كتبهامصطفى الكومي ، في 17 يناير 2012 الساعة: 13:32 م
د/ محمد عمارة
في الفكر السياسي :
في التراث السياسي القديم للحركة السلفية تبرز صفحات الفكر السياسي التي بقيت لنا من آثار ابن تيمية وابن القيم . . . وفي هذه الصفحات تنعكس التطورات والتغيرات التي طرأت على واقع المجتمع , تنعكس في إتساع مضمون مصطلح "الشرع والشريعة" عند أعلام سلفية العصر الوسيط . . .
ففي عصر الوحي والبعثة كان مصطلح "الشرع" يعني الكتاب والسنة , أي الشرع المنزل , وكانت أحكام هذا الشرع قد نمت وتكاملت كاستجابة لما طرحته حياة ذلك العصر من حوادث ومشكلات . . . ولكن الحوادث لا تتناهى , وتطور الحياة واختلاف الأماكن يطرح منها الجديد والمزيد , الأمر الذي جعل الفقهاء والعلماء والمجتهدين , ومنهم الولاة والحكام , "يشرعون" أحكاماً لما استجد ويستجد من الأحداث , فنشأ إلى جوار "الشرع المنزل" : "الشرع المتأول" . . وهذا "الشرع المتأول" , الشامل لاجتهادات المجتهدين وفقه الفقهاء وتشريعات الحكام والولاة , والذي يمكن أن نسميه "تراث الأمة القانوني والسياسي" قد أصبح مما يندرج تحت مصطلح "الشرع والشريعة" وإن لم تكن له قدسية الدين وإلزام "الشرع المنزل" لجميع المؤمنين . . فهنا نمو في "الشريعة والشرع" , ولكنه نمو يتكون منه "بناء قانوني" ذو "طبيعة مدنية" ,وليس دينية ,إذا استخدمنا هذا المصطلح الحديث . . وابن تيمية وابن القيم يدفعان عن اندراج هذا "البناء القانوني ـ السياسي" نحت مصطلح "الشرع الشريعة" , ويقرران تجاوز مضمون هذا المصطلح لم نص عليه القرآن والحديث : فلقد "صار لفظ "الشرع" غير مطابق لمعناه الأصلي , بل لفظ "الشرع" في هذه الأزمنة ثلاثة أقسام :
الشرع المنزل : وهو الكتاب والسنة , واتباعه واجب.
الشرع المتأول : الذي هو حكم الحاكم . . . أو قول أئمة الفقه . . . واتباع أحدهم ليس واجباً على جميع الأمة , كما هو حال الشرع المنزل . . .
الشرع المبدل : الذي هو افتراء على الشريعة وإضافة إليها ما ليس منها(1) .
ولقد كان بعض المعاصرين لأعلام السلفية هؤلاء يقف بهم جمودهم عند حدود المضامين التي كانت لمصطلح "الشريعة" في عصر الوحي والبعثة , فسموا "تراث الأمة القانوني" الذي نما استجابة لمحدثات الأمور وتطورات الحياة "سياسة" ورفضوا إدراجها تحت مصطلح "الشريعة" , ولقد أدى تضييقهم هذا لنطاق مضمون "الشريعة" إلى جعل الولاة والحكام يقننون لأحداث الحياة ومشكلاتها وفق أهوائهم , الأمر الذي قطع الصلات بين "السياسة" والشريعة" ! . . لكن أعلام السلفية اتخذوا لأنفسهم موقفاً عبقرياً بالغ العمق في هذا الموضوع , فقرروا أن مقاصد الشريعة : هي إقامة العدل , وتحقيق المصالح ودفع المضار في المجتمع , ومن ثم فإن كل ما يحقق هذه المقاصد فهو "شرع وشريعة" , أو جزء من "الشرع والشريعة" , حتى ولو لم ينزل به الوحي ولم ينطق به الرسول . . وهكذا جعلوا المعيار في "الشرعية" هو "المصلحة وتحقيق العدل" , وليس ما كان "شرعاً وشريعة" في عصر النبوة والتزيل . . ويزيد من روعة هذا الموقف المتقدم أن أصحابه هم السلفيون أصحاب المنهج النصوصي , الذي يميل أصحابه ـ بداهة ـ إلى المحافظة والجمود ! . .
ونحن لا نستطيع أن ندع الحديث عن هذه الصفحة من صفحات الفكر السياسي للحركة السلفية دون أن نورد واحداً من نصوص ابن القيم في هذا الموضوع , فهو يقول تحت عنوان :[اختلاف العلماء في العمل بالسياسة]:
" .. وجرت في ذلك مناظرة بين أبي الوفاء ابن عقيل(2) , وبين بعض الفقهاء ـ [من الشافعية] ـ :
فقال ابن عقيل :العمل بالسياسة هو الحزم , ولا يخلو منه إمام . .
فقال الآخر : لا سياسة إلا ما وافق الشرع .
فقال ابن عقيل :السياسة : ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد , وإن لم يشرعه الرسول ولا نزل به وحي , فإن أردت بقولك : "لا سياسة إلا ما وافق الشرع" أي لم يخالف ما نطق به الشرع , فصحيح , وإن أردت : ما نطق به الشرع , فغلط وتغليط للصحابة , فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والمثل (3) ما لا يجحده عالم بالسير , ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف كان رأياً اعتمدوا فيه على مصلحة , وكذلك تحريق علي , كرم الله وجهه , الزنادقة في الأخاديد , عندما قال :
لما رأيت الأمر أمراً منكراً
أججت ناري ودعوت قنبراً(4)
ونفي عمر بن الخطاب لنصر بن حجاج . . ." من المدينة عندما خشي منه فتنة نساء المجاهدين المقاتلين! . .
وبعد أن يورد ابن القيم نص حوار ابن عقيل مع الفقيه الشافعي , وهو الحوار الذي يقرر فيه ابن عقيل أن "السياسة" التي لا تخالف ما نطق به الشرع , والتي تستجيب "للمصلحة" هي شرع , اتسع لها وبها مضمون مصطلح "الشريعة" . . بعد أن يورد ذلك يعقب فيقول:
" . . . وهذا موضع مزلة أقدام , ومضلة أفهام , , وهو مقام ضنك في معترك صعب , وفرط فيه طائفة فعطلوا الحدود , وضيعوا الحقوق , وجرءوا أهل الفجور على الفساد , وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد ,وسدوا على أنفسهم طرقاً صحيحة من الطرق التي يعرف بها المحق من المبطل , وعطلوها , مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق , ظناً منهم منافاتها لقواعد الشرع , والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة حقيقة الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها , فلما رأى ولاة الأمر ذلك , وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة , فأحدثوا لهم قوانين سياسية تنتظم بها مصالح العالم , فتولد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر طويل , وفساد عريض , وتفاقم الأمر وتعذر استدراكه . وأفرط فيه طائفة أخرى , فسوغت منه ما يناقض حكم الله ورسوله . وكلا الطائفتين أُتِيَتْ من قبل تقصيرها في معرفة ما بعث الله به و رسوله , فإن الله أرسل رسله وانزل كتبه ليقوم الناس بالقسط , وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض , فإذا ظهرت أمارات الحق , وقامت أدلة العقل , وأسفر صبحه بأي طريق كان , فثم شرع الله ودينه و رضاه وأمره , والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وأماراته في نوع واحد وأبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر , بل بين ما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط , فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها , والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذواتها , وإنما المراد غاياتها , التي هي المقاصد , ولكن نبه بما شرعه من الطرق على أسبابها وأمثالها , ولن نجد طريقاً من الطرق المثبتة للحق إلا وهي شرعة وسبيل للدلالة عليها . وهل يظن بالشريعة الكاملة خلاف ذلك ؟ . . إننا لا نقول : إن السياسة العادلة مخالفة للشريعة الكاملة , بل هي جزء من أجزائها وباب من أبوابها , وتسميتها سياسة أمر اصطلاحي , وإلا فإذا كانت عدلاً فهي من الشرع . . . وتقسيم بعضهم طرق الحك إلى : شريعة وسياسة كتقسيم غيرهم الدين إلى : شريعة وحقيقة, وكتقسيم آخرين الدين إلى عقل , ونقل . وكل ذلك تقسيم باطل , بل السياسة والحقيقة والطريقة والعقل , كل ذلك ينقسم إلى قسمين : صحيح وفاسد , فالصحيح قسم من أقسام الشريعة , لا قسيم لها , والباطل ضدها ومنافيها . . ومن له ذوق في الشريعة , وإطلاع على كمالها وتضمينها لغاية مصالح العباد في المحاسن والمعاد , ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق , وانه لا عدل فوق عدلها , ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح , تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها , وفرع من فروعها , وإن من أحاط علماً بمقاصدها, ووضعها موضعها , وحسن فهمه فيها , لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة , فإن السياسة نوعان : سياسة ظالمة , فالشريعة تحرمها , وسياسة عادلة , تخرج الحق من الظالم الفاجر , فهي من الشريعة , علمها من علمها , وجهلها من جهلها . . . وهذا الأصل من أهم الأصول وأنفعها . . . " (5) .
هكذا "قنن" أعلام السلفية تطور الفكر السياسي والقانوني , فربطوا بين العادل منه وبين الشريعة , واضعين أنظارهم على مقاصد الشريعة , جاعلين هذه المقاصد هي المعيار لما يُقبل وما يُرفض من القوانين والأحكام التي توضع والتي وُضعت لما استجد بعد عصر التنزيل والبعثة من محدثات الأمور . .
* * *
وإذا كانت هذه النظرة الفكرية الثاقبة , والت ي طورت ونمت مضمون "الشرع والشريعة" ليشمل "السياسة" , وهي واحدة من ثمار الموقف المبدئي للسلفية من ضرورة "فقه الواقع" قبل "فقه الشرع" , حتى يمكن للولاة والعلماء والحكام الانطلاق من "الواقع" إلى "لشرع" في محاولة للتوفيق والمطابقة بينهما , التي هي , في الحقيقة , لب سياسة أمور الناس . . . فإن هذا الاهتمام "بالواقع" قد عكس في مجالات أخرى مواقف متردد , انعكس عليها سوء الواقع الظالم الذي عاشه أعلام سلفية العصور الوسطى في ظل مظالم دولة المماليك .
ففي آثارهم الفكرية نجد تقرير حقيقة هامة تقول : إن الولاة هم "وكلاء العباد على نفوسهم" وأنهم "بمنزلة أحد الشريكين مع الآخر , ففيهم معنى الوكالة " وهذه الكلمات تقرر ما نسميه الآن : "الأمة مصدر السلطات , والحكومة نائبة عن الشعب" . . . لكن نفس هذه الآثار الفكرية تتحدث عن أن "الولاة : ولاة الله على عباده!" (6) بل وتردد المأثورة التي تقول : " إن السلطان ظل الله في الأرض !"(7) رغم براءة الشريعة منها لفظاً ومضموناً . .
وعلى حين تقرر هذه الآثار الفكرية أن شكل الدولة وأقسام ولاياتها واختصاص ولاة هذه الولايات , هي أمور "مدنية" , يحكمها تحقيق المصلحة للأمة , ولا دخل للشرع فيها , لأن "عموم الولايات وخصوصها , وما يستفيده المتولي بالولاية : يتلقى من الألفاظ والأحوال والعرف , وليس لذلك حد في الشرع . . " . . وتعود ذات الآثار الفكرية لتتحدث عن أن ولايات الدولة هي "في الأصل ولايات دينية ومناصب شرعية" . . . وحتى لو كان المراد من وصفها هذا هو الحث على العدل فيها طلباً للمثوبة الأخروية
" فمن عدل في ولاية من هذه الولايات وساسها بعلم وعدل , وأطاع الله ورسوله بحسب الإمكان , فهو من الأبرار العادلين , ومن حكم فيها بجهل وظلم , فهو من الظالمين المعتدين " إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ "(7). . ." (8) . . . حتى لو كان هذا هو القصد , فلقد أسهم ذلك في إضفاء الطابع الديني على جهاز للدولة ابتعدت به مظالمه بعداً شديداً عن سلوكيات الدين ! . .
والموقف من الدولة , التي بلغت في الظلم مبلغاً عظيماً , اتسم هو الآخر بالتردد بين "الواقع الظالم الذي أصبح عادة مألوفة" وبين "مثل الشرع التي بلغت في تقديس العدل شأواً يأسر العقول والقلوب" . . فأقدم أعلام سلفية العصر الوسيط على "نقد الدولة ومعارضتها" , ولكنهم أحجموا عن "نزع الشرعية عن جهازها الظالم" فدعوا لطاعته , ونهوا عن الثورة ضده , وارتكبوا في سبيل ذلك تخريجات للنصوص الآمرة بالنهي عن المنكر باليد والفعل , بزعم أن تغير الواقع يدعونا أن نقف عند أدنى مراتب هذا النهي وأضعفها ! . . ولم يميزوا بين "الواقع الجديد" المحقق "للمصلحة" , والذي لا بد من تجاوز النص القديم لأجله , وبين "الواقع الجديد" الظالم والمحقق "للمفسدة" , وهو ما لا يجوز أن نطوع النصوص كي نضفي عليه شرعية الدين وقداسته !
لقد قرر أعلام سلفية العصر الوسيط أن جماع السياسة أمران لا بد للولاة من أدائهما , وهما : " أداء الأمانات إلى أهلها , والحكم بالعدل , فهذان جُماع السياسة العادلة والولاية الصالحة".
وقرروا , كذلك , أن ولاة الأموال ليسوا ملاكاً لما في أيديهم من أموال الأمة , بل هم نواب ووكلاء , ومن ثم فليس لهم أن يتصرفوا فيها تصرف المالكين . . .
وقرروا , أيضاً , أن طاعة ولاة الأمور مشروطة بأن لا تكون أوامرهم معصية , إذ "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"(9) .
لكن موقف هؤلاء الأعلام , المعادي للثورة , كطريق لإزالة الجور الذي اعترفوا بممارسة الدولة له , والمعاصي التي جأروا هم بالشكوى من شيوعها , ومارسوا النقد لها والمعارضة لأهلها . . إن هذا الموقف المعادي للثورة هو أثر من آثار تحول "الواقع الظالم" إلى "أمر معتاد" أصبح يمارس سلطاناً على الفكر , حتى دعا هؤلاء الأعلام إلى تغيير الفتوى ـ من مشروعية الثورة إلى التحذير منها ـ تبعاً لتغير هذا الواقع ! . . ولربما كانت تجارب الأمة في الثورات الفاشلة , عبر تاريخها الطويل , وما جرته من محن وما أسالت من دماء وما عطلت من مصالح . . الخ . . الخ. . ربما كانت هذه التجارب جزءاً من الخلفية التي أفرزت هذه الموقف المعادي للثورة عند أعلام سلفية العصر الوسيط . . .
ويلفت النظر أن الحركة السلفية كلها تتفق في هذا الموقف المعادي للثورة ! . . . ففي [مقالات الإسلاميين] يقول الأشعري : إن أهل الحديث قد اتفقوا على أن "السيف ـ [أي استخدام القوة في التغيير] ـ باطل , ولو قُتِلَت الرجال وسبيت الذرية , وأن الإمام قد يكون عادلاً , ويكون غير عادل, وليس لنا إزالته وإن كان فاسقاً , وأنكروا الخروج على السلطان , ولم يروه !" (10) .
والقاضي أبو يعلي الفراء[380ـ 458هـ 990ـ 1066م] ـ وهو من أعلام السلفية ـ يذكر كلمات إمام السلفية أحمد بن حنبل , التي رواها عنه صاحبه عبدوس بن مالك القطان , والتي يدعو فيها إلى الاعتراف بسلطة الحاكم الذي يستبد بالسلطة , ويغلب الناس على حكومتهم , بصرف النظر عن حظه من العدل ونصيبه من شروط الإمامة كما قررها الفقهاء ! . . يقول ابن حنبل : . . . ومن غلب بالسيف حتى صار خليفة , وسُمي أمير المؤمنين , فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً عليه , براً كان أو فاجراً , فهو أمير المؤمنين ! " (11) . . . فهو هنا لا يبيح للناس استخدام السيف لمقاومة الوالي الفاجر الذي استبد بحكومتهم , حتى ولو كان استخدامهم للسيف رداً على استخدامه له في الاستبداد بما لا يستحق من السلطة والسلطان ! . . ويروى كذلك أبو يعلي عن الإمام أحمد أن تنازع عدد من المستبدين على السلطة لا يعفي الناس من ضرورة الاعتراف بأحدهم , إذ الواجب اتباع " من غلب "؟!(12) .
وابن تيمية ـ الذي عاش في ظل دولة " سلاطين" المماليك ـ رغم شجاعته في الحق , وجراته التي أوصلته إلى السجن حتى مات فيه ـ يردد في آثاره الفكرية تلك المأثورة التي تبرأ منها الشريعة الإسلامية , والتي تقول :"إن السلطان ظل الله في الأرض" , ويحبذ الطاعة للإمام الجائر , لأن ضررها أقل بما لا يقارن من أضرار العصيان " فستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان (13) !" . كما يقول : إن المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج ـ [الثورة]ـ على الأئمة وقتالهم بالسيف , وإن كان فيهم ظلم . . لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة , فيدفع أعظم الفسادين بالتزام الأدنى !" (14).
أما ابن القيم ـ الذي عرفت عنه الشجاعة في الحق , والذي شارك شيخه ابن تيمية السجن والاضطهاد ـ فإنه يجتهد كي يعلل ويبرر هذا الموقف السلفي المعادي للثورة , والذي لم تجتمع عليه فرقة إسلامية سوى فرقة السلفية , فيتحدث عن السبب في قول السلفية بعدم استخدام السيف ـ [القوة] ـ في إنكار المنكر الذي شاع في المجتمع الإسلامي , رغم النصوص القاطعة بوجوب ذلك , في القرآن والسنة , ويقول إن هذه القضية مما تغير فيها الواقع بتغير الزمان , ومن ثم فلا بد من تغير الفتوى فيها! . . ثم يجتهد لإيراد النصوص من السنة تؤيد عداء السلفية للثورة , فيذكر حديث الصحابة الذين استأذنوا الرسول في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها , وكيف رد عليهم الرسول بقوله :"لا ,ما أقاموا الصلاة" . . ونحن نتساءل : ألا يوحي استئذان الصحابة بقتال من يؤخر الصلاة من الأمراء, وتعليق الرسول عدم قتالهم على إقامتهم لها , أنهم إذا لم يقيموها يجوز قتالهم . . ومن باب أولى إذا أشاعوا في الأمة الظلم والجور والفساد , وهي ذنوب يتعدى ضررها ليشمل الأمة , وليست , كالصلاة , حقاً خاصاً من حقوق الله ؟ ! . .
إن ابن القيم يرى "أن الإنكار على الملوك والولاة , بالخروج عليهم , هو أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر . . . ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على المنكر , فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه . . . ولهذا لم يأذن الرسول في الإنكار على الأمراء باليد , لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه !. . ." ولا يدع ابن القيم مجالاً للشك في أن داعيه إلى هذا الموقف هو "الواقع الظالم" الذي عاش فيه , وشبح الانتكاسات التي مرت بها ثورات المسلمين ضد مظالم حكامهم على امتداد التاريخ , فهو يقول : "إن الواجب شيء , والواقع شيء , والفقيه من يطبق بين الواقع والواجب , وينفذ الواجب بحسب استطاعته , لا من يلقى العداوة بين الواجب والواقع , فلكل زمان حكم , والناس بزمانهم أشبه بآبائهم , وإذا عم الفسوق وغلب أهل على أهل الأرض فلو منعت إمامة الفساق وشهاداتهم وأحكامهم وفتاويهم و ولايتاتهم لعطلت الأحكام , وفسد نظام الخلق , وبطلت أكثر الحقوق , . . . فأمام الضرورة والغلبة الباطل ليس إلا الاصطبار , والقيام بأضعف مراتب الإنكار؟ !" (15) .
فالدعوة واضحة للصبر على المنكر , والاكتفاء " بأضعف مراتب الإنكار " وهي الإنكار بالقلب, الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم إنه أضعف الإيمان! " .
ولنا أن نتساءل : عندما يعم الفسوق , وينتشر الظلم , ويسود الجور , ويصبح الفساق هم الأئمة والحكام والولاة ـ بل المفتون ـ في مجتمع الإسلام . . فأية حقوق ومصالح ونظم للخلق ندعوهم أن يدفعوا ثمناً للحفاظ عليها والخضوع لدولة الفساق والصبر على ألوان الفسوق ؟!.. وألا يكون الأوفق و الأكثر اتساقاً مع روح الإسلام أن ندعو إلى رفض الجور والظلم ومقاومة الجائرين , مع اشتراط الإعداد والاستعداد كي تكون مقاومة ولاة الجور مجدية , ونجاحها قريب المنال , على نحو ما قرر المعتزلة في هذا الموضوع ؟ .
ولنا أيضاً أن نتساءل :هل يتسق مع المنهج النصوصي للسلفية الاستناد , في رفض الثورة , إلى نهي الرسول صلى الله عليه وسلم , عن قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة ـ مجرد تأخيرـ ؟ . . في الوقت الذي نهمل فيه حديثاً نبوياً واضحاً وحاسماً يدعو المسلمين إلى اللجوء إلى السيف والاعتصام به إذا ما واجههم الشر في المجتمع الذي يعيشون فيه ؟. . لقد سأل الصحابي حذيفة بن اليمان رسول الله :
" يا رسول الله , أيكون بعد الخير الذي أعطينا شر , كما كان قبله ؟!
ـ قال : نعم .
ـ قلت: فبمن نعتصم ؟!
ـ قال : بالسيف !"
ويزيد من أهمية تساؤلنا عن سر إغفال السلفية ـ أصحاب المنهج النصوصي ـ لهذا النص , بالغم أن السلفية قد رووه في مسانيدهم . . فلقد رواه أحمد بن حنبل ـ وهو إمام السلفية ـ ورواه أبو داود ـ وهو من أعلام السلفيين ! ـ . . لكنه "الواقع الظالم" ـ كما قلنا ـ قد ترك بصماته على فكر هؤلاء الأعلام , منذ تبلور حركتهم وحتى صحوتها في العصر الوسيط .
* * *
لقد بدأت الحركة السلفية , في العصر العباسي , كتيار فكري محافظ , تحصن أعلامه بظواهر النصوص والمأثورات , عندما علا سلطان العقل , وأصبح فكر المعتزلة العقلاني أهم قسمة تميزت بها الحياة الفكرية يومئذ في الإمبراطورية العربية الإسلامية . . ذلك أن السلفية قد رأت الأخطار محدقة بصورة الإسلام الأولى , التي ناسبت مدارك الإنسان العربي في عصر البعثة , يوم كانت بساطة البيئة وفقر المجتمع يجعل النصوص والمأثورات كافية في الهداية والرشاد واليقين . . بل لقد رأت السلفية أن صورة الإسلام تلك قد أصبحت غريبة في المجتمع أخذ يتفلسف , ويقدم عقائد الإسلام على نحو ما يقدم الفلاسفة النظريات , فنشأت وتبلورت لتعيد الإسلام إلى صورته الأولى , وبساطته الأصلية , رغم ما طرأ على المجتمع من تغيرات وتطورات , ورغم ما فعلته المواريث الحضارية لشعوب البلاد المفتوحة , وما بلورته من بناء حضاري جديد جاء ثمرة لامتزاجها بفكر الإسلام . .
ولقد استجابت السلفية لبساطة الفكر عند العامة وفقر الفكر المركب والفلسفي عند الجمهور , وكذلك استجاب لفكرها وأعلامها العامة والجمهور . . . فسارت تصارع الفلسفة وتناهض المتكلمين , معتمدة على النصوص والمأثورات . . واستمرت هكذا في عصر نشأتها الأولى , وكذلك في عصرها الوسيط . . وأيضا من خلال الحركة والوهابية في العصر الحديث , تلك الحركة التي نهضت , في شبه الجزيرة العربية , بمهمة تجديد الدين وتنقية عقائده من البدع والخرافات التي تراكمت عليه طوال عصر المماليك والعثمانيين . . . وكذلك استمرت السلفية حركة تجديد وبعث وإحياء من خلال الحركة السنوسية في شمال أفريقيا . . . ومن خلال الحركة المهدية في السودان . . .
على أن أكثر مدارس الحرجة السلفية خطراً وعظمة وأثراً , في العصر الحديث , كانت تلك التي قادها جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده , والتي كان من أعلامها عبد الرحمن الكواكبي وعبد الحميد بن باديس . . ذلك أن هذه المدرسة السلفية قد ذهبت في عقائد الدين وأصوله مذهب السلف القدماء , ونحت في مشكلات الدنيا وقضايا الحضارة نحو المعتزلة , فرسان العقلانية العربية الإسلامية , فكان تجديدها للدين وتحريرها للعقل , وتبشيرها بحضارة عربية إسلامية متميزة لتكون أمضى سلاح لمواجهة ما طرحه الزحف الاستعماري الأوربي على الشرق من تحديات , كما التأم في البناء الفكري الذي صاغه أعلامها ذلك الانقسام الذي حدث بظهور السلفية القديمة , عندما انقسمت الأمة إلى نصوصيين وعقلانيين , ففي هذه البناء تجاورت النصوص مع العقلانية , وغدا العقل أداة الإنسان الأولى في وعي النصوص !
موضوع ذا صلة
الوسطية د/ يوسف القرضاوي
.ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن القيم [الطرق الحكمية] ص146,145 . وابن تيمية [الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان] ص 775,774,774,771 .
(2) علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي [431ـ 513 هـ 1040 ـ 1119م] كان معتزلياً في بدء حياته , ثم صار حنبليا , وأصبح شيخ الحنابلة ببغداد , وعالم أهل العراق . . وكتابه [الفنون] , المشار إليه , يقول عنه الذهبي : إنه لم ينف في الدنيا أكبر منه , إذ بلغ أربعمائة جزء ولقد ضاع ولم يبق منه إلا القليل .
(3) أي التمثيل ـ [التشويه] ـ بمن عليهم العقوبات .
(4) قنبر : غلام علي بن أبي طالب .
(5) أعلام الموقعين .ج4ص 375, 373, 372. و [لطرق الحكمية] ص17ـ19, 5.
(6) السياسة الشرعية ص 24 .
(7) المصدر السابق . ص 175.
(8) الانفطار :12,13.
(9) الطرق الحكمية . ص 348 .
(10) السياسة الشرعية . ص 43, 16, 15 .
(11) مقالاات الإسلاميين واختلاف المصليين .ج 2ص451,452 .طبعة استانبول سنة 1929م .
(12) [الأحكام السلطانية] لأبي يعلى ص4 طبعة القاهرة سنة1938 م .
(13) المصدر السابق ص6.
(14) السياسة الشرعية ص185 .
(15) منهاج السنة ج2 ص87 . طبعة القاهرة الأولى .
د/ محمد عمارة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق