السبت، 16 مارس 2013

المعالم الأولية والرئيسية للسلفية


د/ محمد عمارة

المعالم الأولية والرئيسية للسلفية


   كان ابن حنبل أشبه ما يكون ب"قراء عصر الصحابة", قبل أن يعرف عالم الإسلام "الفقهاء" و"المتكلمين" , فضلاً عن "الفلاسفة والحكماء" , وكان شبهه ب"قراء" عصر الصحابة شاملاً "السلوك" مع "الفكر" , فهو ـ كما يصفه ابن قيم الجوزية[691ـ 751هـ 1292 ـ 1350م] ـ : "عن الدنيا ما كان أصبره , وبالماضين ما كان أشبهه , أتته البدع فنفاها , والدنيا فأباها ..! (1) .
   ونحن إذا شئنا تكثيفاً لمقولات الحركة السلفية , كما صاغها إمامها الأول أحمد بن حنبل , في مواجهة ما رآه بدعاً ومحدثات جعلت الإسلام غريباُ , وجدنا هذه المقولات والعقائد :
·        الإيمان قول وعمل . . وهو يزيد وينقص , تبعا لنقاء العقيدة أ ما شوبها , وتبعاً لزيادة العمل ونقصانه . .
·        والقرآن : كلام الله , وفقط . . فليس بمخلوق ـ كما تقول المعتزلة ت وليس شريكاً لله في قدمه , كما يلزم المعتزلة نفاة خلق القرآن ..
·        وصفت الله : التي وصف بها نفسه وأثبتها لذاته , نصفه بها ونثبتها لذاته , على النحو الذي وردت عليه في النصوص والمأثورات , ولا نلجأ في بحثها إلى رأي أو تأويل  . .
·        وعالم الغيب : لا ينبغي أن نخوض في بحث شيء منه , بل يجب أن نفوض حقيقة علمه إلى الله سبحانه . .
·        ورؤية أهل الجنة لله :عقيدة حق يجب أن يؤمن بها المؤمن , دونما تأويل أو تمثيل , كما وردت بها ظواهر النصوص . .
·        وعلم الكلام : منكر منكر . . والاشتغال به منكر , وأخذ العقائد بأدلته منكر , .. بل ومجالسة أهله منكر , مهما كان دفاعهم به عن الإسلام ! . .
·        والقضاء والقدر : لا يكتمل بدونهما الإيمان . . وهما من الله . .
·        والذنوب الكبائر لا تجعل المؤمن كافراً , ولا تخلده في النار : على عكس قول الخوارج في الأمرين .. وقول المعتزلة في الثاني ..
·        وخلافات الصحابة : لا يصح الخوض فيها , بل يجب العدول عن ذكرها , والوقوف عند محاسنهم وفضائلهم . .
·        وترتيب الخلفاء الراشدين في الفضل : وفق ترتيبهم في تولي الخلافة . .
·        وطاعة ولي الأمر واجبة : حتى لو كان فاجراً فاسقاً , والثورة عليه منكر لما تجلبه من الأخطاء وتعطله من مصالح الناس في حياتهم اليومية . .
·        الفرائض .. والمعاملات . . والجهاد : نؤديها ونمارسها على النحو الذي جاءت به النصوص في القرآن والسنة . . .الخ ...الخ...الخ ...
وكما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن كتابة ما عدا القرآن الكريم , كي لا يختلط الحديث بآياته , وكما لم يعرف عصر البعثة والصحابة تأليف الكتب . . وأمام اشتغال "المتكلمين" بتأليف الكتب .. نهى أحمد بن حنبل عن الاشتغال بتأليف الكتب .. نهى أحمد بن حنبل عن الاشتغال بتأليف الكتب , ودعا للوقوف عند جمع الحديث والمأثورات . . ولكن تلاميذه وأصحابه دونوا فتواه وتعاليمه , معتبرين إياها جزءاً من المأثورات , ومن بين ما دونوه ـ وهو كثير جداً ـ نجد الكثير من النصوص التي توجز عقيدته السلفية , من مثل قوله في "صفة المؤمن من أهل السنة والجماعة" أنه:
·        من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأن محمداً عبده ورسوله
·        وأقر بجميع ما جاءت به الأنبياء والرسل
·        وعقد قلبه على ما ظهر من لسانه , لم يشك في إيمانه
·        ولم يكفر أحداً من أهل التوحيد بذنب
·        وأرجأ ما غاب عنه من الأمور إلى الله , وفوض أمره إلى الله
·        ولم يقطع , بالذنوب ,العصمة من عند الله
·        وعلم أن كل شيء بقضاء الله وقدره , الخير والشر جميعاً
·        ورجا لمحسن محمد , وتخوف على مسيئهم ,ولم ينزل أحداً من امة محمد الجنة بالإحسان , ولا النار بذنب اكتسبه , حتى يكون الله الذي ينزل خلقه حيث يشاء
·        وعرف حقل السلف الذين اختارهم الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وقدم أبا بكر وعمر وعثمان وعرف حق على بن أبي طالب , والزبير , وعبد الرحمن بن عوف , وسعد بن أبي وقاص , وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ... وترحم على جميع أصحاب محمد , صغيرهم وكبيرهم , وحدث بفضائلهم , وامسك عما شجر بينهم
·        وصلاة العيدين والخوف والجمعة والجماعات مع كل أمير , ير وفاجر
·        والمسح على الخفين في السفر والحضر والتقصير في السفر
·        والقرآن كلام الله وتنزيله , وليس بمخلوق
·        والإيمان قول عمل , يزيد وينقص
·        والجهاد ماض منذ بعث الله محمداً إلى آخر عصابة , يقاتلون الرجال , لا يضرهم جر جائر
·        والشراء والبيع حلال إلى يوم القيامة , على حكم الكتاب والسنة
·        والتكبير على الجنائز أربعاً
·        والدعاء لأئمة المسمين بالصلاح , ولا تخرج عليهم بسيفك , لا تقاتل في فتنة , وتلزم بيتك
·        والإيمان بعذاب القبر
·        و الإيمان بمنكر ونكير
·        والإيمان بالحوض والشفاعة
·        والإيمان بأن أهل الجنة يرون ربهم تبارك وتعالى
·        وأن الموحدين يخرجون من النار , بعدما امتحنوا , كما جاءت الأحاديث في هذه الأشياء عن النبي صلى الله عليه وسلم , ولا تضرب لها الأمثال ...(2).
    على هذا النحو صاغ ابن حنبل عقائد الحركة السلفية , ودعا إلى إسلام العرب الأولين , إسلام المجتمع العربي البسيط , إسلام النصوص والمأثورات , وبهذه العقائد , ومن خلفه الجمهور صارع المتكلمين و الكلام والفلسفة والرأي والقياس والتأويل , وصمد للمحنة الشهيرة عندما امتحن إبان تدخل الدولة في عقائد العلماء حتى يقروا بخلق القرآن .. الأمر الذي رفع من قدره , لا عند أنصاره فحسب , بل وفي نظر الخصوم وعند جميع المؤرخين للفكر على اختلاف المدارس والمنطلقات. .
    السلفية تنتعش :
    كانت الحضارة العربية الإسلامية التي تبلورت من فكر الإسلام , كما صاغه المتكلمون العقلانيون , بعد مزجه بالمواريث الحضارية الملائمة لشعوب البلاد التي فتحت , والتي أخذت تتعرب , كانت هذه الحضارة مرتكزة على قسمتين رئيسيتين :
·        العروبة : بالمعنى الحضاري , لا العرقي . . على النحو الذي بلغته في الصراع ضد قطبي التطرف : الشعوبي الرافض لكل ما هو عربي . . والعصبية التي أحيتها الدولة الأموية  والتي تغضّ من شأن كل ما ليس بعربي عرقياً . .
·        والعقلانية التي : التي تحول بها الإسلام من موقع الدفاع أمام المؤسسات الفكرية اللاهوتية غير الإسلامية والتيارات الفكرية المعادية لعقائده . . تحول بها من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم الذي هيأ له الانتشار دون إكراه . .
لكن هذه الحضارة , بما صحبها من ازدهار مادي ورفاهة في العيش , قد ابتعدت بالعرب عن خشونة الجند التي عرفوا بها في عصر الفتوحات , فلم يعودوا القوة العسكرية التي تعتمد عليها الدولة في الفتح أو الحفاظ على أكبر امبراطورية عرفها ذلك التاريخ . . . وكانت للموالي ذوي الاتجاه الشعوبي , أحلام في السيطرة على الدولة , بل تدميرها , صرفت الدولة كذلك عن أن تتخذ منهم الجند الذي يتكون منه جيشها الكبير . . ومن هنا كان سعي الخليفة العباسي المعتصم [ 218ـ227هـ 833ـ 842م] إلى تكوين جيشه من الترك المماليك !. .
   ولقد ظن المعتصم أنه باتخاذه الجند الغريب , حضارياً وقومياً , عن المجتمع , يحصل على أداة القمع الأسهل قياداً وانقياداً , والتي لا أمل لها في السلطة , ولا مصلحة لها في الصراعات الناشبة من حولها , وأنه بذلك سيقيم القوة الضاربة التي يحافظ بها على التوازن بين العرب والموالي , وغيرهما من العناصر والأجناس المتصارعة والمتنافسة .. ولكن تضخم هذه القوة العسكرية الجديدة سرعان ما جعلها مركز ثقل وقوة جذب ومركز توجيه . . فمدينة "سامراء" التي بنيت لها معسكراً تابعاً للعاصمة بغداد تحولت من سنة 221هـ 836م إلى عاصمة للدولة , انتقلت إليها الخلافة , وأصبحت بغداد تابعة لها . . وهؤلاء الجند الذين أرادهم المعتصم قوة بيد الخلافة , وسرعان ما أصبحت الخلافة لعبة بيدهم , يولون من أطاع ويعزلون من عصى , بل ويسجنون ويقتلون من يتمرد على أوامر المماليك الأتراك ؟! . .
    وبسبب من أن هذه المؤسسة الجديدة والكبيرة هي جند وجيش  . . كانت بعيدة عن الاهتمامات الحضارية . . وبسبب من غربتها عن العروبة , وتخلف قادتها , بداهة , عن نمط التفكير العقلي والفلسفي كانت أميل إلى "العام" , وأمعن في عدائها للفكر الفلسفي والتيار العقلاني . . وهكذا انفتح الطريق , بسيطرة الترك المماليك , لذلك الانقلاب الفكري الذي حدث في الدولة العباسية عندما تولى الخلافة الخليفة المتوكل [232ـ 247هـ 847ـ861م] فاستبدل السلفية بالمعتزلة , حلت النصوص محل العقلانية والرأي والتأويل , وخرج المحدثون من محابسهم , وحل محلهم فيها علماء الكلام؟! . . وعندما أراد المتوكل ملء الفراغ الذي حدث بإقصاء المعتزلة عن جهاز الدولة استشار الإمام أحمد بن حنبل , فكتب له قائمة بالقضاة والمستشارين , وقد قليل العلم من السلفية على علماء , لأن الأول سني ذو دين , أما الثاني فإنه ـ مع علمه ـ يضر الناس في الدين ؟! . . وهكذا انتعشت السلفية , وساد نهجها النصوصي في البحث والتفكير , فشهدت تلك الحقبة الزمنية الذيوع والانتشار لأعمال "أصحاب الحديث" , الذين هم أعلام الحركة السلفية , سواء منهم أولئك الذين تقدموا أحمد بن حنبل أو عاصروه أو أتوا من بعده . . . وذلك مثل :
·        أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي[181هـ797م] .
·        أبو سعيد يحيي بن فروخ التميمي القطان البصري [198هـ813م] .
·        ابن أبي شيبة أبو بكر عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبسي [225هـ840م] .
·        يحيي بن أبي يحيي بكير بن عبد الرحمن بن يحيي الحنظلي [226هـ841م] .
·        أبو عبد الله نعيم بن حماد المروزي [228هـ844م] .
·        ابن راهويه أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن مخلد إبراهيم [238هـ852م] .
·        البخاري , أبو عبد الله محمد بن إسماعيل [256هـ870م] .
·        أبو علي حنبل بن إسحاق بن حنبل بن هلال[273هـ886م] .
·        عبد الله بن مسلم بن قتيبة [213ـ 276هـ 889م] .
·        أبو بكر أحمد بن عمرو بن النبل الشيباني البصري[277هـ 890م] .
·        الدارامي , عثمان بن سعيد [280هـ893م] .
·        أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل [290هـ903م] .
·        أبو بكر أحمد بن علي بن سعيد المروزي [292هـ905م] .
·        أبو العباس بن سريج [306هـ918ك ].
·        أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال [311هـ923] .
·        أبو بكر أحمد بن إسحاق بن خزيمة [311هـ 923م] .
·        أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم الأصبهاني العسال [349هـ 960م] .
·        أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني [360هـ 971م] .
·        أبو محمد عبد الله , بن محمد بن جعفر بنحيان [369هـ979م].
·        عبيد الله بنمحمد بن بطة العكبري [387هـ997م] .
·        أبو القاسم هبة الله بن الحسن الرازي اللالكائي [418هـ 1027م] .
·        أبو عمرو أحمد بن محمد بن عبد الله الأنصاري الهروي [434هـ1043م] .
·        أحمد بن الحسين أبو بكر البيهقي [458هـ 1066م] .
·        ابن عبد البر أبو عمرو يوسف بن عبد الله بن محمد القرطبي [463هـ 1071م] .
فلما كانت الدولة المملوكية , وطال الأمد على سيطرة الجند الغرباء حضارياً وقومياً على مقدرات الأمة , فشت البدع والمظالم , وغالبت عقائد السلفية حتى غلبتها , فكان أن عرفت الحركة السلفية صحوتها التي تمثلت في عدد من أئمتها كان أبرزهم :
·        أبو الوفاء بن عقيل [431ـ513هـ 1040ـ 1119م] .
·        شيخ الإسلام ابن تيمية [661ـ 728هـ 1263 ـ 1328م] .
·        ابن قيم الجوزية [691ـ 751هـ 1292ـ1350م] .
ولقد واصلت الحركة السلفية , في صحوتها هذه , السير على منوال العقائد التي صاغها ابن حنبل ومعاصروه , ونهجت النهج , النصوصي الذي بلوروه , ومع مرونة ملحوظة في الموقف من القياس والتأويل , فرضتها التعقيدات التي طرأت على المجتمعات التي عاشوا فيها والأبنية الفكرية التي تصارعت في هذه المجتمعات . .
    لكن هذه الصحوة السلفية لم تنجح فيما نجح فيه أحمد بن حنبل . . فلم تصبح مذهبا للدولة , إنما ظلت حركة معارضة يلقى أعلامها السجن والعنت والاضطهاد . . .
   فلما ورثت الدولة العثمانية دولة المماليك , وواصلت ـ على الجبهة الفكرية ـ جمودهم وما شاع في ظل سلطانهم من بدع وخرافات , الأمر الذي فتح في جدار الشرق الإسلامي العديد من الثغرات التي بدأ الغرب الاستعماري يسعى كي يتسلل من خلالها . . . لما حدث ذلك , وأصبح الإسلام غريباً , مرة أخرى , كما كان في البدء , اتخذا حركة اليقظة والتجديد في عصر أمتنا الحديث سبيل الحركة السلفية تدفع بعقائدها البدع والخرافات عن فكر الإسلام , ساعية إلى إعادة قيادة الإسلام إلى العرب , بعد أن تأكد عجز الأتراك العثمانيين عن القيادة أمام الخطر الاستعماري الزاحف على بلاد الإسلام . . . وهكذا عرفت الأمة أعلام الحركة السلفية الحديثة :
·        محمد بن عبد الوهاب [1115ـ 1206هـ 1700ـ 1792م] .
·        ومحمد بن علي السنوسي [1202ـ1276هـ 1787ـ 1859م].
·        ومحمد أحمد المهدي [1260ـ 1302هـ 1844ـ 1885م].
·        جمال الدين الأفغاني [1254ـ 1314هـ 1838ـ 1897م] .
·        الإمام محمد عبده [1266ـ 1323هـ1849 ـ 1905م].
·        وجمال الدين القاسمي [1283ـ 1332هـ 1866 ـ 1914م].
·        وعبد الحميد بن باديس [1307 ـ 1359هـ 1889ـ 1940م] .
وإذا كانت هي مسيرة الحركة السلفية , وهؤلاء هم أبرز أعلامها , منذ أن تبلورت في العصر العباسي حتى عصرنا الحديث , فالأمر المؤكد أن هذه الحركة قد تميزت باتساق المنهج ووحدة الأصول الاعتقادية والفكرية في عصرها الأول , الذي تبلورت فيه , وفي عصرها الوسيط , الذي قادها فيه ابن تيمية وابن القيم , وإن يكن هؤلاء الأعلام قد اختلفوا في عدد من مسائل الفروع , وبمعنى أدق فهم قد اتفقوا في "الإلهيات" , واختلف بعضهم عن البعض الآخر في "الفقهيات" . . وهم لم يجدوا في ذلك بأساً يخرجهم عن إطار الحركة الفكرية والحدة , وكما يقول ابن القيم " فإن أهل الإيمان قد يتنازعون فيبعض الأحكام , ولا يخرجون بذلك عن الإيمان . . وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام , وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيماناً , ولكن , بحمد الله , لم لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال , بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة , كلمة واحدة , من أولهم إلى آخرهم , ولم يسموها تأويلاً . . . ولا ضربوا لها أمثالاً . . . "(3)
   وهذا الاتفاق في الأصول الفكرية , وفي "المنهج النصوصي"قد اتسع لإضافات أفاض فيها أعلام سلفية العصر الوسيط استجابة لمشكلات العصر الذي عاشوا فيه .. فما طرأ على عقيدة التوحيد من بدع وخرافات وإضافات طمست نقاءها الذي تميز به الإسلام , وشابه بشوائب الشرك , خفياً كان أو  جلياً , جعل ابن تيمية يولي هذه القضية اهتماماً كبيراً , حتى لقد رأى أن جماع أمر الدين أمران : رفض الشرك , ورفض البدع التي طرأت على الدين . . وبعبارته " فإن جماع الدين أصلان : أن لا نعبد إلا الله , ولا نعبده إلا بما شرع , لا نعبده بالبدع ..." (4) .
   وكذلك صنعت سلفية العصر الوسيط عندما واجهت مقولات متفلسفة الصوفية , من أصحاب وحدة الوجود , وهي قضية لم يكن فكرها قد طرح بالساحة الإسلامية بعد يوم أن تبلورت الحركة السلفية في عهد الطلائع والرواد ..(5)
   وإذا كان هذا هو حال سلفية العصر الوسيط مع سلفية العصر الأول : اتفاق في الأصول ـ "الإلهيات" ـ , واتحاد في "المنهج النصوصي" ـ مع مرونة نسبية في استخدام القياس ـ مع اختلافات في الفروع ـ [الفقهيات] ـ .. فإن هذه الحال قد اختلف مع سلفية العصر الحديث , التي تميزت في إطارها مدارس وتيارات , حافظ بعضها على "المنهج النصوصي" لسلفية القدماء , على حين رفع بعضها سلطان العقل وبراهينه على سلطان ظواهر النصوص , ولم يعد إسلامها هو إسلام المجتمعات البدوية , بل الإسلام الذي أرادت به بعث خير ما في الحضارة العربية والإسلامية العقلانية من قسمات , كما أرادت أن تقاوم به وبحضارته و عقلانية ذلك الزحف الحضاري الذي أرادت به أوربا الاستعمارية سحق الشخصية العربية المسلمة قومياً وحضارياً. .                                  

المنهج النصوصي:
   يقول ابن القيم عن الإمام أحمد بن حنبل : إنه " إمام أهل السنة على الإطلاق . . . وإن أئمة الحديث والسنة , بعده , هم أتباعه إلى يوم القيامة . . ."(6) . . ولقد صاغ ابن حنبل منهج السلفية النصوص, الذي يأخذ الإسلام , أصولاً وفروعاً , من النصوص والمأثورات , وذلك في مواجهة منهج متكلمي المعتزلة الذين كان للعقل والتأويل شأن عظيم في المنهج الذي أخذوا بواسطة الإسلام . . ولقد بلغ من أتباع ابن حنبل للنصوص والمأثورات , ولها وحدها, إلى الحد الذي جعله لا يرجع , بالرأي أو العقل أو القياس , مأثورة على أخرى عندما تتعدد وتتضارب وتتعارض المأثورات في الأمر الواحد والقضية الواحدة , فكان يفتي بالحكمين المختلفين لأن لديه مأثورتين في الموضوع ! . . وبعبارة ابن القيم : "فإن الصحابة إذا اختلفوا على قولين جاء عن ابن حنبل في المسألة روايتان ! . . " (7) .
   أما أركان هذا المنهج النصوصي وأصوله , كما صاغها إمام السلفية , فهي خمسة , يذكرها ابن القيم بهذا الترتيب :
      "الأصل الأول: النصوص:  فإذا وجد النص أفتى به , ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه , كائنا من كان . . . ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملاً ولا رأياً ولا قياساً ولا قول صاحب ولا عدم علمه بالمخالف . .
   الأصل الثاني :ما أفتى به الصحابة : فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى , ولا يعرف له مخالف منهم فيها , لم يَعَّدُها إلى غيرها . . . ولم يقدم عليها عملاً ولا رأياً ولا قياساً . . .
   الأصل الثالث: إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة , ولم يخرج عن أقوالهم , فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف , ولم يجزم بقول . . .
   الأصل الرابع : الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف , إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه : وهو الذي رجّحه[الحديث الضعيف](8)ـ على القياس . .
   الأصل الخامس : القياس للضرورة : فإذا لم يكن عنده في المسألة نص , ولا قول الصحابة , أو واحد منهم , ولا أثر مرسل أو ضعيف , عدل إلى القياس , فاستعمله للضرورة . . ." .
   هذه هي الأصول الخمسة لمنهج ابن حنبل وهي تدور وتعتمد أولا وقبل كل شيء آخر , بل وأخير على النصوص والمأثورات , وتقف عند هذه النصوص والمأثورات , وتنكر استخدام الرأي والقياس , فضلاً عن العقلانية والتأويل , حتى في ترجيح نص على آخر من النصوص . . ولقد كان ابن حنبل يسمى "النص" : "الإمام" !. . وكما يقول ابن القيم , معقباً على أصول منهجه : فإنه " كان شديد الكراهة والمنع للإفتاء بمسألة ليس فيها عن السلف , ولقد قال لبعض أصحابه : إياك أن تتكلم في مسألة ليس فيها إمام !. . " (9) ويروى عنه ابنه عبد الله فيقول : "سمعت أبي يقول : الحديث الضعيف أحب إليّ من الرأي" . . وعندما سأله ابنه عبد الله " عن الرجل يكون ببلد لا يجيد فيه إلا صاحب حديث , ولا يعرف صحيحه من سقيمه , وأصحاب رأي . . فمن يستفتي ويسأل؟ قال : يسأل أصحاب الحديث ولا يسأل أصحاب الرأي, ضعيف الحديث أقوى من الرأي!. ."(10) .
   وانطلاقاً من هذا "المنهج النصوصي" , الذي لا يلتفت لغير المأثورات , رأت السلفية أن علماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم , منحصرون في النصوصيين , فهم قسمان : حفاظ الحديث , والفقهاء (11) . . . ورأت , كذلك , أن النصوص والمأثورات قد حوت كل شيء من أمور الدين والدنيا , وأن "الرسول قد بين كل شيء , وأنه قد توفى وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر للأمة منه علماً , وعلمهم كل شيء . . "(12) .
   والنصوص التي جعلها المنهج السلفي مصدراً وحيداً قد شملت إلى جانب الكتاب والسنة أقوال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم , فهم "الذين حازوا قصباً في السباق , واستولوا على الأمد , فلا طمع لأحد من الأمة بعدهم في اللحاق  . . . فأي خصلة خير لم يسبقوا إليها ؟ وأي خطة رشد لم يستولوا عليها ؟ . . .لقد أيدوا قواعد الإسلام فلم يدعوا لأحد بعدهم مقالاً (13). . . وكانت أفهامهم فوق أفهام جميع الأمة , وعلمهم بمقاصد نبيهم صلى الله عليه وسلم , وقواعد دينه وشرعه أتم من علم كل من جاء بعدهم . . ." (14).
   وبسبب من القداسة التي أضفاها المنهج السلفي على النصوص امتدت هذه القداسة للعصر الذي قيلت فيه تلك النصوص , وشاع في الحركة السلفية تعظيم الماضي , وزاد ذلك التعظيم كلما ازداد هذا الماضي إيغالاً في القدم واقتراباً من عصر صحابة الرسول , عليه الصلاة والسلام. . فكان أن قرروا " أن فتاوى الصحابة أولى أن يؤخذ بها من فتاوى التابعين , وفتاوى التابعين أولى من فتاوى تابعي التابعين, وهلم جرا . وكلما كان العهد بالرسول أقرب كان الصواب أغلب . . .فإن التفاوت بين علوم المتقدمين والمتأخرين كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والدين . . "(15).
   هكذا . . وعلى هذا النحو أضفت الحركة السلفية القداسة على النصوص والمأثورات , ووقف منهجها النصوصي عند هذه النصوص والمأثورات .. بل لقد وقف عند ظواهرها , عندما رفض أن يعمل فبها الرأي أو الاجتهاد أو التأويل أو القياس , حتى عندما كانت تتعارض وتتناقض نصوص هذه المأثورات ومضامينها !..
    ولقد روى أعلام الحركة السلفية إمامهم أحمد بن حنبل الكثير الذي يدعم المنهج النصوصي ويزكيه , وروورا عنه , كذلك , شعراً يقول فيه :
دين النبي محمد آثار       نعم المطية للفتى الأخبار
لا تخدعن عن الحديث وأهله             فالرأي ليل والحديث نهار
ولربما جهل الفتى طرق الهدى               والشمس طالعة لها أنوار
وروورا عن بعض أعلامهم أيضاً:
العلم : قال الله قال رسوله      قال الصحابة ليس خلف فيه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة      بين النصوص وبين رأي سفيه
كلا ولا نصب الخلاف جهالة      بين الرسول وبين رأي فقيه
كلا ولا ردّ" النصوص تعمداً حذراً من التجسيم والتشبيه
حاشا النصوص من الذي رميت به من فرقة التعطيل والتمويه(16)

النص لا الرأي:
   في أمور الدين ـ لا الدنيا ـ يكاد يتفق علماء الإسلام على أنه لا مجال " للرأي" أو الاجتهاد إذا ما وجدت النصوص , لكن من عدا السلفية يشترطون في هذه النصوص , وحتى يمتنع بوجودها الرأي والاجتهاد , يشترطون فيها أن تكون "قطعية الدلالة وقطعية الثبوت" , بمعنى أن تكون دلالتها واضحة وقاطعة , لا تقبل الاحتمالات , وأن يكون ثبوتها قطعيا , من حيث الرواية , والأكثرون يشترطون في النصوص الدالة على أمور اعتقادية أن تكون "متواترة", ولا يقبلون الإلزام في هذا الباب بأحاديث الآحاد . . أما إذا لم تكن النصوص "قطعية الدلالة ,قطعية الثبوت" فإنهم ـ غير السلفية ـ لا يرون وجودها مانعاً من إعمال الرأي فيها أو الاجتهاد معها . . فالاجتهاد مع النصوص , في الحالات , أمر وارد , بل ومقرر عند غير السلفيين من العلماء . .
   أما علماء السلفية فإنهم يرون في وجود النصوص والمأثورات مانعاً من أعمال الرأي فيها , وذلك بصرف النظر عن قطعية دلالتها وقطعية ثبوتها . .  ولقد سبق ورأينا إفتاء أحمد بن حنبل بوجوب التزام الحديث الضعيف , والامتناع عن "الرأي" عند وجوده , وإفتاء بالحكمين المختلفين في الأمر الواحد عند وجود نصين متعارضين فيه , ذلك دون إعمال" الرأي" في الموازنة بينهما والترجيح لأحدهما على الآخر . . والروايات في هذا الباب عن إمام السلفية كثيرة , فمحمد بن أحمد بن واصل المقري يقول : " سمعت أحمد بن حنبل ـ وقد سئل عن الرأي؟ فرفع صوته , وقال : لا يثبت شيء من الرأي , عليكم بالقرآن والحديث والآثار . . ." (17) .
   أما عندما لا يوجد نص أصلاً في الأمر يعرض للإنسان , وبعد أن يعرض الأمر على الكتاب , ثم السنة , ثم مأثورات الصحابة وأقضيتهم فلا يجد فيها نصاً , فإن الأخذ "بالرأي" هنا يجوز , يتفق في ذلك السلفيون مع غيرهم من العلماء . . لكن علماء السلفية يعودون فيقتربون بهذا "الرأي" من "النصوص و  المأثورات" , ذلك عندما يقدمون مرتبة " الرأي" "المروي" عن الذين شاهدوا التنزيل , أي "رأي الصحابة" , ثم "الرأي المفسر للنصوص", ثم "الرأي الذي تواطأت عليه الأمة , وتلقاه خلفهم عن سلفهم" على غيره . . ثم يعودون أيضا فيقررون أن هذا "الرأي" , في هذه الحالات , وبهذه الشروط , لا يفيد أكثر من "الظن"! , وأنه غير ملزم للآخرين , بل ومذموم ! . . وبعبارة ابن القيم : فإن الصحابة يخرجون الرأي عن العلم , ويذمونه, ويحذرون منه, وينهون عن الفتيا به , ومن اضطر منهم إليه أخبر أنه ظن , وانه ليس على ثقة منه ومن الشيطان , وأن الله ورسوله بريء منه , وأن غايته أن يسوغ الأخذ به عند الضرورة  من غير لزوم لأتباعه والعمل به . . .".
   ذلك موقفهم من "الرأي" .. جاء متسقاً مع منهجهم النصوصي , الذي ينحي العقل جانباً طالما وجدت النصوص والمأثورات .  
النص . . لا القياس :
   وفي الموقف من "القياس" نجد السلفية يقبلون جوانب يعدها غيهم من القياس , لكنهم يخرجونها من إطاره . . كما نجدهم يحددون للمقبول منه شروطاً تضيق منه نطاقه إلى حد كبير . . ثم ينظرون إليه نظرتهم إلى "الرأي" في حضرة النصوص! . .

   فإذا كان المراد بالقياس : "رد الشيء إلى نظيره " قبلوه , شريطة أن يكون التماثل بينهما تاماً ومن كل الوجوه . . وبعبارة الإمام أحمد : فإن " القياس : أن يقاس الشيء على الشيء إذا كان مثله في كل أحواله , فأما إذا أشبهه في حال وخالفه في حال فأردت أن تقيس عليه فهذا خطأ. . " . . كما يقبلون رد الفروع إلى أصولها , وإن لم يعدوها ـ على خلاف الآخرين ـ قولاً بالرأي (17). . أما إذا أريد بالقياس : " المعنى المستنبط من النص لتعديه الحكم من المنصوص عليه إلى غيره " فإنه عندهم غير مقبول . . وهذا الذي لم يقبلوه من أنواع القياس هو الميدان الأوسع والأساس للقياس عند غير السلفيين من العلماء !. .
   وهذا الموقف الذي وقفه السلفيون من القياس هو الآخر أثر من آثار منهجهم النصوصي . . فهم تبعا لهذا المنهج , قد رأوا أن النصوص والمأثورات قد أحاطت بحكم جميع الحوادث , الماضي منها والحاضر والمستقبل , ومن ثم فلا حاجة للقياس , كما أنه لا حاجة للرأي , لأن النص إذا وجد ـ وهو في رأيهم موجود ـ فلا مكان للقياس . . ولقد عرض ابن القيم لموقف الفرق الإسلامية من إحاطة النصوص بحكم جميع الحوادث , وتحدث عن انقسام هذه الفرق , في هذه القضية إلى معسكرات ثلاثة , أنكر أولها إحاطة النصوص بأحكام الحوادث , بل ولا بعثر معشارها . . ومن ثم قرر أن الحاجة إلى القياس تفوق الحاجة إلى النصوص . . . وقابل هذه المعسكر القائلون ببطلان كل قياس , وتحريمه جلياً كان هذا القياس أو خفياً .. وهم لذلك أنكروا وجود الحكمة أو العلة في التشريع . . . أما المعسكر الثالث ـ وهم الأشعرية ـ فقد نفوا الحكمة والعلة والسببية , ومع ذلك أقروا بالقياس . . .
   وبعد أن يعرض ابن القيم لأراء هذه الفرق الثلاث في القياس , يقرر أن للسلفية موقفا متميزاً . . فهم يؤمنون بإحاطة النصوص بأحكام جميع الحوادث , ومع ذلك يقولون بالقياس " الصحيح " !. . وحتى يفهم جمعه بين هذين الأمرين , نقول أنه يجيز استعمال القياس "الصحيح" , أي الذي يكون الشبه فيه تاماً بين المقيس و المقيس عليه , عندما تخفى دلالة النص على العالم . . فالنص موجود , لكن خفاء دلالته يبيح للعالم القياس , فإذا فهم النص واتضحت موافقة القياس له كان صحيحاً , لأن العمدة هنا هو النص , وإن ظهر خلاف القياس مع النص كان فاسداً , لأن العمدة هو النص باستمرار . . وعبارته التي صاغ فيها مذهب السلفية هذا تقول : " الصواب وراء ما عليه الفرق الثلاث , وهو : أن النصوص محيطة بأحكام الحوادث , ولم يُحلْنَا الله ولا رسوله على رأي ولا قياس , بل قد بين الحكام كلها , والنصوص كافية وافية بها , والقياس الصحيح حق مطابق للنصوص , فهما دليلان للكتاب والميزان , وقد تخفى دلالة النص أو لا تبلغ العالم فيعدل إلى القياس , ثم قد يظهر موافقاً للنص فيكون قياسا صحيحاً , وقد يظهر مخالفاً له فيكون فاسداً , وفي نفس الأمر لا بد من موافقته أو مخالفته , ولكن عند المجتهد قد تخفى موافقته أو مخالفته . . . إننا نقول قولاً ندين الله به , ونحمد الله على توفيقنا له , ونسأله الثبات عليه : إن الشريعة لم تحوجنا إلى قياس قط , وإن فيها غنية عن كل رأي وقياس وسياسة واستحسان , ولكن ذلك مشروط بفهم يؤتيه الله عبده فيها " . . .
   بل لقد عقد في كتابه [أعلام الموقعين] فصولا ثلاثة , اعتبرها " من أهم فصول الكتاب" وجعل عناوينها :
*[الفصل الأول: في بيان شمول النصوص للأحكام , والاكتفاء بها عن الرأي والقياس].
[الفصل الثاني : في سقوط الرأي والاجتهاد والقياس , وبطلانه مع وجود النص].
[الفصل الثالث: في بيان أن أحكام الشرع كلها على وفق القياس الصحيح , وليس فيما جاء به الرسول حكم يخالف الميزان والقياس الصحيح] (18).. هذا هو موقف المنهج النصوصي , للسلفية , من القياس .
النص . . لا التأويل . . ولا الذوق . . ولا العقل . . ولا السببية :  
   واتساقاً مع منهج السلفية النصوصي رفضوا " التأويل " ـ الذي هو : صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله(19) . . . بل ذهبوا إلى أن التأويل هو الذي أفسد سائر الأديان , وحولها عن الاستقامة والسداد (20) . .
   وكذلك رفضوا "ذوق" الصوفية و "وجدهم" , لأنها أمور ذاتية تختلف باختلاف أهواء صاحبها وما يحبه ويهواه , واستنكروا تقسيم الصوفية الأمور إلى "شريعة" لغيرهم ,"حقيقة" لهم , جعلوا سبيلها الرياضة والسلوك , غير المقيد بأمر الشارع ونهيه , إكتفاء" بالذوق والوجد" , , لأن النصوص هي مصدر الأمر والنهي الإلهيين(21) ..  
   كما رفضوا ما يسميه المتكلمون "حقائق عقلية" لم تشهد عليها السمعيات .. وعرضوا وهم يناقشون هذه القضية للموقف من العقل , فلم ينكروه لأن السمعيات قد تحدثت عنه " وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ"(22)" إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ"(23) "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا"(24) .. ولكنهم أنكروا "العقل" كما تصوره الفلاسفة اليونان, ومن نحا نحوهم من علماء الإسلام وفلاسفته , وهو التصور الذي يجعل " العقل عندهم جوهراً قائماً بنفسه " , وقالوا : إن "العقل" لا يعدو : " الغريزة التي جعلها الله في الإنسان يعقل بها " .
   وهذا الخلاف حول "العقل" . . هل هو جوهر قائم بنفسه , أم مجرد " غريزة جعلها الله في الإنسان " ليس خلافاً شكلياً ولا هيناً , ذلك أن القول بأنه جوهر قائم بنفسه يجعله أداة تدرك كنه الأشياء وإن لم ترد فيها نصوص ولا مأثورات , وأما إذا كان مجرد غريزة جعلها الله في الإنسان يعقل بها فإن هذا التصور له يوحي بعدم استقلاله بالإدراك , كسبب أول لهذا الإدراك . . . ويزكي هذا التفسير أن السلفية يحكمون بالضعف أو الوضع على كل " ما ورد في فضل العقل من الأحاديث !" (25) . . فنحن هنا بإزاء موقف يغضّ من شأن العقل لحساب النصوص والسمعيات . . وهذا الموقف الذي تتخذه السلفية من العقل لا يوافقهم عليه الكثيرون من فرق الإسلام وعلمائه , هؤلاء العلماء الذين لم يمنعهم الخلاف حول تقديرهم لسلطان العقل بإزاء السمعيات , ولا اختلافهم في تعريف العقل من تجريح تعريفه القائل :"إنه جوهر مجرد, يدرك الغائبات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة. ."(26) .
   أما السببية . . فإن السلفية تتخذ منها موقفاً وسطاً ـ أو يبدو كذلك ـ .. ففي رأي ابن القيم أن الناس قد افترقوا بإزاء الأسباب والسببية إلى طرق ثلاث . . فقوم أنكروا السببية على الإطلاق , وقالوا إن الله سبحانه , هو السبب الأوحد لوجود المسببات . . . وقوم أثبتوا السببية , وقالوا بلزوم المسببات عن أسبابها لزوم المعلول عن العلة , دائماً وأبداً , دون تخلف , وهؤلاء هم "الطبائعية والمنجمون والدهرية" . . . والفريق الثالث , وهم السلفية اعترفوا بالأسباب  وبفعلها في المسببات , لكن ليس على وجه الاستقلال بالفعل , لأن المسبب , عندهم , يظل دائماً و أبداً محتاجاً , كي يفعل المسبب , إلى سبب آخر, والسبب الذي يفعل دون حاجة إلى سبب غيره هو الله سبحانه (27) . . . "فما شاء كان , وإن لم يشأ الناس , وما شاء الناس لا يكون إلا ما يشاء الله . . . والله وإن كان قد خلق ما خلقه لأسباب , فهو خالق السبب والمقدر له , والسبب مفتقر إليه كافتقار المسبب , وليس في المخلوقات سبب مستقل بفعل خير ولا دفع ضر , بل كل ما هو سبب فهو محتاج إلى سبب آخر يعاونه , وإلى ما يدفع عنه الضرر الذي يعارضه ويمانع , وهو , سبحانه , وحده الغني عن كل ما سواه . . ." (28) .
  ومن يمعن النظر في هذا الموقف , الذي حسبه السلفية طريقا ثالثاً بين منكري السببية بإطلاق ومثبتيها بإطلاق , يجده شديد الشبه بموقف الذين ينكرونها , لأن الأسباب إذا لم تستقل بالفعل لم تكن فاعلة على التحقيق , ومن ثم لم تكن أسباباً للمسببات , والقول بأنها مستقلة بالفعل لا يتعارض مع أنها , كغيرها , مخلوقة لله , فمثلها كمثل القوانين والسنن في الكون , برأها الله لتفعل هي أفعالها دون تبديل . . .ولكنه المنهج النصوصي الذي اختارته السلفية , واتسقت مع معطياته وهي تنظر في مختلف المجالات . .
ــــــــــــــــــــــــ
(1)              [أعلام الموقعين] ج1ص137. طبعة بيروت سنة1973م .
(2)              [عقائد السلف] ص11,12 للأئمة احمد بن حنبل , والبخاري , وابن قتيبة, وعثمان الدرامي . جمعها ونشرها :د . علي سامي النشار, د .عمار الطالبي . طبعة الإسكندرية سنة1971م .
(3)              أعلام الموقعين .ج1ص49.
(4)              ابن تيمية [العبودية] رسالة منشورة [مجموعة التوحيد] ص645 . طبعة دار الفكر ـ بيروت ـ مصورة عن طبعة المكتبة السلفية بالمدينة المنورة .
(5)              انظر المصدر السابق ـ [رسالة العبودية] ص560,561 ورسالة [الواسطة بين الحق والخلق] ص148 .
(6)              أعلام الموقعين . ج1ص28.
(7)              المصدر السابق ج1ص29.
(8)              الحديث الضعيف ـ عند ابن حنبل ـ كما يقول ابن القيم ـ هو المقابل للصحيح , وقسم من أقسام الحديث الحسن , فهو ليس الضعيف الذي تعارف عليه المتأخرون من علماء الحديث.
(9)              أعلام الموقعين . ج1ص 29 ـ33.
(10)         المصدر السابق ج1 ص76,77.
(11)         المصدر السابق ج1ص8,9
(12)         المصدر السابق ج4ص375.
(13)         المصدر السابق ج1ص5,6.
(14)         ابن القيم [الطرق الحكمية في السياسة الشرعية]ص178 , تحقيق د محمد جميل غازي .طبعة سنة 1977م .
(15)         أعلام الموقعين . ج4 ص118 .
(16)         أعلام الموقعين . ج1 ص79.
(17)         المصدر السابق .ج1ص269,053.
(18)         المصدر السابق ج1ص 333ـ 337, 267,268,350.
(19)         أنظر [التعريفات] للشريف الجرجاني . طبعة القاهرة 1938م.
(20)         أعلام الموقعين .ج4ص 250.
(21)         ابن تيمية [رسالة العبودية] ص567, 568ـ ضمن [مجموعة التوحيد] .
(22)         تبارك :10.
(23)         الرعد:4.
(24)         الحج:46.
(25)         ابن تيمية : [العبودية] ص 568 و [الفرقان بين أولياء الحمن وأولياء الشيطان] ص776, 737 ضمن [مجموعة التوحيد] .
(26)         [التعريفات] للجرجاني.
(27)         اعلام الموقعين ج299,298 .
(28)         ابن تيمية [الواسطة بين الحق والخلق] ص149,148. و[العبودية]ص606,605, ضمن مجموعة التوحيد


السـلـفـيـة
د/ محمد عمارة
النصوص وحدها مصدر الحلال والحرام :
   ومن إيجابيات المنهج النصوصي للحركة السلفية تضييق دائرة "الحرام والحلال" , بقصورها على الأمور الدينية التي وردت فيها النصوص والمأثورات , وذلك على عكس الذين توسعوا في هذا الباب , متخذين الراي والقياس , بل والشهوات وسيلة لإحراج الناس والتضييق عليهم , عندما مدوا نطاق "الحل والحرمة" إلى ما وراء أمور الدين التي نص الشارع على حلها أو حرمها. . والسلفيون يميزون , هنا بين حكم البشر وبين حكم الله ورسوله . . فحكم الله ورسوله , القائم في النصوص , هو الذي يندرج تحت "الحل والحرمة والوجوب والكراهة الدينية " , أما ما عدا ذلك من أحكام البشر , في الأمور التي لم يرد فيها نص فإنها تدخل في باب النافع أو الضار , وما ينبغي وما لا ينبغي , وما يحسن وما لا يحسن . . ومن أدخلها في نطاق الحلال والحرام فقد ادعى لنفسه سلطان الله ! . . وفي نص واضح وحاسم وشامل يقول ابن القيم : إنه " لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله بأنه أحل كذا أو كذا أو حرمه أو أوجبه أو كرهه إلا لما يعلم أن الأمر فيه كذلك مما نص الله ورسوله على إباحته أو تحريمه أو إيجابه أو كراهته , أمّا ما وجده في كتابه الذي تلقاه عمن قلده دينه فليس له أن يشهد على الله ورسوله به , ويغرّ الناس بذلك , ولا علم له بحكم الله ورسوله . قال غير واحد من السلف : ليحذر أحدكم أن يقول : أحل الله كذا , أو حرم الله كذا , فيقول الله له : كذبت : لم أحل كذا , ولم أحرمه . وثبت في صحيح مسلم من حديث بريدة بن الحصيب أن رسول الله قال : " وإذا حاصرت حصناً فسألوك أن تنزلهم على حكم الله ورسوله , فلا تنزلهم على حكم الله ورسوله ,فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا , ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك " . . . فتأمل كيف فرق بين حكم الله وحكم الأمير المجتهد , ونهى أن يسمي حكم المجتهدين حكم الله . . ومن هذا لما كتب الكاتب بين يدي عمر بن الخطاب حكماً حكم به فقال : هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر , فقال : لا تقل هكذا , وكن قل : هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب . وقال ابن وهب : سمعت مالكاً يقول : لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحداً اقتدى به يقول في شيء : هذا حلال , وهذا حرام , وما كانوا يجترئون على ذلك , إنما كانوا يقولون : نكره كذا , ونرى هذا حسناً , فينبغي هذا ولا نرى هذا . . ولا يقولون حلال ولا حرام , ما سمعت قول الله تعالى : "قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ؟" (1) الحلال : ما أحله الله ورسوله , والحرام : ما حرمه الله ورسوله . . . وسمعت شيخ الإسلام (2) يقول : حضرت مجلساً فيه القضاة وغيرهم , فجرت حكومة حكم فيها أحدهم بقول زفر(3) , فقلت له ما هذه الحكومة؟ فقال : هذا حكم الله , فقلت له : صار حكم زفر هو حكم الله الذي حكم به وألزم به الأمة ؟ قل هذا حكم زفر ولا تقل هذا حكم الله . . "(4) .
   ولابن تيمية نص آخر يعلل فيه الموقف السلفي , النابع من منهجهم النصوصي , يقول فيه : " . . والأصل في هذا أنه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه , كما يشرع لهم من العبادات التي يتقربون بها إلى الله إلا ما دل الكتاب والسنة على شرعه , إذ الدين ما شرعه الله , والحرام ما حرمه الله , بخلاف الذين ذمهم الله حيث حرموا من دون الله ما لم يحرمه الله , وأشركوا به ما لم ينزل به سلطاناً , شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله . . "(5) .
ونحن إذا قارنا هذا الموقف السلفي , الذي يميز بين حكم الله وحكم المجتهدين من الناس , بموقف أولئك الذين يجعلون فتاواهم , فيما لا نص فيه , قسماً من أقسام الحلال والحرام ,  أي ديناً وشرعاً , وجدنا الموقف السلفي يرفع الكثير من الحرج عن الناس عندما يترك ما لم يرد فيه نص بعيداً عن ميدان الحل والحرمة , على حين يضيق الآخرون على الناس بإدخالهم جميع المعاملات الإنسانية في إطار الحلال أو الحرام !. .
تناقض :
   لكننا إذا تتبعنا مدى التزام أعلام الحركة السلفية بمنهجهم النصوصي هذا , لم نعدم رؤية شيء من التناقض وقعوا فيه , وابتعدت آراءهم في مواضعه عن الاتساق مع منهجهم النصوصي .. ذلك أن من آراء الحركة السلفية الجيدة والمتقدمة رأيها في "تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد " وهم يصفون هذا المبدأ بأنه" عظيم النفع جداً" , كما أنهم قد أسسوه على أن " الشريعة مبنية على مصالح العباد في المعاش والمعاد . . . فمبناها وأساسها على الحِكَم , وهي عدل كلها , ورحمة كلها , ومصالح كلها, وحكمة كلها . . ."(6) .
   وهم كذلك يؤسسون العلم الضروري للحاكم ـ[القاضي] ـ على نوعين من الفقه : فقه الواقع الذي يعيشه الناس . . .وفقه النصوص الواردة في المشكلات التي يرفعها إليه المتحاكمون . . ويجعلون القضاء : مطابقة الواجب من النصوص على أحكام العرف والواقع والحوادث . . بل ويرون أن معرفة الواقع والتفقه فيه هو المنطلق إلى معرفة حكم الله ورسوله في هذا الواقع "فههنا نوعان من الفقه, لا بد للحاكم منهما : فقه في أحكام الحوادث الكلية , وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس . . ثم يطابق بين هذا وهذا , فيعطي الواقع حكمه من الواجب , ولا يجعل الواجب مخالفاً للواقع(7). . . فالمفتي والحاكم ـ[القاضي]ـ والعالم : من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله . . ."(8).
   ولما كان هذا الواقع متغيراً متطوراً كانت الفتاوي والأحكام متغيرة متطورة هي الأخرى , لأن تغير الواقع يستلزم تغير المصالح , وهي التي مبنى الشريعة الإسلامية . . . ولقد ضرب أعلام السلفية العديد من الأمثلة على أمور تغيرت فيها الفتاوي والأحكام بتغير الأزمنة والأمكنة واختلاف المصالح . . .
  • فالقرآن والسنة قررا الحد على السارق . . . لكن عام الرمادة جعل عمر بن الخطاب "يرى" إسقاط القطع عن السارق .
  • والقرآن والسنة النبوية ـ القولية والعملية ـ جعلت الطلاق بلفظ الثلاث طلقة واحدة , وجاء الإجماع فصدق على النصوص من أبي بكر وسنتين من خلافة عمر . . . ثم "رأى" عمر بن الخطاب أن يغير الفتوى والحكم فجعله ثلاثاً . . . أي أننا بإزاء حكم "دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم , ولم يأت بعده إجماع يبطله , ولكن "رأى" أمير المؤمنين عمر أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق , وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة , "فرأى" من "المصلحة" عقوبتهم بإمضائه عليهم ..."(9).
  • الإماء وأمهات الأولاد : كن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم . . فهذا البيع مقرر كسنة . . فلما كانت خلافة عمر بن الخطاب " منع بيع أمهات الأولاد . . وكان ذلك "رأياً" منه رآه للأمة . . ."(10) .
  • . . . الخ . . . الخ . . . . 
فنحن , إذن , بإزاء أحكام قررتها نصوص, من القرآن والسنة معاً , أو من السنة وحدها , أو من القرآن والسنة والقياس والإجماع و سواء في العهد النبوي أو عهد الخلفاء . . . ثم تغير الواقع , فتغيرت المصالح , فجاء "الرأي" فغير الأحكام . . . هكذا حكى أعلام السلفية , من أحمد بن حنبل إلى ابن القيم . . . وعلى أساس هذه الوقائع قرروا أن "الفتاوي والأحكام تتغير وتختلف بحب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد " . . . بل لقد جعل ابن القيم من العبارة عنوان فصل عقده لهذا الموضوع , ووصفه بأنه " فصل عظيم النفع جداً "(11) . . . وهنا . . وعند هذا الموقع من التأمل والنظر , نسأل :
  • ألا يتناقض هذا الذي سلم به السلفيون , بل قرروه , وعقدوا له الفصول في آثارهم الفكرية , ألا يتناقض مع منهجهم النصوصي , الذي يحرم "الرأي" عندما يوجد النص , حتى ولو كان ذلك النص حديثاً ضعيفاً؟! . .
إننا نرى التناقض واضحاً وجلياً . . . ذلك أن القول بتطور الواقع وتغيره ـ وهي حقيقة ـ . . وبتغير المصالح تبعاً لتغير الواقع وتطوره ـ وهي حقيقة ثانية ـ . . . ثم القبول بتغير الأحكام والفتاوي "بالرأي" , بسبب هذه المتغيرات , رغم وجود النصوص والمأثورات . . . إن القول بذلك إنما يهز ثبات العموم والإطلاق الذين قررهما المنهج السلفي لسلطان النصوص والمأثورات !. .
   وحتى إذا سلمنا بأن هذه الأسئلة , التي غير فيها "الرأي" أحكاماً تقررت من قبل بالنصوص , هي من "السياسات الجزئية" , وليست من "الشرائع الكلية التي تتغير بتغير الأزمنة" فإن العموم والإطلاق اللذين يضفيهما المنهج على النصوص سيهتز ثباتهما بالتأكيد . . . ولعل ابن القيم قد شعر بهذا التناقض فقال :"والمقصود أن هذا وأمثاله سياسة جزئية , بحسب المصلحة , تختلف باختلاف الأزمنة , فظنها من ظنها شرائع عامة لازمة للأمة إلى يوم القيامة . وهذه السياسة التي ساسوا بها الأمة , وأضعافها , هي تأويل القرآن والسنة . ولكن : هل هي من الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة ؟ أو من السياسات الجزئية التابعة للمصالح , فتتقيد بها زماناً ومكاناً؟ . . . إن أضعاف هذه المسائل مما جرى العمل فيه على العرف والعادة . . ."(12) . . . ونحن نتفق معه في أن كل ما ارتبط بالمصالح فالتغيير فيه , بواسطة "الرأي" , بل وبواسطة "التأويل" ـ كما قال هو ـ أمر وارد ومقرر , رغم وجود النصوص والمأثورات . . . وبعد ذلك لنا أن نسأل : إذا كان هذا التغيير في الأحكام قد امتد إلى الحدود ـ حد السرقة وحد الخمر ـ فهل هما من السياسات الجزئية ؟ . . وما هي , إذن , الشرائع الكلية ؟ . . . وفي رأينا أن الأوفق هو النأي "بالعقائد والثوابت" عن التغير تبعاً للزمان والمكان , وما عداها , مما يرتبط بالمصالح من الشرائع والسياسات , فإن "للرأي" فيه مجالاً , تبعاً للواقع والمصلحة , حتى مع وجود النصوص والمأثورات . . فكما يجب التمييز بين شرائع وسياسات ترتبط بالمصالح , وتتغير بتغيرها , وأخرى ثابتة لا تتغير , كذلك يجب التمييز بين نصوص "العقائد والثوابت" ونصوص المتغيرات ! . .
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1)                يونس :59.
(2)              أي ابن تيمية , شيخ ابن القيم .
(3)              زفر بن الهذيل [110ـ 158هـ 728ـ 775م] فقيه كبير , من أصحاب أبي حنيفة , أسهم إسهاماً ملحوظا في تدوين الكتب .
(4)              إعلام الموقعين . ج4 ً176,175 . ج 1 ص 39.
(5)              [السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية] ص180, طبعة القاهرة سنة 1971 م.
(6)              أعلام الموقعين . ج3ص3.
(7)              الطرق الحكمية ص130,5.
(8)              أعلام الموقعين .ج1ص 87, 88.
(9)              المصدر السابق ج3ص 10ـ12 , 30ـ 35 , 36, 41 . والطرق الحكمية ص 23.
(10)         الطرق الحكمية . ص24 .
(11)         أعلام الموقعين .ج3ص 3.
(12)         الطرق الحكمية . ص33,26,25 .


د/ محمد عمارة

 

ليست هناك تعليقات: