربعة الآلاف التى تكون القطر كله.. وخلال عشرين عاما تقريبا صنع الجماعة التى صدعت الاستعمار الثقافى والعسكرى ، ونفخت روح الحياة فى الجسد الهامد.. ثم تحركت أمريكا وإنجلترا وفرنسا ، وأرسلت سفراءها إلى حكومة الملك فاروق طالبين حل جماعة الإخوان المسلمين. وحلت الجماعة وقتل إمامها الشاب الذى بلغ اثنتين وأربعين سنة من العمر، وحملته أكف النساء مع والده الشيخ الثاكل إلى مثواه الأخير، فإن الشرطة كانت تطاردنا ـ نحن المشيعين ـ حتى لا نقترب من مسجد " قيسون " الذى بدأت منه الجنازة!! وتحدثت مع ولده "سيف الإسلام " حديثا لم أنسه!! كان الابن المفزع مغيظا لأن الجسد قطِّع لحما فما تنضام القطع بعضها إلى بعض إلا "بالشاش " ثم بالكفن ولولا ذلك لتبعثرت.!! تذكرت قول الشماخ يرثى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وقد طعنه علج طعنة مزقت أمعاءه، وجعلت الدم يخرج ممزوجا بالطعام. جزى الله خيرا من أمير وباركت يد الله فى ذاك الأديم الممزق فمن يسع أو يركب جناحى نعامة ليدرك ما قدمت بالأمس يُسبق قضيت أمورا ، ثم غادرت بعدها بوائج فى أكمامها ، لم تُفتق يعنى أن عمر خلف بعد مماته دواهى كانت على عهده كامنة ، ولم تتحرك إلا بعد ما ولى.
* * *
ولست فى موطن رثاء للإمام، ولا تأريخ لحياته. إننى هنا أعرض المبادئ التى كان يجمع الناس عليها، والأسلوب الناجح الذى أحدث به يقظة إسلامية عظيمة. فإن الظروف التى بدأ فيها جهاده لا تزال قائمة لم يتغير منها إلا الشكل! الاستعمار السياسى هو هو وإن اتخذ ضغطه أسلوبا غير مباشر ، ومادام الختل واللف يغنيان فلا معنى للمصارحة وما تستتبعه من إثارة! والاستعمار الثقافى دائب على سرقة القلوب والقيم ، واجتياح العقائد والشرائع وحيله كثرت وتشعبت حتى بات يخاف على الأجيال المقبلة! واضمحلال العقل الإسلامى واضح فى أغلب ميادين الفقه! وعدد كبير من المشتغلين بفقه العبادات أو المعاملات يحسن النقل التقليدى أكثر مما يحسن الوعى والاجتهاد ، ويغلب عليه ضيق الأفق ولزوم مالا يلزم أما الفشل فى شئون الدنيا فأمره مخجل حتى إن ما نأكله من طعام أو ما نأخذه من دواء أو ما نرتديه من لباس يصنعه لنا غيرنا وأما صناعات السلاح وما يحمى الشرف ويصون الإيمان فشىء لا ناقة لنا فيه ولا جمل ، كما يقول العرب الأقدمون. لقد بدأ حسن البنا عمله من الصفر ، وشرع دون ضجيج يحى الإسلام المستكن فى القلوب ، ويوجهه للعمل ويكفى الإمام الشهيد شرفا أنه صانع الشباب الذين نسفوا معسكرات الإنجليز على ضفاف القناة ومازالوا بهم حتى أغروهم بالرحيل! ويكفيه شرفا أنه صانع الشباب الذين ما اشتبكوا مع اليهود فى حرب إلا ألحقوا بهم الهزيمة وأجبروهم على الهرب… إن ذلك هو ما جعل الاستعمار مصرا على معاداة هذه المدرسة ، وإلحاق الأذى بها حيثما ظهرت.. لقد بدأت العمل مع حسن البنا وأنا طالب فى الأزهر ، من خمس وأربعين سنة تقريبا ، والحالة العامة يومئذ جديرة بالتسجيل: الحكم منفصل عن العلم ، وهو انفصال مبكر فى تاريخنا للأسف ، كما أشرت إلى ذلك فى بعض كتبى. والتعليم قسمان مدنى ودينى ، وهو عمل استعمارى بارع لضرب الدين والدنيا والتعليم الدينى منقسم على نفسه ، فالفقهاء شىء، والمتصوفة شىء آخر. والمتصوفون فرق لها رايات وشارات مختلفة. والفقهاء توزعوا على المذاهب الأربعة ، ويرفض أحدهم الصلاة وراء الآخر إلا مضطرا. ثم نشب خلاف زاد الطين بلة بين هؤلاء جميعا وبين أهل الحديث. ودخلت الوهابية المعركة باسم أنصار السنة ، فاستعرت الحرب بينها وبين هذه وتلك. وولدت الأحزاب السياسية بعيدة عن الهوس الدينى جاعلة الوطنية شعارها ، وانقسمت هذه الأحزاب بين ضالع مع القصر الملكى ومؤيد للتيار الشعبى. ثم تسللت الشيوعية مستغلة الفقر السائد ، وعارضة ما لديها من فنون الإغراء.. وظهر مستغلون فى مجال العمل السياسى ، وآخرون يقصرون نشاطهم على العمل الاجتماعى وحده وسط هذا البلاء والتمزق الشامل كان حسن البنا يدعو إلى الإسلام دينا ودولة، ويتخلص بلباقة من الآصار الموروثة والأهواء الوافدة. كان يحارب التقاليد الغبية بنفس العزم الذى يحارب به الغزو الفكرى. وأشهد أنه محق ذاته فى مرضاة الله وبذل النصح للعامة والخاصة ، وكان يضن بالدقيقة من يومه أن تضيع فى غير مصلحة الإسلام والمسلمين.. والأصول العشرون التى وضعها والتى أشرحها هنا ليست الكلمة الأولى والأخيرة فى الطرق الثقافية لخدمة الأمة الإسلامية.. إنها مقترحات ـ وأصطنع هنا أسلوب حسن البنا ـ مقترحات مجربة للم الشمل ، وعلاج العثرات ، فمن كان لديه أحسن فليعرضه ، أو نقد فليذكره ، ولنتعاون جميعا على إعلاء كلمة الدين والنصح لهذه الأمة. المسلمون الآن عبء ثقيل على الإسلام ، وهم لا يستحقون الحياة إلا إذا أنصفوا الوحى النازل بين ظهرانيهم ، وخلصوه من تخليطهم وجهلهم المعيب قرنا بعد قرن.
قد تملكنى ـ وأنا أؤلف هذا الكتاب ـ شعور بأنه لا قداسة إلا للوحى الأعلى ، ولا مكانة إلا للرجال الذين أحسنوا الفقه فيه والعمل به حيث أقامهم القدر.. يجب أن تغربل الأفكار والمذاهب والأعراف والتقاليد التى سادت تاريخنا ، فقدمها لا يعطيها حق البقاء! والاحترام للحق وحده! لما قرأت كلمة الشخص الذى قال فى مجلس معاوية: أمير المؤمنين هذا، فإن هلك فهذا ـ يعنى يزيد ـ فمن أبى فهذا ـ يشير إلى سيفه ـ قلت : منافق مرتزق ، يطلب دنيا لنفسه ولقبيلته! والفقيه الذى يصور الشريعة من خلال هذه الكلمة ليس أحسن حالا منه إن الفلك قذف بعدة قرون ميتة أمام الحكم العباسى ، وقذف بعدة قرون هالكة أمام الحكم التركى.. فما ذنب الإسلام حتى يحمل المخلفات الثقافية والسياسية لهذه القرون؟ وقد شاء الله أن أعد كتابى هذا فى مطالع القرن الخامس عشر الهجرى وأعداؤنا يحفرون لنا القبور التى تطوينا ، وأمتنا ـ عفا الله عنها ـ لا تزال تتعثر فى تفاهاتها. إن الإسلام يجب أن يبقى وأن يقود.
    فالحق عندنا وحدنا ، وعلينا أن ندرك نفاسة ما أكرمنا الله به ، وأن نحسن نفع أنفسنا ونفع الناس به. هناك تحديات تواجه الدعوة الإسلامية ، بل تواجه الرسالة الإسلامية ذاتها ، أقلها من الخارج وأكثرها من الداخل!! نعم فإن الآفات التى تنخر فى الكيان الإسلامى أشبهت الأمراض المتوطنة وقد ألحقت به معاطب مخوفة ، ثم انتهت به خواتيم القرن الرابع عشر الهجرى إلى حال تسوء الصديق وتسر العدو.. عندما تعرض المذاهب العلمانية برامجها السياسية والاقتصادية تحسن التفاهم مع الطبيعة البشرية ، وتحسن تقديم الحكم بريئا من نزوات الاستبداد الفردى ، وتقديم المجتمع بعيدا عن شهوات الشح والأثرة والتظالم البغيض. أما نحن فماذا نقدم للناس؟ شورى هى حبر على ورق ، وتراحم هو حديث منابر ، وشعائر توقف فيها نبض الحياة ، فلا هى حب لله ولا هى حنان على الناس إننا منتمون إلى الإسلام ومنكرون له فى آن واحد ، منتمون له بالميراث وخارجون عليه ماديا وأدبيا ولست أتحامل على الجيل المعاصر ، ولا على الجيل الذى سبقه. إن موجة الجزر بدأت قبل ذلك ، ثم شدت فى انسحابها الأجيال المتأخرة إلا قليلا ممن تشبث بالحق فى مصادره المعصومة ، واستمات كيما تبقى أعلام الإسلام قائمة…
قلت لصديق يحدثنى عن التاريخ الإسلامى : اسمع يا أخى ، إن الأمويين والعباسيين والعثمانيين لم يقدموا صورة صادقة للخلافة الإسلامية ، وتتفاوت نسبة الدمامة فى الصورة التى قدموها تفاوتا يسيرا! وقد عد أئمتنا عمر بن عبد العزيز الخليفة الخامس بعد الراشدين الأربعة ، ثم ماذا؟ ملك عضوض يعمل لنفسه ولله معا ، وعمله لله هو الغطاء الذى يدارى به نهمته إلى الجاه والمال. قد وجد من كان عمله لله أرجح، ثم بدأ هذا الصنف يقل حتى انفرد بالسلطان من لا يعمل إلا لنفسه وحسب. سبحان الله إن الإنسان الكبير الذى قال: "ابغونى فى ضعفائكم! هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟ " قامت باسمه نظم تستهلك الشعوب وتفتات على الجماهير ، وتزدرى كل ذى رأى ، وتسجن أئمة الدين أو تقتلهم كما يسجن المجرمون ويقتل السفاحون!! هل تنجح دعوة للإسلام سنادها الداخلى هذا المجون؟ بل هل يبقى الدين نفسه ، مع تلك الأوضاع المقلوبة والحقوق المغصوبة؟ اسمع يا أخى أنا لا أعتبر التتار هم مسقطى الخلافة فى بغداد، إن الخلافة أسقطتها من قبل قصور مترعة بالإثم متخمة بالملذات الحرام أنا لا أعد الصليبيين هم مسقطى دولتنا فى الأندلس ، إن المترفين الناعمين هم الذين أنزلوا راية الإسلام عن هذه الربوع الخضرة ، إن ملوك الطوائف فى الأندلس لم يكونوا أبناء شرعيين لطارق بن زياد ، ولا لغيره من الأبطال الذين باعوا لله أنفسهم فأورثهم الأرضين. إننا نحن قبل غيرنا العقبة الأولى أمام دين عظيم إن التحدى الأولى يجئ من داخل أرضنا ثم تجئ من بعده تحديات الأعداء التقليديين. وقد نقلت فى بعض ما كتبت حديثا يجب أن نتدبره مثنى وثلاث ورباع ، عن ثوبان ـ رضى الله عنه ـ أن النبى - صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إن الله زوى لى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتى سيبلغ ملكها ما زُوى ـ جُمع ـ لى منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض ـ معادن الأرض وثرواتها ـ وإنى سألت ربى لأمتى ألا يهلكها بسنة عامة ـ قحط شامل ـ وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم ـ أجنبيا ـ فيستبيح بيضتهم. وإن ربى قال: يا محمد إنى إذا قضيت قضاء فإنه لا يردّ! إنى أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة! وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم مَن بأقطارها أو مِن بين أقطارها ـ يعنى أهل القارات المعمورة ـ حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ، ويسبى بعضهم بعضا " . والحديث ظاهر فى أن مصائبنا من أنفسنا قبل أى شىء ، وأنها تجىء ابتداء من فساد الحكم كما قال عليه الصلاة والسلام فى نهاية هذا الحديث. "وإنما أخاف على أمتى الأئمة المضلين " ـ أى الحكام الفاسدين. فإذا وقع ذلك فى دار الإسلام فينبغى أن ننظر إلى ما وراء هذه الدار لنرى مسافة الخلف بيننا وبين غيرنا ممن لا يدين ديننا. عن المستورد القرشى ـ رضى الله عنه ـ أنه قال عند عمرو بن العاص : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ يقول : تقوم الساعة والروم أكثر الناس فقال له عمرو: أبصر ما تقول قال: أقول ما سمعت من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال عمرو: لئن قلت ذلك ، إن فيهم لخصالا أربع. إنهم لأحلم الناس عند فتنة ، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة ، وأوشكهم كرة بعد فرة ، وخيرهم لمسكين وضعيف ويتيم. وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك الحق أن هذا وصف رصين أمين لأقطار كثيرة وراء دارنا ، أعنى دار الإسلام. وقد أسأل نفسى: إذا كان المرء يبيت فى دمشق أو بغداد أو استامبول عواصم الخلافات الثلاث الكبرى غير آمن على ماله أو دمه ، ويبيت فى لندن أو باريس أو واشنطن مستريح الطرف والقلب ، فمن يعطيه ربك قيادة الإنسانية ، ويقر الأمور فى يده ؟! قال لى محدثى: أنت غضبان، وفى أحكامك قسوة أو حيف! دعك من الكلام فى عوج الحكام ، وحدثنا عن التحديات التى تعترض الدعوة الإسلامية فى الخارج.. قلت: أنا أحب علاج العلل من جذرها ، وما ذكرت قصة الحكم إلا لأنها نموذج للانحراف عن الخط الإسلامى ، وإلا فالانحراف أصاب أغلب التقاليد الاجتماعية التى تؤثر فى أخلاقنا ومسالكنا. قال لى: لننظر إلى التحديات الخارجية! قلت: لعل أول هذه التحديات جهلنا بالآخرين! إننا لم نكلف أنفسنا مد البصر إلى ما وراء حدودنا مع أننا أصحاب دعوة عالمية. نعم لم نحاول أن نعرف كيف يفكر أو كيف يعيش اليهود والنصارى وغيرهم فى بلادهم ، وما هى الأطوار النفسية والاجتماعية التى تمر بهم؟ والغريب أن القوم هم الذين تعرفوا علينا ودرسوا بلادنا وخبروا شئوننا ، وكشفوا حتى عما فى تربتنا من معادن وفى برنا وبحرنا من خيرات. إن علماء المشرقيات أو المستشرقين نقبوا فى تراثنا الماضى ، وفى واقعنا المعاصر ، ومنذ عدة قرون وهم دائبون فى البحث ، ونحن مغرقون فى الجهل حتى عرفونا معرفة استيعاب. أما نحن فقابعون فى أماكننا لا ندرى ماذا يحدث فى أوربا ، ثم ماذا يحدث فى أمريكا واستراليا بعد اكتشافهما. ولا ندرى ما ثورات التحرر التى وقعت فى انجلترا وفرنسا وغيرهما. ولا ندرى ما يخطط اليهود لمستقبلهم ومستقبل الدنيا معهم. ولا ندرى أدوار الصراع بين الدين والعلم فى الغرب ، والصدع الذى أصاب الكنيسة فى هذا النزاع الوحشى. ومن المضحك أن "نلسون " وهو يطارد نابليون فى البحر الأبيض المتوسط رسا بأسطوله فى الإسكندرية ، وسأل محافظ الثغر عن قائد الحملة المنتظرة؟ ودهش المحافظ الساذج ، ونفى علمه بنية الفرنسيين ، وتساءل: هل يجرؤ أحد على التعرض لأملاك السلطان؟ إن الموظف الكبير لا يدرى شيئا عما يقع فى دنيا الناس! وهو مثل الجماهير قد تفق فى حلق الشارب وإنماء اللحية ، وتحسب أنها استكملت عرى الإيمان بالوفاء للشكل ، والمحق للموضوع. إن تربية اللحية لا وزن لها مع انعدام تربية النفس والعقل ، ومع فراغ القلب واللب..! وأمر آخر ساء موقفنا فيه جبرا هو عدم إفادتنا من العلم المادى الذى وثب وثبات فسيحة فى اكتشاف أسرار الفطرة وإحسان تطويعها لمطالب الناس. بدأ هذا العلم مسيرته المظفرة بعدما قهر كهنوت الكنيسة ، وتجاوز العجز الإسلامى فى بلاده الهاجعة!! العقل الإنسانى وحده أخذ يتحسس طريقه فى البحث والدرس حتى نجح، ثم أغراه النجاح فطفر من أفق إلى أفق حتى غزا الفضاء. ص _01 ص
صحيح أنه استفاد من إشراقة الإسلام الأولى حين غمرت حضارته الدنيا، ومؤرخو الحضارة الإنسانية يؤكدون ذلك. ولكن المسلمين نسوا وظيفتهم، ورسالتهم، واستطاع الجهلة فى بلادهم أن يملكوا أزمة السلطة، فما الذى يربط العالم بهم؟ لقد انطلق العلم وحده وترك طابعه الذكى على كل ما حولنا. واستيقظ اليهود والنصارى قبل فوات الفرصة، واصطلحوا مع المدنية الجديدة كى ينتفعوا بها فى تحقيق مآربهم. ووصلنا نحن بعدما تحرك القطار، فإذا أعداء الأمس يتحركون ومعهم تفوق علمى ساحق ليحتلوا أرضنا، ويفرضوا طابعهم عليها. وشرع المسلمون يستجدون المعرفة الجديدة ليدعموا بها وجودهم المدنى والعسكرى ، وهم يطرقون أبواب المجهول ، علهم يعودون بشىء!! وجرح نفسى أن سمعت مفتيا فى إحدى الإذاعات يقول: إن تعلم اللغات الأخرى يجوز للضرورة ، هكذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية. كأن تعلم اللغات محظور أصلا ، وما يباح إلا للضرورة! قلت إن ابن تيمية ليس جاهلا ليقول هذا الكلام ، كيف ونبينا مرسل للعالمين ولغات الناس لا حصر لها؟ وعدت إلى كتاب "ابن تيمية": (اقتضاء الصراط المستقيم فى مخالفة أصحاب الجحيم) فرأيت الرجل فى واد ، والمفتى فى واد آخر.. رأيت ابن تيمية يكره انحلال الشخصية العربية ويرفض أن يتكلم الرجل بكلام بعضه عربى وبعضه أعجمى اعتزازا بجنسية أخرى ، كما تلمح ذلك فى بعض ضعاف الشخصية الذين ينسون عروبتهم وتغلب عليهم رطانات أخرى. وشتان بين القضيتين! إن لبس الحق بالباطل ما يجىء إلا من هذا القصور الفقهى. وتعلم اللغات الأخرى واجب لمنافع دينية ودنيوية لا حدود لها ، وليس ذلك بداهة على حساب اللغة القومية! والناس يعرفون ذلك فى كل قارة ، ولكن التدين المغشوش يفسد البداهة ويمسخ الفطرة.. وكأن القدر ـ ازدراء لهذا التدين ـ أبى إلا أن تكون النهضة العقلية العارمة بعيدة عنه ، ولا نقول: منكرة له.. على أن التحدى الأعظم للإسلام كله هو فى يقظة كل القوى المعادية له، وتبييتها النية على اغتياله! أجل لقد صحت اليهودية والنصرانية والشيوعية والوثنية ، وتملكتها رغبة مجنونة للقضاء على هذا الدين وانتهاز ما يسود بلاده من غفلة وفرقة لتوجيه الضربة الأخيرة. ولو قدرت على استنصات المسلمين فى المشارق والمغارب، وبعث شعورهم العازب، لصرخت فى آذانهم: احذروا : الإسلام فى خطر!! إن خصوم الدين الحق يتمتعون بقوى مدنية وعسكرية هائلة، ويرسمون سياساتهم فى أناة وذكاء، يرسمونها على قدر كبير من البرود والثقة.. وما أظن العالم يساوى شيئا إذا جحدت الخلائق ربها وأرخصت حقه ونسيت لقاءه.. وأماتت هذا الإسلام الجريح وأنكرت عليه حق الحياة!! ولا أعرف للبقاء فى الدنيا معنى إذا حدث ذلك! وأعود إلى ما ذكرت آنفا. إن تحديات الدعوة الإسلامية تجىء ـ قبل أى زحف خارجى ـ من داخل أرضه ، وسوف تتلاشى هذه التحديات كلها يوم يعتنق المسلمون الإسلام ، ويدخلون فيه أفواجا ، حكاما وشعوبا. لقد ألفت هذا الكتاب عارضا فيه تجاربى ـ وهى حصيلة معاناة مرة إلى جانب توجيهات رجل موفق لا شبيه له فى تأليف الهمم والألباب وتحشيد الشيوخ والشباب لخدمة الإسلام ومد أشعته فى كل أفق.. أسأل الله ذا الجلال والإكرام أن ينفع به، وأن يجعله فى موازين الحسنات ، وأن يغفر لى ما قدمت وما أخرت. إنه أهل التقوى وأهل المغفرة.
محمد الغزالى القاهرة أول المحرم سنة 1 ص 01 هـ أول القرن الخامس عشر الهجرى
الدائرة الإسلامية

موضوعات ذات صلة على صفحة .. إسلاميات

ليست هناك تعليقات: