الأربعاء، 20 فبراير 2013

الجمع أو الترجيح بين مختلف الحديث


كتبهامصطفى الكومي ، في 21 يناير 2011 الساعة: 19:30 م

ثالثاً
الجمع أو الترجيح بين مختلف الحديث


      معالم وضوابط
    الدكتور يوسف القرضاوي
  بسم الله الرحمن الرحيم

































الأصل في النصوص الشرعية الثابتة : ألا تتعارض ؛ لأن الحق لا يعارض الحق .  
   فإذا افترض وجود تعارض , فإنما هو في ظاهر الأمر لا في الحقيقة والواقع وكان علينا أن نزيل هذا التعارض المدعي .
   وإذا أمكن إزالة التعارض بالجمع والتوفيق بين النصين , بدون تمحل واعتساف بحيث يعمل بكل منهما , فهو أولى من اللجوء إلى الترجيح بينهما , لأن الترجيح يعني إهمال أحد النصين , وتقديم الآخر عليه .
الجمع مقدم على الترجيح
   فهذا من الأمور المهمة لحسن فهم السُنة : التوفيق بين الأحاديث الصحيحة التي تتعارض ظواهرها , وتختلف ـ لأول وهلة ـ معني متونها , والجمع بين بعضها وبعض , ووضع كل منها في موضعه الصحيح , بحيث تأتلف , ولا تختلف , وتتكامل ولا تتعارض .
   وإنما قلنا : (الأحاديث الصحيحة ) , لأن الضعيفة والواهية , لا تدخل في هذا المجال , ولا نطالب بالجمع بينها , وبين الثابت الصحيح , إذا تعارض معها , إلا من باب التنازل والتبرع (50) .
أحاديث رؤية النساء للرجال
   ولهذا رد العلماء المحققون حديث أم سلمة , عند أبي داود والترمذي , الذي يحرم على المرأة رؤية الرجل ولو كان أعمى (أفعمياوان أنتما؟) بحديث عائشة أم المؤمنين , وحديث فاطمة بنت قيس وكلاهما في الصحيح :
   فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : كنت عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعنده ميمونة , فأقبل ابن أم مكتوم , وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب , فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " احتجبا منه " فقلنا : يا رسول الله أليس هو أعمى : لا يبصرنا ولا يعرفنا ؟ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "أفعمياوان أنتما , ألستما تبصرانه !؟ " رواه أبو داود والترمذي , وقال : حديث حسن صحيح (51) .
   والحديث ـ وإن صححه الترمذي ـ ففي سنده نبهان مولى أم سلمة وهو مجهول لم يوثقه غير ابن حبان , ولذا ذكره الذهبي في (المغني) في الضعفاء .
   وهذا الحديث معارض بما في الصحيحين , مما يدل على جواز نظر المرأة إلى الأجنبي , فعن عائشة رضي الله عنهما قالت : رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسترني بردائه , وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد (52) .
   قال القاضي عياض : فيه جواز نظر النساء إلى الرجال الأجانب , لكنه إنما يكره لهن النظر إلى المحاسن , والاستلذاذ بذلك .
   ومن تراجم البخاري على هذا الحديث , (باب نظر المرأة إلى الحبش و نحوهم من غير ريبة "(53)
   يؤكد ذلك ما رواه البخاري من حديث فاطمة بنت قيس أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لها : عندما طلقت طلاقا باتا :" اعتدي في بيت ابن أم مكتوم , فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك ولا يراك " وكان أشار عليها أولا أن تعتد عن أم شريك ثم قال : تلك امرأة يغشاها أصحابي , اعتدي عند ابن أم مكتوم .. الخ . فلا يقاوم حديث أم سلمة بما فيه من ضعف هذه الأحاديث الصحاح .
   على أنه يجوز ـ من باب التنازل والتبرع ـ محاولة التوفيق بين الحديث الضعيف والحديث الصحيح وإن لم يكن ذلك واجبا .
   ولهذا قال الإمام القرطبي وغيره في حديث أم سلمة المذكور:
   وعلى تقدير صحته فإن ذلك منه عليه السلام تغلظ على أزواجه لحرمتهن كما غلظ عليهن أمر الحجاب , كما أشار إليه أبو داود وغيره من الأئمة , ويبقى معنى الحديث الصحيح الثابت وهو أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت أم شريك , ثم قال :"تلك امرأة يغشاها أصحابي , اعتدي عند ابن أم مكتوم , فإنه رجل أعمى , تضعين ثيابك ولا يراك "
   قال القرطبي :
   "قد استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن المرأة يجوز لها أن تطلع من الرجل على ما يجوز للرجل أن يطلع من المرأة كالرأس ومعلق القرط , وأما العورة فلا " " وإنما أمرها بالانتقال من بيت أم شريك إلى بيت ابن أم مكتوم ؛ لأن ذلك أولى بها من بقائها في بيت أم شريك , إذ كانت أم شريك مؤثرة بكثرة الداخل إليها , فيكثر الرائي لها , وفي بيت ابن أم مكتوم لا يراها أحد , فكان إمساك بصرها عنه أقرب من ذلك وأولى , فرخص لها في ذلك , والله أعلم "(54) .
أحاديث زيارة النساء القبور
   ومثل ذلك الحديث أو الأحاديث التي تزجر النساء عن زيارة المقابر , مثل حديث أبي هريرة :"أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعن زوارات القبور" رواه أحمد وابن ماجه والترمذي و قال : حسن صحيح , كما رواه ابن حبان في صحيحه (55) .
   وروى أيضا عن ابن عباس بلفظ (زائرات القبور) وحسان بن ثابت (56) . يؤيد ذلك ما جاء من الأحاديث في منع النساء من اتباع الجنائز , فيؤخذ منها بفحوى الخطاب منع زيارة القبور .
   وفي مقابل هذه الأحاديث أحاديث أخرى يفهم منها الإذن بزيارتها للنساء كالرجال .
   منها قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :"كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور , فزوروها (57) "" زوروا القبور فإنها تذكر بالموت" (58) .
   فيدخل النساء تحت هذا الإذن العام بالزيارة .
   ومنها : ما رواه مسلم والنسائي وأحمد عن عائشة قالت : كيف أقول لهم يا رسول الله ؟ ( تعني : إذا زرت القبور ) قال قولي : "السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين , ويرحم الله المستقدمين منا والمستأجرين , وإنا ـ إن شاء الله ـ بكم للاحقون "(59) .
   ومنها : ما رواه الشيخان عن أنس : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مر بامرأة تبكي عند قبر , فقال : " اتقي الله واصبري , فقالت : إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي , ولم تعرفه .. الحديث " (60) .
فأنكر عليها الجزع ولم ينكر الزيارة .
   ومنها : ما رواه الحاكم أن فاطمة بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة , فتصلي وتبكي عنده (61) . 
   ومع أن هذه الأحاديث الدالة على الإذن أصح وأكثر من الأحاديث الدالة على المنع فإن الجمع والتوفيق بينها ممكن , وذلك يحمل (اللعن ) المذكور في الحديث كما قال القرطبي ـ على المكثرات من الزيارة , ولما تقتضيه الصيغة (زوارات) من المبالغة , قال : ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج وما ينشأ من الصياح (العويل) ونحو ذلك . وقد يقال : إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الإذن لهن , لأن تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء . أهـ
 قال الشوكاني : وهذا الكلام هو الذي ينبغي اعتماده في الجمع بين الأحاديث المتعارضة في الظاهر (62) .
   وإذا لم يمكن الجمع بين الحديثين المتعارضين , أو الأحاديث المتعارضة في ظواهرها , فيلجأ إلى الترجيح بينها , فيرجع أحدها على غيره بأحد المرجحات التي ذكرها العلماء , وقد عددها الحافظ السيوطي في كتابه (تدريب الرواي على تقريب النوواي ) فبلغت أكثر من مائة .
 وهذا الموضوع ـ التعارض والترجيح ـ من الموضوعات الهامة , التي تدخل في نطاق أصول الفقه وأصول الحديث , وعلوم القرآن .
أحاديث العَزْل
   لنأخذ مثلا : الأحاديث التي جاءت في (العزل) عزل الرجل عن امرأته عند الجماع , بأن يقذف المني خارج الفرج , حتى لا تحمل منه .
   ولننظر هنا الأحاديث التي ذكرها أبو البركات ابن تيمية (الجد) في كتابه الشهير (المنتقى من أخبار المصطفى ) باب ما جاء في العزل :
" عن جابر رضي الله عنه قال : كنا نعزل على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ والقرآن ينزل " متفق عليه .
   ولمسلم :" كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله و سلم فبلغه ذلك فلم ينهنا ".
   وعن جابر رضي الله عنه أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله و سلم فقال : إن لي جارية , هي خادمتنا وسانيتنا في النخل , وأنا أطوف عليها , وأكره أن تحمل , فقال : " اعزل عنها إن شئت , فإنه سيأتيها ما قدر لها " رواه أحمد ومسلم وأبو داود .
    وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في غزوة بني المصطلق ـ فأصبنا سبيا من العرب , فاشتهينا النساء واشتدت علينا العزبة , وأحببنا العزل , فسألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال :"ما عليكم ألا تفعلوا , فإن الله عز وجل قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة " متفق عليه .
   وعن أبي سعيد قال قالت اليهود : العزل الموءودة الصغرى , فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم "كذبت يهود , إن الله عز وجل لو أراد أن يخلق شيئا لم يستطيع أحد أن يصرفه " رواه أحمد وأبو داود , ولفظه :
   " أن رجلا قال يا رسول الله , إن لي جارية , وأنا أعزل عنها , وأنا أكره أن تحمل , و أنا أريد ما يريد الرجال , وان اليهود تحدث أن العزل … الحديث ".
  قال ابن القيم في الزاد : وحسبك بهذا الإسناد صحة , فكلهم ثقات حفاظ .
   وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم , فقال : إني أعزل عن امرأتي , فقال له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ," ولم تفعل ذلك ؟" فقال الرجل : أشفق على ولدها , أو على أولادها , فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " لو كان ضارا , أضر فارس والروم " رواه أحمد ومسلم .
   " وعن جدامة(63) بنت وهب الأسدية , قالت : حضرت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم , في أناس , وهو يقول : لقد هممت أن انهي عن الغيلة , فنظرت في الروم وفارس , فإذا هم أولادهم فلا يضر أولادهم شيئا " ثم سألوه عن العزل , فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " ذلك الوأد الخفي وهي ( إذا الموءودة سئلت ) "رواه أحمد ومسلم.
   وعن عمر بن الخطاب قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها , رواه أحمد وابن ماجه , وليس إسناده بذاك (64) . أقول : لأن في إسناده ابن لهيعة وفيه مقال معروف , ويشهد له ما أخرجه عبد البر وأحمد والبيهقي عن ابن عباس :" نهى عن العزل عن الحرة إلا بإذنها " كما في (نيل الأوطار) .
   وظاهر من جملة الأحاديث المذكورة أنها تدل على إباحة العزل , وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء , إلا أن الحرة لا يعزل عنها إلا بإذنها ورضاها , لما لها من حق الاستمتاع .
ولكن يعارض هذا الفقرة الثانية من حديث جدامة بنت وهب المذكور وفيها التصريح بأنه من (الوأد الخفي ) .
   فمن العلماء من جمع بين هذا الحديث وما قبله , فحمل هذا على التنزيه وهذه طريقة البيهقي .
    ومنهم من ضعف حديث جدامة هذا , لمعارضته لما هو أكثر منه طرقا . قال الحافظ : وهذا دفع للأحاديث الصحيحة بالتوهم . والحديث صحيح لا ريب فيه والجمع ممكن .
  ومنهم من ادعى أنه منسوخ , ورد بعدم معرفة التاريخ .
  وقال الطحاوي : يحتمل أن يكون حديث جدامة على وفق ما كان عليه الأمر أولا من موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه , ثم أعلمه الله الحكم فكذب اليهود فيما كانوا يقولونه , وتعقبه ابن رشد وابن العربي بأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يحرم شيئا تبعا لليهود ثم يصرح بتكذيبهم فيه .
   ومنهم من رجح حديث جدامة بثبوته في الصحيح , وضعف مقابله بالاختلاف في إسناده والاضطراب . قال الحافظ : ورد بأنه إنما يقدح في حديث , لا فيما يقوي بعضه بعضا , فإنه يعمل به , وهو هنا كذلك , والجمع ممكن .
   ورجح ابن حزم العمل بحديث جدامة , بأن أحاديث غيرها موافقة لأصل الإباحة و حديثها يدل على المنع , قال : فمن ادعى أنه أبيح بعد أن منع فعليه البيان .
   وتعقب أن ليس بصريح في المنع , إذ لا يلزم من تسميته وأدا خفيا على طريق التشبيه أن يكون حراما .
   جمع ابن القيم فقال : الذي كذّب فيه صلى الله عليه وسلم اليهود هو زعمهم أن العزل لا يتصور معه الحمل أصلا , وجعلوه بمنزلة قطع النسل بالوأد , فأكذبهم , وأخبر أنه لا يمنع الحمل إذا شاء الله خلقه , وإذا لم يرد خلقه لم يكن وأدا حقيقة , وإنما سماه وأدا خفيا في حديث جدامة , لأن الرجل إنما يعزل هربا من الحمل , فأجرى قصده لذلك مجرى الوأد , ولكن الفرق بينهما أن الوأد ظاهر بالمباشرة اجتمع فيه القصد والفعل , والعزل يتعلق بالقصد فقط , فلذلك وصفه بكونه خفيا . وهذا الجمع قوي .
   وقد ضعف أيضا حديث جدامة , وأعني الزيادة التي في آخره بأنه تفرد بها سعيد ابن أبي أيوب عن أبي الأسود , ورواه مالك ويحي بن أيوب عن أبي الأسود فلم يذكراها , وبمعارضتها لجميع أحاديث الباب , وقد حذف هذه الزيادة أهل السنن الأربع (65) . أهـ .
   وقد أخرج الحافظ البيهقي في سننه الكبرى الأحاديث والآثار القاضية بإباحة العزل , وهي كثيرة , ثم خصص بابا لمن كره العزل ومن اختلف الرواية عنه فيه , وما روى في كراهيته , وذكر فيه حديث جدامة بنت وهب الذي أخرجه مسلم , ثم قال البيهقي :
   " وقد روينا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خلاف هذا , ورواة الإباحة أكثر وأحفظ , وأباحه من سمينا من الصحابة ( يعني سعد بن أبي وقاص وزيد بن ثابت , وجابر بن عبد الله , وابن عباس , وأبا أيوب الأنصاري وغيرهم ) فهي أولى , وتحتمل كراهية من كرهه منهم التنزيه دون التحريم . والله أعلم "(66) .
النسخ في الحديث
   ومما يتصل بموضوع التعارض بين الأحاديث : قضية النسخ أو الناسخ والمنسوخ في الحديث .
   وقضية النسخ لها صلة بعلوم القرآن , كما لها صلة بعلوم الحديث .
   فمن المفسرين من أسرف في ادعاء النسخ في القرآن الكريم , حتى زعم بعضهم أن آية واحدة سموها (آية السيف) نسخت من كتاب الله تعالى أكثر من مائة آية , ومع هذا لم يتفقوا على آية السيف ما هي ؟!
   وفي الحديث يلجأ بعض المتحدثين إلى القول بالنسخ , إذا عز عليه الجمع بين الحديثين المتعارضين , وعرف المتأخر منهما .
   والحقيقة أن دعوى النسخ في الحديث أضيق مساحة من دعوى النسخ في القرآن , مع أن الأمر كان يجب أن يكون بالعكس , إذ الأصل في القرآن أن يكون للعموم والخلود , أما السنة فمنها ما يعالج قضايا جزئية وأحوالا مؤقته , بحكم إمامته ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأمة , وتدبيره لأمورها اليومية .    
على أن كثيرا من الأحاديث التي ادعى نسخها , يتبين عند التحقيق أنها غير منسوخة .
   فقد يكون من الأحاديث ما يراد به العزيمة , ومنها ما يراد به الرخصة , فيبقى الحكمان كلاهما , كل في موضعه .
    وقد يكون بعض الأحاديث مقيد بحالة , وبعضها الآخر بحالة أخرى . وتغاير الحالات لا يعني النسخ , كما قيل في النهي عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث سنوات ثم إباحته , وإن ذلك ليس بنسخ , بل النهي في حالة , والإباحة في حالة أخرى , كما بيناه في موضعه من هذا البحث .
   ويحسن بي أن أذكر هنا ما نقله الحافظ البيهقي ـ في كتابه (معرفة السنن والآثار ) ـ بإسناده عن الإمام الشافعي , رحمه الله , قال : كلما احتمل حديثان أن يستعملا معا , استعملا معا , ولم يعطل واحد منهما للآخر, فإذا لم يحتمل الحديثان إلا الاختلاف فللاختلاف فيهما وجهان :
أحدهما : أن يكون أحدهما ناسخا , والآخر منسوخا , فيعمل بالناسخ ويترك المنسوخ .
والآخر : أن يختلفا ولا دلالة على أيهما ناسخ , ولا أيهما منسوخ , فلا نذهب إلى واحد منهما دون غيره , إلا بسبب يدل على أن الذي ذهبنا إليه أقوى من الذي تركنا . وذلك أن يكون أحد الحديثين أثبت من الآخر , فنذهب إلى الأثبت , أو يكون أشبه بكتاب الله , عز وجل أو سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ , فيما سوى ما اختلف فيه الحديثان من سنته , أو أولى بما يعرف أهل العلم , أو أصح في القياس , أو الذي عليه الأكثر من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
   وبإسناده قال الشافعي : وجماع هذا أنه لا يقبل إلا حديث ثابت كما لا يقبل من الشهود إلا من عرف عدله , فإذا كان الحديث مجهولا أو مرغوبا عمن حمله ـ كان كما لم يأت , لأنه ليس بثابت .
   قال البيهقي : ومما يجب معرفته على من نظر في هذا الكتاب : أن يعرف أن أبا عبد الله : محمد بن إسماعيل البخاري , وأبا الحسين : مسلم بن الحجاج النيسابوري , رحمهما الله , قد صنف كل واحد منهما كتابا يجمع أحاديث كلها صحاح .
   وقد بقيت أحاديث صحاح لم يخرجاها , لنزولها عند كل واحد منهما الدرجة التي رسماها في كتابيهما في الصحة .
 وقد أخرج بعضها أبو داود : سليمان بن الأشعث السجستاني .
 وبعضها أبو بكر : محمد بن إسحاق بن خزيمة , رحمهم الله , كل واحد منهم في كتابه على ما أدى إليه اجتهاده .
والأحاديث المروية ثلاثة أنواع :
   فمنها : ما قد اتفق أهل العلم بالحديث على صحته , فذاك الذي ليس لأحد أن يتوسع في خلافه , ما لم يكن منسوخا .
   ومنها : ما قد اتفقوا على ضعفه , فذاك الذي ليس لأحد أن يعتمد عليه .
   ومنها : ما قد اختلفوا في ثبوته : فمنهم من يضعغه بجرح ظهر له من بعض رواته خفى ذلك على غيره , أو لم يقف من حاله على ما يوجب قبول خبره وقد وقف عليه غيره , أو المعنى الذي يجرحه به لا يراه جرحا , أو وقف على انقطاعه , أو انقطاع بعض ألفاظه , أو إدراج بعض رواته قول رواته في متنه , أو دخول إسناد حديث في حديث خفى ذلك على غيره .
   فهذا الذي يجب على أهل العلم بالحديث بعدهم : أن ينظروا في اختلافهم ويجتهدوا في معرفة معانيهم في القبول والرد , ثم يختاروا من أقاويلهم أصحها , وبالله التوفيق (67).
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
50ـ أما الأحاديث التي لا أصل لها ولا سند , أو الأحاديث الموضوعة المكذوبة , فلا ينبغي الاشتغال بها في هذا المجال إلا من باب بيان كذبها وبطلانها و مناقضتها للكتاب والسنة .
51ـ أبو داود 4112والترمذي 1779 .
52ـ الحديث متفق عليه , رواه الشيخان , وغيرهما , بألفاظ مختلفة , ومعناها العام واحد , وانظر : اللؤلؤ والمرجان (513) وانظر البخاري مع الفتح حديث950 .
53ـ فتح الباري ج 2/445 .
54ـ تفسير القرطبي ج12/228 ط . دار الكتب المصرية .
55ـ الترمذي ففي الجنائز 1056 وابن ماجه 1576 واحمد 2/337 وأشار إليه في موارد الظمآن 789 ورواه أيضا البيهقي في السنن4/87 .
56ـ انظر تخريج الحديث 761 والحديث 774 من إرواء الغليل للألباني .
57ـ رواه أحمد والحاكم عن أنس , كما في صحيح الجامع الصغير (4584) .
58ـ مسلم 976ـ 977 .
59ـ رواه مسلم في الجنائز 974 والنسائي 4/93 وأحمد /221 .
60ـ متفق عليه , كما في اللؤلؤ والمرجان , حديث533 .
61ـ ذكره في نيل الوطار 4/166 .
62ـ نيل الأوطار (ج 4/166 .
63ـ قال الدار قطني : هي بالجيم والدال المهملة , ون ذكرها بالذال فقد صحف , قال الحافظ : وكذا قال العسكري . وحكى بالذال المعجمة عن جماعة . وقال الطبري : جدامة بنت جندل , والمحدثون قالوا أبنة وهب , والمختار أنها ابنة جندل الأسدية , أسلمت قديما بمكة , بايعت , وهاجرت مع قومها إلى المدينة (تهذيب التهذيب ج12 :405ـ406) .
64ـ المنتقى ج2 ص 561 ـ 564 ط دار المعرفة , بيروت .
65ـ نيل الأوطار ج 6 ص 346 ـ 350 ط . دار الجيل .
66ـ السنن الكبرى ج 7 , ص 328 ـ 332 .
67ـ معرفة السنن والاثار للبيهقي ج 1 , 101 ـ 103 بتحقيق السيد أحمد صقر . ط المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة .
رابعاً
فهم الأحاديث في ضوء أسبابها
وملابستها ومقاصدها
كيف نتعامل مع السنة النبوية
معالم وضوابط
الدكتور يوسف القرضاوي 

ليست هناك تعليقات: