الثلاثاء، 12 مارس 2013

كيف نتعامل مع السنة


كتبهامصطفى الكومي ، في 3 يناير 2011 الساعة: 16:38 م

      معالم وضوابط
    الدكتور يوسف القرضاوي
  بسم الله الرحمن الرحيم



































تقديم
     الحمد لله رب العالمين , رضي لنا الإسلام ديناً , ومحمد نبياً وهاديا ورسولا , أرسله بالحق إلى الناس كافة بشيرا ونذيراً , وداعيا إلى الله بإذنه , وسراجا منيراً على فترة من الرسل , وانتشار للضلالة فصدع بأمر الله تعالى , وبلَّغ الرسالة , وأدى الأمانة , كما تلقاها , وبيَّن للناس ما نُزَّل إليهم , وأوضح شرائع الله , وأدّى فرائضه حتى كمل للناس دينهم , وتمت عليهم النعمة , ورضي لهم الإسلام ديناً دائماً ثابتاً , لا ينطفيء نوره ولا تبيدمعالمه , ولا تندثر شرائعه حتى يرث الله الأرض ومن عليها .


 وليعم نور هذه الرسالة وتظل رايتها مرفوعة حتى قيام الساعة أوضح الله سبحانه مصادر النور ومراجع الهداية في حياة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ , وبعد وفاته لكي لا تضطرب الكلمة , وتختلف القلوب , فقال جل شانه :" أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.." .


وأولو الأمر هم العلماء القادرون على الاستنباط " وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ.."


والأمراء الذين خولتهم الأمة وفوضتهم سلطة تنفيذ شرائع الله فيها والتزموا بذلك ولم ينحرفوا عنه .


   فطاعة الله تتمثل بطاعة كتاب الله تعالى والالتزام التام بمحكمه وإتباع أوامره , واجتناب نواهيه , والتسليم بمتشابهه , والاعتبار بإخباره , والفهم لسننه , وطاعة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تظهر باتباع أوامره وطاعته التامة في حياته , واتباع سنته بعد وفاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ .


   ومنذ ظهور الإسلام والاحتجاج بسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائم كالاحتجاج بكتاب الله تعالى وفقا لضوابطمعروفة لأئمة المسلمين ومجتهديهم , والمسلمون , كل المسلمين , يعلمون من دين الله بالضرورة العقلية والبداهة الفطرية حجية السنة من أقوال وأفعال وتقريرات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ , في كل ما تعلق بالتبليغ والتشريع والبيان , ولا يسع مؤمناً بالله ورسله أن يقول بخلاف ذلك , وكيف يسع مسلماً أن يقول غير ذلك والسنة دائرة معالقرآن حيث دار تبين مجمله وتفصل مبينه , وتوضح آياته , وتفسر بياناته , وتطبق شرائعه , وقد تخصص ما يبدو أنه مفيد للعموم , وتقيّد ما يبدو مفيد للإطلاق.


   ولذلك كانت حجية السنة النبوية ضرورة دينية لم ينازع فيها أحد من المسلمين من سلف هذه الأمة . ثم نبتت نابتة كليلة الفهم , قليلة العلم لم تفرق بين السنة ـ من حيث كونها سنة ثابتة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثبوتاً قاطعاً أو ظاهراً , وبين طرق سنن الماضيين وأخبار الغابرين , ومدى إمكان الاحتجاج بالخبر المنقول عن الأولين , وما مستوى الاحتجاج به ؟ وما مرتبته بين وسائل الإدراك الإنساني ؟ وهل يقوى على معارضة المحسوس أو المعقول إذا جاء على مناقضته أولا ؟ , وقد توهمت تلك النابتة أن النقاش في هذه القضية المنهجية الفلسفية إنما هو جدال في حجية السنةالنبوية ذاتها , فسحبت كل ذلك الجدل المنهجي الفلسفي إلى دائرة (السنةالنبوية) باعتبار أن السنن أحاديث , وأن الأحاديث أخبار , وان جل ذلك الجدل إنما هو في الإخبار , ولم تلتفت إلى الفروق الكبيرة الهائلة بين السنة النبوية ذاتها من حيث كونها سننا ,  وبين طرائق نقلها والإخبار بها من ناحية , كما لم تلتفت إلى الفروق بين مناهج الإخبار عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومناهج الإخبار عن سواه , فكانت نتيجة ذلك الخلط أن ثار ذلك الجدل العجيب حول حجية السنة النبويةذاتها , واحتل مساحات واسعة في الدراسات الأصولية والحديثية كان يمكن أن تخصص لمجالات مناهج فهم السنة        


  وطرائق فهمها , وبيان مناهج الدروس والعبر منها , ونحو ذلك من دراسات تيسر للمسلمين في كل مكان وزمان كيفية بناء أفكارهم وتصوراتهم وثقافتهم ومناهج حياتهم ومجتمعاتهم وفقاً لتوجيهاتالسنة والدروس المستفادة منها .


   ولقد كان لتلك المعارك المفتعلة حول حُجيّة الأخبار بعامة , وحُجيّة أخبار الآحاد بخاصة , آثار سلبية خطيرة أخرى في تكريس الفرقة والاختلاف بين المسلمين وتحويل البحث والدراسات الإسلامية فيالسنة في بعض الأحيان إلى موضوعات نظرية لا أثر إيجابي لمعظمها , بل لكثير منها آثار سلبية في المجالات الفكرية والعلمية الإيجابية , منها على سبيل المثال قضية مرتبة السنة النبوية من الكتاب , وقضية نسخ السنة بالكتاب ونسخ الكتاب بها , واستغراق العقل المسلم بما لا مزيد عليه في مجال التوثيق والرواية وتصحيح الأسانيد ونقدها , فإذا نظرنا في مساحة نقد المتون ومناهج دراستها وتحليلها ظهر البون الشاسع بين الجهود الضخمة الهائلة التي بذلت في مجال نقد الأسانيد والجهود المحدودة التي أنفقت في مجال نقد المتون , ووضع المناهج والمقاييس العلمية لدراستها وتحليلها , وإبراز علاقات الأحاديث المختلفة بالزمان والمكان والبيئة والواقع .


   ولقد قام الفقهاء ـ رحمهم الله تعالى ـ بجهود كثيرة مشكورة في المجال التشريعي كان يمكن أن تفي بالغرض وتؤدي الحاجة لو شملت جميع جوانبالسنة وسائر أنواعها , ولكنها اهتمت بالسنة التشريعية وطبقت منهجها في مروياتها .


   ولما كانت السنة النبوية المطهرة تمثل ـ في جملتها ـ المرحلة التطبيقية النبويةالبيانية في ظروفها الزمانية والمكانية , وبكل خصائص المرحلة الموضوعية و الاجتماعية والاقتصادية والفكرية , فإن دراسة مناهج الفهم للسنة تعتبر من أمثر الدراسات الأصولية والحديثية ضرورة وأهمية . فلقد كانت تلك المرحلة تجسيداً علمياً لمنهج الله على الأرض وكان القرآن العظيم ـ ذاته ـ يقود حركة التطبيق والتجسيد للمنهج في الواقع , ويهيمن على سائر جوانبها ليصوغها وفقاً لمنهجه , ويجعلها التعبير الكامل عنه لترجع البشرية إليه دائماً وأبداً , فكثيراً ما كانت آياته الكريمة تنزل بتقويم عملية التطبيق ونقدها وتحليلها وتصويبها والاستدراك عليها , وتجسد ذلك واضحاً في كثير من آيات سورة آل عمران والأنفال وغيرها .


   ولقد كان المعهد العالمي للفكر الإسلامي , ولا يزال , يعتبر قضية فهمالسنة النبوية , ومنهج دراستها وتحليلها ومعرفة سائر أبعادها , وكيفية اتخاذها مصدراً للمعرفة والحضارة والثقافة الإسلامية قضية من أهم القضايا الفكرية التي يجب على العقل المسلم أن يوليها عنايته واهتمامه وذلك لأن تحديد أصول الإسلام ومصادره وتوضح قضاياها , ومناهج فهمها وتعتبر الأساس الأهم في بناء العقل المسلم وتصحيح مسيرته , وإعادة بناء النسق المعرفي والثقافي والحضاري للأمة الإسلامية . ولتحقيق ذلك فقد اختط لحركته , في هذا المجال سبيلاً يتلخص فيما يلي :


1ـ العمل على تحويل مجرى اهتمام الدراسات الأصولية والحديثية من القضايا المحسومة تاريخياً إلى القضايا التي لم تحسم بعد , فقضية الحُجيّة يعتبرها المعهد قضية قد تم حسمها , فما يسع مسلماً يؤمن بالله ورسوله أن ينكر حُجيّةالسنة , وقد أصدر المعهد في هذا الموضوع دراسة علمية قيمة تعتبر أهم وأشمل دراسة أصولية في مجال (حُجيةالسنة) وذلك هو كتاب (حجية السنة) لشيخ الأصوليين المعاصرين الشيخ عبد الغني عبد الخالق ـ رحمه الله تعالى ـ واعتبره الكلمة الفصل في هذا الجانب الذي لا بد أن يتجاوز الباحثون إلى سواه .


2 ـ العمل على توجيه أنظار الباحثين في مجالات السنة النبوية للاستفادة من الحاسوب لتيسير السنة لمختلف صنوف العلماء والباحثين , وقد قام المعهد بدعم كثير من العاملين في هذا المجال لتحقيق هذا الغرض .


3ـ العناية بالتصنيف الموضوعي للسنة , والاستفادة من المناهج العلمية النافعة في المجال لتحقيق أهدافنا في جعلالسنة النبوية مصدراً للمعرفة الإنسانية والاجتماعية بكل أنواعها , وعدم الاقتصار على جعلها مصدراً للمعرفة الفقهية وحدها .


4ـ استكتاب أكابر العلماء موضوعات تؤكد على الجوانب الهامة المتعلقة بالسنةودورها في إعادة بناء الحضارة الإسلامية , وإخراج الأمة المسلمة من دائرة التخلف . وفي هذا الإطار تم استكتاب فضيلة الأستاذ الكبير والشيخ الجليل الأستاذ الشيخ محمد الغزالي , فكتب كتابه المعروف : (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) , في محاولة لمعالجة فقهالسنة وفهمها , وبيان الفرق بين من تستغرقهم شكليات الأسانيد وقوالب الرواية , وبين أولئك الذين يتجه اهتمامهم نحو الفهم والفقه واستخلاص العبر واستنباط الدروس , والشيخ الجليل أجل ـ في نظر المعهد ـ من أن يحدد له إطار و أو يقترح عليه كيف يكتب , أو يراجع ما يكتبه قبل أن يصدره , فثارت تلك الضجة التي لا تزال ذيولها حول بعض التفاصيل أو النماذج أو الأمثلة التي استشهد فضيلة الشيخ الغزالي بها , وكادت رسالة الكتابالأساسية تضيع في ثنايا الضجة المثارة حول التفاصيل .


   لقد كانت رسالة الكتاب موجهة , أولاً إلى تلك النابتة من الذين لم يؤتوا من العلم الشرعي والتكوين العلمي , والإلمام بالتاريخ والسيرة والفقه واللغة ما يمكنهم من فهم الحديث على وجه الصحة , فيقعون على كتاب من كتب الحديث فيطلعون على الأثر فيه ولا يعرفون حقيقته , ولا أبعاده , ولا أسباب وروده , ولا يدرون ما قبله ولا بعده , فيطيرون بفهم ناقص مشوش ينشرونه بين الناس , فإذا قيل لهم : فهمكم هذا يعارض قول الله تعالى , قالوا : السنة قاضية على الكتاب وناسخة له , وإذا قيل لهم : إن هذه الرواية معارضة بها هو أصح منها لم يدروا حقيقة التعارض , ولا طرائق الترجيح , ولا أساليب الفهم , ولا ضوابطه ومناهجه .  


كما كانت موجهة إلى أولئك العلماء والباحثين وخدام السنة النبوية المشرفة إنذاراً وتخويفا وتنبيهاً لهم ليوجهوا شيئاً من جهودهم نحو قضايا الفهم ومناهج الإدراك , فلا سنة بدون فهم وفقه , ولا فقه ولا حضارة إسلامية ولا معرفة بدون سنة .


5 ـ وحين رأى المعهد الغبش الذي أحاط برسالة الشيخ الغزالي , وشغل معظم الأذهان عن رسالته الأساسية وشكلياته , توجه برجائه إلى صاحب الفضيلة الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي , حفظه الله تعالى ونفع به ـ ليعد كتاباً ضافياً في :(مناهج فهم السنة) , وكتاباً مثله في : (السنة مصدر للمعرفة) , وقد تفضل فضيلة الأستاذ الدكتور فأعد الكتابين , ويسعد المعهد أن يقدم أولهما و سيقدم الآخر في وقت غير بعيد إن شاء الله تعالى .


   وفي إطار عملية توجيه البحوث والدراسات في السنة النبوية المطهرة باتجاه قضية الفهم , عقد المعهد ندوة دولية بالتعاون مع المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية في عمان , وذلك في نطاق المؤتمر العام السابع للمجمعالملكي لبحوث الحضارة , وشارك فيها مائة وستة وعشرون عالما وأستاذاً باحثاً , وبدأت أعمالها يوم الاثنين 15ذو القعدة 1409هـ , الموافق 19يونيو1989م , وانتهت يوم الخميس 18ذو القعدة الموافق 22يونيو 1989م , وكان عنوانها : (السنةالنبوية : منهجها في بناء المعرفة والحضارة). وكان من أهم ما نوقش فيهاكتاب الشيخ الغزالي وبحث الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي , إضافة إلى مجموعة قيمة أخرى من الأبحاث التي كتبت ضمن محاور الندوة الثلاثة .


ويعتبر المعهد أن قضية (فهم السنةالنبوية) وبلورة مناهج الفهم ومقاييس وضوابط نقد المتون , ونحو ذلك من القضايا التي تساعد على اتخاذ السنة النبويةالمطهرة مصدراً للثقافة والمعرفة والحضارة الإسلامية ـ هي قضية هامة تحتاج إلى كثير من الجهود العلمية والدراسات الجادة والندوات العلمية لكي تستعيد السنة دورها الإيجابي الفعال في بناء الحياة الإسلامية المعاصرة .


   وقد تبدو الحاجة أشد إلى أن تشمل برامج الدراسات الحديثية في الجامعات والكليات والمعاهد الإسلامية على هذه القضايا وإحلالها محل دراسة القضايا التي تم حسمها ولم تعد مجال بحث .


   وبعد أن يصل هذه الكتاب القيم وتتداوله الأيدي وتستوعبه العقول ونرجو أن يتضاعف الاهتمام الإسلامي بقضية فهمالسنة , وإشاعة وترسيخ قواعد فهمها وضوابطه وشروطه , وبيان أسباب تفاوت الفهم واضطرابه في بعض الأحيان , وكيفحدثت أزمة فهم السنة , ما هي عواملها , وكيف تحلل القضايا المتداخلة التي أدت الخلط والتداخل بينها إلى تفاقم أزمة الفهم ؟ وما أثر أزمة الفهم بظهور الكلام في قضية الحجية ؟


   ومن القضايا التي تحتاج إلى المزيد من البحث في هذا الجانب , ولها صلة بقضية فهم السنة النبوية ودراستها :


أولا : شروط الفهم 


إذا كانتقضية السنة قضية فهم, فما هي عوامل تفاوت الفهم واضطرابه في بعض الأحيان عبر التاريخ ؟ وما أسبايه ؟ , وما هي خواص وصفات ومميزات العقل القادر على فهم السنة وحسن التعامل معها ؟ وما علاقة الفهم بالالتزام الإسلامي وكيفيتغلب على النظر الجزئي ؟ وكيف تعالج أزمة الفهم بمعالجة سائر الجوانب المؤثرة فيها ؟ , وكيف تُحلل القضايا المتداخلة التي أدى التداخل بينها والخلط إلى أزمة الفهم , التي أدت بدورها ـ في نظر كثير من الباحثين إلى تقديم قضية : (الحجية) كلياً أو جزئياً وتحويلها إلى ميدان الجدل ومعارك المراء , ولم تكن ـ قبل ذلك ـ موضوع نقاش عند أحد من المسلمين كما قد علمت .


ثانيا : الاختلاف والفرقة وقضايا مرشحة للبحث العلمي الدقيق


2ـ الفِرَق الإسلامية كيف انقسمت ؟ وما هي عوامل فرقتها وانقسامها ؟ وما موقع قضايا السنة والاختلاف فيها ـ فهما وحجية ودراية ورواية ـ من تلك العوامل ؟ وكيفاستعملت السنة سلاحاً بين الفرق الإسلامية المختلفة ؟ , وكيف برزت ظاهرة الوضع والنظر الجزئي والاتجاه القانوني وما اثر ذلك ؟ , وما علاقته في بروز كثير من القضايا الفنية المتخصصة في علمي الدراية والرواية ؟ وكذلك في دخول بعض القضايا ميادين دراسات السنة لدى الأصوليين والمتكلمين مثل قضية : (حجيةالسنة) , و (مرتبة السنة من الكتاب) , وقضية : (نسخ الكتاب بالسنة) , وتخصيصه وتقييده بها , و(اجتهاد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والجدل فيها , واشتراك (السنة القولية) مع نصوص الكتاب الكريم في مباحث مشتركة , وإصدار الأحكام المشتركة على النصينمعاً في كثير من هذه القضايا ؟ وما أثر ذلك في العقل المسلم فكريا وتربويا ؟ , وما هي الأطر التاريخية التي ولدت تلك القضايا ؟ , وما دلالتها الفكرية وآثارها في القديم والحديث ؟ , وما أفضل سبل تناول هذه القضايا في الدراسات المعاصرة لقضاياالسنة وكيفية تصميم برامجها ؟ وكيفية الخروج منها بصورات تساعد على توضيح الرؤية الإسلامية في قضية توحيد المسلمين , وجمع كلمتهم , وإعادة بناء الأمة , وتوجهها نحو الفعل الحضاري المنتج الفعال ؟.


ثالثا : البعد الزماني والمكاني وفهمالسنة


3ـ لقد كان واضحاً لدى الأصوليين ـ كما كان واضحاً لدى الصدر الأول ـ ملاحظة الأبعاد الزمانية والمكانية وخصوصيات المراحل وأوضاعها في قضية الفعل النبوي والتقرير وبشرية التجربة النبوية الفعلية ونسبيتها ووضعوا لذلك بعض الضوابط , فهل يمكن للمتخصصين تحديد ضوابط تلاحظ فيها نلك الأمور في بعض أنواع القول النبوي وكيف؟ , وما دور الدراسات الحديثية المعاصرة في إبراز هذه الضوابط وتأصيلها ؟


4ـ الاختلافات الجوهرية بين القضية الجزئية التي يعالجها الفقيه , والقضية الفكرية التي يعالجها المفكر والفيلسوف والمتكلم , والظاهرة الاجتماعية التي يعالجها علام الاجتماعيات , وتجعل من الضروري إيجاد مناهج متعددة في فهمالسنة والتعامل معها و فالحديث المتعلق بقضية جزئية تندرج تحت نظر الفقيه يختلف عن الحديث المتعلق بظاهرة اجتماعية عامة يجب أن تلحظ في فهمها جميع الجوانب التحليلية التي يلحظها عالم الاجتماعيات , وكيف يمكن التخلص من الداء التاريخي العضال الذي نجم عن فرقة الانقسام باستعمال الأحاديث للشيء ونقيضه , وتشبث الفرق المختلفة كل ما عنده فقط و كيف يمكن إعادة قواعد النظر الكلي والمقاصدي إلى العقل المسلم والخروج من هذه الدائرة خاصة بعد أن تيسرت الوسائل لجمع السنة والرجال وإجراء البحوث والدراسات العلمية والحوار المشترك والمجامع العلمية المشتركة ؟ .


دور السنة في معالجة مشكلات الأمة


5 ـ تسيطر على الساحة العربية خاصة والإسلامية عامة , جملة من السلبيات تشكل جانبا من جوانب أزمة العقل المسلم المعاصر , وتظهر بأشكال مختلفة , منها :

ـ انحلال الروابط بين فصائل الأمة وسيادة روح الصراع بكل أنواعه الفكرية والاجتماعية والطائفية والمذهبية إضافة إلى السياسية , وإحياء الأفكار المفرقة للأمة أو ابتكارها عند الحاجة .  

ـ انهيار بقايا التوازنات الاجتماعية والإقليمية وسيادة روح الأنانية الفردية او الشللية , وسيطرة مشاعر القلق والخوف من المستقبل , واليأس والقنوط من الحاضر , والتواكل والإهمال وفقدان الحماس لأي موقف إيجابي , وسيطرة ظاهرة المواقف القائمة على رد الفعل , وترك مهمة الفعل والتأثير للغير , وتراجع أجواء الحوار لصالح أجواء الصراع والنزاع .


ـ  غياب الوعي الموضوعي على حقيقة مشكلات الأمة الاجتماعية وعلاقاتها بالتاريخ , وتضاؤل النظرات الكلية التحليلية والتعليمية لقضايا الأمة أمام النظر الجزئي والسطحي والعاطفي والخطابي , وانفتاح العقل المسلم لقبول الشيء بدون تعليل أو تعليله بغير علته وغير ذلك من مظاهر قد تستعصى على الحصر الدقيق .                                


فكيف يمكن توظيف السنة النبوية وإحياء دورها في تصحيح مسار الأمة , وإعطاء الرؤية الواضحة والتصور السليم الذي يساعد على تقديم التفسير المقنع لكل هذه القضايا , ويُوجِد في الإنسان المسلم إرادة الفعل , وفي المجتمع المسلم القدرة على تعبئة القوى الاجتماعية وتوحيدها حول غايات إسلامية تبعث فيها الحياة تبعث فيها الحياة والأمل , وتحفزها نحو العمل لإيجاد البديل الثقافي والمشروع الاجتماعي الفكري والعملي الذي يعيد للأمة هويتها , ويعمق فيها الشعور بالانتماء إلى حضارة وتاريخ عريقين مجيدين ؟ .


خطورة الفهم المعجمي للسنة


6ـ في عصر الرسالة كان الناس يعايشونالسنة بكل أبعادها , ويفهمون القرآن العظيم من خلال تلك المعايشة فهماً مباشراً واضحاً قوياً , فظهر تأثيره المعجز في إيجاد الأمة الوسط , الشهيدة على الناس , المتصفة بالخيرية التامة , القادرة على مواجهة أي تحد , المتخطية لأية عقبة , وحين بَعُد عهد الناس بالرسالة تجسد دور القاموس اللغوي في فهم النص على حساب وسائل وعناصر التفسير والفهم الأخرى , وظل دور القاموس يتضخم حتى طغى لدى البعض على سائر الوسائل الأخرى , وأصبح الوسيلة الوحيدة للفهم والتفسير , فولدت العقلية الحرفية المعجمية و ترعرعت حتى أصبحت تيارات ضخمة يعمل بعضها خارج إطار الزمان والمكان وحركة الحياة والتاريخ , ويمدمعوقات نهوض الأمة بكثير مما تحتاجه من دعائم التعويق والجدل والاضطراب ويختزل الإسلام كله في جملة من الهياكل التاريخية والأشكال والصور التراثية ويبني على المستحيل كثيراً من التصورات والأطروحات , ويتوهم إمكان تكرير الحديث بكل عناصره مرات عديدة , وذلك ـ في الحياة الدنيا ـ محال , فكيف يمكن للدراسات الحديثية للسنة أن تعالج هذه القضايا وتباعد بين العقل المسلم وأخطارها , وتنقذه من هيمنة هؤلاء الذين أوشكوا أن يفرغوا الإسلام من محتواه الثقافي ومضمونه الحضاري , ويحصروه في بعض القوالب اللغوية واللفظية التي لا يمكن أن تقيم مجتمعا أو توجد أمة أو تبني حضارة .


السنة ومشروع نهضة الأمة           


   7 ـ لا شك أن أمتنا أحوج ما تكون ـ اليوم ـ إلى مشروع نهضة شامل كامل يعيد هذه الأمة غلى موقع الوسطية والشهود الحضاري من جديد , ولا يمكن أن يتم ذلك بدون تمكين المجتمعات الإسلامية من الشروط اللازمة لاستعادة موقعها ذلك , وفي مقدمة هذه الشروط بناء وتشكيل النسق الفكري والثقافي للأمة .


   إن أمتنا اليوم تقتات فئاتها المتعلمة بإحدى ثقافتين : ثقافة تاريخية موروثة لها كل ما لعصور وبيئات إنتاجها من خصائص . وثقافة مستوردة مترجمة وغير مترجمة , وأمام كل من الثقافتين يقف عقل المسلم المعاصر موقف المنفعل والمستهلك الثقافي , وما كان لعقل عاجز عن الفعل , قانع بدور الانفعال وعاجز عن الإنتاج الثقافي , مكتف بالاستهلاك أن يبني دولة , أو يشيد أمة , أو يصنع حضارة .


   إن ربط أهداف ووسائل التغيير الاجتماعي بدين الأمة وعقيدتها سوف يساعد كثيراً على تجنيد طاقات الأمة كلها وتعبئة جماهيرها لإحداث النقلة الفكرية والثقافية والحضارية المطلوبة للأمة , وتحملها الأعباء الجسام التي تتطلبها هذه النقلة .


   ولكي يخرج العقل المسلم من أزمته الراهنة , وينتقل إلى مرحلة الرؤية السليمة والقدرة والعطاء , والاستجابة لمتطلبات المرحلة وإعادة بناء المنظومة الفكرية والثقافية للأمة , لا بد من إعادة قراءة مصادر الإسلام الثابتة : الكتابوالسنة , بوعي وفهم دقيقين , ونظر إسلامي معاصر قادر على ملاحظة جميع المؤثرات وسائر الأبعاد لاستلهام المقاصد ومعرفة الغايات , وتبين الكليات , واستنباط المنهج اللازم للاستجابة الإسلامية لتحديات المرحلة وإعادة بناء مقومات الأمة .


   إن القرآن العظيم قد زود أسلافنا بمنهج فكري فذ قادر على فهم وتفسير وتحليل تحولات الأمم والمجتمعات وسبر أغوار الحقائق , والسنن الخاصة بالتحولات الحضارية الكبرى بشكل موضوعي لا مراء في موضوعيته وتطابقه مع الواقع وعلميته وقدرته المتميزة على كشف التناقضات الداخلية في المجتمعات وكيفية نموها وعوامل وجودها في الحضارات مع توضيح تام لاتجاهات التطور التاريخي .


   إن سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسيرته , ونمط حياته وحياة الصدر الأول من أصحابه , لتمثل التجسيد العلمي الواقعي لذلك المنهج الفكري , وحين يتعامل العقل المسلم المعاصر معالكتاب المجيد بتأمل وتدبر وإدراك معاصر سليم بحثاً عن كلياته وغاياته ومقاصده للوصول إلى منهجية كاملة تشكل ناظماً وضابطاً لحركة الحياة والإنسان ينسجم معدورة الكون والوجود فإن حل الأزمة العقلية الكبرى يصبح في متناوله .


   وحين يضيف إلى ذلك فهماً للسنة وإدراكاً يستوعب مرامي وغايات التطبيق النبوي للوحي الإلهي وتحويله إلى واقع حي بحياة الناس ويمارسونه , فإن حجب الجهل , وظلمات الأحقاد والصراع , وتبديد الطاقات , سوف تنقشع بإذن الله عن هذه الأمة ويرتقي الإنسان المسلم فوق عوامل العجز الذاتي ليكون قادراً على إقناع الإنسان المعاصر بكل تعقيداته العقلية والثقافية , والأخذ بيده نحو الهداية والفلاح من خلال إدراك الكليات الإسلامية وتمييز الثوابت عن المتغيرات وإدراك المقاصد وتحديد الغايات .


   إن هذا الكتاب سيكون ـ بإذن الله ـ دعامة من الدعائم الأساسية في بناء منهج فهم السنة , وسوف يجيب عن كثير من التساؤلات المتعلقة بهذا الموضوع , ويلفت النظر إلى هذا الجانب الهام من جوانب الاستفادة بالسنة النبوية المطهرة , هذا الجانب الذي لم يعط من الاهتمام ما يستحقه سواء على مستوى الحوار أو على مستوى البحث العلمي والتأليف , أو على مستوى التدريس والتعليم .


  ولعل هذا الكتاب القيم يدفع بقضايا فهمالسنة والحوار فيها وحولها إلى قاعات البحث والدراسة , ويساعد في إخراج الأمة من ذلك الجدل العقيم الذي طال تخبطها فيه .


   نسأل الله سبحانه أن يجزل لمؤلفه الجليل المثوبة , وينفع المسلمين به ويجعله في ميزان حسناته , ويوفق المعهد العالمي للفكر الإسلامي لتحقيق أهدافه في خدمة الأمة الإسلامية ومعالجة قضاياه الفكرية . إنه سميع مجيب .


أ.د/ طه جابر العلواني رئيس المعهد


ربيع الأول1410هـ


أكتوبر 1989م


موضوعات ذات صلة على صفحة .. إسلاميات

ليست هناك تعليقات: