الأربعاء، 20 فبراير 2013

فهم الأحاديث في ضوء أسبابها وملابستها ومقاصدها


كتبهامصطفى الكومي ، في 21 يناير 2011 الساعة: 19:35 م

رابعاً
فهم الأحاديث في ضوء أسبابها
وملابستها ومقاصدها


      معالم وضوابط
    الدكتور يوسف القرضاوي
  بسم الله الرحمن الرحيم

































 ومن حسن الفقه للسنة النبوية : النظر فيما بنى من الأحاديث على أسباب خاصة أو ارتبط بعلة معينة , منصوص عليها في الحديث أو مستنبطة منه , أو مفهومة من الواقع الذي سيق فيه الحديث .
 فالناظر المتعمق يجد أن من الحديث ما بني على رعاية ظروف زمنية خاصة ليحقق مصلحة معتبرة , أو يدرأ مفسدة معينة , أو يعالج مشكلة قائمة , في ذلك الوقت .
   ومعنى هذا أن الحكم الذي يحمله الحديث قد يبدو عاما ودائما , ولكنه ـ عند التأمل ـ مبني على علة , ويزول بزوالها , كما يبقى ببقائها .
   وهذا يحتاج إلى فقه عميق , ونظر دقيق , ودراسة مستوعبة للنصوص , وإدراك بصير لمقاصد الشريعة , وحقيقة الدين , ومع شجاعة أدبية , وقوة نفسية للصدع بالحق , وإن خالف ما ألفه الناس وتوارثوه , وليس هذا بالشيء الهين , فقد كلف هذا شيخ الإسلام ابن تيمية معاداة الكثيرين من علماء زمنه , الذين كادوا له حتى أدخل السجن أكثر من مرة , ومات فيه رضي الله عنه .
   لا بد لفهم الحديث فهما سليما دقيقا , من معرفة الملابسات التي سيق فيها النص , وجاء بيانا لها وعلاجا لظروفها , حتى يتحدد المراد من الحديث بدقة ولا يتعرض لشطحات الظنون , أو الجري وراء ظاهر غير مقصود .
   ومما لا يخفى أن علماءنا , قد ذكروا أن مما يعين على حسن فهم القرآن معرفةأسباب نزوله , حتى لا يقع فيما وقع فيه بعض الغلاة من الخوارج وغيرهم , ممن أخذوا الآيات التي نزلت في المشركين , وطبقوها على المسلمين , ولهذا كان ابن عمر يراهم شرار الخلق , بما حرفوا كتاب الله عما أنزل فيه .(68)
   فإذا كانت أسباب نزول القرآن مطلوبة لمن يفهمه أو يفسره , كانت أسبابورود الحديث أشد طلبا .
   ذلك أن القرآن بطبيعته عام وخالد , وليس من شأنه أن يعرض للجزئيات والتفصيلات , والآنيات , إلا لتؤخذ منها المبادئ والعبر .                                                       
   وأما السنة فهي تعالج كثيرا من المشكلات الموضعية والجزئية والآنية , وفيها من الخصوص و التفاصيل ما ليس في القرآن .
   فلا بد من التفرقة بين ما هو خاص وما هو عام , وما هو مؤقت وما هو خالد وما هو جزئي , وما هو كلي , فلكل منها حكمه , والنظر إلى السياق و الملابسات والأسباب تساعد على سداد الفهم , واستقامته لمن وفقه الله .  
أنتم أعلم بأمر دنياكم
   مثال ذلك : حديث :"أنتم أعلم بأمر دنياكم "(69) الذي يتخذ منه بعض الناس تكأة للتهرب من أحكام الشريعة في المجالات الاقتصادية والمدنية والسياسية , ونحوها لأنها ـ كما زعموا ـ من شئون دنيانا , ونحن أعلم بها وقد وكلها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلينا !!
 فهل هذا ما يعنيه هذا الحديث الشريف ؟
   كلا . فإن مما أرسل الله به رسله , أن يضعوا للناس قواعد العدل , وموازين القسط , وضوابط الحقوق والواجبات في دنياهم , حتى لا تضطرب مقاييسهم , وتتفرق بهم السبل , كما قال تعالى : "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ.."(الحديد:25) .
   ومن هنا جاءت نصوص الكتاب والسنة التي تنظم شئون المعاملات من بيع وشراء وشركة ورهن وإجارة وقرض , وغيرها , وأن أطول آية في كتاب الله , نزلت في تنظيم كتابة "الديون" : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ.."(البقرة:282).
   والحديث (أنتم أعلم بأمر دنياكم ) يفسره سبب وروده , وهو قصة تأبير النخل , وإشارته ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليهم برأي ظني يتعلق بالتأبير , وهو ليس من الزراعة , وقد نشأ بواد غير ذي زرع , فظنه الأنصار وحيا , أو أمرا دينيا , فتركوا التأبير , فكان تأثيره سيئا على الثمرة , فقال :إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن .. إلى أن قال : أنتم أعلم بأمر دنياكم " .. فهذه هي قصة الحديث .
أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين
   ونضرب مثلا آخر بحديث " أنا بريء , من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين لا تتراءى نارهما "(70)
   فقد يفهم منه البعض تحريم الإقامة في بلاد غير المسلمين بصفة عامة , ومع تعدد الحاجة إلى ذلك في عصرنا , للتعلم , والتداوي , والعمل , وللتجارة , وللسفارة , ولغير ذلك , وخصوصا بعد أن تقارب العالم حتى غدا كأنه (قرية كبرى) كما قال أحد الأدباء !
   فالحديث ـ كما ذكر العلامة رشيد رضا ـ ورد في وجوب الهجرة من أرض المشركين إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنصرته , رواه أهل السنن ـ أما أبو داود فرواه من حديث جرير بن عبد الله وذكر أن جماعة لم يذكروا جريراً أي رووه مرسلا , وهو الذي اقتصر عليه النسائي , وأخرجه الترمذي مرسلا , وقال : هذا أصح , ونقل عن البخاري تصحيح المرسل . ولكنه لم يخرجه في صحيحه ولا هو على شرطه . والاحتجاج بالمرسل فيه الخلاف المشهور في علم الأصول , ولفظ الحديث : بعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سرية إلى خثعم , فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع القتل فبلغ ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأمر لهم بنصف العقل (أي الدية) وقال : "أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين , قالوا يا رسول الله , لم ؟ قال لا تتراءى نارهما .
   فجعل لهم نصف الدية وهم مسلمون , لأنهم أعانوا على أنفسهم , وأسقطوا نصف حقهم (71) بإقامتهم بين المشركين المحاربين لله ولرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ , وشدد في مثل هذه الإقامة التي يترتب عليها مثل ذلك من القعود عن نصر الله ورسوله , والله تعالى يقول في أمثال هؤلاء :".. وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (الأنفال:72) .
  فنفي الله تعالى ولاية المسلمين غير المهاجرين إذا كانت الهجرة واجبة (72) , فمعنى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين " أي برئ من دمه إذا قتل , لأنه عرض نفسه لذلك بإقامته بين هؤلاء المحاربين لدولة الإسلام .
   ومعنى هذا : أنه إذا تغيرت الظروف التي قيل فيها النص , وانتفت العلة الملحوظة من ورائه من مصلحة تُجلب , أو مفسدة تُدفع , فالمفهوم أن ينتفي الحكم الذي ثبت من قبل بهذا النص , فالحكم يدور مع علته وجودا وعدما .
سفر المرأة مع محرم
أ ـ ومن ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس وغيره مرفوعا :       
" لا تسافر امرأة إلا ومعها محرم" (73) .
   فالعلة وراء هذا النهي هو الخوف على المرأة من سفرها وحدها بلا زوج أو محرم في زمن كان السفر فيه على الجمال أو البغال أو الحمير , وتجتاز فيه غالبا صحارى ومفاوز تكاد تكون خالية من العمران والأحياء , فإذا لم يصب المرأة ـ في مثل هذا السفر ـ شر في نفسها أصابها في سمعتها .
   ولكن إذا تغير الحال ـ كما في عصرنا ـ وأصبح السفر في طائرة تقل مائة راكب وأكثر , أو في قطار يحمل مئات المسافرين , ولم يعد هناك مجال للخوف على المرأة إذا سافرت وحدها , فلا حرج عليها شرعا في ذلك , ولا يعد هذا مخالفة للحديث , بل قد يؤيد هذا حديث عدي بن حاتم مرفوعا عند البخاري : "يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تقدم البيت (أي الكعبة) لا زوج معها " (74) .
   وقد سبق الحديث في معرض المدح بظهور الإسلام , وارتفاع منارة في العالمين وانتشار الأمان في الأرض , فيدل على الجواز , وهو ما استدل به ابن حزم على ذلك.
    ولا غرو أن وجدنا بعض الأئمة يجيزون للمرأة أن تحج بلا محرم ولا زوج , إذا كانت مع نسوة ثقات , أو في رفقة مأمونة , وهكذا حجت عائشة وطائفة من أمهات المؤمنين في عهد عمر , ولم يكن معهن أحد من المحارم , بل صحبهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم , كما في صحيح البخاري .
 بل قال بعضهم : تكفي امرأة واحدة ثقة .
   وقال بعضهم : تسافر وحدها إذا كان الطريق آمنا وصححه صاحب المهذب من الشافعية .
   وهذا في سفر الحج العمرة , وطرده بعض الشافعية في الأسفار كلها(75) .
الأئمة من قريش
ب ـ ومن ذلك حديث " الأئمة من قريش "(75) فقد فسره ابن خلدون بأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ , راعى ما كان لقريش في عصره من القوة والعصبية التي يرى ابن خلدون أن عليها تقوم الخلافة أو الملك , قال : فإذا ثبت أن اشتراط القرشية إنما هو لدفع التنازع بما كان لهم من العصبية والغلب , علمنا أن ذلك إنما هو من الكفاية , فرددنا إليها , وطردنا العلة المشتملة على المقصود من القرشية , وهي وجود العصبية , فاشترطها في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولى عصبية قوية على من معها لعصرها ليستتبعوا من سواهم , وتجتمع الكلمة على حسن الحماية (76) ..الخ .
منهج الصحابة والتابعين في النظر إلى علل النصوص وظروفها
 وهذا المنهج في النظر إلى ملابسات الأحاديث إلى العلل التي سيقت لها , قد سبق به الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان .
   فقد تركوا العمل بظاهر بعض الأحاديث , حين تبين لهم أنها كانت تعالج حالة معينة في زمن النبوة , ثم تبدلت تلك الحال عما كانت عليه .
   من ذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قسم خيبر بين الفاتحين , ولكن عمر لم يقسم سواد العراق , ورأى أن يبقيه في أيدي أربابه , ويفرض الخراج على الأرض , ليكون مددا دائما لأجيال المسلمين , وقال في ذلك ابن قدامة :" وقسمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خيبر كانت في بدء الإسلام وشدة الحاجة , فكانت المصلحة فيه , وقد تعينت المصلحة فيما بعد ذلك في وقف الأرض , فكان هو الواجب "(77) أهـ .
موقف عثمان من ضالة الإبل
ومثل ذلك موقفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ضالة الإبل , فحين سئل عنها , نهى عن التقاطها وقال : مالك ولها ؟ تدعها , فإن معها حذائها وسقاءها , ترد الماء , وتأكل الشجر , حتى يجدها ربها " (78) .
   ومضى الأمر على هذا طوال عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم عهد أبي بكر الصديق وعهد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فكانت الإبل الضالة تترك على ما هي عليه لا يأخذها أحد , حتى يجدها صاحبها , اتباعا لأمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ , ومادامت تستطيع الدفاع عن نفسها , وتستطيع أن ترد الماء تستقي وتختزن منه في أكراشها ما تشاء , ومعها أحذيتها أي أخافها , التي تقوى بها على السير وقطع المفاوز .
   ثم جاء عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ فكان ما يرويه مالك في الموطأ إذ يذكر أنه سمع ابن شهاب الزهري يقول :"كانت ضوال الإبل في زمان عمر بن الخطاب إبلا مؤبلة تتناتج لا يمسها أحد , حتى إذا كان زمان عثمان بن عفان أمر بتعريفها ثم تباع , فإذا جاء صاحبها أعطى ثمنها "(79) .
   وتغير الحال قليلا بعد عثمان ـ رضي الله عنه ـ فإن علي بن أبي طالب وافه في جواز التقاط الإبل حفظا لها لصاحبها , لكنه رأى أنه قد يكون في بيعها وإعطاء ثمنها إن جاء ضرر به لأن الثمن لا يغني غنائها بذواتها , ومن ثم رأى التقاطها والإنفاق عليها من بيت المال حتى إذا جاء ربها أعطيت له (80) .
     فما فعله عثمان وعلى رضي الله عنهما لم يكن مخالفة منهما للنص النبوي بل نظرا إلى مقصوده , فحيث تغيرت أخلاق الناس , ودب إليهم فساد الذمم وامتدت أيديهم أو بعضهم إلى الحرام , كان ترك الضوال من الإبل والبقر إضاعة لها , وتفويتا لها على صاحبها , وهو ما لم يقصده النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قطعا حين نهى عن التقاطها , فكان درء هذه المفسدة متعينا .
ما بني من نصوص على عرف تغير
 ومما يدخل فيما سبق أو يلحق به : النظر فيما بنى من النصوص على عرف زمني كان قائما في عصر النبوة , ثم تغير في عصرنا , فلا حرج علينا من النظر في مقصود النص دون التمسك بحرفيته .
   وعلماء الفقه يعرفون في هذا الموضوع رأي الإمام أبي يوسف في الأصناف الربوية التي جاء بها الحديث النبوي :" البر بالبر كيلا بكيل مثلا بمثلا " وكذلك الشعير والتمر والملح , أما الذهب والفضة فقال فيهما : " وزنا بوزن ".
   فأبو يسف يرى أن اعتبار ما ذكر من الأصناف مكيلا أو موزونا بنى على العرف فإذا تغير العرف وأصبح التمر أو الملح مثلا يباع بالوزن ـ كما في عصرنا ـ وجب العمل بما صار إليه العرف الجديد , فيجوز بيع التمر والملح مثلا بالتمر والملح وزنا متساويا , وإن تفاوتا كيلا .
       وهذا مخالف لما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة , ونصت عليه كتب الحنفية , من أن كل شيء نص رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على تحريم التفاضل فيه كيلا ,فهو مكيل أبدا وإن ترك الناس الكيل فيه , وكل ما نص على تحريم التفاضل فيه وزنا فهو موزون أبدا وإن ترك الناس الوزن فيه .
   وعلى هذا القول يجب أن يستمر التمر والملح والبر والشعير مكيلات إلى يوم القيامة , وهذا تعسير على الناس , مع أنه أمر لا غرض للشارع فيه , فالصحيح ما قاله أبو يوسف .
 ومن الأمثلة البارزة على أن النص قد يبني على عرف ثم يتغير : ما ثبت من تقديره ـ صلى الله عليه وسلم ـ نصابين لزكاة النقود , أحدهما بالفضة وقدره مائتا درهم (تقدر بـ 595 جراما ) والثاني بالذهب وقدره عشرون مثقالا أو دينارا ( تقدر بـ 85جراما) وكان صرف الدينار يساوي في ذلك الوقت عشرة دراهم .
   وقد بينت في كتابي (فقه الزكاة) أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقصد إلى وضع نصابين متفاوتين للزكاة , بل هو نصاب واحد , من ملكه اعتبر غنيا وجبت عليه الزكاة , قدر بعملتين جرى العرف بالتعامل بهما في عصر النبوة , فجاء النص بناء على هذا العرف القائم , وحدد النصاب بمبلغين متعادلين تماما , فإذا تغير الحال في عصرنا وانخفض سعر الفضة بالنسبة لسعر الذهب انخفاضا هائلا , ولم يجز لنا نقدر النصاب بمبلغين متفاوتين غاية في التفاوت , فنقول مثلا : أن نصاب النقود ما يعادل قيمة (85 جراما) من الذهب , أو ما يعادل (595) جراماً ) من الفضة . وقيمة نصاب الذهب تزيد على قيمة نصاب الفضة حوالي عشرة أضعاف , وهذا لا يعقل : أن نقول لشخص معه مبلغ معين م الدنانير الأردنية مثلا أو الجنيهات المصرية , وأنت غني إذا قدرنا نصابك بالفضة , ونقول : لمن يملك أضعاف ذلك : أنت فقير إذا قدرنا نصابك بالذهب !
   والمخرج من ذلك هو تحديد نصاب واحد في عصرنا للنقود به يعرف الحد الأدنى للغنى الشرعي الموجب للزكاة , وهذا ما ذهب إليه الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة وزميلاه المرحومان الشيخ عبد الوهاب خلاف والشيخ عبد الرحمن حسن ـ رحمهم الله ـ في محاضرتهم عن "الزكاة" بدمشق سنة 1952م من التقدير بالذهب فقط , وهذا ما اخترته وأيدته في بحثي عن "الزكاة" (81) .
تغير العاقلة في عهد عمر
 ومن أمثلة ما بنى من النصوص على عرف زمني تغير فيما بعد : قضاؤه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالدية في قتل الخطأ وشبه العمد على العاقلة , وهم عصبة الرجل فأخذ بظاهر ذلك بعض الفقهاء , وأوجبوا أن تكون العاقلة هي العصبة أبدا , ولم ينظروا إلى أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ , إنما ناط الدية بالعصبة لأنها ـ في ذلك الزمن ـ كانت محور النصرة والمعونة .
   وخالفهم آخرون كالحنفية مستدلين بفعل عمر الذي جعلهم في عهده على أهل الديوان , وقد بحث ذلك ابن تيمية في فتاويه فقال:"النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قضى بالدية على العاقلة , وهم الذين ينصرون الرجل ويعينونه , وكانت العاقلة على عهده هم عصبته فلما كان في زمن عمر جعلها على أهل الديوان , ولهذا اختلف فيها الفقهاء , فيقال : أصل ذلك أن العاقلة هل هم محددون بالشرع أو هم من ينصره ويعينه من غير تعيين ؟ فمن قال بالأول لم يعدل عن الأقارب لأنهم العاقلة على عهده . ومن قال بالثاني جعل العاقلة في كل زمن ومكان من ينصر الرجل ويعينه في ذلك الزمان والمكان , فلما كان عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما ينصره ويعينه أقاربه كانوا هم العاقلة , إذا لم يكن على عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ , ديوان ولا عطاء .
   فلما وضع عمر الديوان كان معلوماً أن جند كل مدينة ينصر بعضه بعضا , ويعين بعضه بعضا , وإن لم يكونوا أقارب , فكانوا هم العاقلة , وهذا أصح القولين , أنها تختلف باختلاف الأحوال , وإلا فرجل قد سكن بالمغرب وهناك من ينصره ويعينه كيف تكون عاقلته من المشرق في مملكة أخرى ؟! (أي من عصبته) ولعل أخباره قد انقطعت عنهم , والميراث يمكن حفظه للغائب , فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قضى في المرأة القاتلة أن عقلها على عصبتها وأن ميراثها لزوجها وبنيها . فالوارث غير القاتلة أن عقلها على عصبتها وان ميراثها لزوجها وبنيها . فالوارث غير العاقلة "(82) .
حول زكاة الفطر
   ومن الثابت أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يخرج زكاة الفطر , ويأمر بإخراجها بعد صلاة الفجر , وقبل صلاة العيد من يوم الفطر .   
   وكان الوقت كافيا لإخراجها وإيصالها إلى مستحقيها , لصغر حجم المجتمع , ومعرفة أهله بعضهم لبعض , ومعرفة أهل الحاجة منهم وتقارب منازلهم , فلم يكن في ذلك مشكلة .
فلما كان في عصر الصحابة اتسع المجتمع , وتباعدت مساكنه , وكثر أفراده , ودخلت فيه عناصر جديدة , فلم تعد فترة ما بين صلاة الصبح وصلاة العيد كافية , فكان من فقه الصحابة أن كانوا يعطونها قبل العيد بيوم أو يومين .
  وفي عصر الأئمة المتبوعين من الفقهاء المجتهدين ازداد المجتمع توسعا وتعقدا فأجازوا إخراجها من منتصف رمضان , كما في المذهب الحنبلي , بل من أول رمضان كما في المذهب الشافعي .
   ولم يقفوا عند الأطعمة المنصوص عليها في السنة , بل قاسوا عليها كل ما هو غالب قوت البلد .
   بل زاد بعضهم جواز إخراج القيمة , لاسيما إذا كانت أنفع للفقير , وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه , إذ المقصود ( إغناء المساكين ) في هذا اليوم الكريم , والإغناء كما يتحقق بالطعام يتحقق بدفع قيمته , وبما كانت القيمة أوفى بمهمة الإغناء من الطعام , وخصوصا في عصرنا , وفي هذا رعاية لمقصود النص النبوي , وتطبيق لروحه , وهذا هو الفقه الحقيقي .
السنة بين اللفظ والروح أو بين الظواهر والمقاصد
 إن التمسك بحرفية السنة أحيانا لا يكون تنفيذا لروح السنة ومقصودها بل يكون مضادا لها , وإن كان ظاهره التمسك بها .
خذ مثلا تشدد الذين يرفضون كل الرفض إخراج زكاة الفطر بقيمتها نقدا , كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه , وهو قول عمر بن عبد العزيز وغيه من فقهاء السلف .
وحجة هؤلاء المتشددين :
   أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوجبها في أصناف معينة من الطعام : التمر والزبيب والقمح والشعير , فعلينا أن نقف عند ما حدده رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ولا نعارض السنة بالرأي .
   ولو تأمل هؤلاء الأخوة في الأمر كما ينبغي له لوجدوا أنهم خالفوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحقيقة وإن تأمل هؤلاء الأخوة في الأمر كما ينبغي له لوجدوا أنهم خالفوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ , في الحقيقة وإن اتبعوا في الظاهر . أقصد أنهم عنوا بجسم السنة وأهملوا روحها .
   فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ راعى ظروف البيئة والزمن , فأوجب زكاة الفطر مما في أيدي الناس من الأطعمة , وكان ذلك أيسر على المعطي , وأنفع للآخذ .
   فقد كانت النقود عزيزة عند العرب , وخصوصا أهل البوادي . وكان إخراج الطعام ميسورا لهم , والمساكين محتاجون إليه , لهذا فرض الصدقة من الميسور لهم .
   حتى أنه رخص في إخراج (الأقط) ـ وهو اللبن المجفف المنزوع زبده ـ لمن كان عنده وسهل عليه . مثل أصحاب الإبل والغنم والبقر من أهل البادية .
   فإذا تغير الحال , وأصحاب النقود متوافرة , والأطعمة غير متوافرة , أو أصبح الفقير غير محتاج إليها في العيد , بل محتاجا إلى أشياء أخرى لنفسه أو لعياله , كان إخراج القيمة نقدا هو الأيسر على المعطي , والأنفع للآخذ . وكان هذا عملا بروح التوجيه النبوي , ومقصوده .
 إن مدينة كالقاهرة وحدها , فيها أكثر من عشرة ملايين مسلم , لو كلفتهم بإخراج عشرة ملايين صاع من القمح أو الشعير أو التمر أو الزبيب فمن أين يجدونها ؟ وأي عسر وأي حرج يجدونه وهم يبحثون عنها في أنحاء القرى حتى يعثروا عليها كلها أو بعضها ؟ وقد نفى الله عن دينه الحرج , وأراد بعباده اليسر ولم يرد بهم العسر !
   وهب أنهم وجدوها بسهولة , فماذا يستفيد الفقير منها , وهو لم يعد يطحن ولا يعجن ولا يخبز , إنما يشترى الخبز جاهزا من المخبز ؟ .
   إننا نلقى عليه عبئا حين نعطيها له حبا , ليتولى بعد ذلك بيعه . ومن يشتريه منه , والناس كلهم من حوله لم يعودوا في حاجة إلى الحب ؟!
   ولقد حدثني الأخوة في بعض البلاد التي يمنع علماؤها إخراج القيمة : أن المزكى
للفطر يشتري صاع التمر أو الأرز مثلا بعشر ريالات , فيسلمه للفقير فيبعه الفقير في الحال لنفس التاجر بأقل مما اشتراه بريال أو ريالين .
 ويظل الصاع يباع ثم يشترى هكذا مرات ومرات , والواقع أن الفقير لم يأخذ طعاما إنما أخذ نقدا , بأنقص مما لو دفع إليه المزكي القيمة مباشرة , فهو الذي يخسر الفرق ما بين ثمن شراء المزكي من التاجر , وثمن الفقير له , فهل جاءت الشريعة لمصلحة الفقراء أم بضدها ؟ وهل الشريعة شكلية إلى هذا الحد ؟
 وهل التشديد في هذا على الناس ـ كل الناس ـ اتباع للسنة حقا أم مخالفة لروح السنة التي شعارها دائما : "يسروا ولا تعسروا " ؟
   ثم إن الذين لم يجيزوا إخراج القيمة في زكاة الفطر أجازوا إخراج أنواع من الطعام لم ينص عليها الحديث إذا كانت هي غالب قوت البلد ؟
    وهذا نوع من التأويل للسنة , أو القياس على النص قلدوا فيه أئمتهم ولم يجدوا فيه حرجا , وهوـ في رأينا ـ قياس صحيح , وتأويل مقبول .
   فلماذا كان الرفض الشديد لفكرة القيمة في زكاة الفطر , مع أن المقصود بها إغناء المساكين عن السؤال والطواف في هذا اليوم , ولعل هذا يتحقق بدفع أكثر مما يتحقق بدفع الأطعمة العينية ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
68ـ انظر : ما قاله الشاطبي في الموافقات .
69ـ رواه مسلم في كتاب المناقب من صحيحه برقم (2363) . من حديث عائشة وأنس .
70ـ رواه أبو داود في الجهاد , حديث (1645) ورواه الترمذي في السير (1604) .
71ـ قال الإمام الخطابي في تعليل اسقاط نصف الدية : لأنهم قد أعانوا على أنفسهم بمقامهم بين ظهراني الكفار , فكانوا كمن هلك بجنابة نفسه , وجناية غيره , فسقطت حصة جنايته من الدية .
72ـ متفق عليه , انظر اللؤلؤ والمرجان , حديث (850) , والأحاديث الثلاثة قبله .
73ـ رواه البخاري في كتاب (علامات النبوة في الإسلام) .
74ـ انظر : فتح الباري ج 4 , ص 446 . وما بعدها , ط . الحلبي .
75ـ من حديث رواه أحمد عن يونس ورجاله ثقات كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/192 ) و قال المنذري في الترغيب والترهيب : إسناده جيد . انظر : كتابنا (المنتقى) حديث (1299) , ورواه أحمد في حديث آخر بلفظ (الأمراء من قريش) ثال الهيثمي : ورجاله رجال الصحيح , خلا سكين بن عبد العزيز وهو ثقة (5/193) وقال المنذري : رواته ثقات . انظر : (المنتقى ص 1300) .
76ـ انظر مقدمة ابن خلدون ج 2 , ص 695ـ 696 . ط لجنة البيان العربي بتحقيق د . على عبد الواحد وافي .
77ـ المغني لابن قدامة ج 2 , ص 598 مطبعة نشر الثقافة الإسلامية بمصر .
78ـ نيل الأوطار للشوكاني جزء 5: 338 وهو حديث متفق عليه .
79ـ الموطأ جزء 3:129 . وإبل مؤبلة أي كثيرة تتخذ للقنية .
80ـ تاريخ الفقه الإسلامي للمرحوم محمد يوسف موسى ـ فقه الصحابة والتابعين ص 83 ـ 85 .
81ـ انظر : فقه الزكاة جزء1ص 261ـ 265 .
82ـ مجموع فتاوي ابن تيمية ج 19 , ص 255 ـ 256 .
خامسا
التمييز بين الوسيلة المتغيرة
والهدف الثابت للحديث
كيف نتعامل مع السنة النبوية
معالم وضوابط
الدكتور يوسف القرضاوي 

ليست هناك تعليقات: