الاثنين، 18 مارس 2013

معالم وضوابط لحسن فهم السُّنة ـ في ضوء القرآن الكريم


الباب الثالث
معالم وضوابط
لحسن فهم السُّنة النبوية

ـ فهم السنة في ضوء القرآن الكريم .
ـ جمع الأحاديث الواردة في الموضوع الواحد .
ـ الجمع أو الترجيح بين مختلف الحديث .
ـ فهم الأحاديث في ضوء أسبابها وملابساتها ومقاصدها.
ـ التمييز بين الوسيلة المتغيرة والهدف الثابت للحديث .
ـ التفريق بين الحقيقة والمجاز في فهم الحديث .
ـ التفريق بين الغيب والشهادة .
ـ التأكد من مدلولات ألفاظ الحديث .

أولا
فهم السنة في ضوء القرآن الكريم

   من الواجب , لكي تفهم السنة فهما صحيحا , وبعيدا عن التحريف , الانتحال وسوء التأويل ـ أن تفهم في ضوء القرآن , وفي دائرة توجيهاته الربانية , والمقطوع بصدقها إذا أخبرت , وعدلها إذا حكمت ," وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" (الأنعام:115) .فالقرآن هو روح الوجود الإسلامي , وأساس بنيانه , وهو بمثابة الدستور الأصلي , الذي ترجع إليه كل القوانين في الإسلام فهو أبوها وموئلها .
   والسنة النبوية هي شارحة هذا الدستور ومفصلته , فهي البيان النظري والتطبيق العملي للقرآن , ومهمة الرسول أن يبين للناس ما نزل إليهم.
   وما كان للبيان أن يناقض المبيَّن , ولا للفرع أن يعرض الأصل , فالبيان النبوي يدور أبدا في فلك الكتاب العزيز و لا يتخطاه .
   ولهذا لا توجد سنة صحيحة ثابتة تعارض محكمات القرآن وبيناته الواضحة .
   وإذا ظن بعض الناس وجود ذلك , فلابد أن تكون السنة غير صحيحة أو يكون فهمنا لها غير صحيح , أو يكون التعارض وهميا لا حقيقيا .
   ومعنى هذا أن تفهم السنة في ضوء القرآن .
   ولهذا كان حديث (الغرانيق) المزعوم مردودا بلا ريب , لأنه مناف للقرآن , ولا يتصور أن يجيء في سياق يندد فيه القرآن بالآلهة المزيفة حيث يقول : "أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى" (النجم:23) .
   فكيف يعقل أن يدخل في سياق هذا الإنكار والتنديد بالأصنام كلمات تمتدحهن , وتقول : " تلك الغرانيق العلا , وإن شفاعتهم لترتجى "؟!(1)
   وكان حديث " شاوروهن وخالفوهن " في شأن النساء باطلا مكذوبا لأنه مناف لقوله تعالى في شأن الوالدين مع رضيعهما "فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا " (البقرة:233) .
   وإذا اختلفت أفهام الفقهاء أو الشراح في الاستنباط من السنن فأولاها وأسعدها بالصواب ما أيده القرآن .
   انظر إلى قوله تعالى :" وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ .." (الأنعام:141) .
   إن هذه الآية المكية الكريمة بما أجملته وما فصلته , لم تدع شيئا تنبته الأرض إلا جعلت فيه حقا , وأمرت بإيتائه , وهذا الحق المأمور به المجمل في الآية هو الذي فصله القرآن والسنة بعد ذلك تحت عنوان (الزكاة) .
   ومع هذا رأينا من الفقهاء من قصر زكاة ما أخرجه الله من الأرض على أربعة أصناف فقط من الحبوب والثمار , أو على ما يقتات في حال الاختيار لا غير , أو على ما يبس , ويكال ويدخر .. وأخرجوا من دائرة الحق الواجب سائر الفواكه والخضروات , ومزارع البن والشاي , وحدائق التفاح والمانجو , والقطن وقصب السكر , غيرها , مما يدر على أصحابه الألوف بل الملايين , حتى سمعت في إحدى زياراتي لبعض القطار الآسيوية أن الشيوعيين يتهمون الفقه الإسلامي ـ أو الشرع الإسلامي ـ بأنه يجعل عبء الزكاة على صغار الزراع ـ وربما كانوا مستأجرين للأرض , لا ملاكا ـ الذين يزرعون الذرة والقمح والشعير , ويعفى من ذلك مالكي مزارع جوز الهند والشاي والمطاط ونحوها !
   ومن هنا نقف وقفة الإعجاب للإمام أبي بكر بن العربي رأس المالكية في عصره , فقد شرح هذه الآية في كتابه (أحكام القرآن) وبيَّن مذاهب الفقهاء الثلاثة : مالك والشافعي وأحمد , فيما يجب إخراجه من نبات الأرض وما لا يجب , ومنها مذهبه , أي مذهب إمامه مالك , ولكنه ـ لإنصافه ورسوخه ـ ضعَّفها جميعا , ثم قال : أما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق , فأوجبها في المأكول قوتا كان أو غيره , وبين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك في عموم قوله"فيما سقت السماء العشر ".
   فأما قول أحمد : انه فيما يوسق , لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "ليس فيما دون خمسة أوسق ". الحديث , فضعيف , لأن الذي يقتضيه ظاهر الحديث أن يكون النصاب معتبرا في الثمر والحب , فأما سقوط الحق عما عداها فليس في قوة الكلام , وأما المتعلق بالقوت (يعني الشافعية ) فدعوى ومعنى ليس له أصل يرجع إليه , وإنما تكون المعاني موجهة لأحكامها بأصولها على ما بيناه في كتاب (القياس) .
   فكيف يذكر الله سبحانه النعمة في القوت والفاكهة , وأوجب الحق فيها كلها , فيما تنوع حاله كالكرم والنخيل , و فيما تنوع جنسه كالزرع , وفيما ينضاف إلى القوت من الاستسراج الذي به تمام النعمة في المتاع بلذة البصر , إلى استيفاء النعم في الظلَم ؟" .
  ثم قال ابن العربي :
   فإن قيل : فلم لم ينقل عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ,أنه أخذا الزكاة من خضر المدينة ولا خيبر ؟
   قلنا : كذلك عول علماؤنا , وتحقيقه : أنه عدم دليل لا وجود دليل .
   فإن قيل : لو أخذها لنقل .
قلنا : وأي حاجة إلى نقله والقرآن يكفي عنه ؟(2) أ هـ .
   وأما الحديث الذي يروى عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ليس في الخضروات صدقة " فضعيف الإسناد لا يحتج بمثله , فضلا عن أن يخصص به عموم القرآن والأحاديث المشهورة .
   وقد رواه الترمذي ثم قال : "إسناد هذا الحديث ليس بصحيح , فلا يصح في هذا الباب شيء عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ"(3) .
   ومن حق المسلم أن يتوقف في أي حديث يرى معارضته لمحكم القرآن إذا لم يجد له تأويلا مستساغا.
   وقد توقفت في حديث رواه أبو داود وغيره " الوائدة والموءودة في النار "(4) حين قرأت الحديث انقبض صدري وقلت : لعل الحديث ضعيف , فليس كل ما رواه أبو داود في سننه صحيحا , كما يعلم أهل هذا الشأن , ولكن وجدت من نص على صحته .
   ومثله :"الوائدة والموءودة في النار ,إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم "(5)
أي أن للوائدة فرصة للنجاة من النار , والموءودة لا فرصة لها !
وهنا تساءلت كما تساءل الصحابة من قبل حين سمعوا من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :"إذا التقى المسلمان بسيفيهما , فالقاتل والمقتول في النار " قالوا هذا القاتل , فما بال المقتول ؟ قال :إنه كان حريصا على قتل صاحبه " ففسر لهم وجه استحقاقه للنار , بنيته خروجه لمقاتلة صاحبه .
   وهنا أقول : هذه الوائدة في النار , فما بال الموءودة ؟؟ والحكم عليها بالنار يعارض قوله تعالى :" وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ" (التكوير9) .
   وقد رجعت إلى الشراح لأرى ماذا قالوا في توجيه الحديث , فلم أجد شيئا ينقع الغلة .
   ومثل ذلك الحديث , الذي رواه مسلم عن أنس "إن أبي وأباك ففي النار"(6) قاله جوابا لمن سأله عن أبيه أين هو ؟
   وقلت : ما ذنب عبد الله بن عبد المطلب حتى يكون في النار , وهو من أهل الفترة والصحيح أنهم ناجون ؟
   وكان قد خطر لي احتمال أن يكون المراد بقوله :"إن أبي " هو عمه أبا طالب الذي كفله ورعاه , وحدب عليه بعد موت جده عبد المطلب , واعتبار العم أبا أمر وارد في اللغة وفي القرآن , كقوله على لسان أبناء يعقوب : قالوا :"نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (البقرة:133) وإسماعيل كان عما ليعقوب , واعتبره القرآن أبا .
  ولا غرو أن يكون أبو طالب من أهل النار , بعد رفضه أن ينطق بكلمة التوحيد إلى آخر لحظة في حياته , وقد صحت جملة من الأحاديث تنبئ بأنه أهون أهل النار عذابا .
   ولكن أضعف هذا الاحتمال عندي أنه خلاف المتبادر من ناحية , ومن ناحية أخرى : ما ذنب أبي الرجل السائل ؟ والظاهر أن أباه مات قبل الإسلام .
   لهذا توقفت في الحديث حتى يظهر لي شيء يشفي الصدر .
   أما شيخنا الشيخ محمد الغزالي : فقد رفض الحديث صراحة , لأنه ينافي قوله تعالى :" وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا" (الإسراء:15) , وقوله : "وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى" (طه:134) ."... أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ .. (المائدة:19) .
   والعرب لم يبعث إليهم رسول , ولم يأتهم نذير قبل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما صرحت بذلك جملة من آيات في كتاب الله "..لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ" (يس:6).
"...لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ" (السجدة:3)"... وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ" (سبأ:44).
   ولكني أوثر في الأحاديث الصحاح التوقف فيها , دون ردها بإطلاق , خشية أن يكون لها معنى لم يفتح عليّ به بعد .
  ومن حسن الحظ أني رجعت إلى ما قاله شُراح ( مسلم ) غير النووي أعني العلامتين : الأبي والسنوسي , فوجدتهما يتحفظان على ظاهر هذا الحديث , أما الإمام النووي , فقد علق على الحديث بقوله : قاله لحسن خلقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تسلية للرجل , للاشتراك في المصيبة , وفيه : أن من مات كافرا في النار ولا تنفعه قرابة المقربين .
   قال الأبَّي : انظر هذا الإطلاق ! وقد قال السهيلي : ليس لنا أن نقول ذلك , فقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ " لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات " وقال تعالى :" إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا" (الأحزاب:57). والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما قاله تسلية للرجل , وجاء أن الرجل قال :وأنت أين أبوك ؟ فقال له ذلك حينئذ .
   قال النووي : وفيه أن من مات في الفترة على ما كان عليه العرب من عبادة الأوثان في النار , وليس هذا من التعذيب قبل بلوغ الدعوة , لأنه بلغتهم دعوة إبراهيم عليه السلام وغيره من الرسل .
   قال الأبَّي : تأمل ما في كلامه من التنافي , فإن من بلغتهم الدعوة ليسوا بأهل فترة , وتعرف ذلك بما تستمع , فأهل الفترة هم الأمم الكائنة بين أزمنة الرسل الذين لم يرسل إليهم الأول ولا أدركوا الثاني , كالأعراب الذين لم يرسل إليهم عيسى عليه السلام و لا لحقوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والفترة بهذا التفسير تشمل ما بين كل رسولين .
  ولكن الفقهاء إذا تكلموا في الفترة فإنما يعنون التي بين عيسى عليه السلام والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذكر البخاري عن سلمان أنها ستمائة سنة .
   ولما دلت القواطع على أنه لا تعذيب حتى تقوم الحجة , علمنا أنهم غير معذبين .
   فإن قلت : صحت أحاديث بتعذيب أهل الفترة كهذا الحديث وحديث :
" رأيت عمرو بن لحيّ يجر قُصبه (7) في النار(8)".
قلت : أجاب عن ذلك عقيل بن أبي طالب بثلاثة أجوبة :
الأول ـ أنها اخبار آحاد فلا تعارض القطع .
والثاني ـ قصر التعذيب على هؤلاء , والله أعلم بالسبب .
والثالث ـ قصر التعذيب المذكور في هذه الأحاديث على من بدل وغير من أهل الفترة بما لا يعذر به من الضلال (9) . (10) أ هـ .

التدقيق في دعوى معارضة القرآن

   وهنا لا بد أن نحذر من التوسع في دعوى معرضة القرآن , دون أن يكون لذلك أساس صحيح .
  فقد ركب المعتزلة متن الشطط , حين اجترأوا على رد الأحاديث الصحيحة المستفيضة في إثبات الشفاعة في الآخرة للرسول عليه الصلاة والسلام و لإخوانه الأنبياء والملائكة وصالحي الأعمال المؤمنين , في عصاة الموحدين , فيكرمهم الله تعالى بفضله ورحمته وشفاعة الشافعين , فلا يدخلون النار أصلا , أو يدخلونها ويخرجون منها بعد حين , ويكون مصيره إلى الجنة .
وهذا من كرم الله تبارك وتعالى على عباده , الذين أعلى جانب الرحمة على جانب العدل , فجعل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف أو يزيد , وجعل السيئة بمثلها أو يعفو , وجعل للسيئات مكفرات عدة من الصلوات الخمس , وصلاة الجمعة , وصيام رمضان , وقيامه , والصدقات والحج والعمرة , والتسبيح والتهليل والتكبير
 والتحميد , وغيرها من الأذكار والدعوات , وما يصيب المسلم من نصيب أو وصب أو غم أو حزن أو أذى , حتى الشوكة يشاكها .. فكل هذا يكفر الله به من خطاياه ..
   كما جعل دعاء المؤمنين له , ومن أهله وغير أهله , بعد وفاته ينفعه في قبره .
   فلا يعدو في أن يكرم الله عباده المصطفين الأخيار , فيشفعهم فيمن شاء من خلقه ممن  ماتوا على كلمة التوحيد . وهذا ما تكاثرت حوله الأحاديث :"يخرج قوم من النار بشفاعة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيدخلون الجنة ويسمون الجهنميين "(11)
   " يخرج من النار وم بالشفاعة كأنهم الثعارير" (12) (الثعارير : نبات كالهليون).
" يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم"(13)
" يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته" (14)
" أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: (لا إله إلا الله " خالصا من قلبه "(15)
" لكل نبي دعوة , فأريد إن شاء الله , أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة"(16).
" كل نبي قد سأل سؤالا , أو قال : لكل نبي دعوة , دعا بها فاستجيب , فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة "(17)
وفي حديث أبي سعيد عند الشيخين :"فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون ,
فيقول الجبار : بقيت شفاعتي , فيقبض قبضة من النار فيخرج أقواما قد امتحشوا (أي احترقوا ) فيلقون في نهر بأفواه الجنة يقال له : ماء الحياة ..الحديث "(18)
" لكل نبي دعوة مستجابة , فتعجل كل نبي دعوته , وإني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة , فهي نائلة ـ إن شاء الله ـ من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا "(19).
   والمعتزلة ـ لتغليبهم الوعيد على الوعد , والعدل على الرحمة , والعقل على النقل ـ أعرضوا عن هذه الأحاديث , مع قوة ثبوتها , ووضوح دلالتها .
وكانت شبهتهم في ردها : أنها تعارض القرآن الذي نفى شفاعة الشافعين .
  ومن قرأ القرآن لم يجد فيه إلا نفي (الشفاعة الشركية) التي كان يعتقدها المشركون من العرب , والمحرفون من أصحاب الديانات الأخرى .
   زعم المشركون أن آلهتهم ـ التي يدعون من دون الله أو مع الله ـ تملك أن تشفع لهم عند الله , وتدفع عنهم العذاب , كما قال تعالى :" وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ "(يونس: 18) .
   ولكن القرآن أبطل هذه الشفاعة المزعومة , وان آلهتهم لا تغني عنهم من الله شيئا , يقول الله تعالى : " أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " (الزمر44)
" وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا" (مريم:82).
   أجل , نفى القرآن أن تكون للآهة الزائفة شفاعة , وأن يكون للمشركين شفيع يطاع , كما قال تعالى :" مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ " (غافر:18) والقرآن يعبر كثيرا عن الشرك بالظلم , وعن المشركين بالظالمين . فإن الشرك ظلم عظيم .
   بيد أن القرآن أثبت الشفاعة بشرطيها :
(الأول) : أن تكون بعد إذن الله تعالى للشافع أن يشفع , فلا أحد يملك أن يوجب على الله شيئا كائنا من كان , قال الله تعالى في آية الكرسي :"..منْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ..(البقرة:255) .
(الثاني) : أن تكون الشفاعة لأهل التوحيد كما قال سبحانه في شأن ملائكته :" وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى..(الأنبياء :28) .
   وقوله تعالى في شأن المكذبين بيوم الدين " فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ"(المدثر:48) .
يفيد بمفهومه أن ثمة شافعين , وأن غيرهم تنفعه شفاعة الشافعين وهم من مات على الإيمان .
   فالقرآن إذن لم ينف مطلق الشفاعة , كما زعم من زعم , بل نفى الشفاعة التي ادعاها المشركون والمحرفون , والتي كانت من أسباب فساد كثير من أتباع الديانات , الذين يقترفون الموبقات , متكلين على أن شفعاءهم ووسطاءهم سيرفعون عنهم العقوبة , كما يفعل الملوك الظلمة , وحكام الجور في الدنيا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ انظر في إبطال أسطورة الغرانيق :البحث العميق الذي كتبه محمد الصادق عرجون رحمه الله في كتابه (محمد رسول الله ) تحت عنوان (قصة الغرانيق أكذوبة بلهاء متزندقة) ج2: 30ـ 155.
2ـ انظر :أحكام القرآن لابن عربي , ط عيسى الحلبي , القسم الثاني ص 749ـ 752 .
3ـ أنظر : الترمذي , كتاب الزكاة ـ باب ما جاء في زكاة الخضروات , وصحيح الترمذي بشرح العربي (3/132ـ 133) .
4ـ أبو داود برقم 4717 عن ابن مسعود ـ وابن حبان والطبراني عن الهيثم بن كليب . وقال الهيثمي : ورجاله رجال الصحيح (الفيضح/371).
5ـ رواه أحمد والنسائي عن سلمة بن يزيد الحعفي ـ كما في صحيح الجامع الصغير .
6ـ رواه في كتاب الإيمان برقم (347) .
7 ـ قُصبه : أي أمعاءه .
 8 ـ متفق عليه عن أبي هريرة كما في اللؤلؤ والمرجان , حديث 1816 . وتتمته " فإنه أول من سيب السوائب ".
9ـ كأن يكون قد وأد ابنة له أونحو ذلك مما هو معلوم القبح لدى العقلاء , وجميع أصحاب الأديان .
10ـ انظر شرح الأبَّي والسنوسي على مسلم ج1 ص 363ـ 373 .
11ـ رواه أحمد والبخاري , وأبو داود عن عمران بن الحصين , كما في صحيح الجامع الصغير8055 .
12ـ متفق عليه عن جابر , المصدر نفسه 8058 .
13ـ الترمذي والحاكم عن عبد الله بن أبي الجدعاء , نفسه 8069 .
14ـ أبو داود عن أبي الدرداء نفسه 8093
15ـ البخاري عن أبي هريرة صحيح الجامع 967 .
16ـ متفق عليه عن أبي هريرة : اللؤلؤ والمرجان 121 .
17ـ متفق عليه عن أنس , اللؤلؤ والمرجان 122.
18ـ متفق عليه عن أبي سعيد , اللؤلؤ والمرجان 115 .
19ـ رواه مسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة ـ صحيح الجامع  .76 .

ثانياً
جمع الأحاديث الواردة في الموضوع الواحد
كيف نتعامل مع السنة النبوية
معالم وضوابط
الدكتور يوسف القرضاوي

ليست هناك تعليقات: