الأربعاء، 6 فبراير 2013

مدرسة الرأى، ومدرسة الأثر


 دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين                                                     
محمد الغزالي
مدرسة الرأى، ومدرسة الأثر ، ومدارس أخرى:
   فى أول عهدنا بدراسة التشريع استمعنا إلى هذه العبارة ، مدرسة الرأى ومدرسة الأثر! قلت فى نفسى: ما هذه القسمة؟ هل هناك فقهاء يطرحون النص ويتبعون رأيهم؟ وهل هناك فقهاء يلتزمون النص ، دون إعمال فكر؟ الواقع أن هذا العنوان يحتاج إلى تفسير ، وسأضرب مثلا يتضح منه المعنى المراد. فى زكاة الزروع والثمار جاءت هذه الأحاديث ، و هى صحيحة: روى البيهقى عن أبى موسى الأشعرى ومعاذ بن جبل حين بعثهما النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم فقال: " لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة الشعير والحنطة والزبيب والتمر". وأخرج الطبرانى عن عمر قال : " إنما سن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الزكاة فى هذه الأربعة: الشعير والحنطة والزبيب والتمر". ونقل عن الشعبى أنه قال: كتب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أهل اليمن: إنما الصدقة فى الحنطة والشعير والتمر والزبيب. على هذه الآثار اعتمد الأئمة فى فتواهم بتحديد الأصناف التى تحق فيها الزكاة ، ورأوا أنه لا زكاة فى غيرها من الزروع والثمار.. ورأى أبو حنيفة وغيره أن هذه الأصناف كانت تمثل المحصولات الرئيسة فى جزيرة العرب ، وأن ما عداها من ثمر لم يكن مالا له خطر.. فإذا كانت الأرض تنبت من الحبوب والفواكه ثروات زراعية لها قيمة كبيرة فإن الزكاة تجب فيها بيقين، مثلما تجب فى الشعير والزبيب. واستصحب أبو حنيفة فقه الآية الكريمة : (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات) إلى قوله تعالى.. (كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) ومن ثم أوجب الزكاة فى التفاح والموز وسائر الفواكه ، والفول والعدس والأرز وسائر الحبوب ، والبرتقال واليوسفى وسائر الموالح ، والبن والشاى.. الخ. وهذا الكلام وجيه من ناحيتين:
الأولى: أنه يحفظ حق الفقراء ، فى كل قطر.
والأخرى: أنه يمثل عالمية الإسلام ، فهو دين يشمل القارات الخمس ويتناول ما بث الله من خيرات ، وليس دينا بدويا يقف عند حدود الجزيرة العربية. ففقهاء الرأى نظروا إلى الملابسات المحيطة بالحديث ، وفسروه فى ضوئها ، وفى ضوء الآية القرآنية المحكمة ، وهم جعلوا الآية حاكمة على الحديث ، ومحددة لمعناه. وذلك يلقى ضوءا على الفروق بين المدرستين ، فليست مدرسة الرأى ملغية لأثر وارد كما رأيت ، وإنما هى تجمع بين نصوص كثيرة ، وترجح ما ترى أنه الأصوب فى نظرها.. أما مدرسة الأثر فتكاد تكون إمضاء لظاهر النص مع بعد عن الحرفية التى أخذت على ابن حزم وأزرت بفكره فى قضايا كثيرة ، وإن كان هذا البعد يتلاشى فى بعض القضايا. فى تاريخ التشريع وجدنا مدرسة الرأى ومدرسة النص. والذى أراه أن الأمر يتبع الطبيعة العقلية للناس ، فهناك نصيون فى كل مجال ، وهناك أهل الفحوى والتأمل العميق. وقد تكشفت هذه الطباع فى العهد النبوى نفسه ، ولا تزال تفجؤنا فى عصرنا هذا أمور فى العبادات والمعاملات ينقسم النظار فيها إلى أهل نص وأهل معنى.. فى موسم الحج كان جمهور العلماء يفتى بأنه لا يجوز رمى الجمرات إلا بعد زوال الشمس. وهم يحتجون لذلك بفعل رسول الله مع أن مجرد الفعل لا يعطى حكم الوجوب! قد يكون دليل الندب أو الإباحة. ومع ذلك فان المتشددين مضوا فى طريقهم ، وكثر القتلى فى ميدان الرمى لشدة الزحام وهم لا يبالون! ورأيت "مالك بن نبى" رحمه الله يريد الرمى ، ويؤجل من الزحام القاتل ، فوقف بعيدا عن المرمى بمسافة شاسعة وأخذ يرمى! قيل له ما تفعل؟ قال أنفذ قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" لا معنى للموت تحت الأقدام هنا ، هذا ما أقدر عليه! ويقول الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود ـ وهو من الفقهاء المعدودين فى عصرنا  "لا أدرى ما الذى جعلهم يتشددون فى عدم رمى الجمار قبل الزوال فى أيام التشريق ، وفى حديث " إذا رميتم ـ أى جمرة العقبة ـ وحلقتم فقد حل لكم الطيب وكل شئ إلا النساء". وقد ركب رسول الله راحلته فجعل الناس يسألونه ، فما سئل عن شئ قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج. فرفع الحرج عن الناس فى جميع ما قدموه أو أخروه من بقية مناسك الحج حتى سأله رجل فقال: رميت بعد ما أمسيت فقال: افعل ولا حرج!" . والحديث صحيح وهو نص صريح فى جواز تقديم رمى الجمار قبل الزوال أو تأخيرها عنه فيجوز رميها فى أية ساعة شاء من ليل أو نهار. وفى حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما سئل عن شئ يوم النحر قدم أو أخر إلا قال : افعل ولا حرج .. قال الشيخ عبد الجليل عيسى: عدد بعضهم الأشياء التى سئل عنها رسول الله حتى أوصلها إلى  صورة. ثم قال: أليس هذا دليلا على أن كل فعل طلب من المكلف ولم يرد عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ شئ يحدد كيفيته أو ترتيب بعضه على بعض ، يكون الأمر فيه واسعا ؟ يفعل كل مكلف ما يغلب على ظنه أنه هو المطلوب ، ولا حرج عليه بعد ذلك لأنه لو كان هناك تكليف لوجب على النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يبينه للناس.. وأرى أن هناك هنات قد يقع فيها أتباع المدرستين. فأهل الرأى قد يتجاوزون أحاديث صحاحا لا معنى لتركها ولا سناد من فكر أو مصلحة لذلك. فالأحناف مثلا يرون الخمر محرمة لذاتها ، ما أسكر منها وما لم يسكر ، وهى لديهم النىء من عصير العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد ، أما أنواع العصير الأخرى فإن المحرم منها هو القدر المسكر!! أما القدر الذى لا يسكر فليس بحرام.. ربما كان مكروها فقط!! وهذا كلام يرفضه العقل والنقل ، فإن الخمر ما غطى العقل من أى مادة صلبة أو سائلة ، وليست بين رب السماء وعصير العنب خصومة خاصة. إن كل شراب مسكر ، أو كل عقار مغيب للعقل فهو حرام قل أو كثر والتحليل العلمى للمسكرات والمخدرات يكشف عن تشابه مطلق لفعلها وأثرها فى الإنسان، فلم التفريق بين المماثلات؟ والأحاديث الواردة فى أن الخمر تتخذ من مواد كثيرة ، أحاديث قائمة ، ومحاولة تأويلها لا تستساغ. وهناك من المنسوبين لمدرسة النص من لا توازن له ، فهو يجعل المكروه حراما والمباح مكروها ، وقد يرى النافلة فريضة.. وهو يعرف بعض النصوص ويجهل غيرها ، وما يعرفه ربما لم يحسن فهمه ولا سوقه فى موضعه الواجب. كانت ملكة انجلترا تزور جزيرة العرب ، ونشرت لها صور وهى تلقى أحسن استقبال.. ورأيت رجلا عابدا ينظر إلى الأمراء والرؤساء من شتى الدول وهم يصافحونها..!! وسمعته يقول: أعوذ بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله، كيف يصافحون امرأة أجنبية؟! فقلت مداعبا: لعلهم يرون مصافحة الأجنبيات من الصغائر التى يكفرها تجنب الكبائر..! فقال بحماقة: من الصغائر؟! هذه من الكبائر ولكنكم تسوغون المنكر..! قلت ـ وأنا لا أزال أتضاحك ـ لو كانت هذه المصافحة مع ريبة لكانت لمما تسعه المغفرة ، فكيف والريبة لا موضع لها بتة؟ ثم قلت: لست ممن يستحبون التقاليد الغربية فى مصافحة الأجنبيات لسبب ولغير سبب ، لكن إذا صافح الرجل امرأة أجنبية فى موقف غلبه فليس هناك ما يعد جريمة!! قال: كيف تقول ذلك، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول فيما رواه الطبرانى: " لأن يطعن فى رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له "؟! قلت: ما علاقة هذا الحديث بالمصافحة؟! إن المس لم يذكره القرآن إلا وهو يريد الاتصال الجنسى ، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها ). وقال فى كفارة الظهار: ( فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا ) وقد يطلق المس على التحكك السافل أو المزاحمة الخسيسة التى يفعلها بعض الرعاع. وأيا ما كان الأمر فلا علاقة للحديث بالمصافحة. ذلك وقد لوحظ أن بعض الطلاب أعلن حربا على الأجراس لحديث " لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس ". ولا ريب أن المقصود جرس يتخذ للعبادة كما تفعل النصارى ، فأما جرس الهاتف ، أو جرس المنبه أو جرس محطات السكك الحديدية أو جرس البيوت الذى يستخدم فى الاستئذان ، فلا حرج فيه. وبعض هؤلاء الطلاب كان ينتزع الأجراس من أبواب الشقق لسوء فهمه فى الحديث.. والآفة جاءت من الوقوف القاصر عند ظاهر النص.
* * *
 مدرسة الموازنة والترجيح بين مدرستى الأثر والرأى:
ظل الانفصال بين مدرستى الرأى والأثر أمدا ، وقام بعض الفقهاء بدراسة القواعد الفقهية ومبادئ الخلاف مثلا بين الشافعية والحنفية ، ولكن الفواصل الفكرية بين شتى المذاهب لم تضعف خصوصا بعد إغلاق باب الاجتهاد وتجميد الفقه المذهبى فى الأربعة الكبار. وفى هذه الآونة كانت مراجع السنة قد استغرقت وشاعت ، وكانت الحضارة الإسلامية قد شرقت وغربت وانهزمت وانتصرت ، وأفادت تجارب خطيرة من العدو والصديق. ونشأت مدرسة الموازنة والترجيح فى القرن السابع على أيدى ابن تيمية وتلامذته ، وهى مدرسة استوعبت الأخبار المروية وأدركت وجوه الحكمة والمصالح التى تتغياها الشريعة ، أى أنها أفادت من الرأى والأثر معا وإن كان انتصارها للأثر أظهر ، ودفاعها عنه أذكى وأقدر.
وابن تيمية حنبلى المذاهب ولكن اجتهاده جعله يستقل بآراء انفرد بها ، لم يقل بها الأئمة الأربعة كإبطاله للطلاق البدعى وآثاره. ورأى الرجل أحب إلىَّ وأصح حجة من غيره وأحفظ لكيان الأسرة فى عصرنا هذا. والغريب أن ناسا من أتباع ابن تيمية كرهوا منه هذا المذهب ، واتهمه آخرون بأن الشيعة أثروا فى تفكيره.. وابن تيمية أقوى شخصية من أن يتأثر بأحد ، وهو على أية حال مجتهد يخطىء ويصيب ، ويؤجر على ما انتهى إليه. إن الأئمة الأوائل ـ وخصوصا الأربعة الكبار ـ كانوا روادا فى تأسيس الفقه الإسلامى ، والرائد قد يشغله الاكتشاف عن الموازنة والتقدير ، ولعل من يجىء بعده يكون أقدر على التنظيم والمراجعة ، والموازنة والاختيار. وذاك ما بدا فى مدرسة ابن تيمية وأتباعه الأقدمين.. وفى القرنين الثالث عشر والرابع عشر نشأت مدارس أخرى. هناك مدرسة أشبه أن تكون امتدادا لمدرسة الأثر عرضت الفقه الإسلامى من الكتاب والسنة مباشرة ، وأفادت من الجهد العقلى لرجال المذاهب التقليدية ، وضمت إلى ذلك جهد الفقهاء الظاهرين ، وانتفعت من مدرسة ابن تيمية ، وأحيت أسماء كانت مغمورة فى ميدانى الأثر والرأى جميعا ، والقاسم المشترك بين رجال هذه المدرسة عرض الفقه من أصوله الأولى. يمثل هذه المدرسة: الصنعانى فى "سبل السلام " والشوكانى فى "نيل الأوطار"، والسيد سابق فى "فقه السنة"، وصديق خان فى مؤلفاته ، والألبانى فى رسائله. وعندى أن هذا الجهد يقوم على الاختيار الشخصى ، والتنسيق أو التلفيق بين وجهات النظر المختلفة ، وأصحابه مقدرون فيما صنعوا ، لعلهم أحسن تصويرا للإسلام من مؤلفى "المتون " المذهبية. وهم أيضا يخطئون ويصيبون. وانتماؤهم للسنة لا يجعل التسليم بقولهم واجبا ، بل إن بعضهم قد يخالف بعضا فى كثير من الأحكام.
***
وهناك مدرسة أخرى أقرب إلى مدرسة الرأى ، وإن كان عنوانها سلفيا ، هى مدرسة الشيخ محمد عبده وتلميذه الشيخ رشيد رضا ، ويتبعهما الشيخ محمود شلتوت ومحمد عبد الله دراز ومحمد البهى ومحمد المدنى وقبلهم الشيخ المحقق محمد الخضرى ومنهم الشيخ محمد أبو زهرة. هذه المدرسة لها ملامح بينة ، فهى ـ وإن قامت على النقل ـ إلا إنها تروج للعقل وتقدم دليله وترى العقل أصلا للنقل.. وهى تقدم الكتاب على السنة ، وتجعل إيماءات الكتاب أولى بالأخذ من أحاديث الآحاد.. وهى ترفض مبدأ النسخ وتنكر إنكارا حاسما أن يكون فى القرآن نص انتهى أمده. وترى المذهبية فكرا إسلاميا قد ينتفع به ولكنه غير ملزم ، ومن ثم فهى تنكر التقليد المذهبى وتحترم علم الأئمة. وتعمل أن يسود الإسلام العالم بعقائده وقيمه الأساسية ، ولا تلقى بالا إلى مقالات الفرق والمذاهب القديمة أو الحديثة. وقد حاولت هذه المدرسة أن تقود الأزهر ، وتفرض وجهتها على المسلمين ، ولكن التيارات العاصفة كانت أقوى منها فوقفتها أو جرفتها. وبديه أن يكون فى اجتهادات رجالها أخطاء. فتفسير الشيخ محمد عبده للملائكة ـ كما ذكره تلميذه رشيد رضا ـ يرفضه الكافة. وتبرم الشيخ أبو زهرة بحكم الرجم كذلك!! وفى فتاوى الشيخ محمود شلتوت ما يحتاج إلى مراجعة!! ويبقى ـ بعد هذا الإلماح إلى المدارس الفقهية فى تاريخنا العلمى ـ أن نقول: إن الإسلام صائغ أولئك الرجال كلهم ، وهم لم يصوغوه. وإن مصادر الإسلام معصومة لأنها من عند الله ، ولكن التفكير فيها والاستنباط منها غير معصوم لأنه من عند الناس. وإن الانتفاع بكل فقيه مخلص ذكى يدعم مسيرتنا العلمية ، ولا يضيرها أبدا ، ويجب أن تنتفى الحساسية والكراهية للأشخاص. وإن وجود هنات فى رأى هذا أو سيرة ذاك لا تهدم عبقريته أو تخدش تفوقه إن كان صاحب عبقرية وتفوق…
الاجتهاد الفقهى علامة صحة وهو شرف لتاريخنا :
   من حق الفقهاء أن يختلفوا ـ كما رأينا ـ لتفاوت أنظارهم فى شتى الأدلة ، ويجب أن نقبل نتائج هذا الاختلاف دون تشنج أو تشاؤم ، ولا يجوز أن نرتب عليه شقاقا ولا تحزبا ولا تحاقدا. إن صاحب الرسالة ـ عليه الصلوات والتسليمات ـ أمضى نتائج الاجتهاد وقبلها ، وصح فى السنة الشريفة أن من اجتهد فأصاب فله أجران ، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر ، أى أن كل مجتهد مأجور فمن السفه الاستطالة فى عرض فقيه ، والنيل منه. ومن الممكن طرح القضايا على بساط البحث العلمى ، وبذل الجهد فى تعرف الخطأ والصواب ، ويغلب أن تتساوى وجهات النظر ، وأن يكون الكل أمام ملحظ محترم يصعب تجاهله. ويمكن أن نقول هنا: إن حقائق الأشياء ثابتة فى الأمور العلمية ، فهل هى كذلك فى الأمور التعبدية؟ أعنى أنه إذا قيل: إن الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس ، فالأمر هنا متردد بين الخطأ والصواب لا غير ، فالقول بدورانها علم وبتوقفها جهل ، والمخطىء سواء عذرناه أم لم نعذره مخالف للواقع ونيته إلى الله. والقاضى عندما يصدر حكمه على متهم ، قد يدينه أو يبرئه ، وفق الأدلة التى توضع بين يديه ، أى أنه يخطىء أو يصيب وفق الواقع وحده ، ولكن حكمه نافذ حسب الأدلة الظاهرة ونيته إلى الله. هل الأمور العبادية علي هذا الغرار؟ فمسح الرأس كله ركن عند الله ، ولكن المجتهد ـ وفق ما رأى من أدلة ـ قال بأن مسح بعض الرأس يكفى ، فهو مخطىء فى اجتهاده ولكن له أجره!
   كذلك يقول بعض العلماء ـ أو جلهم ـ وإن كان تعرف حقيقة الحكم عند الله متعذرا ، ومن ثم لا نجزم بصواب مجتهد أو خطئه. ومن العلماء من يرى هذه الأمور العبادية اعتبارية ، وأن مراد الله فيها هو السمع والطاعة ، وأن كل ما يصل إليه وفق فكره وجهده هو المطلوب منه ، ولا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ، وتبعا لذلك يرى أن كل مجتهد مصيب. وسواء كان كل مجتهد مصيبا ، كما يرى البعض أو مأجورا كما أجمعت الأمة ، فإن تجريم مجتهد أو التحامل عليه منكر كبير.
 احترام المخالف ديدن العلماء:
   والفقهاء المجتهدون وإن اختلفت آراؤهم يحترم بعضهم بعضا ويحترم حريته فى مخالفته ، وقد رأينا مالك بن أنس يرفض حمل الناس على مذهبه فى كتابه الموطأ ويقول: إن أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تفرقوا فى الأمصار وقد يكون لديهم ما فاته. وقد أنكر عبد الله بن مسعود إتمام الصلوات الرباعية أيام التشريق ، لما بلغه أن عثمان فعل ذلك ، وقد رئى ابن مسعود بعدها يصلى وراء عثمان متما فلما كلم فى صنيعه هذا قال أكره الخلاف..! وقد كان أحمد بن حنبل يرى أن الحجامة تنقض الوضوء ، فسئل عمن رأى الإمام احتجم وقام إلى الصلاة ولم يتوضأ ، هل يصلى الإمام خلفه؟ فقال رضى الله عنه: كيف لا أصلى خلف مالك وسعيد بن المسيب؟! وكان أبو حنيفة وأصحابه يرون انتقاض الوضوء من خروج الدم ، ولكن أبا يوسف رأى هارون الرشيد احتجم وصلى ولم يتوضأ ـ لأن مالكا أفتى الخليفة بأن لا وضوء عليه إذا هو احتجم ـ فصلى أبو يوسف خلفه ولم يعد الصلاة. ورووا أن الشافعى ترك القنوت فى صلاة الصبح لما صلى مع جماعة الأحناف فى أحد مساجد بغداد وذلك رعاية لأدب الإسلام ، ورغبة عن الخلاف.. وربما قيل: إن القنوت أمر ثانوى ، أما قراءة الفاتحة فى الصلاة وراء الإمام ، فالشافعى يراها ركنا ولا يرى ذلك أغلب الأئمة ، وما نظن الشافعى إلا قرأها سرا فى هذه الجماعة.
   ونقول: إن القيمة الذاتية لاجتهاد الشافعى فى وجوب القراءة كالقيمة الذاتية لرأى غيره فى كراهيتها ، أو جوازها، كلاهما اجتهاد يلزم صاحبه وحده ، ولا يلزم به غيره من المجتهدين.. والأجر منحة إلهية لكلا المذهبين ، الخطأ فيهما والصواب ، فلم التنطع وإثارة الفرقة؟ هل نحن أغير على الدين من صاحب الدين؟ لقد أدركنا فى طفولتنا عصرا مجنونا كانت تقام فيه ثلاث جماعات أو أربع للوقت الواحد! كان أتباع كل مذهب يرفضون الصلاة وراء إمام على غير مذهبهم. هؤلاء الناس صنعت عقولهم ثقافة مسمومة ، لا تكون على ظهر الأرض إلا أمة تافهة شريرة ، وسنتحدث عن هؤلاء عند نقدنا للتعصب المذهبى ، وقبل ذلك نزيد قضية الخلاف الفقهى وضوحا فننتقل انتقالة كبيرة.
    المعاصى والكبائر معروفة فى ديننا، والبعد عنها شيمة المؤمنين، عامتهم وخاصتهم، وثبوت حرمتها قائم على القطع فإن التحريم ليس هوى فرد أو توافق مجتمع. إنه خطاب الله سبحانه بالكف عن كذا ، أو كذا ، أى لابد من نص يستند إليه التحريم… وهنا قد يقع بين الفقهاء خلاف لا فى أصل النص ، بل فى الدائرة التى يتناولها بعد تحديد مفهومه. فالخمر حرام ، ومن قال بإباحتها فهو مرتد عن الإسلام ، ومن شربها عالما فهو فاسق. وقد سبق أن أشرنا إلى كلام الحنفية فى أن الخمر تصنع من العنب ، وأن اللغة تجعل الخمر من العنب وحده ، وأن ما أسكر من الأشربة يحرم بالقياس على الخمر ، وأن القدر غير المسكر من هذه الأشربة الأخرى لا يحرم ـ كما يقولون. وقد ضعفنا هذا الاجتهاد أو رفضناه. وبقى أن نسأل: ما حكم من شرب هذا القدر غير المسكر أو أباحه؟ والجواب: هو مخطئ ولكن لا يكفر ولا يفسق ولا يجوز لعنه كما يلعن شارب الخمر وعاصرها وبائعها وشاربها.. إلخ. ومثال آخر الربا حرام بيقين ، قليله وكثيره ، والإجماع على هذا انعقد ، ومنعا للوقوع فى الربا جاء فى السنة "والبر بالبر مثلا بمثل، هاء وهاء" ، أى أن التبادل يجب أن يتم حالا دون تفاوت!
  والتأمل فى صورة هذه المعاملة ، صورة استبدال قدح قمح بآخر دون زيادة ودون تأخير ، أمر يدعو إلى الغرابة ، إن المرء قد يبادل قمحا رديئا بآخر جيد! فيختلف الكم حتما ! لا ، هذا مرفوض ، فهو ربا. إن أردت الجيد فاشتره بثمن خاص ، وبع ما لديك بثمن ما ، ولا مبادلة إلا مثلا بمثل ويكون التقايض حالا.. وظاهر أن هذا الاحتياط الشديد جاء سدا لذريعة الربا ، وإغلاقا لأبوابه من بعد.. ولكن وردت أحاديث أخرى تجعل الربا في النسيئة ، لا فى الزيادة المعجلة ، وقد أخذ بهذا المعنى عبد الله بن عباس وغيره ، فهل يعدون مبيحين للربا؟ لا…! وقد ذكر ابن تيمية جملة من الاجتهادات التى أخذ بها أصحابها معتمدين على أسباب الخلاف التى أشرنا إليها ـ صدر هذا البحث ـ ورتب على ذلك أن لا تثريب عليهم ويغفر الله لنا ولهم. ومع رفضى الشخصى لبعض هذه الآراء فإنى لا أستبيح أصحابها ولا أنال منهم. قال ابن تيمية: إنه قد صح عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : "لعن الله آكل الربا وموكله ، وشاهديه وكاتبه " . وصح عنه من غير وجه أنه قال ـ لمن باع صاعين بصاع يدا بيد ـ "أوه عين الربا" كما قال البر بالبر ربا إلا هاء وهاء . وهذا يوجب دخول نوعى الربا ـ ربا الفضل وربا النسيئة ـ ثم إن الذين بلغهم قول النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ " إنما الربا فى النسيئة " فاستحلوا بيع الصاعين بالصاع يدا بيد ـ مثل ابن عباس رضى الله عنهما ـ وأصحابه ، أبى الشعثاء وعطاء وطاووس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة وغيرهم ـ من أعيان المكيين الذين هم صفوة الأمة علما وعملا ـ لا يحل لمسلم أن يعتقد أن أحدا منهم بعينه ، أو من قلده ـ بحيث يجوز تقليده ـ تبلغهم لعنة آكل الربا ، ـ نعم لا يلعنون ـ لأنهم فعلوا ذلك متأولين تأويلا سائغا فى الجملة. وكذلك ما نقل عن طائفة من فضلاء المدنيين من إتيان المحاش مع ما رواه أبو داود عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "من أتى امرأة فى دبرها فهو كافر بما أنزل على محمد" ـ صلى الله عليه وسلم ـ!.
وكذلك قد ثبت عنه ـ صلى الله عليه و سلم ـ أنه لعن فى الخمر عشرة : عاصر الخمر، ومعتصرها ، وشاربها.. الخ. وثبت عنه من وجوه أنه قال: "كل شراب أسكر فهو خمر" وقال: "كل مسكر خمر" وخطب عمر رضى الله عنه على منبره بين المهاجرين والأنصار، فقال: "الخمر ما خامر العقل ". وأنزل الله تحريم الخمر. وكان سبب نزولها ، ما كانوا يشربونه فى المدينة ولم يكن لهم شراب إلا الفضيخ ، لم يكن لهم من خمر الأعناب شىء. قال ابن تيمية: ومع ذلك كان رجال من أفاضل الأمة ـ علما وعملا ـ من الكوفيين يعتقدون ، أن لا خمر إلا من العنب وأن ما سوى العنب والتمر لا يحرم من نبيذه إلا بمقدار ما يسكر ، ويشربون ما يعتقدون حله قال فلا يجوز أن يقال: إن هؤلاء مندرجون تحت الوعيد ، لما كان لهم من العذر الذى تأولوا به أو لموانع أخرى. وكذلك لا يجوز أن يقال إن الشراب الذى شربوه ليس من الخمر الملعون شاربها ، فإن سبب القول العام لابد أن يكون داخلا فيه ، ولم يكن بالمدينة خمر من عنب ـ عند نزول الوحى ـ. ثم إن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد لعن البائع للخمر، وقد باع بعض الصحابة خمرا حتى بلغ عمر رضى الله عنه فقال: "قاتل الله فلانا ، ألم يعلم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها ، وأكلوا أثمانها "؟ ولم يكن يعلم أن بيعها محرم ولم يمنع عمر ـ رضى الله عنه ـ علمه بعدم علمه ، أن يبين جزاء هذا الذنب ، ليتناهى هو وغيره عنه بعد بلوغ العلم به. وقد لعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ العاصر والمعتصر ، وكثير من الفقهاء يجوزون للرجل أن يعصر لغيره عنبا ، وإن علم أن من نيته: أن يتخذه خمرا. فهذا نص فى لعن العاصر، مع العلم بأن المعذور تخلف الحكم عنه لمانع.
  وكذلك جاء لعن الواصلة والموصولة فى عدة أحاديث صحاح ، ثم من الفقهاء من يكرهه فقط . وقال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن الذى يشرب فى آنية الفضة إنما يجرجر فى بطنه نار جهنم" ومن الفقهاء من يكرهه كراهة تنزيه. وكذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار" . يجب العمل به فى تحريم اقتتال المؤمنين بغير حق ، ثم إنا نعلم أن أهل الجمل وصفين ليسوا فى النار لأن لهم عذرا وتأويلا فى القتال ، وحسنات منعت المقتضى أن يعمل عمله. ومضى ابن تيمية يقول: وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى الحديث الصحيح: " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء يمنعه ابن السبيل ، فيقول الله له: اليوم أمنعك فضلى كما منعت فضل ما لم تعمل يداك. ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنياه ، إن أعطاه رضى ، وإن لم يعطه سخط. ورجل حلف على سلعة بعد العصر كاذبا: لقد أعطى بها أكثر مما أعطى". فهذا وعيد عظيم لمن منع فضل مائه ، مع أن طائفة من العلماء يجوزون للرجل أن يمنع فضل مائه. فلا يمنعنا هذا الخلاف أن نعتقد تحريم هذا محتجين بالحديث ولا يمنعنا مجىء الحديث أن نعتقد أن المتأول معذور فى ذلك ، ولا يلحقه هذا الوعيد. وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لعن الله المحلل والمحلل له " ، وهو حديث صحيح قد روى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من غير وجه ، وعن أصحابه رضى الله عنهم ، مع أن طائفة من العلماء صححوا نكاح المحلل مطلقا. ومنهم من صحح إذا لم يشترط فى العقد ، ولهم فى ذلك أعذار معروفة. فإن قياس الأصول عند الأول ، أن النكاح لا يبطل بالشروط ، كما لا يبطل بجهالة أحد العوضين. وقياس الأصول عند الثانى: أن العقود المجردة عن شرط مقترن لا تغير أحكام العقود. ولم يبلغ هذا الحديث من قال هذا القول. هذا هو الظاهر ، فإن كتبهم المتقدمة لم تتضمنه. ولو بلغهم لذكروه آخذين به، أو مجيبين عنه، أو لعله بلغهم وتأولوه أو اعتقدوا نسخه، أو كان عندهم ما يعارضه. وكذلك استلحاق معاوية رضى الله عنه زياد بن أبيه المولود على فراش الحارث بن كلدة ، لكون أبى سفيان كان يقول : إنه من نطفته ، مع أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد قال : " من ادعى إلى غير أبيه ، وهو يعلم أنه غير أبيه: فالجنة عليه حرام " . وقال : " من ادعى إلى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا". وقضى أن الولد للفراش ، وهو من الأحكام المجمع عليها ـ ومع ذلك ـ خالفه معاوية. ونحن نعلم أن من انتسب إلى غير الأب الذى هو صاحب الفراش ، فهو داخل فى كلام الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، مع أنه لا يجوز أن يعين ـ باللعن ـ أحد من دون الصحابة فضلا عن الصحابة فيقال: إن هذا الوعيد لاحق له ، لإمكان أنه لم يبلغهم قضاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن الولد للفراش ، واعتقدوا: أن الولد لمن أحبل أمه ، أو اعتقدوا: أن أبا سفيان هو المحبل لسمية أم زياد. فإن هذا الحكم قد يخفى على كثير من الناس ، لاسيما قبل انتشار السنة. بهذا العقل المتفتح ، والقلب المتسامح ينظر ابن تيمية إلى ما وقع بين الأئمة من خلاف ، ويرفع عنهم الملام.. ثم خلفت خلوف تحاول هدم القمم ، ونتلمس لها الأخطاء من بعيد.. وتريد أن تجعل الإسلام بلا تاريخ علمى ، ولا مفكرين كبار… وتنظر إلى هذه الخلوف المسعورة ، فترى مزيجا من الجهل والكبر لا يستحق إلا المقت والازدراء.
دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين

ليست هناك تعليقات: