الاثنين، 18 فبراير 2013

السلفية د/ محمد عمارة


السلفية د/ محمد عمارة

كتبهامصطفى الكومي ، في 17 يناير 2012 الساعة: 13:02 م




السـلـفـيـة
                                   د/ محمد عمارة
مقدمة

   مصطلح "السلفية " من المصطلحات التي يحيط بمضمونها الغموض , أو عدم التحديد , في عدد من الدوائر الفكرية والسياسية في واقعنا العربي والإسلامي المعاصر . .
   فهناك من يرون في " السلفية " و"السلفيين " التيار المحافظ والجامد , بل والرجعي , في حياتنا الفكرية , وفي جانب الفكر الديني منها على وجه الخصوص .. وهناك من يرون في "السلفية" و " السلفيين" : التيار الأكثر تحرراً من فكر الخرافة والبدع , ومن ثم الأكثر تحرراً واستنارة في مجال الفكر الديني بالذات ..
   وهذا الغموض , أو عدم التحديد , الذي يحيط بمضمون مصطلح  "السلفية" لم ينشأ من الوهم أو الفراغ , ذلك أن من الذين ينتسبون إلى "السلفية"منهم , بالفعل , محافظون وجامدون , بل و رجعيون .. ومنهم من هم في طليعة المنادين بالتجديد الديني , وضرورة فك إسار العقل من قيود الخرافة والبدع والتقليد ! .. كما أن منهم من يرى "سلفه الصالح" , الذي يترسم خطاه ويحتذي نهجه الفكري , في "علماء"عصور الانحطاط والركاكة المظلمة التي مرت بأمتنا تحت حكم المماليك والعثمانيين .. ومنهم , أيضا , من يرى " سلفه الصالح" في أعلام عصر الخلق والإبداع والازدهار الذي عرفته أمتنا , وبلورت فيه حضارتنا " القومية ـ العقلانية " المستنيرة , قبل انحطاط عصر المماليك ! وأيضاً فمن "السلفيين" من يتنكر للعقل , كقوة إنسانية , عندما ينكر عليها القدرة على البرهنة والحكم والتمييز بين ما هو حسن ونافع وما هو قبيح وضار , ويحصر القدرة على ذلك في النصوص والمأثورات وحدها .. على حين أن من "السلفيين" من يعلي مقام العقل ويعزز من سلطانه , حتى يعتبره أجل القوى التي ميز الله بها الإنسان وأعظمها , ومن ثم يمنحه الاستقلال في مجال " عالم الشهادة" وفي نطاق الحياة الدنيوية  وما بها من ظواهر وعلوم ومعضلات , على حين يجعل السلطان للنصوص والمأثورات في نطاق " عالم الغيب" الذي لم يدرك العقل كنهه , وإن كان هو الأداة في فهم ما جاءنا حوله من نصوص ومأثورات !
   ومأثورات !
   إذن .. فنحن بإزاء مصطلح يحيط بمضمونه الغموض وعدم التحديد
   وإذا نحن ذهبنا نلتمس معنى هذا المصطلح في كتاب العرب الأول ـ القرآن الكريم ـ فإننا نجد "السلف" يعني : " الماضي" وما سبق الحياة الحاضرة التي يحياها الإنسان .. (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ )(1)( وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ)(2)( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ )(3)( عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ )(4)( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ )(5)( هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ )(6)( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)(7)( فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ)(8) . .  . " فالسلف" هنا هو "الماضي" وما سبق وتقدم على الحياة الحاضرة للإنسان . . .
   ونفس هذا المعنى يدل عليه هذا المصطلح في الحديث النبوي الشريف . . ففي مسند أحمد , عن ابن عباس,رضي الله عنهما , أنه "لما ماتت زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , قال رسول الله : الحقي بسلفنا الصالح الخير عثمان بن مظعون …" وفيه أيضاً , عن فاطمة الزهراء , رضي الله عنها , أن رسول اله صلى الله عليه وسلم , قد قال لها في مرض موته :" ….ولا أراه إلا قد حضر أجلي , وإنك أول أهل بيتي لحوقاً بي , ونعم السلف أنا لك …" كما نجد "السلف" مستخدماً في الحديث النبوي بالمعنى الشائع في دوائر المال والتجارة , إي إقراض الأموال , فالسائب بن أبي السائب روى أنه كان يشارك رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام في التجارة , فلما كان يوم الفتح جاءه , فقال النبي : مرحبا بأخي وشريكي, كان لا يداري ولا يماري , يا سائب , قد كنت تعمل أعمالا في الجاهلية لا تقبل منك , وهي اليوم تقبل منك . وكان ذا سلف وصلة "(9) .. أي كان يقرض المال ويصل الأرحام !..
   وفي معاجم العربية لا يختلف مضمون هذا المصطلح عن ذلك الذي وجدناه له في القرآن والحديث .  .  . ففي [لسان العرب]لابن منظور : "السالف : المتقدم .." وفي [معجم الوسيط] : " السلف : كل من تقدمك من آبائك وذوي قرابتك في السن أو الفضل , وكل عمل صالح قدمته .. والسلفي : من يرجع في الأحكام الشرعية إلى الكتاب والسنة ويهدر ما سواها".
   ونحو ذلك أيضاً نجد مضمون المصطلح في [كشاف اصطلاحات الفنون] للتهانوي :" فكل من تقدمك من آبائك وقرابتك فهو سلف لك والسلف ـ في الشرع ـ اسم لكل من يُقَلَّد ـ [بالبناء للمجهول] ـ مذهبه في الدين ويُتَّبَعُ ـ [بالبناء للمجهول] ـ أثره . . . وقد يطلق السلف شاملاً للمجتهدين كلهم . . . " .
   فإذا علمنا أن " الكتاب والسنة " وكذلك " المذاهب الشرعية " و "المجتهدين كلهم" . . جميعه " ماض" ومتقدم على عصر تدوين هذه "المعاجم والكشافات" , وهو العصر الذي كان الاجتهاد بالنسبة له قد أصبح "سلفا مضى" وأغلق بابه ! .. إذا علمنا ذلك أدركنا أن القرآن والحديث ومعاجم اللغة وكشافات التعريفات والمصطلحات في تراثنا وحضارتنا , قد أجمعت على أن "السلف" هو الماضي المتقدم .. وعلى أن "السلفيين" هم الذين يحتذون هذا الماضي والمتقدم والسالف ..
   لكن هذا التحديد الجلي لا يستطيع وحده , أن يرفع الغموض عن مضمون مصطلح "السلفية" , لأن "الماضي" المحتذى, سيظل غير محدد , لأنه متعدد ه الآخر . . .فهل هو الكتاب والسنة ؟ أم أن فيه المأثورات المروية عن الصحابة ؟ . . وهل هو تلك النصوص وحدها ؟ أم أن فيه مذاهب التابعين وتابعي التابعين ؟؟ .. وحتى إذا كان هذا "السلف" هو النصوص , قرآناً وسنة , فإن تفسيرها ورؤيتها قد تعددت بتعدد المناهج في المدارس الفكرية والتيارات .. وكذلك كان الحال مع مأثورات الصحابة , تعددت , بل وتناقضت , فيها الروايات فضلا عن التفسيرات والتخريجات .. ناهيك عن التعدد والاختلاف إذا نحن أدخلنا مذاهب المتقدمين في إطار" الماضي والسلف" الذي يدخل مستلهميه تحت مصطلح " السلفية والسلفيين" !..
   إذن فالضرورة والأهمية لإلقاء الضوء على هذا المصطلح في تراثنا الفكري والحضاري لن تغني عن ضرورة مواصلة البحث لكشف الإبهام الذي يحيط بمضمون "السلفية" في واقعنا الفكري الراهن , لأن الإبهام حقيقة موضوعية , مصدرها تعدد الرؤية "للمواريث السالفة" التي يستلهمها ويحتذيها "السلفيون" ..
   ولعل في تتبع الحركة السلفية , نشأة ومساراً , عبر حضارتنا العربية والإسلامية , وإن في الخطوط العريضة والبارزة لهذه النشأة وذلك المسار , لعل في ذلك السبيل الأمثل لتحديد معالم الحركة , ومن ثم تياراتها , وخاصة عصر نهضتنا الحديثة , الأمر الذي يجلو لنا حقيقتها , ويضع يدنا ويوقف فكرنا على ما هو متقدم من قضاياها ومقولاتها , وما هو محافظ جامد , بل رجعي من فكر السلفيين! ..
السلفية ظاهرة "عباسية" :
   عندما اقترب القرن الهجري الأول من نهايته , كانت الفتوحات العربية قد بلغت مداها , وامتدت أطراف الإمبراطورية العربية التي صنعتها هذه الفتوحات .. فلقد فتح العرب في ثمانين عاماً أوسع مما فتح الرومان في ثمانية قرون ؟. .
   وهذه الفتوحات الكبرى قد نقلت العرب المسلمين إلى طور جديد .. فقبلها كانوا أقرب إلى البساطة في مجتمع عربي ساذج وبسيط , تعينهم مواريثهم الحضارية المحدودة , وبيئتهم البدوية التي تشبه الصفحة الواضحة المبسوطة , على أن يفهموا الإسلام من نصوص قرآنه الكريم وسنة نبيه , عليه الصلاة والسلام, وذلك دونما كثير تأويل أو قياس .. ولقد حافظت بساطة الحياة في شبه الجزيرة العربية , وخلوها من التركيب والتعقيد على سيادة هذا النهج الذي عرفه العرب والتزموه في فهم الإسلام , " النهج النصوصي" , الذي يقدم "الكتاب" على "الحكمة" , و"المأثور" على "الرأي والقياس" , حتى أن الصحابة الذين كانت لهم دربة وذخيرة في "الحكمة والتفلسف" قد طووا صدورهم على "حكمتهم وفلسفتهم" في أغلب الأحيان , لزهد المناخ فيها , ولقلة الدواعي التي تدعو إلى انتشار هذا النهج في ذلك الزمان وذلك المكان(10) .
   لكن الفتوحات الكبرى قد وضعت العرب المسلمين في قمة السلطة بالإمبراطورية التي ضمت أكثر بقاع الأرض يومئذ حظا من المواريث الحضارية والأبنية الفكرية البالغة حداً كبيراً من التطور والتركيب والتعقيد .. ففارس بما تملك من ميراث حضاري , والهند بما لديها من حكمة , ومصر والشام بما فيهما من تراث غني ـ محلي يوناني و روماني ـ كل ذلك قد غدا في وعاء الدولة التي يحكمها العرب المسلمون . . وبدلاً من المجتمع البدوي البسيط أصبحوا مسؤولين عن قضايا مجتمع تنوعت قضاياه ومشاكله وتركيب الأبنية الفكرية لمؤسساته ومفكريه . . وكان طبيعياً , وضرورياً , أن يواجه العرب المسلمون الفاتحون هذا الواقع الجديد , وكان طبيعياً , وضرورياً , كذلك أن يتعلموا , وأن يعوا هذه الظاهرة الجديدة , ليحذقوها , كي يرتفعوا إلى مستوى القادة في الواقع الجديد ..  
   وهذا الذي حدث للعرب المسلمين القادمين من شبه الجزيرة العربية , حدث للإسلام ! ..
   فدين القرآن العربي المبين , الذي أقنعت نصوصه البسيطة الواضحة عرب مجتمع شبه الجزيرة البسيط والواضح , قد أصبح محتاجاً إلى وسائل جديدة وبراهين معقدة وأدلة مركبة , كي يقنع أقواماً ألفوا وسائل أخرى في  الجدل والمناظرة والبرهنة والحجاج . . وزاد هذه الحاجة الجديدة ضرورة وإلحاحاً أن الشرائع والعقائد و المذاهب غير الإسلامية , التي كان يدين ويتمذهب بها أبناء البلاد المفتوحة , قد استفادت من رفض الإسلام وأهله طريق الإكراه في الدين , فشنت على الإسلام حربا فكرية ضروساً , مستخدمة فيها الأسلحة التي تعرفها شبه الجزيرة ولم يحذقها , من قبل , العرب والمسلمون . .
   وعندما وجد العرب المسلمون أنهم يدافعون عن إسلامهم بنطق بسيط في مواجهة مؤسسات فكرية لاهوتية قد تسلحت في صراعها ضده بمنطق أرسطو , وأنهم يبشرون بإسلامهم , مستخدمين النصوص , بين أقوام قد امتلكوا حكمة الهند فلسفة اليونان . . رأوا أن الاحتكام إلى النصوص لا يجدي مع الذين لا يؤمنون بحجية وقدسية هذه النصوص , وأن الجدل بالمأثورات لا يقنع الذين يرفضون هذه المأثورات .. ورأوا , كذلك , أن هذا الواقع الفكري الجديد يتطلب أدوات صراع جديدة لذلك النزال الفكري الجديد وأن هذه الأدوات لا بد أن تكون إنسانية الطابع عالمية النمط , أي عقلانية , وتصلح لكل ألوان الجدل والبرهنة , بصرف النظر عن لون الحضارة , أو النمط الفكري , أو اختلاف الأمة , أو تغير الزمان والتنوع في المكان .
   وأمام هذه الضرورات الجديدة أفرزت الجماعة العربية والإسلامية طليعة فلاسفتها الإلهيين ـ "المتكلمين" من علمائها ـ أولئك الذين امتدت بصيرتهم إلى ما وراء النصوص , مستخدمين العقل والقياس والتأويل , ناظرين في المواريث الفكرية ـ وخاصة الفلسفية ـ لأبناء البلاد المفتوحة , ومحصلين لمقولاتها , ثم مستخدمين لأسلحتها الفكرية وأدواتها في الجدل والمناظرات للدفاع عن عقائد الإسلام , وللتبشير بهذه العقائد في البيئات التي ما كان للنصوص والنصوصيين أن يحرزوا فيها نصرا لهذا الدين الجديد . .
   وهذه الطليعة من "المتكلمين" , فلاسفة الإسلام الإلهيين , هم مدرسة المعتزلة , أهل  العدل والتوحيد .
   لكن طبيعة اللون الفلسفي من ألوان التفكير , وطبيعة البراهين التي يستخدمها هؤلاء "المتكلمون" , قد جعلت هذا الفكر فكر"صفوة" , لا فكر "عامة" و "جمهور" , ذلك أن "العامة والجمهور" قد وقفت بها مداركها عند "النصوص" , بل وعند"ظواهر النصوص" في أغلب الأحيان. . بل لقد ارتابت "العامة" في جدوى هذا المسلك الذي سلكه "المتكلمون" , بل وفي عقائد هؤلاء "المتكلمين" ! . . وزاد من الريبة أن غلو اللاهوتيين من غير المسلمين في رفض النصوص , قد جعل نفراً من "المتكلمين" يهملون بعض النصوص الإسلامية أو يغضون من شأن بعض المأثورات , أو يؤولونها تأويلاً لا يبرأ من العسر والاعتساف . . حتى جاء الوقت الذي خيل فيه إلى "العامة والجمهور" أن "إسلام عرب شبه الجزيرة" الأول , إسلام النصوص الواضحة البسيطة الغنية عن التأويل , والذي عرفه الناس زمن البعثة والصحابة والتابعين , قد أصبح "غريباً" في هذا الواقع الفكري الجديد ! . .  وعند هذا الطور من أطوار الحركة الفكرية في الإمبراطورية العربية الإسلامية برزت لهذا "الجمهور" ولهذا الفكر" الجمهوري" قياداته , فأذاعوا بن الناس حديث الرسول صلى الله عليه وسلم  : بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً , فطوبى للغرباء "(11) .. وإذن هؤلاء القادة في الجمهور : أنه لا بد من العودة إلى إسلام السلف , الإسلام الذي مضى وسلف , الإسلام الذي أصبح "غريبا" في مناخ فكري تفلسف وقدم العقل وبراهينه على النصوص والمأثورات . . وكان رأس هؤلاء الأعلام , أعلام الحركةالسلفية , وإمامها الأول الأبرز الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل [164ـ 241هـ780 ـ 855م] الذي كان , كما كان خصومه , "ظاهرة عباسية" ,بمعنى أن تبلور هذا الواقع الجديد وتلك التيارات الفكرية الجديدة إنما حدث في ظل حكم دولة بني العباس! . .      
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)             البقرة: 275  
(2)           النساء: 22
(3)           النساء:23
(4)           المائدة:95
(5)           الأنفال:38
(6)           يونس:30
(7)           الحاقة: 24
(8)           الزخرف:56[والإشارة هنا إلى فرعون وقومه]
(9)           رواه أحمد بن حنبل في مسنده   
(10)     أنظر دراستنا عن أبي ذر الغفاري , بكتابنا[مسلمون ثوار] ص18 طبعة بيروت , الثانية سنة1974م.
(11)     رواه مسلم والترمذي وابن ماجه والدرامي وابن حنبل .
                                         

ليست هناك تعليقات: