الاثنين، 18 فبراير 2013

المنهج النصوصي وتناقضاته


كتبهامصطفى الكومي ، في 17 يناير 2012 الساعة: 13:26 م

د/ محمد عمارة
النصوص وحدها مصدر الحلال والحرام :
   ومن إيجابيات المنهج النصوصي للحركة السلفية تضييق دائرة "الحرام والحلال" , بقصورها على الأمور الدينية التي وردت فيها النصوص والمأثورات , وذلك على عكس الذين توسعوا في هذا الباب , متخذين الراي والقياس , بل والشهوات وسيلة لإحراج الناس والتضييق عليهم , عندما مدوا نطاق "الحل والحرمة" إلى ما وراء أمور الدين التي نص الشارع على حلها أو حرمها. . والسلفيون يميزون , هنا بين حكم البشر وبين حكم الله ورسوله . . فحكم الله ورسوله , القائم في النصوص , هو الذي يندرج تحت "الحل والحرمة والوجوب والكراهة الدينية " , أما ما عدا ذلك من أحكام البشر , في الأمور التي لم يرد فيها نص فإنها تدخل في باب النافع أو الضار , وما ينبغي وما لا ينبغي , وما يحسن وما لا يحسن . . ومن أدخلها في نطاق الحلال والحرام فقد ادعى لنفسه سلطان الله ! . . وفي نص واضح وحاسم وشامل يقول ابن القيم : إنه " لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله بأنه أحل كذا أو كذا أو حرمه أو أوجبه أو كرهه إلا لما يعلم أن الأمر فيه كذلك مما نص الله ورسوله على إباحته أو تحريمه أو إيجابه أو كراهته , أمّا ما وجده في كتابه الذي تلقاه عمن قلده دينه فليس له أن يشهد على الله ورسوله به , ويغرّ الناس بذلك , ولا علم له بحكم الله ورسوله . قال غير واحد من السلف : ليحذر أحدكم أن يقول : أحل الله كذا , أو حرم الله كذا , فيقول الله له : كذبت : لم أحل كذا , ولم أحرمه . وثبت في صحيح مسلم من حديث بريدة بن الحصيب أن رسول الله قال : " وإذا حاصرت حصناً فسألوك أن تنزلهم على حكم الله ورسوله , فلا تنزلهم على حكم الله ورسوله ,فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا , ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك " . . . فتأمل كيف فرق بين حكم الله وحكم الأمير المجتهد , ونهى أن يسمي حكم المجتهدين حكم الله . . ومن هذا لما كتب الكاتب بين يدي عمر بن الخطاب حكماً حكم به فقال : هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر , فقال : لا تقل هكذا , وكن قل : هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب . وقال ابن وهب : سمعت مالكاً يقول : لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحداً اقتدى به يقول في شيء : هذا حلال , وهذا حرام , وما كانوا يجترئون على ذلك , إنما كانوا يقولون : نكره كذا , ونرى هذا حسناً , فينبغي هذا ولا نرى هذا . . ولا يقولون حلال ولا حرام , ما سمعت قول الله تعالى : "قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ؟" (1) الحلال : ما أحله الله ورسوله , والحرام : ما حرمه الله ورسوله . . . وسمعت شيخ الإسلام (2) يقول : حضرت مجلساً فيه القضاة وغيرهم , فجرت حكومة حكم فيها أحدهم بقول زفر(3) , فقلت له ما هذه الحكومة؟ فقال : هذا حكم الله , فقلت له : صار حكم زفر هو حكم الله الذي حكم به وألزم به الأمة ؟ قل هذا حكم زفر ولا تقل هذا حكم الله . . "(4) .
   ولابن تيمية نص آخر يعلل فيه الموقف السلفي , النابع من منهجهم النصوصي , يقول فيه : " . . والأصل في هذا أنه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه , كما يشرع لهم من العبادات التي يتقربون بها إلى الله إلا ما دل الكتاب والسنة على شرعه , إذ الدين ما شرعه الله , والحرام ما حرمه الله , بخلاف الذين ذمهم الله حيث حرموا من دون الله ما لم يحرمه الله , وأشركوا به ما لم ينزل به سلطاناً , شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله . . "(5) .
ونحن إذا قارنا هذا الموقف السلفي , الذي يميز بين حكم الله وحكم المجتهدين من الناس , بموقف أولئك الذين يجعلون فتاواهم , فيما لا نص فيه , قسماً من أقسام الحلال والحرام ,  أي ديناً وشرعاً , وجدنا الموقف السلفي يرفع الكثير من الحرج عن الناس عندما يترك ما لم يرد فيه نص بعيداً عن ميدان الحل والحرمة , على حين يضيق الآخرون على الناس بإدخالهم جميع المعاملات الإنسانية في إطار الحلال أو الحرام !. .
تناقض :
   لكننا إذا تتبعنا مدى التزام أعلام الحركة السلفية بمنهجهم النصوصي هذا , لم نعدم رؤية شيء من التناقض وقعوا فيه , وابتعدت آراءهم في مواضعه عن الاتساق مع منهجهم النصوصي .. ذلك أن من آراء الحركة السلفية الجيدة والمتقدمة رأيها في "تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد " وهم يصفون هذا المبدأ بأنه" عظيم النفع جداً" , كما أنهم قد أسسوه على أن " الشريعة مبنية على مصالح العباد في المعاش والمعاد . . . فمبناها وأساسها على الحِكَم , وهي عدل كلها , ورحمة كلها , ومصالح كلها, وحكمة كلها . . ."(6) .
   وهم كذلك يؤسسون العلم الضروري للحاكم ـ[القاضي] ـ على نوعين من الفقه : فقه الواقع الذي يعيشه الناس . . .وفقه النصوص الواردة في المشكلات التي يرفعها إليه المتحاكمون . . ويجعلون القضاء : مطابقة الواجب من النصوص على أحكام العرف والواقع والحوادث . . بل ويرون أن معرفة الواقع والتفقه فيه هو المنطلق إلى معرفة حكم الله ورسوله في هذا الواقع "فههنا نوعان من الفقه, لا بد للحاكم منهما : فقه في أحكام الحوادث الكلية , وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس . . ثم يطابق بين هذا وهذا , فيعطي الواقع حكمه من الواجب , ولا يجعل الواجب مخالفاً للواقع(7). . . فالمفتي والحاكم ـ[القاضي]ـ والعالم : من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله . . ."(8).
   ولما كان هذا الواقع متغيراً متطوراً كانت الفتاوي والأحكام متغيرة متطورة هي الأخرى , لأن تغير الواقع يستلزم تغير المصالح , وهي التي مبنى الشريعة الإسلامية . . . ولقد ضرب أعلام السلفية العديد من الأمثلة على أمور تغيرت فيها الفتاوي والأحكام بتغير الأزمنة والأمكنة واختلاف المصالح . . .
·       فالقرآن والسنة قررا الحد على السارق . . . لكن عام الرمادة جعل عمر بن الخطاب "يرى" إسقاط القطع عن السارق .
·       والقرآن والسنة النبوية ـ القولية والعملية ـ جعلت الطلاق بلفظ الثلاث طلقة واحدة , وجاء الإجماع فصدق على النصوص من أبي بكر وسنتين من خلافة عمر . . . ثم "رأى" عمر بن الخطاب أن يغير الفتوى والحكم فجعله ثلاثاً . . . أي أننا بإزاء حكم "دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم , ولم يأت بعده إجماع يبطله , ولكن "رأى" أمير المؤمنين عمر أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق , وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة , "فرأى" من "المصلحة" عقوبتهم بإمضائه عليهم …"(9).
·       الإماء وأمهات الأولاد : كن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم . . فهذا البيع مقرر كسنة . . فلما كانت خلافة عمر بن الخطاب " منع بيع أمهات الأولاد . . وكان ذلك "رأياً" منه رآه للأمة . . ."(10) .
·       . . . الخ . . . الخ . . . . 
فنحن , إذن , بإزاء أحكام قررتها نصوص, من القرآن والسنة معاً , أو من السنة وحدها , أو من القرآن والسنة والقياس والإجماع و سواء في العهد النبوي أو عهد الخلفاء . . . ثم تغير الواقع , فتغيرت المصالح , فجاء "الرأي" فغير الأحكام . . . هكذا حكى أعلام السلفية , من أحمد بن حنبل إلى ابن القيم . . . وعلى أساس هذه الوقائع قرروا أن "الفتاوي والأحكام تتغير وتختلف بحب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد " . . . بل لقد جعل ابن القيم من العبارة عنوان فصل عقده لهذا الموضوع , ووصفه بأنه " فصل عظيم النفع جداً "(11) . . . وهنا . . وعند هذا الموقع من التأمل والنظر , نسأل :
·       ألا يتناقض هذا الذي سلم به السلفيون , بل قرروه , وعقدوا له الفصول في آثارهم الفكرية , ألا يتناقض مع منهجهم النصوصي , الذي يحرم "الرأي" عندما يوجد النص , حتى ولو كان ذلك النص حديثاً ضعيفاً؟! . .
إننا نرى التناقض واضحاً وجلياً . . . ذلك أن القول بتطور الواقع وتغيره ـ وهي حقيقة ـ . . وبتغير المصالح تبعاً لتغير الواقع وتطوره ـ وهي حقيقة ثانية ـ . . . ثم القبول بتغير الأحكام والفتاوي "بالرأي" , بسبب هذه المتغيرات , رغم وجود النصوص والمأثورات . . . إن القول بذلك إنما يهز ثبات العموم والإطلاق الذين قررهما المنهج السلفي لسلطان النصوص والمأثورات !. .
   وحتى إذا سلمنا بأن هذه الأسئلة , التي غير فيها "الرأي" أحكاماً تقررت من قبل بالنصوص , هي من "السياسات الجزئية" , وليست من "الشرائع الكلية التي تتغير بتغير الأزمنة" فإن العموم والإطلاق اللذين يضفيهما المنهج على النصوص سيهتز ثباتهما بالتأكيد . . . ولعل ابن القيم قد شعر بهذا التناقض فقال :"والمقصود أن هذا وأمثاله سياسة جزئية , بحسب المصلحة , تختلف باختلاف الأزمنة , فظنها من ظنها شرائع عامة لازمة للأمة إلى يوم القيامة . وهذه السياسة التي ساسوا بها الأمة , وأضعافها , هي تأويل القرآن والسنة . ولكن : هل هي من الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة ؟ أو من السياسات الجزئية التابعة للمصالح , فتتقيد بها زماناً ومكاناً؟ . . . إن أضعاف هذه المسائل مما جرى العمل فيه على العرف والعادة . . ."(12) . . . ونحن نتفق معه في أن كل ما ارتبط بالمصالح فالتغيير فيه , بواسطة "الرأي" , بل وبواسطة "التأويل" ـ كما قال هو ـ أمر وارد ومقرر , رغم وجود النصوص والمأثورات . . . وبعد ذلك لنا أن نسأل : إذا كان هذا التغيير في الأحكام قد امتد إلى الحدود ـ حد السرقة وحد الخمر ـ فهل هما من السياسات الجزئية ؟ . . وما هي , إذن , الشرائع الكلية ؟ . . . وفي رأينا أن الأوفق هو النأي "بالعقائد والثوابت" عن التغير تبعاً للزمان والمكان , وما عداها , مما يرتبط بالمصالح من الشرائع والسياسات , فإن "للرأي" فيه مجالاً , تبعاً للواقع والمصلحة , حتى مع وجود النصوص والمأثورات . . فكما يجب التمييز بين شرائع وسياسات ترتبط بالمصالح , وتتغير بتغيرها , وأخرى ثابتة لا تتغير , كذلك يجب التمييز بين نصوص "العقائد والثوابت" ونصوص المتغيرات ! . .
السلفية د / محمد عمارة
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1)             يونس :59.
(2)           أي ابن تيمية , شيخ ابن القيم .
(3)           زفر بن الهذيل [110ـ 158هـ 728ـ 775م] فقيه كبير , من أصحاب أبي حنيفة , أسهم إسهاماً ملحوظا في تدوين الكتب .
(4)           إعلام الموقعين . ج4 ً176,175 . ج 1 ص 39.
(5)           [السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية] ص180, طبعة القاهرة سنة 1971 م.
(6)           أعلام الموقعين . ج3ص3.
(7)           الطرق الحكمية ص130,5.
(8)           أعلام الموقعين .ج1ص 87, 88.
(9)           المصدر السابق ج3ص 10ـ12 , 30ـ 35 , 36, 41 . والطرق الحكمية ص 23.
(10)     الطرق الحكمية . ص24 .
(11)     أعلام الموقعين .ج3ص 3.
(12)     الطرق الحكمية . ص33,26,25 .

ليست هناك تعليقات: