كتبهامصطفى الكومي ، في 21 يناير 2011 الساعة: 19:55 م
ثامناً
التأكد من مدلولات ألفاظ الحديث
ومن المهم جدا لفهم السنة فهما صحيحا : التأكد من مدلولاتالألفاظ التي جاءت بها السنة , فإن الألفاظ تتغير دلالاتها من عصر لآخر ومن بيئة لأخرى , وهذا أمر معروف لدى الدارسين لتطور اللغات وألفاظها وأثر الزمان والمكان فيها .
فقد يصطلح الناس على ألفاظ للدلالة على معان معينة , ولا مشاحة في الاصطلاح , ولكن المخوف هنا هو حمل ما جاء في السنة من ألفاظ (ومثل ذلك القرآن) على المصطلح الحادث , وهنا يحدث الخلل والزلل .
وقد نبه الإمام الغزالي على تبدل أسامي بعض العلوم والمعاني عما كانت تدل عليه في عهود السلف , وحذر من خطر هذا التبدل وتضليله لأفهام من لا يتعمقون في تحديد المفاهيم , وعقد لذلك فصلا قيما في (كتاب العلم )من (الإحياء) قال فيه : " اعلم أن منشأ التباس العلوم المذمومة بالعلوم الشرعية , تحريف الأسامي المحمودة وتبديلها , ونقلها بالأغراض الفاسدة إلى معان غير ما أراده السلف الصالح , والقرن الأول , وهي خمسة ألفاظ : الفقه , والعلم , والتوحيد , والتذكير , والحكمة , فهذه أسام محمودة , والمتصفون بها أرباب المناصب في الدين , ولكنها نقلت الآن إلى معان مذمومة فصارت القلوب تنفر عن مذمة يتصف بمعنيها , لشيوع إطلاق الأسامي عليهم "(136) وشرح ذلك رحمه الله في جملة صفحات .
وإذا كانت هذه الألفاظ الخمسة ما لحظ الغزالي تبدله في مجال العلم , فإن هناك ألفاظ كثيرة بدلت في مجالات شتى يصعب حصرها .
ثم لا يزال هذا التبدل يتسع , مع تغير الزمان , وتبدل المكان , وتطور الإنسان , إلى أن تصبح الشقة بعيدة بين المدلول الشرعي الأصلي للفظ , والمدلول العرفي أو الاصطلاحي الحادث المتأخر , وهنا ينشأ الغلط وسوء الفهم غير المقصود , كما ينشأ الانحراف والتحريف المتعمد .
وهو ما حذر منه الجهابذة والمحققون من علماء الأمة : أن تنزل الألفاظ الشرعية على المصطلحات المستحدثة على مر العصور .
ومن لم يراع هذا الضابط يقع في أخطاء كثيرة , كما نرى في عصرنا .
خذ مثلا كلمة (تصوير) التي جاءت في صحاح الأحاديث المتفق عليها , ما المراد بها في الأحاديث التي توعدت المصورين بأشد العذاب ؟
إن كثيرا من المشتغلين بالحديث والفقه يدخلون تحت هذا الوعيد أولئك الذين نسميهم في عصرنا (المصورين) من كل من يستخدم تلك الآلة التي تسمى (الكاميرا) ويلتقط هذا (الشكل) الذي يسمى (صورة) .
فهل هذه التسمية , تسمية صاحب الكاميرا (مصورا) , وتسمية عمله (تصويرا) تسمية لغوية ؟
لا يزعم أحد أن العرب حين وضعوا الكلمة خطر ببالهم هذا الأمر , فهي إذن ليست تسمية لغوية .
ولا يزعم أحد أن التسمية تسمية شرعية , لأن هذا اللون من الفن لم يعرف في عصر التشريع , فلا يتصور أن يطلق عليه لفظ مصور وهو غير موجود .
فمن سماه مصورا , وسمى عمله تصويرا إذن ؟
إنه العرف الحادث , إنه نحن , أو أجدادنا الذين ظهر هذا الفن في زمانهم , وأطلقوا عليه أسم التصوير (الفوتوغرافي) .
وكان يمكن أن يسموه شيئا آخر يصطلحون عليه , كان يمكن أن يسموه (العكس) ويسموا من يقوم به (العكاس) كما يقول ذلك أهل قطر والخليج , فإن أحدهم يذهب إلى (العكاس) ويقول له : أريد أن (تعكسني) ويقول له : متى آخذ منك (العكوس) ؟ وقولهم أقرب إلى حقيقة هذا العمل , فليس هو أكثر من عكس الصورة بوسائل معينة , كما تنعكس الصورة في المرآة , وهو ما ذكره العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية في زمنه , وذلك في رسالته (الجواب الكافي في إباحة التصوير الفوتوغرافي) .
وكما سمى عصرنا العكس الفوتوغرافي تصويرا , فقد سمى التصوير المجسم (نحتا) , وهو ما عبر عنه علماء السلف بأنه (ما له ظل) , وهو الذي أجمعوا على تحريمه في غير لعب الأطفال .
فهل تسمية هذا التصوير نحتا يخرجه من دائرة ما جاءت النصوص من الوعيد في شأن التصوير والمصورين ؟
الجواب بالنفي جزما , فإن هذا التصوير هو أولى ما ينطبق عليه لفظ التصوير لغة وشرعا .
خاتمة
في ختام هذا البحث لا بد لنا أن نؤكد : أن السنة النبوية ـ التي هي المصدر المعصوم الثاني لهداية المسلمين , وهي المرجع التالي لكتاب الله في مجال التشريع والقضاء والفقه , وفي مجال الدعوة والتربية والتوجيه ـ في حاجة إلى أن تخدم خدمة تليق بمكانة السنة , بمنزلة الأمة الإسلامية في مطالع القرن الخامس عشر الهجري وعلى مشارف القرن الحادي والعشرين الميلادي .
وهي خدمة لا بد أن تتعاون عليها المؤسسات العلمية الإسلامية , حتى تخرج للعالم طيبة الأُكُل , ناضجة الثمار , وارفة الظلال .
إن السنة في حاجة إلى موسوعة شاملة لرجال الحديث , حاصرة لجميع الرواة , ولكل ما قيل فيهم من وصف وتعريف , أو توثيق وتضعيف , حتى الوضاعين والكذابين .
وموسوعة أخرى لمتون الأحاديث بأسانيدها وبكل طرقها , جامعة لكل ما روي من السنة ونسب إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ , من كل المظان الممكنة , والمصادر المطبوعة والمخطوطة , إلى نهاية الثلث الثاني من القرن الخامس الهجري .
وهاتان الموسوعتان تهيئان لموسوعة ثالثة هي الهدف المنشود من وراء هذا العمل الكبير , وهي موسوعة الصحاح والحسان , المنتقاة من الموسوعة الشاملة , وفقا للمعايير العلمية الدقيقة التي وضع قواعدها الجهابذة من علماء الأمة السابقين والتي ينبغي أن تقر من قبل أهل الذكر والاختصاص من علماء الأمة المعاصرين .
ويجب أن تبوب هذه الموسوعة المنتقاة تبويبا جديدا مستوعبا , وتفهرس فهرسة حديثة شاملة , وتصنف تصنيفا يخدم جميع العلوم الدينية والإنسانية والاجتماعية وسائر العلوم التي تعرضت لها السنة , ويفيد الباحثين في مجالاتها المتنوعة .
ومما يعين على هذا كله : استخدام ما علمه الله للإنسان في العصر , وسخره له من أدوات وأجهزة متطورة أبرزها هذا الحاسب أو الحاسوب الذي سماه أحد إخواننا (حافظ عصرنا) . والحق أنه أكثر من حافظ , إنه ـ إذا أحسنا الاستفادة منه ـ يستطيع أن يقدم لنا خدمات علمية كبيرة ودقيقة ومتنوعة , ولم يكن السابقون ليحلموا بها , أو لتخطر على بالهم .
وإني لأرجو أن يقوم مركز بحوث السنة والسيرة في قطر بالتعاون مع المراكز والمؤسسات المماثلة , بدوره المنشود في هذا الميدان .
ثم إن السنة في حاجة إلى شروح جديدة , تجلي الحقائق , وتوضح الغوامض وتصحح المفاهيم , وترد على الشبهات والأباطيل , مكتوبة بلسان الناس , ومنطقهم في هذا العصر لنبين لهم .
لقد حظى القرآن في عصرنا ـ وحق له ـ بعلماء كبار , عكفوا على تفسيره واستنباط لآلئه وجواهره , مخاطبين العقل الحديث , بما أتيح لهم من معارف وثقافة , جعلتهم يدخلون إلى العقول والقلوب من أوسع الأبواب .
رأينا ذلك في تفاسير محمد رشيد رضا , وجمال الدين القاسمي , والطاهر بن عاشور وأبي الأعلى المودودي , وسيد قطب , ومحمود شلتوت وغيرهم .
ولم تحظ كتب السنة ـ وبخاصة الصحيحان ـ بشروح من مثل هؤلاء العمالقة الذين يجمعون بين الأصالة والتجديد .
هناك جهود مشكورة في شرح كتب السنن الأربعة , لإخواننا من علماء الهند وباكستان , ولكن يغلب عليها الطابع النقلي التقليدي , فهي لا تخاطب المثقف المعاصر .
وعسى الله أن يوفق بعض الدعاة الكبار لشرح صحيحي الشيخين : البخاري ومسلم , شرحا علميا عصريا , فتخدم بذلك الثقافة الإسلامية خدمة جليلة .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
أ . د . يوسف القرضاوي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
136ـ إحياء علوم الدين ج1/31 , 32 ط درا المعرفة , بيروت .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق