الاثنين، 18 مارس 2013

التفريق بين الحقيقة والمجاز في فهم الحديث


سادساً
التفريق بين الحقيقة والمجاز في فهم الحديث

  
   العربية لغة المجاز فيها نصيب موفور , والمجاز أبلغ من الحقيقة كما هو مقرر في علوم البلاغة , والرسول الكريم أبلغ من نطق بالضاد وكلامه تنزيل من التنزيل , فلا عجب أن يكون في أحاديثه الكثير من المجازات , المعبرة عن المقصود بأروع صورة .
  والمراد بالمجاز هنا : ما يشمل المجاز اللغوي والعقلي , والاستعارة والكناية , والاستعارة التمثيلية , وكل ما يخرج باللفظ أو الجملة عن دلالتها المطابقية الأصلية .
   وإنما يعرف المجاز في الكلام بالقرائن الدالة عليه , سواء كانت قرائن مقالية أ م حالية .
   ومن ذلك ما ينسب فيه الكلام والحوار إلى الحيوانات والطيور والجمادات والمعاني .
   كقولهم : قيل للشحم (أي للسمن ) : أين تذهب ؟ قال : أقوَّم العوج ( أي أداري العيوب الجسمية التي تظهر بالنحافة ) .
   قال الخشب للمسمار : لماذا تشقني ؟ قال : سل من يدقني !
   وهذا كله من باب التصوير والتمثيل , ولا يعد هذا من الكذب في الأخبار , يقول الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه القيم (الذريعة إلى مكارم الشريعة) : " اعلم أن الكلام إذا خرج على وجه المثل للاعتبار دون الإخبار , فليس بكذب على الحقيقة , ولهذا لا يتحاشى المتحرزون من التحدث به , وضرب مثلا لذلك : والقصة المشهورة , التي اشترك فيها أسد وذئب وثعلب في صيد , فصادوا عَيْرا وظبيا  وأرنبا . فقال السد للذئب : اقسم , فقال : هو مقسوم : العير لك , والظبي لي والأرنب للثعلب , فوثب به الأسد , فأدماه , فقال للثعلب : اقسم , فقال هو مقسوم : العَير لغدائك والظبي لمقيلك , والأرنب لعشائك ! فقال : من علمك هذه القسمة ؟ قال : الثوب الأرجواني الذي على الذئب !
   قال : وعلى المثل حمل قوله عز وجل :" إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ .." (ص:23).
   ومثل ذلك ما قاله كثير من المفسرين في قوله تعالى :" إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ .. (الأحزاب:72).
   وحمل الكلام على المجاز في بعض الأحيان يكون متعينا و إلا زلت القدم و سقط المرء في الغلط .
   وحين قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنسائه من أمهات المؤمنين :
   "اسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا " حملنه على طول اليد الحقيقي المعهود قالت عائشة : فكن يتطاولن ـ رضي الله عنهن ـ أيتهن أطول يدا ؟!
   بل في بعض الأحاديث أنهن أخذن (قصبة) لقياس أي الأيدي أطول؟!
   والرسول لم يقصد ذلك , إنما قصد طول اليد في الخير , وبذل المعروف . وهذا ما صدقه الواقع , فكانت أول نسائه لحوقا به هي زينب بنت جحش , كانت امرأة صناعا , تعمل بيدها وتتصدق (107) .
   وهذا كما يقع في السنة يقع في القرآن , وقد وقع لعدي بن حاتم هذا النوع من الخطأ في فهم قوله تعالى في شأن الصيام :" فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ "(البقرة : 187).
    روى البخاري عن عدي بن حاتم قال : لما نزلت هذه الآية "وكلوا واشربوا ..." عمدت إلى عقالين : أحدهما أسود , والآخر أبيض , قال : فجعلتهما تحت وسادتي , قال فجعلت أنظر إليهما , فلما تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت , فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبرته بالذي صنعت , فقال : " إن وسادك إذن لعريض ! إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل ".
  ومعنى (إن وسادك إذن لعريض ) أي إن كان ليسع الخيطين : الأسود , والأبيض , المرادين من الآية تحته , فإنهما بياض النهار وسواد الليل , فيقتضي أن يكون بعرض المشرق والمغرب (108) !
   ومثل ذلك قوله تعالى في الحديث القدسي المعروف : " إن تقرب عبدي إلي بشبر تقربت إليه ذراعا , وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا , وإن أتاني يمشي أيتيه هرولة "(109) .
   فقد شغب المعتزلة على أهل الحديث بروايتهم مثل هذا النص , وعزوهم ذلك إلى الله تبارك وتعالى , وهو يوهم تشبيهه تعالى بخلقه في القرب المادي والمشي والهرولة , وهذا لا يليق بكمال الألوهية .
   وقد رد على هؤلاء الإمام ابن قتيبة في كتابه :"تأويل مختلف الحديث " بقوله : إن هذا تمثيل وتشبيه وإنما أراد : من أتاني مسرعا بالطاعة أتيته بالثواب أسرع من إتيانه , فكنى عن ذلك بالمشي والهرولة ".
   ومثل ذلك قوله تعالى :" وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ" (الحج:51) قال : والسعي : الإسراع في المشي , وليس يراد أنهم مشوا دائما , وانما يراد أسرعوا بنياتهم وأعمالهم , والله أعلم "(110) .
   وقد نجد في بعض الأحاديث ضربا من الإشكال , خصوصا بالنسبة للمثقف المعاصر , وذلك إذا حملت على معانيها الحقيقية , كما تؤديها الألفاظ بحسب الدلالة الأصلية , فإذا حملت على المعنى المجازي , زال الإشكال أو أسفر وجه المعنى المراد .
   ولنأخذ مثالا لذلك : حديث الشيخين عن أبي هريرة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ , قال :" اشتكت النار إلى ربها , فقالت : يا رب أكل بعضي بعضا ! فأذن لها بنفسين : نفس في الشتاء , ونفس في الصيف فهو أشد ما تجدون من الحر , وأشد ما تجدون من الزمهرير "(111) .
   فطلبة المدارس في عصرنا يدرسون في الجغرافيا أسباب تغير الفصول , وظهور الصيف والشتاء , والحر والبرد , وهي تقوم على سنن كونية وأسباب معلومة للدارسين .
   كما أن من المعلوم المشاهد أن بعض الكرة الأرضية يكون شتاءً قارس البرد , وبعضها حار شديد الحرارة , وقد زرت استراليا في صيف سنة 1988 م فوجدت عندهم شتاء وبردا عضوضا , وزرت أمريكا الجنوبية في شتاء 1989 م فوجدت عنهم صيفا حارا .
   فينبغي حمل الحديث على المجاز والتصوير الفني , الذي يصور شدة الحر على أنها من أنفاس جهنم , كما يصور الزمهرير على أنه نفس آخر من أنفاسها , وجهنم تحوي من ألوان العذاب أشد الحرارة وأشد الزمهرير !
   ومثل ذلك حديث أبي هريرة في الصحيحين عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ , قال :"إن الله خلق الخلق , حتى إذا فرغ من خلقه , قالت الرحم : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ! قال نعم . أما ترضين أن أصل من وصلك , وأقطع من قطعك ؟ قالت : بلى يارب . قال : فهو لك . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : فاقرءوا إن شئتم (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) (112) .
   فهل كلام الرحم ـ وهي القرابة ـ هنا حقيقي أم مجازي ؟ اختلف الشراح . ولكن القاضي عياضا حمل الحديث على المجاز , وأنه من باب ضرب المثل .
   وقال ابن أبي جمرة في شرح مختصر البخاري في شرح معنى وصل الله تعالى لمن وصل رحمه : الوصل من الله كناية عن عظيم إحسانه , وإنما خاطب الناس بما يفهمون , ولما كان أعظم ما يعطيه المحبوب لمحبه الوصال وهو القرب منه , وإسعافه بما يريد , ومساعدته على ما يرضيه وكانت حقيقة ذلك مستحيلة في حق الله تعالى , عرف أن ذلك كناية عن عظيم إحسانه لعبده . قال : وكذا القول في القطع , هو كناية عن الحرمان والإحسان .
   وقال القرطبي : وسواء قلنا أنه يعني القول المنسوب إلى الرحم ممن يعقل ويتكلم لقالت كذا , ومثله :" لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ.." الآية , وفي آخرها " وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" (الحشر:21)  فمقصود هذا الكلام الإخبار بتأكيد أمر صلة الرحم , وأنه تعالى أنزلها منزلة من استجار به فأجاره فأدخله في حمايته , وإذا كان كذلك فجار الله غير مخذول , وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ " من صلى الصبح فهو في ذمة الله , وإن من يطلبه الله بشيء من ذمته يدركه ثم يكبه على وجهه في النار " أخرجه مسلم .
   وأعتقد أن هذا اللون من التأويل , بحمل الحديث على المجاز , لا يضيق الدين به ذرعا , على أن يكون مقبولا غير متكلف ولا متعسف وأن يكون ثمة موجب للتأويل , والخروج من الحقيقة إلى المجاز , على معنى أن يوجد مانع من صريح العقل , أو صحيح الشرع , أو قطعي العلم , أو مؤكد الواقع , يمنع من إرادة المعنى الحقيقي .
   وهنا قد يحدث الاختلاف : هل يوجد مانع حقيقي أو لا ؟
   فبعض ما يعتبر ممتنعا عقلا لدى إنسان أو طائفة , قد يعده آخرون ممكنا , وهذا ما يجب التدقيق فيه .
فالتأويل بغير مسوغ مرفوض , والتأويل المتعسف مرفوض , كما أن حمل الكلام على الحقيقة , مع وجود المانع العقلي أو الشرعي أو العلمي أو الواقعي ـ مرفوض أيضا .
   وقد يكون رفض اللجوء إلى المجاز هنا باب فتنة للعقليين من الناس , الذين علمهم الإسلام أن لا تعارض بين صحيح المنقول وصريح المعقول .
   ولنقرأ هذا الحديث الذي رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إذا صار أهل الجنة , وأهل النار إلى النار , جيء بالموت , حتى يجعل بين الجنة والنار , ثم يذبح ! ثم ينادي مناد : يا أهل الجنة لا موت , يا أهل النار لا موت , فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم "(113) .
   وفي حديث أبي سعيد عند الشيخين وغيرهما :"يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح (114) .." .
   ترى ماذا يفهم من هذا الحديث ؟ وكيف يذبح الموت ؟ أو يموت الموت ؟؟
   لقد وقف عنده القاضي أبو بكر بن العربي , وقال استشكال هذا الحديث , لكونه يخالف صريح العقل . لأن الموت عرض , والعرض لا ينقلب جسما , فكيف يذبح ؟؟
   قال فأنكرت طائفة صحة الحديث ودفعته .
   وتأولته طائفة : بل الذبح على حقيقته , والمذبوح متولي الموت , وكلهم يعرفه لأنه الذي تولى قبض أرواحهم .
   قال الحافظ في (الفتح) : وارتضى هذا بعض المتأخرين .
   ونقل عن المازري قوله : الموت عندنا عرض من الأعراض , وعند المعتزلة ليس بمعنى . وعلى المذهبين لا يصح أن يكون كبشا و لا جسما وأن المراد بهذا هو التمثيل والتشبيه . ثم قال وقد يخلق الله تعالى هذا الجسم , ثم يذبح , ثم يجعل مثالا على أن الموت لا يطرأ على أهل الجنة .
  ونحو هذا قاله القرطبي في (التذكرة) .
   وكل هذه التأويلات فرار من حمل الكلام على حقيقته اللغوية المخالفة لصريح العقل , كما قال ابن عربي .
   وهذا أولى من إنكار الحديث ودفعه , وقد ثبت من جملة طرق صحاح عند عدد من الصحابة , فمن المجازفة رده , مع إمكان التأويل .
   على أن الحافظ نقل في الفتح عن قائل لم يعينه , قال : لا مانع أن ينشئ الله من الأعراض أجسادا يجعلها مادة لها , كما ثبت في صحيح مسلم في حديث " إن البقرة وآل عمران تجيئان كأنهما غمامتان " ونحو ذلك من الأحاديث (115)
   وإلى هذا نزع العلامة الشيخ أحمد شاكر في تخريجه للمسند , فبعد أن نقل عن (الفتح) استشكال ابن العربي للحديث , ومحاولته تأويله قال : "وكل تكلف وتهجم على الغيب الذي استأثر الله بعلمه وليس لنا إلا أن نؤمن بما ورد كما ورد , ولا ننكر ولا نتأول . والحديث صحيح , ثبت معناه أيضا من حديث أبي سعيد الخدري عند البخاري , من حديث أبي هريرة عند ابن ماجه وابن حبان . وعالم الغيب الذي وراء المادة لا تدركه العقول المقيدة بالأجسام في هذه الأرض , بل إن العقول عجزت عن إدراك حقائق المادة التي في متناول إدراكها , فما بالها تسمو إلى الحكم على ما خرج من نطاق قدرتها ومن سلطانها ؟! وها نحن أولاء في عصرنا ندرك تحويل المادة إلى قوة وقد ندرك تحويل القوة إلى مادة , بالصناعة والعمل , من غير معرفة بحقيقة هذه المادة ولا تلك , وما ندري ماذا يكون من بعد , إلا أن العقل الإنساني عاجز وقاصر , وما المادة والقوة والعرض والجوهر , إلا اصطلاحات لتقريب الحقائق , فخير للإنسان أن يؤمن وأن يعمل صالحا , ثم يدع ما في الغيب لعالم الغيب , لعله ينجو يوم القيامة . "قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا" (الكهف:109) أ هـ .
   وكلام الشيخ ـ رحمه الله ـ في تعليل رفض التأويل للنصوص المحكمات في الشؤون الغيبية يقوم على منطق قوي مقنع .
   ولكنه في هذا المقام خاصة غير المسلم , والفرار من التأويل هنا لا مبرر له , فمن المعلوم المتيقن الذي اتفق عليه العقل والنقل أن الموت ـ الذي هو مفارقة الإنسان للحياة ـ ليس كبشا ولا ثورا , ولا حيوانا من الحيوانات , بل هو معنى من المعاني , أو كما عبر القدماء عرض من الأعراض , والمعنى لا تنقلب أجساما ولا حيوانات إلا من باب التمثيل والتصور , الذي يجسم المعاني لمعقولات , وهذا هو الأليق بمخاطبة العقل المعاصر . والله أعلم .
  والمجاز كما يقع في أحاديث الأخبار , يقع في أحاديث الأحكام , فيجب على أهل الفقه التنبه له , والتنبيه عليه , ولمثل هذا اشترطوا في المجتهد أن يكون عالما بالعربية علما يمكنه من فهم دلالاتها المختلفة , كما كان يفهمها العربي الخالص في عصر النبوة والصحابة , وإن كان هذا يعرفها بالسليقة وذاك يعرفها بالدراسة , وقد قال الأعرابي :
ولست بنحوي يلوك لسانه  .... ولكن سليقي أقول فأعرب !
   وإغفال الفرق بين المجاز والحقيقة يوقع في كثير من الخطأ , كما رأيت ذلك بجلاء عند الذين يسارعون إلى الفتوى في عصره , فيُحَرِّمون ويُوجِبون , ويُبَدِّعون ويُفَسِّقون , وربما يُكَفرون بنصوص إن سُلَّم لها بصحة الثبوت , ولم يسلّم لها بصراحة الدلالة
   خذ مثلا الحديث الذي استدل به بعض المعاصرين على تحريم مصافحة الرجل , بإطلاق , وهو ما رواه الطبراني :" لأن يطعن أحدكم بمخيط من حديد خير من أن يمس امرأة لا تحل له "(117)
   وقد حسنه الألباني في تخريج كتابنا (الحلال والحرام ) وفي صحيح الجامع الصغير ) .
   وإذا سلمنا بهذا التحسين ـ مع عدم اشتهار الحديث في عصر الصحابة وتلاميذهم ـ فالذي يظهر أن الحديث ليس نصا في تحريم المصافحة , لأن المس في لغة القرآن والسنة  لا يعني مجرد اتصال البشرة بالبشرة , وإنما معنى المس هنا ما دل عليه قول ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما : أن المس واللمس والملامسة في القرآن كناية عن الجماع , فإن الله حييّ كريم يكني عما شاء بما شاء .
   وهذا هو الذي لا يفهم غيره من مثل قوله تعالى :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا.." (الأحزاب:49) .
   فجميع المفسرين والفهاء ـ حتى الظاهرية ـ فسروا المس هنا بالدخول , وقد يلحقون بها الخلوة الصحيحة لأنها مظنة له , ومثلها آيات في سورة البقرة في الطلاق قبل (المس) أي قبل الدخول .
    وقول القرآن العزيز على لسان مريم عليها السلام يؤكد هذا المعنى :" قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ .." (آل عمران:47) .
 والأدلة على ذلك من القرآن والسنة كثيرة .
   فليس في هذا إذن ما يدل على تحريم مجرد المصافحة , التي لا تصاحبها شهوة ولا تخاف من ورائها فتنة , وخصوصا عندما تدعو إليها الحاجة , كقدوم من سفر , أو شفاء من مرض , أو خروج من محنة , و نحو ذلك مما يعرض للناس , ويقبل فيه الأقارب يهنئ بعضهم بعضا .
   ومما يؤكد ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنس رضي الله عنه , قال :"إن الوليدة (أي الأمة) من ولائد المدينة لتأخذ بيد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ , فما يدع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت " .
   ورواه البخاري بلفظ "إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتنطلق به حيث شاءت ".
   والحديث يدل على مدى تواضعه وأدبه ورقته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولو مع أمة من الإماء , فهي تمسك بيده , وتمر به في طرقات المدينة , ليقضي لها بعض الحاجات وهو عليه الصلاة والسلام من فرط حيائه وعظيم خلقه , لا يريد أن يزعجها أو يجرح شعورها بنزع يده من يدها , بل يظل سائرا معها على هذا الوضع حتى تفرغ من قضاء حاجتها .
   وقد قال الحافظ في شرح حديث البخاري : والمقصود من الأخذ باليد لازمة , وهو الرفق والانقياد , وقد اشتمل على أنواع من المبالغة في التواضع , لذكره المرأة دون الرجل , والأمة دون الحرة , وحيث عمم بلفظ "الإماء" أي أمة كانت , وبقوله :"حيث شاءت" أي مكان من الأمكنة , والتعبير بالأخذ باليد إشارة إلى غاية التصرف , حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة , و التمست منه مساعدتها في تلك الحاجة , لساعد على ذلك .
وهذا دليل على مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ .أ هـ (118)
   وما ذكره الحافظ ـ رحمه الله ـ مسلما في جملته , ولكن صرفه معنى الأخذ باليد عن ظاهره إلى لازمه , وهو الرفق والانقياد غير مسلم , لأن الظاهر واللازم مرادان معا . والأصل في الكلام أن يحمل على ظاهره , إلا أن يوجد دليل أو قرينة معينة تصرفه عن الظاهر . ولا أرى هنا ما يمنع ذلك ز بل إن رواية الإمام أحمد ـ وفيها " فما تنزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت " ـ لتدل بوضوح على أن الظاهر هو المراد , وأن من التكلف والاعتساف الخروج عنه .
   إن إغلاق باب المجاز في فهم الأحاديث , والوقوف عند المعنى الأصلي الحرفي للنص , يصد كثيرا من المثقفين المعاصرين عن فهم السنة , بل عن فهم الإسلام , ويعرضهم للارتياب في صحته إذا أخذوا الكلام على ظاهره في حين يجدون في المجاز ما يشبع نهمهم , ويلائم ثقافتهم , ولا يخرجون به على منطق اللغة , ولا قواعد الدين .
   كما أن بعض أعداء الإسلام كثيراً ما يتخذون من هذه المعاني الأصلية تكأة للسخرية من المفاهيم الإسلامية , ومنافاتها للعلم الحديث , والفكر المعاصر .
   ومنذ سنوات كتب أحد دعاة النصرانية يهاجم الفكر الإسلامي بأنه يؤمن بالخرافات في عصر العلم والتنوير , مستندا إلى بعض الأحاديث مثل ما روى البخاري وغيره :"الحُمَّى من فيح جهنم فأبردوها بالماء "(119) ويقول : الحمى ليست من فيح جهنم , بل من فيح الأرض , وما فيها من أقذار , تساعد على تولد الجراثيم .
   والكاتب الغبي أو المتغابي , يجهل أو يتجاهل المعنى المجازي المراد من الحديث والذي يفهمه كل من يتذوق العربية , ونحن نقول في اليوم الشديد الحر : أن طاقة فتحت من جهنم , والقائل والسامع يفهم كلاهما المقصود من هذا الكلام .
   وكتب أحد المحسوبين على الإسلام ساخرا من حديث " الحجر الأسود من الجنة "(120)
   وحديث " العجوة من الجنة " (121) .
   وغفل هؤلاء المعنى المقصود من هذه العبارات وأمثالها , كالحديث المتفق عليه "اعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف "(122) , فما يفهم أحد ـ ولا يتصور أن يفهم ـ أن الجنة التي أعدها الله للمتقين , وجعل عرضها كعرض السماء والأرض , تكون حقيقة تحت ظل السيف , وإنما يفهم أن الجهاد في سبيل الله ـ ورمزه السيف ـ أقرب طريق إلى الجنة , ولاسيما إذا كتب الله له فيه الشهادة .
   و مثل ذلك قوله لمن أراد أن يبايعه على الجهاد , وقد ترك أمه وراءه في حاجة إلى من يرعاها : " الزمها فإن الجنة تحت أقدامها " (124) .
   فكل من له عقل يفهم أن حقيقة الجنة ليست عند رِجْل الأم , إنما يفهم أن بر الأم ورعايتها من أوسع الأبواب المؤدية إلى جنات النعيم .
   وقد حكى عن بعض الصالحين أنه تأخر عن إخوانه يوما , فسألوه عن ذلك فقال :" كنت أمرغ خدي في رياض الجنة , فقد بلغنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات " !
   ولم يفهم إخوانه منه إلا أنه كان في خدمة أمه وحياطتها , مبتغيا بذلك مثوبة الله تعالى وجنته .
   وحدثني الأستاذ مصطفى الزرقاء أن أستاذا كبيرا من أعلام القانون الوضعي في مصر , بل في العالم العربي , قال له يوما : إنه اشترى كتاب " صحيح البخاري " ثم فتحه مرة فوقع نظره على حديث يقول :"النيل والفرات وسيحون وجيحون من أنهار الجنة ".
  ولذا كان الأستاذ يرى ذلك مخالفا للواقع ـ إذ أن منابع هذه الأنهار معروفة لكل دارس , فهي نابعة من الأرض وليست من الجنة , فقد أعرض عن كتاب البخاري كله , ولم يفكر في مجرد تصفحه بعد , نتيجة لهذا الوهم الذي استقر في رأسه .
   ولو تواضع هذا الرجل قليلا , ورجع إلى أحد شراح البخاري , أو سأل أحد العلماء المتضلعين من معاصريه , لبان له الحق كالصبح لذي عينين , ولكن الكبر من أعظم الحجب عن رؤية الحقيقة .
   وحسبي هنا أن أنقل رأي إمام من أئمة الثقافة الإسلامية في معنى الحديث وتفسيره عنده , وهو الإمام ابن حزم .
   وإنما اخترت أبن حزم , لأنه ـ كما هو معلوم ـ فقيه ظاهري , يؤمن بحرفية النصوص , والأخذ بظواهرها , دون نظر إلى العلل والمناسبات . ولكنه يؤمن بأن لغة العرب فيها الحقيقة والمجاز .
   فلننظر ماذا يقول في هذا الحديث :
   ذكر ابن حزم هنا الحديث الصحيح " سيحان و جيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة " , و حديث " بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " , ثم قال : " هذان الحديثان ليس على ما يظنه أهل الجهل من أن الروضة مقتطعة من الجنة , وأن هذه الأنهار مهبطة من الجنة . هذا باطل وكذب .
   ثم ذكر ابن حزم أن معنى كون تلك الروضة من الجنة إنما هو لفضلها , وأن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة . وأن تلك النهار لبركتها أضيفت إلى الجنة , كما تقول في اليوم الطيب : هذا من أيام الجنة , وكما قيل في الضأن :" إنها من دواب الجنة " وكما قال عليه السلام :"إن الجنة تحت ظلال السيوف " . ومثل ذلك حديث ط الحجر الأسود من الجنة ".
   يقول ابن حزم في هذه الأخبار : فوضح البرهان من القرآن ومن ضرورة الحس على أنها ليست على ظاهرها (124) .
   هذا هو موقف ابن حزم المعروف بظاهريته وتمسكه بحرفية النصوص إلى حد الجمود , ومع هذا لم يسغ عنده أن تحمل النصوص على ظواهرها , فإنما يظن ذلك أهل الجهل كما قال !!

الحذر من التوسع في التأويلات المجازية

   وأود أن أحذر هنا أن تأويل الأحاديث ـ والنصوص عامة ـ وإخراجها عن ظواهرها , باب خطر , لا ينبغي للعالم المسلم وُلُوجَه إلا لأمر يقتضي ذلك من العقل أو النقل .
   وكثيرا ما تؤول الأحاديث لاعتبارت ذاتية أو آنية أو موضعيه ثم يظهر للباحث المدقق بعد أن الأولى تركها على ظاهرها .
   أذكر من ذلك حديث " من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار "(125) .
  وقد روي بأكثر من صيغة , ولكن تأوله بعض الشراح أن المراد قطع سدر الحرم , مع أن كلمة (سدرة) هنا نكرة في سياق الشرط , فتعم كل سدرة , ولكنهم وجدوا الوعيد شديدا , فقصروه على سدر الحرم .
       و الذي أميل إليه أن الحديث ينبه على أمر مهم يغفل عنه الناس , وهو أهمية الشجر ـ وخصوصا السدر في بلاد العرب ـ لما وراءه من انتفاع الناس بظله وثمره , ولاسيما في البرية , فقطع هذا السدر يمنع عن مجموع الناس خيرا كثيرا , وهو يدخل الآن فيما يسميه العالم المعاصر(المحافظة على الخضرة وعلى البيئة ) وقد غدا أمرا من الأهمية بمكان , وألفت له جماعات وأحزاب , وعقدت له ندوات ومؤتمرات .
   وقد رجعت إلى سنن أبي داود , فوجدت فيه : سئل أبو داود عن هذا الحديث , فقال : هذا الحديث مختصر , يعني من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثا بغير حق يكون له فيها , صوب الله رأسه في النار . أهـ .
   والحمد لله , فقد تطابق ما كنت أحسبه فهما لي , وتفسير الإمام أبي داود .

تأويلات مرفوضة

  من التأويلات المرفوضة تأويلات الباطنية التي لا دليل عليها من العبارة ولا من السياق , كقول من قال منهم في حديث "تسحروا فإن في السحور بركة "(126)  المراد بالسحور هنا : الاستغفار !
   ولا ريب أن الاستغفار بالأسحار من أعظم ما حث عليه القرآن والسنة  ولكن كونه المراد بالحديث هنا اعتساف مردود على قائله .
   ولاسيما وقد جاءت الأحاديث الأخرى توضح المراد بيقين مثل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :"نعم السحور التمر " (127) .
   وقوله : " السحور كله بركة , فلا تدعوه , ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء"(129) .
   ومن ذلك تأويل الأحاديث الواردة في شأن المسيح الدجال , الذي أمرنا أن نستعيذ بالله من شر فتنته في كل صلاة ـ بأنها ترمز إلى الحضارة الغربية السائدة الآن , فهي حضارة عوراء ـ مثلما وصف الدجال بأنه أعور , وأنها تنظر إلى الحياة والإنسان بعين واحدة هي العين المادية فقط , وما عدا ذلك لا تراه , فلا روح للإنسان , ولا إله للكون , ولا آخرة بعد هذه الحياة الدنيا .
   فهذا التأويل مخالف لما أثبتته الأحاديث المتكاثرة أن الدجال إنسان فرد شخص , يغدوا ويروح , ويدخل ويخرج , ويدعو ويغري ويهدد .. إلخ ما صحت به الأحاديث في ذلك , وقد بلغت حد التواتر .
   ومن ذلك تأويل بعض الكتاب المعاصرين من المسلمين , الأحاديث التي جاءت بنزول المسيح آخر الزمان ـ وهي أحاديث بلغت حد التواتر كما بيَّن ذلك جمع من الأئمة الحفاظ (130) ـ أنها ترمز إلى عصر يسود فيه السلام والأمن , فقد اشتهر بين الناس أن المسيح هو داعية السلام والسماحة بين البشر .       
         ونسى الكاتب أن هذا التأويل يتنافى تماما مع مدلول الأحاديث الصحيحة في نزول المسيح , والتي وصفته بضد ذلك : " لينزلن ابن مريم حكما عدلا , فليكسرن الصليب , وليقتلن الخنزير , وليضعن الجزية "(131) فلا يقبل إلا الإسلام , وهذا مناقض كل المناقضة للتأويل المذكور . على أن هذا التأويل يعطي ظلالا للمقولة التبشيرية والاستشراقية الظالمة , التي تزعم أن الإسلام هو دين السيف , وأن المسيحية هي وحدها دين السلام !

ابن تيمية وإنكار المجاز

   وأنا أعلم أن شيخ الإسلام ابن تيمية أنكر المجاز في القرآن والحديث واللغة بصفة عامة , وأيد ذلك بأدلة واعتبارات شتى .
   وأعلم كذلك دوافعه لهذا القول , فهو يريد أن يغلق الباب أمام أولئك الذين غلوا في التأويل فيما يتعلق بصفات الله تبارك و تعالى وهم الذين سماهم (المعطلة) فقد كادت صفات الله تعالى في نظرهم تصبح مجرد (سلوب) لا إيجاب فيها و (نفي) لا إثبات معه .
   وأراد هو أن يحيي ما عليه سلف الأمة , فيثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله , وينفي عنه ما نفى عنه القرآن والسنة .
   ولكنه بالغ في ذلك إلى حد نفى المجاز عن اللغة كلها .
   والإمام ابن تيمية من أحب علماء الأمة ـ بل لعله أحبهم ـ إلى قلبي , وأقربهم إلى عقلي , ولكني أخالفه هنا كما خالف هو الأئمة من قبله , وكما علَّمنا هو أن نفكر ولا نقلد , وأن نتبع الدليل , لا الأشخاص , ونعرف الرجال بالحق  , لا الحق بالرجال , فأنا أحب ابن تيمية و لكن لست تيميا !
   وقد قال الحافظ الذهبي شيخ الإسلام حبيب إلينا , ولكن الحق أحب إلينا منه .
   نعم أنا مع شيخ الإسلام فيما يتعلق بصفات الله تعالى , وبكل ما يتصل بعالم الغيب , وأحوال الآخرة , فالأولى ألا نخوض في تأويله بغير بيّنة , ونكله إلى عالمه , ولا نتكلف علم ما لا نعلم , ونقول ما قاله الراسخون في العلم :" وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ..(آل عمران:7) .
   وهذا ما أريد أن ألقي عليه بعض الضوء في الفقرة التالية .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
107ـ الحديث رواه مسلم في فضائل الصحابة , برقم (2453) , وقع عند البخاري وهم أن أطولهن يدا وأسرعهن لحوقا , كانت سودة ! وهو غلط من بعض الرواة ندد به ابن الجوزي , انظر : سير أعلام النبلاء للذهبي , " الرسالة , بيروت , ج 2 , ص 213 .
108ـ انظر تفسير ابن كثير ج 1/221 .
109ـ متفق عليه , أنظر اللؤلؤ والمرجان , حديث(1721 , 1746 )
110ـ تأويل مختلف الحديث , ط دار الجيل , بيروت ص 224 .
111ـ انظر اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان لمحمد فؤاد عبد الباقي حديث 359 .
112ـ رواه البخاري في كتاب الأدب وكتاب التفسير من صحيحه , ومسلم في البر والصلة , انظر : اللؤلؤ والمرجان , حديث1655 .
113ـ الحديث (6548) من صحيح البخاري مع الفتح , وهو في اللؤلؤ والمرجان حديث رقم 1812 .
114ـ اللؤلؤ والمرجان , حديث 1811 .
115ـ انظر في هذه الأقوال : فتح الباري ج 11/421 , ط درا الفكر .
116ـ المسند ط  المعرف . ج 8/240 , 241 تخريج حديث 5993 .
117ـ رواه الهيثمي في المجمع وقال رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح عن معقل بن يسار 4/326 .
118ـ فتح الباري ج13 .
119ـ متفق عليه من حديث ابن عمر وعائشة ورافع بن خديج , وأسماء بنت أبي بكر , ورواه البخاري عن ابن عباس أيضا . انظر صحيح الجامع الصغير 3191 وانظر : اللؤلؤ والمرجان 1424 ـ 1426 .
120ـ رواه أحمد عن أنس , والنسائي عن ابن عباس , كما في صحيح الجامع الصغير 3174 .
121ـ رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة , وأحمد والنسائي وابن ماجه عن أبي سعيد وجابر , كما في صيح الجامع الصغير 4126 .
122ـ متفق عليه من حديث عبد الله بن أبي أوفى . اللؤلؤ والمرجان 1137 .
123ـ رواه أحمد والنسائي عن جاهمة كما في صحيح الجامع الصغير(1249).
124ـ المحلي لابن حزم ج 7 ص 230 , 231 مسألة 919 .
125ـ رواه أبو داود في كتاب الأدب من سننه باب قطع السدر 5239 , ورواه البيهقي في السنن وذكره في صحيح الجامع الصغير .
126ـ متفق عليه من حديث أنس كما في اللؤلؤ والمرجان (665) .
127ـ رواه ابن حبان وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في السنن عن أبي هريرة , وذكره في صحيح الجامع الصغير .
128ـ رواه أحمد وإسناده قوي كما في الترغيب للمنذري .
129ـ انظر في ذلك : كتاب (التصريح بما تواتر في نزول المسيح ) للعلامة أنور الكشميري , تحقيق عبد الفتاح أبو غدة , وقد جمع فيه أربعين حديثا من الصحاح والحسان , فضلا عما دون ذلك .
130ـ متفق عليه من حديث أبي هريرة بألفاظ متقاربة , انظر : صحيح الجامع الصغير 7077 واللؤلؤ والمرجان 95 .
131ـ رواه أبو داود برقم (4605) والترمذي برقم 2665 من حديث أبي رافع . ورواه أحمد في المسند مختصرا ج 6 , ص8 .
سابعاً
التفريق بين الغيب والشهادة
كيف نتعامل مع السنة النبوية
معالم وضوابط
الدكتور يوسف القرضاوي

معالم وضوابط لحسن فهم السُّنة ـ في ضوء القرآن الكريم


الباب الثالث
معالم وضوابط
لحسن فهم السُّنة النبوية

ـ فهم السنة في ضوء القرآن الكريم .
ـ جمع الأحاديث الواردة في الموضوع الواحد .
ـ الجمع أو الترجيح بين مختلف الحديث .
ـ فهم الأحاديث في ضوء أسبابها وملابساتها ومقاصدها.
ـ التمييز بين الوسيلة المتغيرة والهدف الثابت للحديث .
ـ التفريق بين الحقيقة والمجاز في فهم الحديث .
ـ التفريق بين الغيب والشهادة .
ـ التأكد من مدلولات ألفاظ الحديث .

أولا
فهم السنة في ضوء القرآن الكريم

   من الواجب , لكي تفهم السنة فهما صحيحا , وبعيدا عن التحريف , الانتحال وسوء التأويل ـ أن تفهم في ضوء القرآن , وفي دائرة توجيهاته الربانية , والمقطوع بصدقها إذا أخبرت , وعدلها إذا حكمت ," وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" (الأنعام:115) .فالقرآن هو روح الوجود الإسلامي , وأساس بنيانه , وهو بمثابة الدستور الأصلي , الذي ترجع إليه كل القوانين في الإسلام فهو أبوها وموئلها .
   والسنة النبوية هي شارحة هذا الدستور ومفصلته , فهي البيان النظري والتطبيق العملي للقرآن , ومهمة الرسول أن يبين للناس ما نزل إليهم.
   وما كان للبيان أن يناقض المبيَّن , ولا للفرع أن يعرض الأصل , فالبيان النبوي يدور أبدا في فلك الكتاب العزيز و لا يتخطاه .
   ولهذا لا توجد سنة صحيحة ثابتة تعارض محكمات القرآن وبيناته الواضحة .
   وإذا ظن بعض الناس وجود ذلك , فلابد أن تكون السنة غير صحيحة أو يكون فهمنا لها غير صحيح , أو يكون التعارض وهميا لا حقيقيا .
   ومعنى هذا أن تفهم السنة في ضوء القرآن .
   ولهذا كان حديث (الغرانيق) المزعوم مردودا بلا ريب , لأنه مناف للقرآن , ولا يتصور أن يجيء في سياق يندد فيه القرآن بالآلهة المزيفة حيث يقول : "أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى" (النجم:23) .
   فكيف يعقل أن يدخل في سياق هذا الإنكار والتنديد بالأصنام كلمات تمتدحهن , وتقول : " تلك الغرانيق العلا , وإن شفاعتهم لترتجى "؟!(1)
   وكان حديث " شاوروهن وخالفوهن " في شأن النساء باطلا مكذوبا لأنه مناف لقوله تعالى في شأن الوالدين مع رضيعهما "فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا " (البقرة:233) .
   وإذا اختلفت أفهام الفقهاء أو الشراح في الاستنباط من السنن فأولاها وأسعدها بالصواب ما أيده القرآن .
   انظر إلى قوله تعالى :" وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ .." (الأنعام:141) .
   إن هذه الآية المكية الكريمة بما أجملته وما فصلته , لم تدع شيئا تنبته الأرض إلا جعلت فيه حقا , وأمرت بإيتائه , وهذا الحق المأمور به المجمل في الآية هو الذي فصله القرآن والسنة بعد ذلك تحت عنوان (الزكاة) .
   ومع هذا رأينا من الفقهاء من قصر زكاة ما أخرجه الله من الأرض على أربعة أصناف فقط من الحبوب والثمار , أو على ما يقتات في حال الاختيار لا غير , أو على ما يبس , ويكال ويدخر .. وأخرجوا من دائرة الحق الواجب سائر الفواكه والخضروات , ومزارع البن والشاي , وحدائق التفاح والمانجو , والقطن وقصب السكر , غيرها , مما يدر على أصحابه الألوف بل الملايين , حتى سمعت في إحدى زياراتي لبعض القطار الآسيوية أن الشيوعيين يتهمون الفقه الإسلامي ـ أو الشرع الإسلامي ـ بأنه يجعل عبء الزكاة على صغار الزراع ـ وربما كانوا مستأجرين للأرض , لا ملاكا ـ الذين يزرعون الذرة والقمح والشعير , ويعفى من ذلك مالكي مزارع جوز الهند والشاي والمطاط ونحوها !
   ومن هنا نقف وقفة الإعجاب للإمام أبي بكر بن العربي رأس المالكية في عصره , فقد شرح هذه الآية في كتابه (أحكام القرآن) وبيَّن مذاهب الفقهاء الثلاثة : مالك والشافعي وأحمد , فيما يجب إخراجه من نبات الأرض وما لا يجب , ومنها مذهبه , أي مذهب إمامه مالك , ولكنه ـ لإنصافه ورسوخه ـ ضعَّفها جميعا , ثم قال : أما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق , فأوجبها في المأكول قوتا كان أو غيره , وبين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك في عموم قوله"فيما سقت السماء العشر ".
   فأما قول أحمد : انه فيما يوسق , لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "ليس فيما دون خمسة أوسق ". الحديث , فضعيف , لأن الذي يقتضيه ظاهر الحديث أن يكون النصاب معتبرا في الثمر والحب , فأما سقوط الحق عما عداها فليس في قوة الكلام , وأما المتعلق بالقوت (يعني الشافعية ) فدعوى ومعنى ليس له أصل يرجع إليه , وإنما تكون المعاني موجهة لأحكامها بأصولها على ما بيناه في كتاب (القياس) .
   فكيف يذكر الله سبحانه النعمة في القوت والفاكهة , وأوجب الحق فيها كلها , فيما تنوع حاله كالكرم والنخيل , و فيما تنوع جنسه كالزرع , وفيما ينضاف إلى القوت من الاستسراج الذي به تمام النعمة في المتاع بلذة البصر , إلى استيفاء النعم في الظلَم ؟" .
  ثم قال ابن العربي :
   فإن قيل : فلم لم ينقل عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ,أنه أخذا الزكاة من خضر المدينة ولا خيبر ؟
   قلنا : كذلك عول علماؤنا , وتحقيقه : أنه عدم دليل لا وجود دليل .
   فإن قيل : لو أخذها لنقل .
قلنا : وأي حاجة إلى نقله والقرآن يكفي عنه ؟(2) أ هـ .
   وأما الحديث الذي يروى عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ليس في الخضروات صدقة " فضعيف الإسناد لا يحتج بمثله , فضلا عن أن يخصص به عموم القرآن والأحاديث المشهورة .
   وقد رواه الترمذي ثم قال : "إسناد هذا الحديث ليس بصحيح , فلا يصح في هذا الباب شيء عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ"(3) .
   ومن حق المسلم أن يتوقف في أي حديث يرى معارضته لمحكم القرآن إذا لم يجد له تأويلا مستساغا.
   وقد توقفت في حديث رواه أبو داود وغيره " الوائدة والموءودة في النار "(4) حين قرأت الحديث انقبض صدري وقلت : لعل الحديث ضعيف , فليس كل ما رواه أبو داود في سننه صحيحا , كما يعلم أهل هذا الشأن , ولكن وجدت من نص على صحته .
   ومثله :"الوائدة والموءودة في النار ,إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم "(5)
أي أن للوائدة فرصة للنجاة من النار , والموءودة لا فرصة لها !
وهنا تساءلت كما تساءل الصحابة من قبل حين سمعوا من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :"إذا التقى المسلمان بسيفيهما , فالقاتل والمقتول في النار " قالوا هذا القاتل , فما بال المقتول ؟ قال :إنه كان حريصا على قتل صاحبه " ففسر لهم وجه استحقاقه للنار , بنيته خروجه لمقاتلة صاحبه .
   وهنا أقول : هذه الوائدة في النار , فما بال الموءودة ؟؟ والحكم عليها بالنار يعارض قوله تعالى :" وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ" (التكوير9) .
   وقد رجعت إلى الشراح لأرى ماذا قالوا في توجيه الحديث , فلم أجد شيئا ينقع الغلة .
   ومثل ذلك الحديث , الذي رواه مسلم عن أنس "إن أبي وأباك ففي النار"(6) قاله جوابا لمن سأله عن أبيه أين هو ؟
   وقلت : ما ذنب عبد الله بن عبد المطلب حتى يكون في النار , وهو من أهل الفترة والصحيح أنهم ناجون ؟
   وكان قد خطر لي احتمال أن يكون المراد بقوله :"إن أبي " هو عمه أبا طالب الذي كفله ورعاه , وحدب عليه بعد موت جده عبد المطلب , واعتبار العم أبا أمر وارد في اللغة وفي القرآن , كقوله على لسان أبناء يعقوب : قالوا :"نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (البقرة:133) وإسماعيل كان عما ليعقوب , واعتبره القرآن أبا .
  ولا غرو أن يكون أبو طالب من أهل النار , بعد رفضه أن ينطق بكلمة التوحيد إلى آخر لحظة في حياته , وقد صحت جملة من الأحاديث تنبئ بأنه أهون أهل النار عذابا .
   ولكن أضعف هذا الاحتمال عندي أنه خلاف المتبادر من ناحية , ومن ناحية أخرى : ما ذنب أبي الرجل السائل ؟ والظاهر أن أباه مات قبل الإسلام .
   لهذا توقفت في الحديث حتى يظهر لي شيء يشفي الصدر .
   أما شيخنا الشيخ محمد الغزالي : فقد رفض الحديث صراحة , لأنه ينافي قوله تعالى :" وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا" (الإسراء:15) , وقوله : "وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى" (طه:134) ."... أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ .. (المائدة:19) .
   والعرب لم يبعث إليهم رسول , ولم يأتهم نذير قبل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما صرحت بذلك جملة من آيات في كتاب الله "..لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ" (يس:6).
"...لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ" (السجدة:3)"... وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ" (سبأ:44).
   ولكني أوثر في الأحاديث الصحاح التوقف فيها , دون ردها بإطلاق , خشية أن يكون لها معنى لم يفتح عليّ به بعد .
  ومن حسن الحظ أني رجعت إلى ما قاله شُراح ( مسلم ) غير النووي أعني العلامتين : الأبي والسنوسي , فوجدتهما يتحفظان على ظاهر هذا الحديث , أما الإمام النووي , فقد علق على الحديث بقوله : قاله لحسن خلقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تسلية للرجل , للاشتراك في المصيبة , وفيه : أن من مات كافرا في النار ولا تنفعه قرابة المقربين .
   قال الأبَّي : انظر هذا الإطلاق ! وقد قال السهيلي : ليس لنا أن نقول ذلك , فقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ " لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات " وقال تعالى :" إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا" (الأحزاب:57). والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما قاله تسلية للرجل , وجاء أن الرجل قال :وأنت أين أبوك ؟ فقال له ذلك حينئذ .
   قال النووي : وفيه أن من مات في الفترة على ما كان عليه العرب من عبادة الأوثان في النار , وليس هذا من التعذيب قبل بلوغ الدعوة , لأنه بلغتهم دعوة إبراهيم عليه السلام وغيره من الرسل .
   قال الأبَّي : تأمل ما في كلامه من التنافي , فإن من بلغتهم الدعوة ليسوا بأهل فترة , وتعرف ذلك بما تستمع , فأهل الفترة هم الأمم الكائنة بين أزمنة الرسل الذين لم يرسل إليهم الأول ولا أدركوا الثاني , كالأعراب الذين لم يرسل إليهم عيسى عليه السلام و لا لحقوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والفترة بهذا التفسير تشمل ما بين كل رسولين .
  ولكن الفقهاء إذا تكلموا في الفترة فإنما يعنون التي بين عيسى عليه السلام والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذكر البخاري عن سلمان أنها ستمائة سنة .
   ولما دلت القواطع على أنه لا تعذيب حتى تقوم الحجة , علمنا أنهم غير معذبين .
   فإن قلت : صحت أحاديث بتعذيب أهل الفترة كهذا الحديث وحديث :
" رأيت عمرو بن لحيّ يجر قُصبه (7) في النار(8)".
قلت : أجاب عن ذلك عقيل بن أبي طالب بثلاثة أجوبة :
الأول ـ أنها اخبار آحاد فلا تعارض القطع .
والثاني ـ قصر التعذيب على هؤلاء , والله أعلم بالسبب .
والثالث ـ قصر التعذيب المذكور في هذه الأحاديث على من بدل وغير من أهل الفترة بما لا يعذر به من الضلال (9) . (10) أ هـ .

التدقيق في دعوى معارضة القرآن

   وهنا لا بد أن نحذر من التوسع في دعوى معرضة القرآن , دون أن يكون لذلك أساس صحيح .
  فقد ركب المعتزلة متن الشطط , حين اجترأوا على رد الأحاديث الصحيحة المستفيضة في إثبات الشفاعة في الآخرة للرسول عليه الصلاة والسلام و لإخوانه الأنبياء والملائكة وصالحي الأعمال المؤمنين , في عصاة الموحدين , فيكرمهم الله تعالى بفضله ورحمته وشفاعة الشافعين , فلا يدخلون النار أصلا , أو يدخلونها ويخرجون منها بعد حين , ويكون مصيره إلى الجنة .
وهذا من كرم الله تبارك وتعالى على عباده , الذين أعلى جانب الرحمة على جانب العدل , فجعل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف أو يزيد , وجعل السيئة بمثلها أو يعفو , وجعل للسيئات مكفرات عدة من الصلوات الخمس , وصلاة الجمعة , وصيام رمضان , وقيامه , والصدقات والحج والعمرة , والتسبيح والتهليل والتكبير
 والتحميد , وغيرها من الأذكار والدعوات , وما يصيب المسلم من نصيب أو وصب أو غم أو حزن أو أذى , حتى الشوكة يشاكها .. فكل هذا يكفر الله به من خطاياه ..
   كما جعل دعاء المؤمنين له , ومن أهله وغير أهله , بعد وفاته ينفعه في قبره .
   فلا يعدو في أن يكرم الله عباده المصطفين الأخيار , فيشفعهم فيمن شاء من خلقه ممن  ماتوا على كلمة التوحيد . وهذا ما تكاثرت حوله الأحاديث :"يخرج قوم من النار بشفاعة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيدخلون الجنة ويسمون الجهنميين "(11)
   " يخرج من النار وم بالشفاعة كأنهم الثعارير" (12) (الثعارير : نبات كالهليون).
" يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم"(13)
" يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته" (14)
" أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: (لا إله إلا الله " خالصا من قلبه "(15)
" لكل نبي دعوة , فأريد إن شاء الله , أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة"(16).
" كل نبي قد سأل سؤالا , أو قال : لكل نبي دعوة , دعا بها فاستجيب , فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة "(17)
وفي حديث أبي سعيد عند الشيخين :"فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون ,
فيقول الجبار : بقيت شفاعتي , فيقبض قبضة من النار فيخرج أقواما قد امتحشوا (أي احترقوا ) فيلقون في نهر بأفواه الجنة يقال له : ماء الحياة ..الحديث "(18)
" لكل نبي دعوة مستجابة , فتعجل كل نبي دعوته , وإني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة , فهي نائلة ـ إن شاء الله ـ من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا "(19).
   والمعتزلة ـ لتغليبهم الوعيد على الوعد , والعدل على الرحمة , والعقل على النقل ـ أعرضوا عن هذه الأحاديث , مع قوة ثبوتها , ووضوح دلالتها .
وكانت شبهتهم في ردها : أنها تعارض القرآن الذي نفى شفاعة الشافعين .
  ومن قرأ القرآن لم يجد فيه إلا نفي (الشفاعة الشركية) التي كان يعتقدها المشركون من العرب , والمحرفون من أصحاب الديانات الأخرى .
   زعم المشركون أن آلهتهم ـ التي يدعون من دون الله أو مع الله ـ تملك أن تشفع لهم عند الله , وتدفع عنهم العذاب , كما قال تعالى :" وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ "(يونس: 18) .
   ولكن القرآن أبطل هذه الشفاعة المزعومة , وان آلهتهم لا تغني عنهم من الله شيئا , يقول الله تعالى : " أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " (الزمر44)
" وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا" (مريم:82).
   أجل , نفى القرآن أن تكون للآهة الزائفة شفاعة , وأن يكون للمشركين شفيع يطاع , كما قال تعالى :" مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ " (غافر:18) والقرآن يعبر كثيرا عن الشرك بالظلم , وعن المشركين بالظالمين . فإن الشرك ظلم عظيم .
   بيد أن القرآن أثبت الشفاعة بشرطيها :
(الأول) : أن تكون بعد إذن الله تعالى للشافع أن يشفع , فلا أحد يملك أن يوجب على الله شيئا كائنا من كان , قال الله تعالى في آية الكرسي :"..منْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ..(البقرة:255) .
(الثاني) : أن تكون الشفاعة لأهل التوحيد كما قال سبحانه في شأن ملائكته :" وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى..(الأنبياء :28) .
   وقوله تعالى في شأن المكذبين بيوم الدين " فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ"(المدثر:48) .
يفيد بمفهومه أن ثمة شافعين , وأن غيرهم تنفعه شفاعة الشافعين وهم من مات على الإيمان .
   فالقرآن إذن لم ينف مطلق الشفاعة , كما زعم من زعم , بل نفى الشفاعة التي ادعاها المشركون والمحرفون , والتي كانت من أسباب فساد كثير من أتباع الديانات , الذين يقترفون الموبقات , متكلين على أن شفعاءهم ووسطاءهم سيرفعون عنهم العقوبة , كما يفعل الملوك الظلمة , وحكام الجور في الدنيا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ انظر في إبطال أسطورة الغرانيق :البحث العميق الذي كتبه محمد الصادق عرجون رحمه الله في كتابه (محمد رسول الله ) تحت عنوان (قصة الغرانيق أكذوبة بلهاء متزندقة) ج2: 30ـ 155.
2ـ انظر :أحكام القرآن لابن عربي , ط عيسى الحلبي , القسم الثاني ص 749ـ 752 .
3ـ أنظر : الترمذي , كتاب الزكاة ـ باب ما جاء في زكاة الخضروات , وصحيح الترمذي بشرح العربي (3/132ـ 133) .
4ـ أبو داود برقم 4717 عن ابن مسعود ـ وابن حبان والطبراني عن الهيثم بن كليب . وقال الهيثمي : ورجاله رجال الصحيح (الفيضح/371).
5ـ رواه أحمد والنسائي عن سلمة بن يزيد الحعفي ـ كما في صحيح الجامع الصغير .
6ـ رواه في كتاب الإيمان برقم (347) .
7 ـ قُصبه : أي أمعاءه .
 8 ـ متفق عليه عن أبي هريرة كما في اللؤلؤ والمرجان , حديث 1816 . وتتمته " فإنه أول من سيب السوائب ".
9ـ كأن يكون قد وأد ابنة له أونحو ذلك مما هو معلوم القبح لدى العقلاء , وجميع أصحاب الأديان .
10ـ انظر شرح الأبَّي والسنوسي على مسلم ج1 ص 363ـ 373 .
11ـ رواه أحمد والبخاري , وأبو داود عن عمران بن الحصين , كما في صحيح الجامع الصغير8055 .
12ـ متفق عليه عن جابر , المصدر نفسه 8058 .
13ـ الترمذي والحاكم عن عبد الله بن أبي الجدعاء , نفسه 8069 .
14ـ أبو داود عن أبي الدرداء نفسه 8093
15ـ البخاري عن أبي هريرة صحيح الجامع 967 .
16ـ متفق عليه عن أبي هريرة : اللؤلؤ والمرجان 121 .
17ـ متفق عليه عن أنس , اللؤلؤ والمرجان 122.
18ـ متفق عليه عن أبي سعيد , اللؤلؤ والمرجان 115 .
19ـ رواه مسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة ـ صحيح الجامع  .76 .

ثانياً
جمع الأحاديث الواردة في الموضوع الواحد
كيف نتعامل مع السنة النبوية
معالم وضوابط
الدكتور يوسف القرضاوي