الاثنين، 4 مارس 2013

عدم تكافؤ الفرص


معركة الإسلام و الرأسمالية
سيد قطب
في الإسلام خلاص
عدم تكافؤ الفرص
   لا يكره الإسلام شيئا كما يكره اختلال المساواة في أية صورة من الصور , وفي أي وضع من الأوضاع , ولا ينفي شيئا من محيطه , كما ينفي التفاوت بسبب المولد أو الجنس أو اللون أو الثراء . . . أنه يقر مبدأ التفاوت في الطاقة و المقدرة , ولكن الجميع يجب أن تتاح لهم فرص متكافئة , فإذا سبق أحد بموهبته وحدها , لا بأي اعتبار آخر , فذلك هو السبق الوحيد الذي يقره الإسلام .
   ليس أحد بمولده خيرا من أحد , والولادة في أي بيت علا أو هبط , لا تمنح الفرد مزية زائدة , و لا تسلبه مزية قائمة . وما عادى الإسلام شيئا كما عادى فكرة الطبقات .
   ويخلط بعض الناس فهم الإسلام , فيفهمون آية : " ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات " بأنها إقرار لنظام الطبقات في الإسلام . وفي مجتمع مريض كمجتمعنا وحده يمكن أن يفهم هذا المعنى !. . وأن الارتفاع هنا فردي لا طبقي , فردي قائم على الموهبة الشخصية , لا طبقي قائم على المولد في طبقة . فالموهبة الفردية تهيئ لصاحبها مكانة باستحقاق , أما الولادة في بيت فلا ترتب لصاحبها مقاما واحدا لا يستحقه باستعداده وعمله في الحياة . وهذا هو الفارق الأصيل بين النظام الطبقي ونظام الإسلام . وهو فارق حاسم لا مجال لتجاهله أو الشك فيه . وهو يهدم النظام الطبقي من أساسه , ويقرر التفاوت بين الأفراد بتفاوت المواهب والاستعدادات . 
   من حق كل وليد في الأمة أن يولد صحيحا خاليا من الأمراض الوراثية كالآخرين . فضمانات الحياة التي تتهيأ لأي أبوين في المجتمع , يجب أن تتهيأ لكل أبوين آخرين . لا لحسابهما وحدهما ولكن لحساب الوليد الذي سينسلانه , لأن فرصة الصحة يجب أن توفر له قبل أن يجيء . وإلا فليس هنالك تكافؤ حقيقي في الفرص بين وليد مصاب بالصرع الوراثي و وليد سليم . وتكافؤ الفرص لا يبدأ بعد الميلاد , فالميلاد موعد متأخر جدا لتحقيق هذا التكافؤ . وعلى الدولة أن تضمن لكل مولود هذه الفرصة , بمنحه أبوين صحيحين على قدر المستطاع !
   ومن حق كل وليد أن يجد من الكفاية الغذائية , و الرعاية التربوية , ما يجده كل وليد آخر في الدولة . فإذا حدث أن كان دخل أبويه أو ظروفهما المعيشية لا تمكنهما من توفير هذه الفرصة له , فإن على الدولة أن توفر لهما هذه الظروف .. لا لحسابهما وحدهما كعضوين في هذا المجتمع , بل لحساب هذا الوليد , الذي يصبح تكافؤ الفرص بالقياس إليه خرافة , إذا نشأ ناقص التغذية أو مهملا في البيئة , بينما هنالك ولدان آخرون محظوظون تتاح لهم هذه الفرصة دونه في الحياة .
   ومن حق كل طفل بعد ذلك أن يجد العلم و أن يجد الصحة , وأن يجد الفرصة للعمل , بحسب طاقته وموهبته . وهنا يكون التفاوت الطبيعي حقه , لأنه ينشأ عن التفاوت في داخل الشخصيات , لا في ظاهر المجتمع والملابسات .
   وفي تاريخ الإسلام من النماذج ما لا حصر له على سمو المواهب الفردية بأصحابها إلى أعلى المستويات الاجتماعية , لا يضيرهم مولد في بيت فقير , ولا في بيئة متواضعة , ولا في حرفة صغيرة ذلك أنه : " لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى " .
   والإسلام لا يقر تلك الامتيازات الكاذبة التي تمنح للأطفال بمجرد مولدهم , لمجرد ولادتهم في بيت أو أسرة , أو تمنح للأبناء لمجرد خواطر الآباء !.. هذا الذي يتاح له الالتحاق بالكلية الحربية قبل زميله لمجرد أنه من أسرة ارستقراطية أو عسكرية ! وذلك الذي يتاح له العمل في وظائف النيابة أو السلك السياسي لمجرد أنه من أسرة ارستقراطية أو قضائية ! وذلك الذي يرسل في بعثة علمية إلى الخارج لا لأنه الأول أو الأليق , ولكن لأنه من بيت ارستقراطي ! كل أولئك أمور لا يعرفها الإسلام , لأنها تصدم مبدأ أساسيا من مبادئه التي جاء ليقررها في الحياة .
   وعندما ننظر إلى الأوضاع الاجتماعية القائمة من هذه الزاوية الإسلامية , نطلع على شناعات بشعة , ونبصر بمخالفات صريحة , بل نجد الأساس الاجتماعي كله مقلوبا .. إن الإسلام ليصرخ في وجه الاستثناءات و المحسوبيات , التي أصبحت قوام الدولة وقوام المجتمع . و لو كان الأمر للإسلام ما ترك هذا البناء كله يقوم على الظلم والتفريق و الفساد كما قام ! 
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مشكلة العمل والأجور


معركة الإسلام و الرأسمالية
سيد قطب
في الإسلام خلاص
مشكلة العمل والأجور
  إذا كان العمل هو وسيلة التملك ووسيلة تنمية الثروة في اعتبار الإسلام , فهو إذن قيمة أساسية من القيم الاجتماعية والاقتصادية .
   والإسلام يحيط العمل بقداسة , ويمنح اليد العاملة توقيرا , حتى ليقول نبي الإسلام الكريم عن يد ورمت في العمل : " هذه يد يحبها الله ورسوله " وتتوارد أحاديثه تترى عن هذه القداسة :" من أمسى كالا من عمل يده أمسى مغفورا له " , " إن الله يحب العبد المحترف " .. " ما أكل أحدكم طعاما قط خيرا من عمل يده " . 
  ولقد مر أن بعض فقهاء الإسلام يجعل للعامل الحق في الحصول على نصف الربح , و المبدأ العام الذي يجعل للحاكم أن يستجد من الأحكام بقدر ما يجد من القضية , يجعل للدولة من حقوق التشريع , حسب مقتضيات الأحوال في حدود العدل وكفاية العامل ورضاه .
   وفي هذا المضطرب الواسع , و الحرية العريضة , فسحة لتلافي كل ظرف طارئ ومواجهة كل حالة استثنائية , على ضوء المصلحة الاجتماعية العامة , وعلى ضوء المبادئ الإسلامية الأخرى , التي تحرم الغبن , كما تحرم كل إجراء يؤدي إلى الترف في جانب و الحرمان في جانب , أو يؤدي إلى احتباس المال في يد قليلة , وتداوله في محيط ضيق . ومن أول مبادئ الإسلام ألا يكون المال في أيدي الأغنياء وحدهم : "كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ " فكل نظام للأجور يؤدي إلى هذه النتيجة هو نظام محرم لا يقره الإسلام . وعلى ضوء هذا المبدأ وتلك المبادئ العامة السابقة يمكن التشريع للأجور في اطمئنان .
  أما ساعات العمل فهي محددة بالمبدأ الإسلامي العام الذي يحرم الضرر : لا ضرر ولا ضرار " فكل ما يؤدي إلى إرهاق صحة العامل , أو حرمانه حق الراحة الضرورية , أو حق الاطمئنان النفسي على حاضره و مستقبله , هو نظام محرم لا يقره الإسلام في العمل ولا يرضاه ,  وعلى الدولة أن تشرع في هذه الحدود حسب المقتضيات .
   ونظام العمل نظام متجدد , ومقتضياته وظروفه أبدا في تغير . لهذا وضع الإسلام المبادئ العامة للتشريع له , ولم يحدد قوانين ثابتة , فتلك خطته العامة ليواجه حاجات الحياة المتجددة , ويتقبل تجارب البشرية الواقعة في كل زمان , ويبقى حارسا للاتجاه العام , كي لا يحيد عن وجهته , ولا يخالف عن روحه ومبادئه .
   ولقد كانت هنالك بقية من الحديث عن " الملكية الفردية " آثرت نقلها هنا , لأنها حديث عن " الاحتكار" وللاحتكار  صلة بالملكية العامة إلى هنا , و صلة بالعمل والأجور . ذلك أن نظام الاحتكار كثيرا ما يؤدي إلى تحكم صاحب العمل في العمال ــ فوق تحكمه في السوق والاستهلاك ــ لأن العمال الذين يعملون في صناعة أو حرفة محتكَرة لفرد أو شركة , يعانون نظاما أشبه شيء بنظام الإقطاع . كل ما هنالك أن الإقطاع احتكار للأرض , والاحتكار احتكار للصنف .
   والإسلام يحرم نظام الاحتكار , كما يحرم ما يدعونه حقوق الامتياز بالنسبة إلى الموارد العامة و الخدمات العامة . وما يسمى اليوم : " تأميم المرافق العامة " هو مبدأ رئيسي من مبادئ الإسلام .
   فكل هذه الاحتكارات القائمة : كاحتكار صناعة السكر , واحتكار صناعة المواد الكحولية , واحتكار صناعة السمنت . وكل الامتيازات المعروفة : كامتياز شركة القنال , وامتياز شركة الترام , وامتياز شركات النور و المياه .. وما إليها , وكلها لا يقرها الإسلام . أولا : لأنها وسيلة من وسائل التحكم في السعر و التحكم في العامل . وثانيا : لأنها وسيلة لتضخم الثروة بطريقة جائرة  لا تحقق تكافؤ الفرص للجميع . وثالثا : لأنها وسيلة من وسائل تعطيل الإنتاج و رفض التحسينات في كثير من الأحيان .
   أن المرافق العامة يجب أن تبقى ملكا للشعب , وحصيلة استغلالها يجب أن تعود لخزانة الشعب لا لخزائن الأفراد .. هذا هو الإسلام !
* * * 

في الإسلام خلاص.. سوء توزيع الملكيات و الثروات


معركة الإسلام و الرأسمالية
سيد قطب
في الإسلام خلاص
   إذا اتضح أن الإسلام يملك أو يحل لنا مشكلاتنا الأساسية , ويمنحنا العدالة الاجتماعية شاملة , ويردنا إلى العدل في الحكم , وعدل في المال , وعدل في الفرص , وعدل في الجزاء .. فأنه يكون بلا شك أقدر على العمل في بلادنا من كل مذهب آخر , نحاول استعارته , عن طريق التقليد , أو على طريقة المشاركة في الحضارة الإنسانية بالاستجداء !
   أجل ـ إذا اتضح هذا كله ـ فالإسلام أقدر على العمل في بيئتنا . أقدر من الشيوعية بكل تأكيد ( وذلك على فرض تكافؤهما في القيمة الإنسانية , وتكافؤ أثرهما في العدالة الاجتماعية) فالإسلام معنا هنا في الداخل , ولن نحتاج إلى استجلابه من وراء الحدود , كما نستجلب القوالب الجاهزة , فتجيء فضفاضة , أو خائفة , لأنها لم تصنع على أعيننا ولم تفصل على قدنا , ولم تنبع من آلامنا وآمالنا .
    والإسلام صاحب لنا صديق , صاحبناه ألفا وثلاثمائة عام على الخير والشر , وعلى النعماء والبأساء . صاحبناه كارها و راضيا , وبررناه و عققناه . ولكنه بعد ذلك كله صديق , وله في الجوانح هزة , وفي المشاعر ذكرى , وفي الضمائر أصداء , وليس بالغريب على أرواحنا ومشاعرنا و عاداتنا وتقاليدنا غربة الشيوعية , التي نحمد منها أشياء ونكره منها أشياء , ونألف منها اتجاها , وننكر عليها اتجاها , وتتوزع مشاعرنا إزائها على أية حال توزعا لا يضمن معه توحد الجبهة في طلب عدالة اجتماعية قوية كما نضمن توحدها إذا نحن هتفنا إلى العدالة باسم الإسلام .
   والإسلام حجة قوية لا تملك لها الرأسمالية المستغلة دفعا كما تجد للشيوعية . والمخلصون للوطن والمجتمع في الدعوة إلى العدالة الاجتماعية , الذين يريدون العدالة الاجتماعية لذاتها ويجعلون منها هدفهم الحقيقي , ولا يتخذونها مجرد ستار لتهييج الجماهير , ابتغاء لنشر مذهب معين , هو الغاية الأولى , والعدالة وسيلة ! .. هؤلاء لا يملكون أن يغفلوا سلاحا قويا كسلاح العقيدة الإسلامية . سلاحا حاضرا في الأيدي , مذخورا في النفوس , يدعى باسمه فيستجاب , وتستأجش العزائم باسمه فتذكر وتهيج ...
    إن الذين يريدون تنحية الإسلام عن معركة العدالة الاجتماعية , ليخوضوها تحت راية الشيوعية , إنما يخونون أنفسهم إن كانوا مخلصين في دعوى العدالة , أو يخونون قضية الجماهير , جهلا بقيمة القوة الكبرى التي يُزودًهم الإسلام بها , أو عداوة مريبة لهذه القوة العظيمة , أو احتقار لأنفسهم وكفرا بقيمتهم , ورضاء كرضاء العبيد بفتات الموائد ووقفة الأذناب . . .
   إنني أفهم جيدا أن يَنْصَب المُستغِلون و الطغاة للإسلام , لينحوه عن هذه المعركة , إما باستغلال المحترفين لإصدار الفتاوى المكذوبة على الدين , إما باضطهاد الدعاة الحقيقيين لعدالة الإسلام , واتهامهم بشتى التهم , للتخلص من ذلك السيف الحاد المصلت على رقاب البغي و الاستغلال . فأما أن ينصب للإسلام دعاة العدالة الاجتماعية , فذلك أمر عندي غير مفهوم . وإن وراءه لخبيئا يجب أن يفطن إليه الأبرياء , الذين يريدون العدالة لذاتها , ويكافحون للجماهير وحدها , ويتجردون لهذه الغاية النبيلة بلا رياء ولا التواء .
* * *
     ولكن ما لنا نعجل قبل أن نعرض مشكلاتنا الأساسية على الإسلام لنرى أن كانت لها عندي حلول ؟
    ما هي مشكلاتنا الاجتماعية التي نعانيها في اجتماعنا الحاضر , وفي وضعنا الراهن ؟  ... إنها :
1ـ سوء توزيع الملكيات و الثروات .
2ـ مشكلة العمل والأجور .
3ـ عدم تكافؤ الفرص
4ـ فساد جهاز العمل وضعف الإنتاج .
   وهنالك مشكلات فرعية أخرى , تعد ثمارا ونتائج لهذه المشكلات الأساسية الكبرى , أو مضاعفات مرضية من مضاعفاتها . فلنتناول هذه المشكلات واحدة واحدة , نعرضها على الإسلام لننظر كيف يعالجها في ثقة وهدوء وسلام .
معركة الإسلام و الرأسمالية
سيد قطب
في الإسلام خلاص
سوء توزيع الملكيات و الثروات
    لم يعد أحد يجادل في أن توزيع الملكيات الزراعية في المجتمع المصري توزيع سيء مختل , يجب العمل على تعديله فورا . وليس الاختلاف اليوم على صحة هذه الحقيقة , إنما الاختلاف على الطريقة التي يعالج بها وضع لا يقبل البقاء .
   وحين يصل الأمر إلى أن يملك ألف ومئتان وأربعة وتسعون فردا , مليونين من الأفدنة الصالحة للزراعة في بلد يصل تعداده إلى عشرين مليونا من الأفدنة فإنه لا يبقى مجال للاختلاف على سوء التوزيع , واختلاله و فساده .
   والأمر في الثروات المنقولة أشد سوءا , فإن من لا يزيدون على ألفين يملكون أكثر من ثلث الثروة الممثلة في البنوك و الشركات !
   وتختلف الآراء إذن في طريقة العلاج , لا في طريقة الداء .
   فرجل مثل محمد بك خطاب , يفكر تفكيرا رأسماليا واعيا , ويحسن أوضاع الملكيات الزراعية يجب أن تتغير , اتقاء لما تثيره من عواصف مرتقبة في الأفق القريب .. يقدم مشروع تحديد الملكيات الزراعية بحيث لا تزيد على حد معين , وبحيث تشتري الدولة ما يزيد , وتكون به ملكيات صغيرة .
   هو تفكير رأسمالي بحت , لأنه لا يزيد على أن يحول الثروة العقارية المتضخمة إلى ثروة منقولة متضخمة كذلك , وكل ما يتقيه هو المظهر الفاحش البارز للإقطاع . ولكن الرأسمالية الغبية في مصر لا تدرك مرماه فتثور عليه , وتتهمه بالشيوعية , وتطارده في البرلمان !
   أم لعلنا نحن الأغبياء , والرأسمالية هي الذكية الواعية ! نعم ! فالإقطاعيون يعلمون أن رقيق الأرض حطام آدمي , لا خوف ولا خطر . حطام قد أحاله الجوع والمرض مخلوقات ضعيفة هزيلة لا تحس لنفسها وجودا ولا كرامة , ولا تفكير في عدل ولا نَصّفة . فمن الخير أن تبقى أموالهم مستغلة في الأرض مع هذا الحطام الذي لا يؤذي , من أن يضطروا لاستخدامها في الصناعة , حيث يتكتل العمال , وينمو بينهم الوعي , ويطالبون بحقوق الإنسان في يوم من الأيام !
   فأما الدولة فقد حاولت هذه السنوات الأخيرة أن تصنع شيئا ـ في حدود العقلية الرأسمالية بالطبع وفي حدود رعاية مصالح من تمثلهم من الملاك وأصحاب رؤوس الأموال ـ سنت ضريبة التركات , وضريبة الدخل العام , وأخذت بمبدأ الضريبة التصاعدية , وأعفت صغار الملاك من الضريبة . . . وهي خطوات هزيلة لا يبدو لها أثر , لأن الأوضاع القائمة قد بلغت من الفحش والسوء مبلغا لا تعالجه هذه اللمسات الناعمة بقفازات الحرير اللطيفة !
   لذلك تدعو الشيوعية دعوتها : أن لا علاج ولا خلاص إلا من ذلك الطريق المرسوم !
   فما رأي الإسلام يا ترى إلى جانب تلك الآراء ؟ وما خطته وطريقته ؟
   أن الإسلام يقر " مبدأ الملكية الفردية " . هذا ما لا شك فيه , ويخالف النظرية الأساسية للشيوعية في هذا الاتجاه .
   ولكن أية ملكية فردية هي التي يقرها الإسلام , ويكفل لها الضمانات ؟
 إنها الملكية التي تنشأ من أصل صحيح للتملك , بوسائل صحيحة يعترف بها الإسلام .
   والإسلام يعد العمل هو السبب الوحيد للملكية والكسب .العمل بكل أنواعه . عمل الجسم وعمل الفكر سواء . وعلى هذا الأساس يحرم الربا , لأن الزيادة التي ترد مع المال المقترض لم تنتج من عمل , إنما نتجت عن رأس المال . ورأس المال في ذاته ليس سببا من أسباب الكسب الصحيحة , ولا جزاء عليه , لأن الجزاء لا يترتب إلا على العمل البشري وحده , ولا جدال في أن هذا المبدأ الأساسي للتملك وللكسب في الإسلام .
   كذلك يحدد الإسلام لتنمية المال طرقا معينة , ولا يقر أي نمو يخرج عن حدود الوسائل المشروعة فيه هذه الوسائل , لا يدخل فيها الربا ـ كما تقدم ـ ولا المقامرة , ولا الغش , ولا الاحتكار , ولا الربح الفاحش المخالف لكل سماحة , ولا المستقطع من أجور العمال التي تبلغ نصف الربح , كما يرى بعض فقهاء الإسلام . وبطبيعة الحال لا يعترف بالسرقة والنهب والإكراه , وسائل للتملك , أو وسائل لتنمية المال .
   وكل ملكية لن تقم على أسس الصحيحة التي يعترف بها الإسلام أو قامت عليها , ولكن نموها لم يتم بالوسائل التي يقرها فهي ملكية زائفة لا يقرها الإسلام , ولا يعترف بها , ولا يوفر لها الضمانات (1) .
   هذا هو المبدأ الأول عن الملكية في الإسلام . ومن طبيعته أن يمنع التضخم الفاحش في الثروات منذ البداية . فالمال الذي ينشأ من الجهد الذاتي بالعمل , والذي لا يربح ربحا فاحشا , والذي تبلغ أجور العمال المنشئين له نصف الربح , ولا يتضاعف بالربا , أو بالغش ,  ولا يقوم على الاحتكار أو الابتزاز .. لا يصل بطبيعته إلى حد التضخم الذي يؤذي المجتمع , ويخلق فوارق الطبقات . 
   وينبغي أن نضيف إلى هذه العوامل الطبيعية عامل الضريبة الدائمة : ضريبة الزكاة .. هذه الفريضة التي تأخذ بنظام ثابت ما يعادل 2.5 % إلى 5% من أصل الثروة كل عام .
هنا كلمة يجب أن تقال عن هذه الفريضة التي يشوهها المغرضون والمتحايلون , فيصورونها بصورة الإحسان المذل لكرامة الإنسان !
   إن الدولة هي التي تجمع هذه الضريبة كما تحصل أية ضريبة , وإن الدولة هي التي تتولى إنفاقها بنظام معين , قابل للتطور حسب حاجات المجتمع و أوضاعه . فأين هي الذلة في نظام كهذا النظام ؟ المغرضين و المتحايلين يحاولون دائما أن يرسموا صورة واحدة مزورة لعملية الزكاة : غني يتبرع ويتصدق , وفقير يأخذ ويشكر ! ويد عليا معطية تحتها يد سفلى آخذة , وجها لوجه , مباشرة بين فرد و فرد !
   من أين جاؤوا بهذه الصورة الشائهة المزورة ؟ لست أدري !
   أئذا فرضت الدولة اليوم ضريبة للتعليم , جعلت حصيلتها خاصة بالأغراض التعليمية البحتة , من بناء للدور , وأداء للأجور , وإنفاق على أدوات الطلاب وكتبهم وغذائهم كذلك .. قيل : أن هذا نظام للتسول و الشحاذة , يهين كرامة المعلمين و الطلاب , لأن هذه الأموال مأخوذة من أموال الأثرياء , منفقة في شؤون الفقراء ؟!
   أئذا سنت الدولة قانونا يجبي 2.5% من كل ثروة كثرت أم قلت لتكوين الجيش و تسليحه , جعلت هذه الضريبة وقفا على هذا الباب من أبواب النفقات العامة .. قيل : أن الجيش يتسول , وأن كرامته تستذل , لأن الدولة أخذت نفقاته من أموال الأثرياء . و الثري و الفقير في أدائها سواء !
   إن الزكاة ضريبة كهذه الضرائب , تجبيها الدولة , ثم تنفقها في وجوه معينة تجبيها "كُلا" ثم تنفقها أجزاء .. وليست إحسانا فرديا يخرج بعينه من يد ليعطي بعينه إلى يد . وإذا كان بعض الناس يخرج بعينه من يد ليعطي إلى يد . وإذا كان بعض الناس اليوم يخرجون زكاة أموالهم , فيوزعونها بأيديهم , فذلك ليس النظام الذي فرضه الإسلام . إنما يصنع هذا البعض ذلك , ويسلك هذا الطريق المباشر , لأن الدولة لا تجبي هذه الضريبة بيدها , لتنفقها هي بمعرفتها في تلك الوجوه القابلة للتصرف بحسب تغير الأحوال .
   ولكن الغفلة والاستغفال يبلغان في مصر , أن يتحدث بعض الناس عن الزكاة على أنها إحسان فردي يذل النفوس , ويعوّدها الاستجداء  !.
   و الجرأة على الحقائق السافرة الأولية إلى درجة التبجح , لا تنشأ إلا من غفلة المستمعين أو القراء إلى حد البلاهة . وكلاهما يتوافر في البيئة المصرية و الحمد لله ! بل يتوافر في بيئة من يسمونهم "المثقفين" الذين يستمعون لكل طاعن في نظم الإسلام بترحيب وبشاشة , لكي يثبتوا أنهم مثقفون حقا ! ألسنا في عصر الأقزام وجيل الأقزام ؟ !
* * *
   على أية حال لنمض في طريقنا لبيان المبادئ الأساسية في الإسلام عن مشكلة سوء توزيع الملكيات و الثروات .
  لقد رأينا أن الإسلام لا يعترف بملكية لم تقم على أساس صحيح للتملك , أو لم تنم بوسائل النمو التي يعترف بها كذلك , ثم رأينا أنه يأخذ بنظام ثابت اثنين و نصف في المائة من رأس المال ليخصصه لضمانات اجتماعية معينة لبعض الطوائف المحتاجة إلى تلك الضمانات , ليؤديها لهم دفعة واحدة يجعلون منها رأس مال لعمل , أو دفعات على هيئة مرتبات شهرية في حالة العجز عن العمل , أو أية صورة من الصور التي يقتضيها النظام العام .
  ولكن هذا ليس كل حقوق الإسلام في المال .
    إن هذا إنما يجري حين يكون المجتمع متوازنا لا اضطراب فيه ولا اختلال , وعندما لا تكون هناك حاجات استثنائية للمجتمع , لمواجهة الطوارئ الداخلية  و الخارجية . فأما حين تتغير الأحوال وتبرز الحاجات , فحق المجتمع مطلق في المال , وحق الملكية الفردية لا يقف في وجه هذا الحق العام .
   الإسلام يعطي هذه السلطات للدولة ـ ممثلة في المجتمع ـ لا لمواجهة الحاجات العاجلة فحسب , بل لدفع الأضرار المتوقعة . 
   وحماية المجتمع من الاعتداء الخارجي , كحمايته من التخلخل الداخلي سواء في منح هذا الحق للدولة , لتتصرف في الملكيات الفردية بلا حدود ولا قيود , إلا حدود الحاجات الاجتماعية و الصالح العام .
   في يد الدولة أن تفرض أولا ضرائب خاصة ــ غير الضرائب العامة ــ كما تشاء . فتخصص ضريبة للجيش , وضريبة للتعليم , وضريبة للمستشفيات , وضريبة للضمان الاجتماعي . . .وضريبة لكل وجه طارئ من أوجه الإنفاق , لم يحسب حسابه في المصروفات العامة , أو تعجز الميزانية العادية عن الإنفاق عليه عند الاقتضاء .
   وفي يد الدولة أن تنزع  من الملكيات , وأن تأخذ من الثروات ــ بنسب معينة ــ كل ما تجده ضروريا لتعديل أوضاع المجتمع , أو لمواجهة نفقات إضافية ضرورية لحماية المجتمع من الآفات : آفات الجهل , آفات المرض , آفات الحرمان , وآفات الترف , وآفات الأحقاد بين الأفراد والجماعات , وسائر ما تتعرض له المجتمعات من آفات .
   بل في يد الدولة أن تنزع الملكيات و الثروات جميعا , وتعيد توزيعها على أساس جديد ــ ولو كانت هذه الملكيات قد قامت على الأسس التي يعترف بها الإسلام , ونمت بالوسائل التي يبررها ــ لأن دفع الضرر عن المجتمع كله , أو اتقاء الأضرار المتوقعة لهذا المجتمع أولى بالرعاية من حقوق الأفراد , فنظرية الإسلام في التكافل الاجتماعي لا تجعل هنالك تعارضا بين حقوق الفرد وحقوق المجتمع . وكل ضرر يصيب المجتمع يعده الإسلام ضررا يقع على كل أفراده , ويحتم على الدولة أن تقي هؤلاء الأفراد من أنفسهم عند الاقتضاء !
    ويبدو جليا مما تقدم أن التصرفات التي لا تبلغ هذا المدى مستطاعة بطبيعة الحال . فللدولة أن تبقى على الملاك أراضيهم , ثم تعطيهم قدرا منها يزرعونه في حدود طاقاتهم , وتمنح حق الارتفاق على سائرها لمن تشاء من الأفراد المحتاجين القادرين , يستغلونه لحسابهم بلا أجر ولا كراء .
   أو يبدوا أن تتدخل في إيجارات الأرض , فتحدد لها سعرا معينا لا تتعداه , أو نسبة من المحصول لا تجور على المستأجر , أو أن تتصرف في هذه الحدود حسبما تقتضيه الظروف , بلا قيد إلا ضمان العدل واجتناب الجور , وهيئة قضائية كمجلس الدولة , يمكن أن يوكل إليها هذا الضمان .
   وهكذا نجد أن مشكلة "الملكية الفردية" لا تقوم إلا في أذهان الذين لا يعرفون الإسلام , أو الذين يعرفونه ثم يكتمون ما أنزل الله , ويهتفون بضمانة الملكية الفردية على حد : "ولا تقربوا الصلاة..." !
   إن الملكية الفردية محترمة في الإسلام بقيودها تلك واحتمالاتها هذه لأن هذا النظام يلبي ميول الأفراد الطبيعية في التملك , ويحثهم على بذل أقصى الجهد في الإنتاج , ثم يدع خيرات ذلك كله للمجتمع , وفي خدمة المجتمع عند الاقتضاء . 
   وهو نظام أعدل من نظام الشيوعية وأمهر وأشمل . 
  أعدل , لأنه لا يمس الملكية الفردية إلا عند الاقتضاء .
  وأمهر , لأنه يضمن بذل أقصى الطاقة من الأفراد في الإنتاج .
  وأشمل , لأنه يعد الفرد للمجتمع , ويعد المجتمع للأفراد .
* * *

في مفارق الطريق


معركة الإسلام و الرأسمالية
سيد قطب
في مفارق الطريق
    هذه الأوضاع الاجتماعية القائمة غير قابلة للبقاء والاستمرار . هذا ما يحسه لا الذين يعارضونها وحدهم , بل الذين يحاولون أن يقيموا لها الأسناد , فإنه ينبغي أن نشهد أنهم ليسوا من الغباء بحيث يطمئنون إلى أن مثل هذه الأوضاع يمكن أن تمتد بذاتها كثيرا أو قليلا . لذلك هم يحاولون أن يقيموا لها الأسناد الزائفة لتعيش فترة طويلة أو قصيرة .. هم يضيفون بين آن و آن وآخر مواد جديدة إلى قانون العقوبات تشمل ما لم تكن تشمله المواد السابقة من الأحوال , أو تضيف عقوبات لم تكن في المواد السابقة تتضمنها . رجاء إرهاب المكافحين في سبيل العدالة الاجتماعية , بأية طريق ,  وبأي عنوان !
   وهم يزيدون الأموال المرصودة للدعاية لهذه الأوضاع , فتتحرك أقلام وتنشأ صحف , وتتم في الظلام مؤامرات على التشكيلات النقابية وعلى الهيئات المكافحة , قوامها المال , وقوامها الترهيب والترغيب , وفي يدها سيف المعز وذهبه : هذا لمن شاء وذلك لمن أراد !
   وهم يتحدثون بين الحين و الحين عن .. العدالة الاجتماعية ! أي والله عن العدالة الاجتماعية . وعن الطبقات المحرومة , وعن ضرورة تحسين الأحوال . وكثير هم "الباشوات"  الذين يطلقون للعدالة الاجتماعية البخور في هذه الأيام , إذ كان ألطف مخدر للجماهير الكادحة , يهدي أعصابها , و يسيل لعابها , ويمنيها بالعدل الاجتماعي الذي لا تكافح من أجله وحدها . بل يكافح له معها "الباشوات" العظام ! فما عليها إلا أن تستريح , وتستبشر , وتنام!
   ولكن شيئا من ذلك كله لن يجدي فتيلا , فالطبيعة و الحياة والدين و الحضارة الإنسانية والاقتصاد والعقل ضدها جميعا . إنما هي تعلات فارغة , ذاهبة مع الريح في الهواء .
***
     ونحن اليوم في مفارق الطريق . كلنا قد انتهينا إلى أن الأوضاع القائمة لن تدوم . كلنا متفقون على هذه الحقيقة , حتى أولئك الذين يقيمون من حولها الأسناد . إنما تختلف الآراء حول الوضع الجديد الذي ينبغي أن يخلف هذه الأوضاع . و التفكير في هذا واجب , فلا بد من وضع اجتماعي معين يحل محل هذا الوضع الذي يدق بيده أو بأيدي المتشبثين به ,كل يوم مسمارا في نعشه , والمسمار الأخير قريب  قريب !
منا فريق يهتف بالاشتراكية . ومنا فريق يحلم بالشيوعية , ومنا فريق يدعو إلى الإسلام .
   والأوضاع القائمة تجاهد الجميع , لأن واحدا من هذه الحلول كلها لن يدعها في سلام !
هي طبعا تكافح الشيوعية بادئ ذي بدء جهارا نهارا بلا تقية ولا مداراة . وهي تكافح الإسلام فتداوره تارة , وتنكل به تارة , حسبما ترى من القوة التي تسنده إن كانت خطرا حقيقيا واقعا , أو كانت خطبا ومواعظ يطفئها الكلام . وهي تدع اسم الاشتراكية يمر , حين لا تحسها خطرا حقيقيا قائما , فأما حين تحسها قوة حقيقية فهي تكافح كفاح الشيوعية وكفاح الإسلام . 
   لن تسلم الأوضاع الاجتماعية المستغلة لواحد من الثلاثة إذن , ولا بد من كفاح منظم رتيب , طويل الأجل . كفاح قلم وكفاح بحث . وكفاح تنظيم . وكفاح تكتل إلى جانب فكرة من هذه الفكر , لإنقاذ هذا الوطن المشرف على الانهيار .
***
    هذا في الداخل . فأما في الخارج , فهنالك كتلتان ضخمتان : كتلة الشيوعية في الشرق , وكتلة الرأسمالية في الغرب . وكلتاهما تبث دعاية ماكرة في جنبات الأرض , قوامها :أن ليس في العالم إلا كتلتان ووجهتان : الشيوعية و الرأسمالية . وأن ليس للأمم الباقية مفر من أن تكون إلى جانب هذه الكتلة أو تلك , فليس هنالك من سبيل إلا هذا أو ذاك !
   إن الشيوعية تخاطب الشعوب المُستغَلة , و الجماهير الكادحة , فمن مصلحتها أن تدع الجماهير تفهم أنها إن لا تكن في صف الشيوعية , فستكون في صف الرأسمالية ! والجماهير حين تخير على هذا النحو , خيرتها واضحة , وطريقها مرسومة , وقد ذاقت من الرأسمالية الويل , فالشيوعية وحدها طريق الخلاص !
    و الرأسمالية ــ أو الديمقراطية ــ تخاطب الهيئات الحاكمة , والطبقات المُستغِلة , فمن مصلحتها أن تدع هذا الفريق يفهم أنه إن لا يكن في صف الرأسمالية , فسيكون في صف الشيوعية ! والأسياد المستغلون حين يخيرون على هذا النحو , خيرتهم معروفة , وطريقهم مرسومة . وهم يفرقون من الشيوعية فرق الهمجي من الجن و الغيلان !
   ولما كانت الكتلة الغربية كالكتلة الشرقية , إنما تتنازعان رقعة العالم , وتديران المعركة لحسابها الخاص , على حساب الشعوب والأمم التي تدور في فلك هذه أو تلك , فإن دعايتهما على هذا النحو مفهومة , وهما منطقيتان مع أنفسهما ومع أهدافهما بلا جدال !
    فأما نحن فما شأننا في الصراع ؟
   نحن جربنا في فلسطين قريبا أنه لا الكتلة الشرقية ولا الكتلة الغربية تقيم وزنا للمبادئ التي تنادي بها , أو تقيم وزنا لنا نحن أنفسنا , حين يجد الجد , وتنكشف النيات , وتنطق المصالح و الشهوات .
  نحن إذن لا راحم لنا عند هؤلاء ولا عند هؤلاء . ونحن إذن غرباء مستضعفون في صف هؤلاء أو في صف هؤلاء . ونحن إذن أذناب في القافلة سلكنا هذا الطريق أو ذاك .
   وأنا أفهم جيدا أن نهون عند الآخرين ، فأما أن نهون على أنفسنا فذلك أمر فهمه علي عسير ، لأنه لا يخالف طبيعة الرجل الكريم فحسب ، بل يخالف طبيعة الإنسان ! 
   إنني أعرف أن في هذه البشرية من يستطعمون طعم الذل والمهانة ، ويستلذون الأذى في الجسم والكرامة . ذلك أنهم مرضى يعرفهم علم النفس ، ويضعهم في قوائم المرضى تحت عنوان خاص .
   ولكنني لا أعرف أن أمة كاملة يمكن أن تكون مصابة بهذا المرض النفسي المعروف ، ولا أن جيلا كاملا يستلذ الأذى والمهانة بحال من الأحوال .
   ترى أحالتنا الأوضاع الاجتماعية القائمة أمة من العبيد , لا للسادة فيها فحسب , ولكن لأية سيادة تلوح لها من جانب الأفق الغربي أو الشرقي على ألوف الأميال !
   إنني أعيذ الأمة الإسلامية أن يكتب عليها كلها هذا الهوان . فلقد وقف واحد منها وسط " الكونجرس" الأمريكي يفهم الأمريكان أن الغرور وحده هو الذي يصور لهم وللروس , أن ليس في العالم كله كتلتان : كتلة الشيوعية وكتلة الشيوعية و كتلة الديمقراطية .. أن هنالك كتلة أخرى ثالثة .. كتلة الإسلام .
  ارتفع هذا الصوت في قلب أمريكا , منبعثا من فم المرحوم : "السيد لياقت علي خان" رئيس وزراء الباكستان , بل من قلبه وضميره , بل من كرامته وكرامة شعبه , وكرامة الشرق المسلم , الذي يربأ بنفسه عن المهانة , ويرى لنفسه وجودا وكيانا , ويأبى أن يقف في ذيل القافلة وقفة الذليل الخانع الجبان , تلك الوقفة التي يدعونا إليها مع الأسف شباب من هذا الجيل بلا تحرج ولا إباء .
   في هذا العالم رقعة فسيحة متصلة الحدود , من شواطئ الأطلنطي إلى جوانب الباسيفيكي , تضم أكثر من ثلاثمائة مليون من الناس , يشتركون في عقيدة واحدة , ونظام معيشي واحد , وتقاليد متقاربة , ولغة إن لا تكن واحدة فهي في طريقها لأن تصبح لغة التفاهم للجميع . ودع عنك عشرات الملايين المتفرقة في أوربا وآسيا وأفريقية , ممن يدينون بهذه العقيدة , وبذلك النظام الذي تحمله العقيدة .
   فأي عقل يمكن أن يغفل هذه الكتلة الضخمة المتصلة الحدود من الحساب؟ إن الكتلتين الشرقية و الغربية لا تغفلان هذه الكتلة الثالثة من حسابهما إغفالا حقيقا , كما يبدو في دعايتهما الماهرة الماكرة , إنما هما تتنازعانها تنازع الأشياء و المتاع ! ولكل الكتلتين عذرها , فما عذرنا نحن أن نرضى بأن نكون كالأشياء و المتاع ؟!
    عذرنا أن الأوضاع الاجتماعية القائمة التي نعانيها في الداخل , لا تدع لنا أن نفكر في روية , ولا أن نحس في كرامة , ولا أن ندرك ما وراء الدعايات من أهداف !
   هذا صحيح ! ولكن هذا العذر يصلح لفرد أو أفراد . أما الشعوب والأمم فما هي بمعذورة أن تدع نفسها كالشيء التافه أو سقط المتاع , متى كان لها مخرج يحفظ عليها كرامتها , ويرد إليها اعتبارها , ولا يدعها في ذيل القافلة , وفي مركز التابع الذي لا يؤبه لرأيه ولا يستشار !
   ولو لم يكن لها هذا المخرج لأوجبت عليها الكرامة الإنسانية , والاعتبارات القومية , أن تبحث عن مخرج , وأن تخلقه خلقا , وتنشئه إنشاء . فكيف وهذا المخرج في يدها , وفي متناولها , وفي رصيدها الحاضر الذي لا يعز على التناول ؟ إلا تكن ذلة العبيد , فأنه نوع من التفكير عجيب !
* * *
      واعتبار آخر ...
      لقد جربنا ــ حتى شبعنا ــ تلك القوالب الجاهزة التي استجديناها كالشحاذين من هنا ومن هنا ومن هناك . جربناها في كل جانب من جوانب حياتنا الفكرية والاجتماعية والتشريعية , حتى انتهينا بها إلى" كرنفال" مضحك من المظاهر والأزياء . أزياء الفكر وأزياء الجسم سواء !
   ولنأخذ مثالا ذلك التشريع الذي استوردناه أولا من فرنسا ,ثم ما نزال نستورده من شتى بقاع الأرض , كلما احتجنا أن نشرع لهذه الحياة .
    أن هناك تصادما دائما بين روح التشريع الذي نستمده وروح الشعب الذي نسن له هذا التشريع . أن الشعب يسم بالبطولة كل خارج على القانون , ويبذل له التشجيع و العون و المساعدة , بقدر ما ينفر من السلطات القائمة على القانون , ويضن عليها بثقته , أو مساعدته على جمع الأدلة و القرائن و الشهادات .
   لماذا ؟ يقولون : إن الشعب جاهل ! كلا . فليس هذا هو السبب الأصيل , فالمتعلمون كذلك لا يستجيبون لدعوة القانون . إن السبب الحقيقي كامن في التنافر بين روح الشعب وروح التشريع المستعار , لأن هذا التشريع لم يستمد من ظروفه الاجتماعية , وملابساته التاريخية , ومشاعره وعقائده , وتقاليده وعاداته . إنما استمد من وسط أجنبي عن روحه جميعا , وسط له تاريخه الخاص , وله ديانته الخاصة , وله حاجاته الاجتماعية وظروفه الخاصة , فلن تخلص له ولن تنقاد !
   نحن لا ندعو إلى عزلة فكرية أو اجتماعية عن ركب الإنسانية المندفع . فنحن شركاء في القافلة , شركاء في الحضارة البشرية .
    بل نحن أدينا لهذه الحضارة الكثير , وقمنا فيها بدور إيجابي ضخم , قد لا نفطن إليه اليوم ولا نحترمه , إلا إذا تخلصت نفوسنا من مشاعر العبيد !
   ولكننا ننعي هذا التسول الدائم الذي نزاوله , وهذا الاستجداء المزري الذي نحن عاكفون عليه , وهذه الاستعارة التي لا نردها , ولا نؤدي ما يقابلها . وما دمنا نستجدي دائما ولا نعطي شيئا , فنحن على مائدة الإنسانية في موضع الشحاذ المتسول , ولا موضع الواهب الكريم .
   وقد يتسول المعدم ويستجدي المسكين . فأما أن يكون لك رصيد ضخم ثم تلبس أسمال الشحاذة , وتمد يد الاستجداء باسم المشاركة في الحضارة , فتلك مشاركة لا يعرفها إلا الشحاذون وحدهم , ولا يطمئن إليها إلا العبيد !
   هنالك معنيان للحضارة : فأما الأول فهو أن يكون لنا نصيبنا المتميز البارز في بناء هذه الحضارة , وزينا الذاتي المستمد في أصوله مما عندنا , المنتفع من تفريعاته وتطبيقاته بكل ما أفادته الإنسانية من التجارب . وأما الثاني فهو أن نأخذ القوالب الجاهزة , والسمات الظاهرة , وأن ننقل نقلا كل ما نراه بلا روية ولا تفكير ولا تعقيب  .
   المعنى الأول يفهمه الآدميون , والمعنى الثاني تفهمه القرود , وأخشى ما أخشاه أن لا نكون قد فهمنا إلا هذا المعنى الأخير !
* * *
    وبعد فإن الجبهة الغربية المؤلفة من أمريكا وانجلترا وفرنسا تستعبدنا وتستذلنا , ولا مكان لنا فيها إلا مكان الذيول و العبيد , وكل تفكير في الانضمام إليها غنما ينشأ من المصلحة المشتركة بين الرأسمالية المستغلة , والاستعمار الذي يحميها , وكل ستار آخر إنما هو ستار خادع , للتعمية على الجماهير , التي أصبحت لحسن الحظ لا تنخدع بهذا الستار .
   لقد منحنا أرضنا وسماءنا . وأقواتنا وأرزاقنا , ومصالحنا وأرواحنا , إلى هذه الجبهة مرتين في خلال ربع قرن , ثم اُبنا منها بصفعة كف أو ركلة قدم في نهاية المطاف . فأما هذه المرة الثالثة فإننا لن نؤوب بذلك المصير السليم الذي قد يجمده العبيد , ويسجدون للسادة شكرا على السلامة و العافية . بل سنؤوب بالتدمير المطلق الشامل لحياتنا كلها إلى عدة أجيال . 
    إن الدفاع المشترك في أية صورة من صوره . أو الانضمام إلى معسكر معين بأي وضع من أوضاعه , معناه تعريض هذا البلد الأعزل للخراب والدمار . هذا البلد المكشوف الذي ما تزال حياته تتوقف عل خزان أسوان , وقنبلة موقوته واحدة تكفي لتحطيم هذا الخزان ! أي تحطيم مصر كلها أجيالا بعد أجيال !
   إنها جريمة وطنية أن نربط أنفسنا إلى عجلة معينة في صراع الجبابرة القادم , فوق أنها جريمة في حق الكرامة و الشرف و الضمير . الكرامة التي داستها الديمقراطيات الغربية مرتين , وما تزال تدوسها في تبجح , ولا يقيم لهذا الشعب وزنا , لأنه يرتكن إلى المصلحة المشتركة بينه وبين عهود الإقطاع .
    إن هذا العالم العربي الممزق في براثن الاستعمار الغربي , ليستحق اللعنة والاحتقار , إذا مد يده الذليلة ليسند الغرب الفاجر في بأسائه مرة أخرى . و الشرق لا يمد يده , وإنما يمتطي ظهره للعرب ليضع أقدامه , ويعبر الهاوية , ثم يركل الحمار الذليل الذي امتطاه !
    إن الغرب الرأسمالي والاشتراكي سواء , يناصبنا العداء كله كتلة واحدة . وفي فلسطين شاهد من ذلك العداء الناصب قريب . وهو في الوقت ذاته يسومنا الذل و الخسف في تبجح ظاهر , ولا يخفض من نبرة الاستعلاء الفاجر إلا في أبان الهزيمة و الانكسار . ونحن لم ننس بعد استهانة جنود الحليفة في الحرب الأخيرة بأرواح المصريين , الذين كانت عرباتهم تدوسهم باستهانة كما تداس الكلاب , وتدوس كرامتهم و أعراضهم كما تداس الرقيق والعبيد . وما تزال هذه الحوادث تجري في الشقة العريضة التي يحتلونها على ضفة القنال (1) .
   نحن لا ننسى نظرات الازدراء التي كانت تطل من عيون شذاذ الآفاق الذين حشدتهم الحليفة في أرضنا , وهم يتوجهون بها إلى الجماهير في غدوهم ورواحهم , بل يتوجهون بها إلى ضباط البوليس وعساكره في أية مرة حضر هؤلاء للتفرج على حادثة من حوادث المجندين . فما كان للبوليس المصري إلا أن يتفرج , والحلفاء يدوسون المصريين بسياراتهم , أو يركلون بأقدامهم , أو يبتزون منهم النقود في الطرقات .
   لقد شبعنا من منظر السكارى المعربدين من مجنديهم , والمائعات المستهترات من مجنداتهم , ومن تلك القذارات الآدمية التي جلبوها معهم , أو التي خلفوها لنا , مئات وألوفا من الأعراض المثلومة , والكرامات المهدرة , والعار الذي تأنف منه الرجال . . . والنساء !
    لقد استكفينا جوعا لنطعم شذاذ الأفاق من جنود الحلفاء , وعُريا لتشتغل مصانعنا لكسوتهم , بالتآمر مع رؤوس الأموال وممثليها في عالم الصناعة وفي كراسي الحكم سواء .
   لسنا مستعدين مرة أخرى أن تخطف بناتنا من الطرقات والبيوت ليهدر عفافهن في المعسكرات والسيارات , ولا أن تخطف أقواتنا وطعامنا من المزارع والأسواق , لنصاب نحن بالسل والجوع , ولا أن تخطف أموالنا وأرصدتنا من البنوك , لنواجه الأزمات والكساد . ثم يقف بعد ذلك مستعمر متبجح مثل مستر تشرشل , ليمن علينا بنعمة الحماية ,  ويطالبنا , لا بالتنازل عن ديننا على بلاده , بل بدفع تعويض عن تضحيات جنوده .. جنوده السكارى المعربدين الأوباش !
    فأما فرنسا فصفحتها في تونس والجزائر ومراكش , وفي مصر ذاتها أقذر من صفحة الإنجليز .. ففرنسا التي وقفت في مؤتمر (مونتريه) حجر عثرة في طريق إلغاء الامتيازات , ولو أن الإنجليز ــ لمصلحة خاصةــ كانوا يريدون قصقصة جناحها في الشرق العربي شيئا فشيئا لظلت حجر عثرة في طريقنا الآن . فأما فظائعها في تونس والجزائر ومراكش , فهي البربرية المتوحشة في القرون الوسطى ما تزال . 
   وفرنسا أمة انتهت , وهي في دور الانحلال الأخير , على الرغم من كل دعاتها في الشرق العربي , ولكنها ماضية في وحشية البرابرة وتعصب الصليبيين تقتل وتحرق , وتعذب وتشوه وتسرق و تسلب , وترتكب في المغرب العربي ما ارتكبه المغول والصليبيين من آثام .
    ولقد كان عبيد فرنسا هنا في الشرق يردون علينا دائما حين نحدثهم عن "أمهم الحنون" بأنه لا يجوز الحكم على فرنسا بتصرفات السياسيين , فالسياسة لا قلب لها ولا ضمير . فها هي ذي كبيرة صحفيات فرنسا "مدام تابوي" تصفع العبيد هنا بتصريحاتها العجيبة . ففي زيارتها الأخيرة لمصر تلقت مندوب أحدى صحفنا غاضبة , لا لشيء إلا أن رئيس الحكومة المصرية رد على رسالة زعيم من زعماء المغرب , يؤيد فيها حق الحرية . حتى لقد قالت لذلك المندوب : كنت قد أعددت مقالا عن بلادكم ولكني لن أنشره . فماذا كسبتم من تدخلكم في شؤوننا بالشمال الأفريقي ؟!
    وبلع العبيد في مصر هذه الصفعة , وعادوا يسبحون بحمد فرنسا أمهم الحنون !
    فأما أمريكا فالذين لم يعيشوا فيها ولم يروها ، قد لا يذكرون لها إلا خيانتها لنا في قضيتنا بمجلس الأمن ، وفى حرب فلسطين ، ولكن الذين عاشوا فيها ، ورأوا  كيف ولغت صحافتها ومحطات إذاعتها وشركات أفلامها في كرامتنا وفى سمعتنا ، وكيف نشرت ذلك بعداء واضح واحتقار مقصود ، أو أحسوا ذلك العداء العنيف لكل ما هو إسلامي وشرقي بوجه عام , أو عرفوا كيف ينظر الأمريكان للملونين عامة ومدى ما يكنون لهم من احتقار . وهؤلاء يعرفون ما هي أمريكا , ويعرفون كيف يجب أن يردوا لها الجميل وذاك ! 
   ولقد لقي الآلاي التركي الذي ذهب إلى كورية جزاءه الحق من الأمريكان , وعرف نصيبه أي جيش شرقي يذهب لمعاونة هؤلاء المتغطرسين على الشرقيين . لقد تركوه يحمي هزيمتهم , فلما قام بدوره تركوه بلا حماية من الطيارات , وبلا معونة من السيارات , بل بدون ذخيرة ودون طعام !
    وإنه لمثل بسيط لما ينتظر جيوش العبيد في أي حلف مشترك فالأتراك في نظر الأمريكان هم أرقى الشرقيين لسبب تافه بسيط أنهم بيض البشرة ! ومع ذلك فتلك معاملتهم لهم في الميدان .. معاملة السيد الخائن الجبان !
    تلك قصة الكتلة الغربية معنا ــ بما فيها من رأسمالية واشتراكية ــ فما هي قصة الجبهة الشرقية !
   لقد كشفت لنا الشيوعية عن قيمة مبادئها التي تبشر بها يوم وقفت تسلح إسرائيل . وإسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تقوم على عنصر الدين وحده في الأرض . وعنصر الدين هو أول ما تنكر الشيوعية أن تقوم عليه الدول , وآخر ما تفكر في احتضانه و الدفاع عنه . ولكن الشيوعية لا تقيم وزنا إلا لمصلحتها الخاصة , وتحت أقدامها المبادئ التي تزخر بها الدعايات .
   والشيوعية قد تمنحنا الخبز , وتعفي نفوسنا من مرارة النظر إلى الثراء الفاحش الفاجر الذي تنفر من رؤيته البشعة فطرة الإنسان ! ولكنها تمنحنا الخبز لتسلبنا مقدساتنا كلها في الحياة , لا مقدساتنا الدينية , ولكن مقدساتنا الإنسانية جميعا , لتحبس نفوسنا في إطار الخبز و الكساء .
      وقد يبدو الحديث عن المقدسات الإنسانية ترفا في مصر , أو حديثا عن أوهام وخيالات لا وجود لها في حقيقة الواقع الاجتماعي . 
   وهذا صحيح .. فما يمكن أن نعيش هذه المقدسات في أوضاع اجتماعية كأوضاعنا القائمة . إن الحطام الآدمي الذي يعد بالملايين في مصر , لا يتسنى له الشعور بتلك المقدسات , لأنه مشغول بشعور الجوع والحرمان .
   ولكن ما القول : إذا كان هناك نظام آخر يمنحنا الخبز الذي تمنحه لنا الشيوعية ,  ويعفينا من بشاعة الثراء الفاحش وفوارق الطبقات , ويحقق لنا مجتمعا متوازنا لا حرمان فيه ولا افتراء .. ثم يمنحنا في الوقت ذاته غذاء الروح , وحرية الفكر , والشعور الإنساني الأرقى بالإنسان , والحياة ؟
   ما القول إذا كان هناك نظام لا يدعنا ذيلا في القافلة : قافلة الشيوعية أو قافلة الرأسمالية .. إنما يمنحنا مع العدالة الاجتماعية المطلقة في الداخل , وكرامة دولية عزيزة في الخارج , ويرد إلينا اعتبارنا في المجتمع الدولي , وقد يعفينا من ويلات الحرب , ويعفي الإنسانية معنا من هذا البلاء ؟
   ما القول إذا لا يدعنا نقف أبدا من المائدة الإنسانية وقفة المستجدي الذليل , بل وقفة المساهم في هذه المائدة , المعطي ما عنده , وما عنده ليس بالقليل ؟
   إنني لأعجب كيف يمكن للإنسان أن ينأى بنفسه عن موقف الكرامة إلى موقف الذلة , وعن دور المعطي إلى دور المستجدي , وعن مركز القيادة إلى موقف التبعية . وهو قادر على الاختيار , لو قاوم في ضميره شعور الاضطرار!
    إن لدينا ما نعطيه , ولسنا من الإفلاس بحيث يتصور الكثيرون , أو بحيث تصورنا لأنفسنا كتلة الغرب وكتلة الشرق سواء , إنما تصوراتنا هكذا لغاية في نفس يعقوب ! ليحل التخاذل في نفوسنا محل الثقة , واليأس محل التطلع , ولنسقط فرائس ذليلة مستغفلة في هذا الفخ أو ذاك.
   إن لدينا ما نعطيه , ولكننا في حاجة لأن نؤمن بأنفسنا , ففي هذا الإيمان حياة , وفي هذا الإيمان نجاة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)جاء هذا الكلام في الطبعة الأولى قبل خمسة عشر عاما .  

إني أتهم


معركة الإسلام و الرأسمالية
سيد قطب
إني أتهم
   أتهم هذه الأوضاع الاجتماعية الحاضرة بأنها تشل قوى الأمة عن العمل والإنتاج , وتشيع فيها البطالة والتعطل , وتقعدها عن استخدام مواردها الطبيعية و البشرية , وتؤدي بها إلى الضعف عن مواجهة الأخطار الداخلية والأخطار الخارجية , التي تتزايد وتبرز على مر الأيام .
   إن أرضنا تملك أن تنتج أضعاف ما تنتج من غلات . ولكن لماذا لا يتم هذا ؟ لأن هذه الأرض لا تزال موزعة كما كانت موزعة في أظلم عهود الإقطاع , فهي محتكرة في أيد قليلة لا تستغلها استغلالا كاملا , ولا تدعها للقادرين على استغلالها ممن يملكون شيئا .. دع هذه الأرض تخرج من هذا الاحتكار و تتداولها الأيدي المتعطلة التي لا تجد ما تعمل :: حينئذ تتبدل الحال غير الحال . 
   إن الأرض الصالحة للزراعة ليمكن أن تتضاعف . ولكن لماذا لا يتم هذا لأن مشروعات الري والصرف الكبرى معطلة لا تنفذ ! لماذا لأنها تحتاج إلى المال , والمال في أيدي الرأسماليين, والدولة تشفق أن تحمل رؤوس الأموال نصيبها الواجب من الأعباء لماذا ؟ لأن الدولة لا تمثل لا تمثل الجماهير المحتاجة , وإنما تمثل رؤوس الأموال . دع مقاليد الحكم للشعب حقا . حينئذ سيجد الشعب في خزائنه من حصيلة الضريبة العادلة , ما يصلح به الأراضي البور , في فترة من الزمان .
   وإن هذه الأرض لتحوي كنوزا من الخامات والقوى المُعطَلة التي لا تُستغل , لماذا ؟ لأن الدولة فقيرة وعاجزة وغير جادة ومشغولة .. فقيرة لا تجد المال , لأن ميزانيتها تعتمد على دخول الجمارك التي يؤديها الفقراء قبل الأغنياء ! وعاجزة لأن أداتها الإدارية فاسدة . أفسدتها الاستثناءات والمحسوبيات , وسوء النظام , وبلادة "الروتين" , كما أفسدتها الرشوة , وفساد الذمة , وتعفن الضمير . وغير جادة , لأنها لا تحس حافزا يدفعها إلى زيادة الثروة القومية العامة , ما دام الأثرياء الذين تمثلهم يحسون بالتخمة , ويعجزون عن تصريف ما في أيديهم من ثروات . ومشغولة . مشغولة بذلك الصراع الحزبي في حلبة الأقزام , التي أقامها الاستعمار منذ ربع قرن باسم الدستور ! ووقف يتفرج ويتسلى , كما كان الأشراف في القرون الوسطى يتسلون بصراع العبيد والأقزام . ثم هي مشغولة بحماية تلك الأوضاع الاجتماعية الشاذة المناقضة لطبيعة الأشياء , والتي تحتاج إلى جهد ضخم من الثروات البشرية والقوى الإنسانية ما لا يقل عما فيها من الخدمات والقوى . ولكن أحدا لا يستغلها ولا يلتفت إليها . لماذا ؟ لأن المصلحة العاجلة للسادة الرأسماليين الذين تمثلهم الدولة , لا تقتضي استغلال هذه القوى ولا استنقاذها من التبطل والضياع . فهي تدعها للجهل والمرض والفقر تأكلها أكلا , ثم تدعها للتبطل بحيلها مخلوقات تافهة : إما مشردة في الطرقات , إما جالسة على المقاهي والحانات , وإما عاملة كمتعطلة لا تنتج إلا التافه اليسير مما تملك أن تنتج , لأن النظام الذي تعمل في ظله نظام فاسد , ولأن الأجور التي تتناولها لا تحفز إلى الإخلاص , ولأن المستقبل الذي ينتظرها ظلام في ظلام .. والدولة لا تحاول أن تعمل شيئا جديا لاستنقاذ هذه الثروة القومية من القوى البشرية يكلف رؤوس الأموال بعض التكاليف . ودون هذا وتقف الدولة متحرجة واجمة خاشعة !
   وهكذا يدور دولاب العمل في الدولة وفي الشعب , لا ليسد حاجة سكانها جميعا , وعلى الاستهلاك . ولا تعمل الدولة ولا الأمة لرعاية المصالح الضخمة للعشرين مليونا من السكان , بل لرعاية المصالح المحدودة لفئة منها معدودة .
   ثم يتزايد السكان وتتناقص الغلة , لا لعجز في طبيعة الأمة عن العمل , ولا لنقص في كفايتها واستعداداتها الفطرية , ولكن تبعا لهذا الاختلال في توزيع الثروة القومية , وفي توزيع المغانم والمغارم , ومن ثم نتخلف والدنيا تركض , ونضعف وخصومنا على الأبواب تتزايد قدرتهم على الاعتداء , وتهبط كرامتنا الدولية يوما بعد يوم , ونحن نتحلق ونتصايح : يحيا يسقط , حول الصراع الحزبي التافه في حلبة الأقزام !
***
إني اتهم  .. أتهم الأوضاع الاجتماعية القائمة بأنها تهدر الكرامة الإنسانية , وتقضي على كل حقوق الإنسان   .
   ومن ذا الذي يجرؤ على القول بأن هؤلاء الملايين من الفلاحين الجياع العراة الحفاة , الذين تأكل الديدان أحشاءهم , وينهش الذباب مآقيهم , وتمتص الحشرات دماءهم .. ناس . يتمتعون بكرامة الإنسان وحقوق الإنسان ؟
   ومن ذا الذي يجرؤ على القول بأن هؤلاء الصبية الذين يُجمعون من القرى و الكفور للعمل في "التراحيل" لتنقية المزارع في الدوائر والتفاتيش من الآفات , وجسومهم تنغل بالآفات , وينقلون عشرات الأميال ومئاتها بعيدا عن أهلهم ــ حيث يعودون أو لا يعودون ــ لا متطوعون ولا مختارين , ولكن قسرا وغصبا , في مقابل القروش و الملاليم التي يؤكل نصفها قبل أن تصل إلى أيديهم الهزيلة النحيلة .
   من ذا الذي يقول بأن هؤلاء ناس لهم كرامة الإنسان وحقوق الإنسان ؟!
   من ذا الذي يجرؤ على القول بأن الملايين من "الأنفار" في دوائر الإقطاع ناس , والسيد المالك يملك أن يحيي ويميت , وأن يمنع ويمنح , وأن يرزق ويرزأ, والعبيد لا يملكون شيئا , حتى ولا حق البقاء في الدائرة , ولا التعويض الضئيل عند الطرد من الرحمة . فإذا غضب السيد ـ بل عامله ـ فقد طرد " النفر" مع زوجه و أولاده , وقد سلبت منه جاموسته , وقد عاد كوخه إلى السيد المالك الذي أنعم به عليه , وخرج هو شريدا طريدا من رحمة الأرض جميعا !
   من ذا الذي يجرؤ على القول بأن مئات الألوف من العجزة المتسولين الباحثين عن الفتات في صناديق القمامة , العراة الجسد , الحفاة القدم , المعفري الوجوه , الزائغي النظرات .. ناس لهم كرامة الإنسان وحقوق الإنسان ؟ وهم لا يجدون ما تجده كلاب السادة في بيوت السراة !
   من ذا الذي يجرؤ على القول بأن هؤلاء الألوف من الخدم في البيوت , و "الخدمة السائرة" في الدواوين , الذين يحرمهم القانون حتى حق تكوين النقابات , لأن السادة يأبون عليهم هذا الحق , كي لا يتجرأ العبيد على الأسياد , وكي لا تكون لهم حقوق ــ ولو نظرية ــ يرفعون بها جباههم في وجوه الأسياد ....
   من ذا الذي يجرؤ على القول بأن هؤلاء ناس , لهم حقوق الإنسان وكرامة الإنسان ؟!
   ودعك بعد ذلك من تلك الخرافة التي تتحدث عن "الأمة مصدر السلطات" وعن حق الانتخاب وحرية الاختبار .. أنها خرافة لا تستحق المناقشة , فهذه الأمة مصدر السلطات هي هذه الملايين الجائعة الهزيلة , الجاهلة المستغفلة . هذه الملايين المشغولة نهارها وليلها بالبحث عن اللقمة . الملايين التي لا تملك أن تفيق لحظة لتفكر في ذلك الترف الذي يسمونه حق الانتخاب وحرية الاختيار . والملايين التي يشير لها السادة فتنتخب , ويشير لها السادة فتمتنع , لأن هؤلاء السادة هم خزنة أرزاقها وأقواتها وملاك الإقطاع الذين يؤوي هؤلاء الجياع ! 
   إنها خرافة أن تتحدث في عهود الإقطاع عن الدساتير والبرلمانات . ونحن نعيش في عهود الإقطاع بكل مقوماتها , لا ينقص منها شيء إلا تبعات السيد تجاه رقيق الأرض , فقد سقط عنه هذه التبعات في عصر الدستور ! أجل فلقد كان السيد فيما مضى مسئولا عن رقيقه , يزوج بناتهم ويمنحهن , ويعالجهم إذا مرضوا , ويؤدي عنهم نفقات الجنائز والأعياد .. فأسقط عهد الدستور كل هذه التكاليف عن كاهله , وأبقى له الرقيق , يأكل من أبدانهم ما يشاء كيف شاء!
   إن الحديث عن الدساتير والبرلمانات يصلح مادة فكاهة , يتسلى بها الفارغون . ولكنه لا يصلح حديث أمة تريد الجد , وتنظر إلى الواقع بعين الاعتبار !
***
إني اتهم .. أتهم الأوضاع الاجتماعية القائمة بأنها تفسد الخلق والضمير , وتشيع الفساد في المجتمع والدولة , وتؤدي إلى الانحلال الفردي و القومي .
  إن تضخم الثراء في جانب , وبروز الحرمان في جانب , من شأنه أن يخلق طبقة من الأثرياء الفارغين المتبطلين , الذين يجدون لديهم وفرة من المال , ووفرة في الوقت من الطاقة الجسدية التي لابد بها من متصرف .
   والطاقة التي لا تصرف في العمل , والتي لا تشغلها فكرة أعلى من الذات , لابد أن تجد لها طريقا آخر : طريق المتاع الجسدي الغليظ , والرفاهية المترفة الناعمة , والموائد الخضر والسباق , والسكر والعربدة والاستهتار ... 
   وماذا يصنع أولئك الفتيان المرد ، وأولئك الشيوخ المترهلون ، الذين تجبى إليهم ثمرات الكد والعرق والدماء ، من جهود الألوف الجياع الحفاة العراة ...ماذا يصنع أولئك وهؤلاء بتلك الألوف والملايين التي تصل إليهم وهم قاعدون ؟ ماذا يصنعون وهم قاعدون ؟ ماذا يصنعون ولم يطهر العمل قلوبهم وأيديهم , ولم يشغل العمل أفكارهم ومشاعرهم ؟ وماذا يصنعون إلا أن يفكروا في لذائذ الحس ، وشهوات الجسد ، والترف الناعم الرخيص ؟ .......
وهم يملكون قوة الإغراء .. المال .. وعلى الضفة الأخرى أولئك المحرومون التاعسون ، ضعفاء أمام ذلك الإغراء ، طلاب حياة وطلاب متاع كذلك ، فلا يجدون إليهما سبيلا من وجه شريف ... فالشرف آخر حرفة في مصر تدر على أصحابها الكفاف ! 
عندئذ ينقسم المحرومون والمحرومات فريقين : فريق السماسرة وفريق الضحايا . فريق القوادين وفريق الرقيق ـ ولا عبرة بالفريق الثالث : فريق الشرفاء الذي يأبي أن يخضع للإغراء العنيف . إنه فريق الذين لا يريدون الحياة ولا يريدون المتاع ! أو فريق الأبطال والقديسين . وما  كل الناس ولا كثرتهم أبطال ولا قديسون ! 
   ولا بد من حاشية وأذيال , لأولئك الفتيان المرد , وأولئك الشيوخ المترهلين . لا بد من حاشية تملق كبرياءهم , وتؤمن على سخافاتهم وحماقاتهم . وهم واجدون هذه الحاشية في ذلك الحطام الآدمي التافه , الذي أحالته الأوضاع الاجتماعية الفاسدة ديدانا طفيلية وإمعات !
   وهكذا تتكون حلقة مفرغة , من الشباب الفارغ والشيخوخة الآسنة , ومن الرق الأبيض والنخاسة القذرة , ومن الملق الحقير وفناء الشخصية والانحلال .
   وندع هذه الحلقة الآسنة , لتقع العين على حلقة أخرى نشيطة متحركة عاملة . ولكن للشيطان وفي حقل الشيطان , حقل الرشوة و الارتشاء . حقل السرقة والاختلاس وفساد الضمير .
   إنه العوز في جانب والإغراء في جانب . إنه الموظف ذو العيال الذي يلهب الغلاء ظهره بسياطه الكاوية , ويمتص عصارة قلبه ودمه , ليسلمها إلى السادة الممولين , الذين تحميهم الدولة بتشريعاتها , وتعمل لحسابها وحدهم لا لحساب الجماهير . إنه ذلك المخلوق الضعيف وأمامه إغراء المال الحرام . المال الذي يريد أن يتضاعف بالغش والسرقة والتهريب والاحتكار .   وقد لا يقف الفقر هكذا أمام الثراء . إنما يقف المال أمام المال . تقف المصلحة المشتركة بين الغنى الفاحش والفنى الفاحش . تقف المؤامرة على الجماهير ومصالح الجماهير . الجماهير الضعيفة التي لا تملك شيئا تزود به عن نفسها في المعركة , حتى ولا قوة اليقظة والانتباه !
   وهذه قضايا الذخيرة الفاسدة في الجيش , وتهريب التموين إلى إسرائيل , والاختلاسات في الأموال العامة ... هذه هي تقشعر لقذارتها وبشاعتها النفوس . ولكنها في صميمها ليست منفصلة عن الأوضاع الاجتماعية القائمة , فهي ثمرتها الطبيعية التي لا تثمر سواها , وما يمكن أن تختل موازين العدالة الاجتماعية هذا الاختلال , ثم تبقى للمجتمع قواه الخلقية ومبادئه ومثله . وإنما هي الحمأة الآسنة يصب فيها الوحل والقذى , وتنمو على حوافها الحشرات , وتنسل في جوفها الديدان , ثم تتسع وتتسع حتى تحيل المجتمع كله بركة من الوحل المنتن العفن , تغوص فيها الضمائر والأخلاق , وتغرق فيها القوميات والأوطان .
   وهنا ينبعث السادة الأجلاء من هيئة كبار العلماء ، من سباتهم الطويل العميق ، ينعون الأخلاق الضائعة والفواحش الشائعة ، ولا يدعون ثبورا واحدا بل يدعون ثبورا كثيرا ! فلننصرف إلى السادة الأجلاء نسمع منهم الوعظ الشريف ، ترويحا للنفس عن ذلك الجد الكريه الذي نعانيه ! 
  هذه بعض عريضتهم إلى رئيس الحكومة في يوم من الأيام :
   " وإن الناظر في حال أمتنا العزيزة , وما آل إليه أمر الدين و الخلق فيها , ليهوله ما يرى , ويأخذه كثير من الحزن على حاضرها الذي صارت إليه , ويخالجه كثير من الإشفاق على مستقبلها الذي هي مقبلة عليه . فقد استهان الناس بأوامر الدين ونواهيه , وجنحوا إلى ما يخالف تقاليد الإسلام , ودخل على كثير منهم ما لم يكن يعهد من أخلاق الإباحية والتحلل , جريا وراء المدنية الزائفة , واغترار ببريقها الخادع , وكثرت عوامل الإفساد والإغراء في البلاد , ولا سيما أمام ناشئيها وفتيانها , المرجوين للنهوض بها , والأخذ بيدها في حاضرها ومستقبلها , فمن حفلات ماجنة خليعة , يختلط فيها النساء بالرجال على صورة متهتكة جريئة , تشرب فيها الخمر , ويرتكب فيها ما ينافي المروءة و الخلق الكريم , إلى أندية يباح فيه القمار , ويسكب على موائدها الذهب , وتبتز فيها الأموال , وتزلزل بسببها البيوت والكرامات , إلى ملاعب السباق والمراهنات تنطوي على ألوان من الفساد وإضاعة المال , إلى مسابقات للجمال إنما هي معارض للفسوق والإثم , يرتكب فيها ما يندى له جبين الدين والخلق و المروءة , ويباح فيها من المحرمات أكبرها وأخطرها , إلى شواطئ في الصيف  يخلع فيها العذار , ويطغى فيها الأشرار , إلى أخبار ذلك تذكر وتنشر , وتوصف وتصور , ليستثار بها كوامن الشهوات والغرائز , في غير تورع ولا حياء , إلى كثير من ألوان المنكرات وفنون الموبقات .."   



    وي ! وي ! أو هذا هكذا أيها العلماء الأجلاء ؟ ! يا سبحان الله ! ولا حول ولا قوة إلا بالله ! حقا إنه لأمر جلل يوجب النقمة ويستوجب اللعنة ... 
ولكن ! وقد قدر لشفاهكم الشريفة أن تنفرج عن كلام في المجتمع ، أفما كانت هناك كلمة واحدة تقال عن المظالم الاجتماعية الفاشية ، وعن رأي الإسلام في الحكم ، ورأيه في المال ، ورأيه في الفوارق الاجتماعية التي لا تطاق ؟ 
وما الذي كنتم تنتظرونه أيها السادة الأجلاء من أوضاعنا الاجتماعية القائمة إلا هذا الفساد ، التي تناولت خطبتكم الشريفة ظواهره ، وتجنبت خوافيه ؟ أوضاعنا الاجتماعية التي تجد منكم السند والنصير ، والتي يصيبكم البكم فلا تشيرون إليها عارضة من قريب أو من بعيد ، لأن السكوت عنها من ذهب : ذهب إبريز !
***
   إني أتهم .. أتهم الأوضاع الاجتماعية القائمة بأنها تحيل تكافؤ الفرص خرافة , والعدالة بين الجهد والجزاء أسطورة . وبذلك تشيع القلق والاضطراب في نفوس الأفراد والجماعات .
   أنه يكفي في مصر أن يحسن الطفل اختيار أبويه , كيما تتاح له الفرص جميعا , ويتخطى عقبات الطريق وثبا ! فلئن فاته أن يحسن اختيار أبويه , فلا أقل من أن يختار له زوجة قد أحسنت اختيار أبويها , فولدت في بيت وزير أو كبير , كي تحمله على جناحيها وتطير ! فألا تكن قد أحسنت اختيار أبويها فلا أقل من أن تكون قد أحسنت اختيار تقاطيعها وملامحها . وهذه تعويذة تفك العقد , ويدخل بها على الحكام ويخرج . كما كانت كتب السحر تصف بعض التعاويذ في قديم الزمان وسالف العصر والأوان !
  والدعابة التي أطلقها الشاعر الملهم "محمود أبو الوفا" في : "أنفاس محترقة" : 
أخي قل لي ولا تخجل ..... بماذا قد ترقيتا
وما أنت بذي جاه ..... وعمرك ما تزوجتا

لم تكن دعابة عابرة ، إنما هي إيماضة الحقيقة في ضمير هذا الواقع الاجتماعي المريض ، انطلقت على لسان شاعر صادق الحس موهوب . 
     إن تكافؤ الفرص في مثل هذه الأوضاع خرافة لا تقل عن خرافة المساواة أمام القانون ! وإلا فأي تكافؤ بين كتلة اللحم يدفع بها رحم في الكوخ , فتتلقاها الأرض ,  أو حجر أقذر من الأرض , يسلمها إلى الميكروب والمرض , ثم يكلها إلى الجوع والشظف , حتى إذا غالبت ذلك كله , دفع بها إلى الحرمان والإهمال . وبين أخت لها وليدة على يدي طبيب , وفي حضن ممرضة , موكولة إلى العناية والرعاية , فإلى المناغاة و التدليل , فإلى روضة الأطفال فالجامعة , فإلى كرسي الديوان أو وسط الثراء في الشركات والدوائر والتفاتيش ؟!
  أي تكافؤ بين ذلك الذي أحسن اختيار أبويه وخاب في الدراسة , وذلك الذي لم يوهب حسن الاختيار ولو كان من أوائل المتخرجين ؟ 
     أي تكافؤ في عالم الوظيفة أو في العالم الذي يسمونه "حرا" وذلك المحظوظ المرموق يخطو والأسرة والجاه يفتحان له مغاليق الحياة . وهذا النكد التاعس تتلقاه الصدمات والعقبات في كل شبر من طريقه البطيء الطويل ؟ !
     و إذا كان تكافؤ الفرص خرافة , فالعدالة بين الجهد و الجزاء أسطورة ! وإلا فمن ذا الذي يقول : أن هذه الملايين الجائعة إنما تجوع لأنها ملايين الكسالى , الذين لا يريدون العمل والتعب ؟ يقال هذا عن فرد , أو عشرة أو عن مئة , أو عن ألف , أو عن عشرة آلاف .. أما أن يقال عن الملايين , فدون هذا و يمج الحديث , وتسخف العبارة , وتعجز المرائر عن الاحتمال .
   إن الذين يعملون في هذا البلد هم من يجوعون . أعني الذين يعملون أعمالا شريفة , لا تدخل في قائمة السرقة و الاختلاس , والغش و التدليس , والارتشاء واستغلال النفوذ , وتجارة الرقيق الأبيض , و الخيانة الوطنية ... إلى آخر ما يملك به الرجل أو المرأة في مصر أن يصبح بين يوم و ليلة من الوجهاء والأثرياء !
   نحن لا ننكر التفاوت في الاستعدادات الفردية و المقدرات الذاتية . ولكن أي تفاوت يمكن أن يبرر الفوارق بين ملايين عبود و فرغلي و أمين يحي , و البدراوي ... وأمثالهم . وبين الملاليم التي ينالها عمالهم وعبيدهم وفلاحيهم ؟
   وأي تفاوت يمكن أن يبرر الفوارق بين المرتب و الوزير و وكيل الوزارة و المدير العام . ومرتبات الكتبة و السعاة و الفراشين في الدواوين و هي تبلغ خمسين ضعفا في بعض الأحايين ؟ 
   إن أية مغالطة عن تفاوت المقدرات الفردية لتقف حسيرة خجلى أمام الواقع الصارخ , الذي يعجز المدافعون عن تبريره وتفسيره , عجزه هو ذاته عن الاستمرار و البقاء , بحكم مناقضته لطبائع الأشياء .
   إن مجتمعا هذه سماته ليشيع القلق في نفوس أفراده وجماعاته . القلق الناشئ من أن الجهد لا يلقى جزاءه , و الجد لا يثاب عليه , و الوسائل الملتوية تبلغ بصاحبها ما لا تبلغه الوسائل المستقيمة , و الولادة في بيت وزير أو كبير تجدي ما لا يجدي الذكاء و الموهبة و الخلق و العمل جميعا !
  لقد مضى على مصر أكثر من ربع قرن منذ تسلمت مقاليدها , وتوالت على حكمها الوزارات والأحزاب . وما من عهد من هذه العهود خلا من الاستثناء البغيض . تارة بالآحاد و العشرات , وتارة بالمئات والألوف . حتى شاع في الدواوين وعلى ألسنة الناس أن الواسطة هي الطريق الوحيد القصير , و وقر في ضمائرهم أن لا شيء يعدل أن تكون ذا جاه , أو محسوبا , أو أن تسلك على أية حال طريقا غير مستقيم !
   ومتى فقد النفوس الثقة في الخير و الواجب ,  والأمانة والضمير , فقد فسد كل شيء , وسرى القلق و التوجس , وعم الإهمال والاستهتار . وقد انتهينا إلى هذا . وانتهينا معه إلى ما هو أدهى : انتهينا إلى الشك المطلق في صلاحية الإدارة المصرية , وإلى الترحم على أيام الاحتلال . وهذه كارثة . فليس أخطر من أن يكفر المواطن بوطنه و بشعبه و بنفسه .
   إن الجريمة التي ارتكبتها سياسة الاستثناء هي هذه الجريمة . جريمة تزعزع ثقة المواطن في الحكم الوطني .  جريمة انهيار الشعور الداخلي بقيمة الاستقلال , وضرورة الاستقلال ! 
***
   إني أتهم .. أتهم الأوضاع الاجتماعية القائمة بأنها تدفع بالناس دفعا إلى أحضان الشيوعية ، وبخاصة ذلك الجيل الناشئ من الشبان الأبرياء .
حين يقال للملايين الكادحين الذين لا يجدون ما ينفقون : إن الشيوعية تضمن لكم كفايتكم ، وتمنع الترف الفاجر الذي يزاوله أثرياؤكم .. يكون لها فعل السحر في نفوس الجماهير . 
وحين يقال لهم : إن الشيوعية تحرمكم حرية العمل ، وحرية القول وحرية التفكير ، فإنهم لا يحسون أنها تسلبهم شيئا حقيقيا يملكونه .
إن الشيوعية لا تحوي سحرا ولا سرا . ولكن الجماهير معها على رأي المثل العامي الذي يقول : " ضربوا الأعور على عينه قال : خسرانة خسرانة ! " أو المثل الآخر الذي يقول : " قالوا للقرد ربنا حيسخطك . قال حيعملني غزال ؟! " فالعور و القرود ـ أي الذين لا يملكون شيئا يخسرونه , واليائسون من أن تكون هناك حال أسوأ من حالهم ـ هم الذين تسحرهم الشيوعية . أما الذي يملكون شيئا . الذين يملكون حرية القول و حرية الفكر . يملكون قبلها حرية الرغيف , و لا تصطدمهم تلك الفوارق الاجتماعية السحيقة .. فهم أعداء الشيوعية الطبيعيون . 
  لهذا لم تجد الشيوعية لها إلى اليوم تربة صالحة في السويد أو النرويج أو الدنمارك  , لا لأن أهلها لهم أهداف روحية أو عقيدة إنسانية . بل لأنهم يملكون أكثر مما تمنحه الشيوعية , ويفقدون بالشيوعية أشياء حقيقة يملكونها .
     حين يقال للعامل في تلك البلاد : إن الشيوعية ستوفر لك كفايتك وضمانات حياتك . قد يسخر ! فكفاياته كلها مضمونة , بل رفاهيته كذلك . وحين يقال له : إن الشيوعية ستضمن لك عملا دائما , وتحميك من نتائج التعطل قد يسخر ! لأنه يجد ضمانات حياته عاملا ومتعطلا , ولا يحس قلقا في حياته من هذا الجانب أو ذاك .
   ولكن حين يقال له : أن الشيوعية ستجندك للعمل بلا حرية و لا اختيار , أو ستقضي على حريتك النقابية , أو ستضغط على حرية القول و الكتابة و التفكير .. فإن ذلك يفزعه ويزعجه . ذلك أنه يملك تلك الحريات فعلا . يملكها حقيقة واقعة في حياته اليومية , لا في الكتب و الدساتير المكتوبة . . عندما تعجز الشيوعية أن تغزو قلبه لأنها لا تمنحه شيئا ينقصه , وعلى العكس تسلبه مزايا حقيقية يملكها .
   كذلك الحال في أمريكا .. أن العامل الأمريكي يعرف أنه حينما قرر عمال المناجم الإضراب , وصرح الرئيس ترومان بأنه يفكر في اتخاذ تدبير شديد لإنهاء هذا الإضراب , هتف العمال : "دع ترومان يأتي هنا ويحفر الأرض معنا "  .
  ونشر هذا الهتاف في الصحف على أعمدة بحروف بارزة , فلم يتحرك شرطي واحد ليقبض على عامل , فضلا على أن يضربه ويسجنه ويعذبه .
   وحينما كتب صحفي طويل اللسان عن ابنة ترومان كتابة بذيئة , لم يزد رئيس الدولة التي تحكم نصف العالم عن أن يكتب له رسالة شخصية " بأنه سيضربه بنفسه عندما يقابله " ولم يتحرك "الجستابو" ليدق عنق ها الصحفي , أو يقتله سرا , ويرمي بجسده في جب!
   والعامل الأمريكي يعلم أن روسيا لا يملك أن يهتف ضد ستالين , ولا أن يكتب حرفا واحدا عن أسرته .. ولهذا يفزع من الشيوعية !
   أما هنا فعبود باشا يملك أن يحطم نقابات عماله التي ترتكب جريمة مطالبته بتنفيذ قانون من قوانين الدولة , يزيد لقيمات في نصيب العامل باسم إعانة الغلاء . والدولة واقفة تتفرج وتشجع سعادته وهو يسحق هذه النقابات سحقا . و الجمعية الزراعية تشرد موظفا خدمها سبعة عشر عاما , وخدمها أبوه قبله لأنه طالب بإعانة الغلاء !
   للسان أن يتطاول على ذاته الكريمة ! .
   أما حرية القول وحرية الفكر , فيسأل عنها القلم السياسي . وتسأل عنها المعتقلات و السجون , وتسأل عنها حوادث التعذيب في كل قضية سياسية في تاريخ مصر الحديث !
  إن الشيوعية في ذاتها فكرة صغيرة لا تستحق الاحترام عند من يفكرون تفكيرا إنسانيا أعلى من الطعام و الشراب ، وعند من يعرفون أفكارا أخرى عرفتها الإنسانية قبل الشيوعية ، وهي أعدل وأرقى . ولكن الأوضاع الاجتماعية القائمة تضفي على الشيوعية سحرا وجاذبية , وإذا كنا نعتقد أن الشيوعية فكرة تعسفية وضيقة , وفيها من سوء الظن بالبشرية , ومن الأحقاد المسمومة ما فيها .. فإننا نعتبر الأوضاع القائمة مجرمة ، ترتكب في كل يوم جريمة تحبيب الشيوعية للجماهير المحرومة ، وتزينها في نفوسهم ، وتدفعهم إليها دفعا ، للخلاص من ذل الإقطاع ولذع الحرمان وظلم الأوضاع المناقضة لطبائع الأشياء . 
   وأخيرا فأنا أتهم الأوضاع الاجتماعية القائمة بأنها مناقضة في جملتها وتفصيلها لروح الدين كله . الدين منذ أن عرفت البشرية أديانها السماوية , وهي أكثر مناقضة للإسلام بكل تأويل من تأويلاته . وكل ما يدعيه المحترفون من رجال الدين ليسندوا به هذه الأوضاع , إنما هو افتراء على الدين , لا يجد له سندا من حقائقه ومبادئه :" فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ".
   إن الإسلام ليصرخ في وجه الظلم الاجتماعي , والاسترقاق الإقطاعي وسوء الجزاء , وأنه ليمد المكافحين لهذه الأوضاع بقوة ضخمة للكفاح والصراع .
   وما من وضع اجتماعي هو أبعد عن روح الإسلام من أوضاعنا القائمة , وما من إثم أكبر من الذين يدينون بالإسلام , ثم يقبلون مثل هذه الأوضاع, أو يبررونها باسم الإسلام , والإسلام منها براء .
   إن هذه الأوضاع غير قابلة للبقاء والاستمرار . وذلك أنها مخالفة لروح الحضارة الإنسانية بكل معانيها . مخالفة لروح الدين بكل تأويل من تأويلاته . مخالفة لروح العصر الحاضر بكل مقتضى من مقتضياته .. ومن ثم فهي لا تحمل عنصرا واحدا من عناصر البقاء , يملي لها في الأجل , ويمنحها فرصة البقاء .
معركة الإسلام و الرأسمالية
سيد قطب