الثلاثاء، 12 مارس 2013

من الواقع التاريخي في الإسلام(2)


كتبهامصطفى الكومي ، في 6 أكتوبر 2010 الساعة: 10:28 ص

العدالة الاجتماعية في الإسلام
الشهيد سيد قطب
من الواقع التاريخي في الإسلام(2)
وبعد فلعل مما يتصل بالمساواة الإنسانية والتحرر الوجداني والعدالة المطلقة أن نتحدث عن الواقع التاريخي في معاملة البلاد المفتوحة , والطوائف غير الإسلامية في بلاد الإسلام .
فهذا لون من المساواة والعدل يتجاوز الأفراد إلى الجماعات ؛ ويتجاوز حدود الإسلام إلى حدود الإنسان .
عن الحديث عن البلاد المفتوحة ليسوقنا إلى الحديث عن طبيعة الفتح الإسلامي وأسبابه وغاياته . وهو مبحث طويل . نجتزئ منه بالقليل الذي لا بد منه , والذي له علاقة وثيقة بالعدالة الاجتماعية في محيطها الإنساني .
لقد قامت دعوة الإسلام على مخاطبة العقل والضمير والوجدان ؛ وتجردت من وسائل القهر , حتى القهر المعنوي بالخوارق المعجزة التي صاحبت الأديان الأولى ؛ فالإسلام هو الدين الذي احترم القوى المدركة الشاعرة في الإنسان , فاكتفى بخطابها بلا قهر ولا إعجاز بخوارق الطبيعة , فمن باب أولى ألا يجعل القهر المادي بالسيف أداة من أدواته .. " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ .." (البقرة256).." ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.." (النحل125) ولكن قريشاً وقفت أول الأمر بالقوة المادية في طريق الدين الجديد ؛ آذت من شرح الله صدره للإسلام ؛ وشردت المسملين القلائل من أرضهم وديارهم وأبنائهم ؛ وتآمرت عليهم أن تقاطعهم في الشُعُب حتى يهلكوا جوعاً ؛ ولم تدع وسيلة من وسائل القوة المادية إلا استخدمتها للصد عن هذا الدين فلم يكن بد أن يدفع الإسلام عن نفسه , وأن يرد هذا الظلم عن أهله"أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ "(الحج39).."وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ "(البقرة190).
ثم خلصت جزيرة العرب للإسلام , فامتدت الفتوح إلى ما وراء الجزيرة . ففيم كانت هذه الفتوح ؟
إن الإسلام كما أسلفنا عقيدة عالمية , ودين عام ؛ فهو لا يحصر نفسه في حدود الجزيرة , إنما يريد أن يفيض على الإنسانية كلها في جميع أقطارها . ولكنه يجد أمامه قوة الدولة في إمبراطوريتي كسرى وقيصر المتاخمتين له , تقف له بالمرصاد ؛ فلا تسمح لدعاته أن ينتشروا في الأرض , ليكشفوا للناس عن حقيقة هذا الدين . ولا بد له أن يزيل هذه القوة ـ قوة الدولة ـ ويقيم مكانها النظام الإسلامي القائم على عبودية الناس لله وحده , وخروجهم من العبودية للعباد , ليخلي بين الهدي والناس , وليسمع كلمته الخالصة ؛ فمن شاء استمع إليها وهو حر الإرادة ؛ ومن شاء أعرض عنها وهو مالك لأمر نفسه , بعد أن تزول قوة الدولة المادية من الطريق . وبعد أن تصبح الدينونة لله وحده ـبسيادة شريعته ونظامه ـ ولا تكون لأحد من العباد . وهذا معنى أن يكون " الدين" كله لله حسب التعبير القرآني الكريم :" وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ .."(الأنفال39) فالدين هنا الدينونة . والمقصود به أن تكون حاكمية الله وحدها التي يدين لها الناس , وأن يخرجوا من حاكمية العباد ثم يختاروا عقيدتهم بلا إكراه …
هذه الفتوح الإسلامية إذن لم تكن غزواً للشعوب بالقوة ؛ ولا استعماراً للاستغلال الاقتصادي على نسق الاستعمار في القرون الأخيرة . إنما كانت إزالة للقوة المادية للدولة التي تحول دون الشعوب ودون العقيدة الجديدة كانت غزواً روحياً للشعوب , وغزواً مادياً للحكومات التي تقهر هذه الشعوب , وتصدها عن الدين الجديد بالقوة المادية والجبروت , وتخضعها للمتألهين من الحكام .
وتبعاً لحقيقة أن الإسلام دين للبشر كافة وأنه لا يعتمد على القهر المادي , وإنما وضع شعوب الدنيا أمام ثلاث طرق , لكل أن يسلك إحداها : الإسلام أو الجزية أو القتال .
فأما الإسلام , فلأنه الهدى ولأنه التصور الجديد الكامل عن الألوهية والكون والحياة والإنسان ؛ وهو المجاز الذي يعبره غير المسلم , فإذا هو منذ اللحظة الأولى أخ لجميع المسلمين , له ما لهم ولهم وعليه ما عليهم , ولا يرتفعون عليه بحسب أو نسب أو مال أو جاه , ولا يختلف عنهم بجنس أو لون أو أمة أو عشيرة .
وأما الجزية , فلأن الفرد المسلم يؤدي ضريبة الدم لحماية الدولة ؛ ثم يؤدي للدولة الزكاة لحماية المجتمع . والفرد غير المسلم يتمتع بالأمن في ظل الدولة الإسلامية , وبالحماية الداخلية والخارجية , وبسائر المرافق التي تهيئها الدولة للسكان , وكما يتمتع بالضمان الاجتماعي عند العجز والشيخوخة . فيجب عدلاً أن يساهم في هذا كله بالمال . ولما كانت الزكاة عبادة إسلامية فوق أنها فريضة مالية , فإن الإسلام ـ زيادة في حساسيته تجاه الذين لا يعتنقونه ـ لم يشأ أن يرغمهم على أداء عبادة إسلامية , فأخذ منهم الفريضة المالية في صورة جزية , لا في صورة زكاة , منظوراً في تقديرها إلى ضريبة الدم التي لا يؤديها إلا المسلمون . وهذا ما يهدف إليه الإسلام .
وأما القتال ؛ فلأن إباء الإسلام والجزية دليل على الإصرار الواضح على الحيلولة دون الإسلام وأفكار الناس . فيجب إذن أن يزال هذا الإصرار المادي بالقوة المادية , لأن هذا هو الطريق الوحيد الأخير .
ولقد حقق الإسلام أهدافه كاملة في البلاد المغزوة ؛ فكفل لأهلها المساواة المطلقة بأهل الجزيرة في حالة الإسلام ؛ وكفل لهم حقوق الإنسان الكريمة في حالة دفع الجزية ؛ وكفل لهم معاملة الإنسانية العادلة في حالة القتال .
وأقر الإسلام بعض حكام البلاد المفتوحة على حكمها إذ صاروا من المسلمين .فهذا "بازان" الفارسي يقره أبو بكر على حكم اليمن . وهذا "فيروز" يقيمه حاكماً على صنعاء , فلما أجلاه عنها قيس بن عبد يغوث العربي , رده إليها أبو بكر منتصراً للمسلم الفارسي على المسلم العربي !
كذلك أقر الحكام المسلمون كثيراً من الموظفين في بلادهم المفتوحة على وظائفهم التي هي دون الولاية , ممن بقوا على دينهم ولم يسلموا , وأخلصوا في العمل للصالح العام .
ومع أن نصوص الإسلام تبيح للفاتحين أن يستأثروا بكل ما يملك المحاربون الذين يأبون الإسلام والجزية ويقاتلون المسلمين , فإن عمر بن الخطاب حين فتحت فارس على أيامه تصرف بما أملته عليه روح الإسلام , فاستبقى الأرض لأهلها وفرض عليها الخراج , مراعياً في ذلك مصلحتين : مصلحة أهل البلاد المفتوحة ـ ولو أنهم قاتلوا المسلمين ـ لتبقى لهم وسيلة ارتزاقهم وعملهم ؛ ومصلحة الأجيال من المسلمين ؛ فلا يستأثر بالأرض دونهم الفاتحين في جيل واحد ؛ بل يؤخذ منها الخراج فينفق في مقبل الأجيال على المصالح العامة ؛ وينال منه المستحقون بقدر ما يستحقون في الزمن الطويل .
وهناك ظاهرة واضحة في معاملة الإسلام للبلاد المفتوحة . فلقد عاملها على الأساس الإنساني الكريم ؛ فأباح لها كل ما فيه من خير ؛ وأتاح لها التمتع بمزاياه جميعاً دون قيد ولا شرط ؛ بل دعاها بكافة الوسائل إلى الانتفاع بذلك الخير والتمتع بهذه المزايا . ولم يقم حاجزاً من اللون أو الجنس أو الدين أو اللغة أمام أحد ؛ فاستطاع الجميع أن يبذلوا نشاطهم الطبيعي لخير الجميع وقد أسلفنا كيف نبغ الموالي وأبناء البلاد المفتوحة في خاصة ما يختص بالإسلام وهو الفقه والحديث ؛ فلم يكن مرفق من مرافق الحياة العامة موقوفاً على أبناء الجزيرة الفاتحين ؛ حتى الولاية العامة كانت من نصيب بعضهم في بعض الأحيان . كما أن أموال كل بلد كانت تنفق في مصالحه أولاً ؛ فلا يرسل إلى بيت المال إلا ما فضل منها . فلم تكن البلاد المفتوحة مستعمرة يعيش الفاتحون من دماء أهلها وأموالهم .
مما يتصل بهذه الظاهرة الواضحة تلك الحرية التي كفلها الإسلام لأهل البلاد المفتوحة في مزاولة شعائرهم الدينية ؛ وهذه الحماية التي فرضها لبِيَعهم وكنائسهم ومعابدهم وأحبارهم ورهبانهم ؛ وهذا الوفاء بالعهود المقطوعة لهم وفاء نادر المثال لم تعرفه الإنسانية في معاملاتها الدولية في القديم أو الحديث . وما تزال تقاليد الإسلام إلى اليوم عاملة في هذا المجال .
وإن الإسلام ليبدو فارعاً سامقاً رفيعاً كريماً في واقعه التاريخي في جميع العصور , حينما تقاس إليه الحضارة الغربية القائمة , وما تصنعه بالبلاد التي يوقعها سوء الطالع في أوهاق الاستعمار , حيث يحال بين هذه البلاد وبين المزايا الحقيقية للحضارة الغربية في التربية والتعليم , وفي الاقتصاد والتعمير , كي تبقى أطول أمد ممكن بقرة حلوباً للمستعمرين . وذلك فوق الإذلال لكل كرامة إنسانية , فردية أو جماعية ؛ وفوق الفساد الخلقي الذي ينشر عن قصد وسوء نية ؛ وفوق الفتن الحزبية والطائفية التي تبذر بذورها ويتعهد غرسها ؛ وفوق سائر ألوان اللصوصية والنهب والسلب للأفراد والجماعات والشعوب . فأما الحرية الدينية التي يتشدق بها بعضهم في هذا الزمان , فقد سبقتها فظائع محاكم التفتيش في الأندلس , وفظائع الحروب الصليبية في الشرق . وما تزال هذه الحرية الدينية شكلية . فقد كان المبشرون المسيحيون في السودان الجنوبي إلى عهد قريب جداً تجند لهم كل قوى الدولة , بينما يحظر دخول المسلمين حتى للتجارة , وهذا "اللنبي" القائد الإنجليزي في الحرب العظمى الماضية يعبر عن نفس كل أوربي وهو يدخل بيت المقدس فيقول :"الآن انتهت الحروب الصليبية" . وهذا الجنرال كاترو الفرنسي يقف في دمشق في ثورتها الأخيرة عام1940 فيقول :"نحن أحفاد الصليبيين, فمن لم يعجبه أن نحكم فليرحل".
ويقول مثلها زميل له في الجزائر سنة1945 . فأما في الكتلة الشيوعية فالمسلمون يصب عليهم الإفناء بالجملة , فيتناقص عددهم في ربع قرن من اثنين وأربعين ملوناً إلى ستة وعشرين مليوناً في روسيا , ويحزمون الآن بطاقات التموين التي يستحيل على الأفراد أن يحصلوا على ضرورياتهم بدونها . ويقال لهم : لكم أن تصلوا لله إذا شئتم , ولكن لا طعام لكم من الدولة فاطلبوا من الله هذا الطعام ! وشبيه بهذا ما يصيبهم في الصين ويوغسلافيا وفي كل مكان .
لقد كان الإسلام قمة في العدل الاجتماعي الإنساني الشامل لم تبلغها بعد الحضارة الأوربية . ولن تبلغها أبداً لأنها حضارة المادة الجامدة . حضارة القتل والقتال والغلب والنضال !(1)
*     *     *
ولقد سبق الحديث عن منهج الإسلام في الرحمة والبر والتكافل الاجتماعي الشامل بين القادرين والعاجزين , وبين الأغنياء والفقراء , وبين الفرد والجماعة , وبين الحاكم والمحكوم ؛ بل بين جميع أبناء الإنسان . فالآن نعرض نماذج من الواقع التاريخي , مما حفل به تاريخ الإسلام الطويل .
فهذا أبو بكر كان له يوم أسلم أربعون ألف درهم مدخرة من ربح تجارته , وقد ربح الكثير من التجارة بعد إسلامه ؛ فلما هاجر إلى المدينة مع صاحبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن قد بقى له من كل مدخره سوى خمسة آلاف درهم . لقد أنفق ماله المدخر في افتداء الضعفاء من الموالي المسلمين الذين كانوا يذوقون العذاب ألواناً من سادتهم الكفار , كما أنفقه في بر الفقراء والمعوزين .
وهذا عمر بن الخطاب ـ وإنه لرجل فقير ـ يصيب أرضاً بخيبر , فيجيء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيقول : أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه . فما تأمر به ؟ فيجيبه الرسول :"إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها " , فيجعلها عمر وقفاً على الفقراء والقربى وفي الرقاب وفي سبيل الله والضعيف , لا جناح على وليها أن يأكل منها بالمعروف , ويطعم صديقاً غير متمول فيها . ويخرج بذلك من أعز ماله تصديقاً لقول الله :" لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ .. (آل عمران92).
وهذا عثمان ـ قبل الخلافة ـ ترد له عير من الشام في وقت نزل فيه البرح بالمسلمين من الجدب , فإذا هي ألف بعير موسوقة براً وزيتاً وزبيباً , فيجيئه التجار يقولون : بعنا من هذا الذي وصل إليك , فإنك تعلم ضرورة الناس فيقول : حباً وكرامة . كم تربحوني على شرائي ؟ فيجيبون : الدرهم درهمين . فيقول : أعطيت أكثر من هذا . فيقولون : يا أبا عمرو , ما بقي في المدينة تجار غيرنا , وما سبقنا إليك أحد , فمن ذا الذي أعطاك ؟ فيجيب : إن الله أعطاني بكل درهم عشرة , أعندكم زيادة ؟ فيقولون : لا فيشهد الله على أن هذه العير وما حملت صدقة لله على المساكين والفقراء من المسلمين .
وهذا عليّ وأهل بيته يتصدقون بثلاثة أرغفة من سويق كانت لهم , على مسكين ويتيم وأسير ,ثم يبيتون على الطوى , وقد شبع المسكين واليتيم والأسير .
وهذا الحسين يثقله الدين وهو يملك عين أبي نيزر , فلا يبيعها , لأن فقراء المسلمين يستقون منها , فهي لهم , وليحتمل ثقلة الدين وهو الكريم بن الكرام من ذروة بني هاشم . وهؤلاء الأنصار في المدينة يشركون المهاجرين في أموالهم ومساكنهم ويؤاخونهم فيعقلون معاقلهم , ويفدون عانيهم , يخلطونهم بأنفسهم "..وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ .. (الحشر9) . كما وصفهم القرآن الكريم .وتظل روح الإسلام عاملة في هذا الاتجاه ما بعدت دار الإسلام عن التأثر بالحضارة الغربية المادية , فيروي الأستاذ عبد الرحمن عزام في كتابه "الرسالة الخالدة" عن قبيلة الطوارق يقول : " رأيت بعض قبائل الطوارق في شمال إفريقية يحيون حياة هذا التكافل السعيد ؛ فليس فيهم من يعيش لنفسه , وإنما لجماعته , وأعظم ما يفخر به ويعتز , هو ما يصنع لهذه الجماعة . وأول ما لفت نظري لحالتهم هذه أن رجلاً من أهل الحضر هاجر من الفرنسيين , ونزل في فزان , فجاورهم وعاش بفضلهم ؛ ثم خرج يطلب الرزق , ويريد أن يرد الجميل , وترك أسرته في جوار هذه الجماعة الإسلامية . غير أن النحس لازمه , ولم يستطع كسباً , فجاءنا "مصراتة" يستمدنا , فأعنِّاه ليعود إلى أهله , ولكنه عاد إلىّ بعد نحو سنة مرة أخرى , فظننت أنه رجع من أهله , فقال : لا . وإنما الآن أستطيع الرجوع إلى أهلي . فقلت : وكيف ذلك ؟ قال : بعد لقاءنا الخير اتجرت بما حصلت عليه , وأصبح الآن في يدي ما أعود به إلى جماعة الطوارق ؟ قال إلى الطوارق أولا , فهم آووا أولادي في غيبتي , وأنا سأكفل أولاد من أجده غائباً منهم , وأُقَسّمُ ما أَعْطَى الله بين أولادي وأولاد جيراني . فقلت : هل تعيش جماعتكم كلها كما تعيش أنت مع جيرانك ؟ قال : كلنا في الخير والشر سواء , والفضل لصاحب الفضل , والواحد من جماعتنا يستحي أن يعود إلى النجع خالياً , لا حياء من أهل بيته , بل حياء من جيرانه الذين ينتظرون عودته كأهل بيته سواء بسواء " .
ثم يعقب على هذه المشاهدة بكلمة صادقة تمثل الحقيقة الواقعة : " ليست جماعة الطوارق هذه أو أضرابها من أهل البادية وسكان القفر مختصة بهذه الروح الجماعية , ولا هي من مستلزمات عصبيتها , وإنما هي الروح الإسلامية أكثر ظهوراً في هؤلاء الذين لا يزالون بمعزل من الحياة الحديثة المادية . وقد وجدت هذه الروح في الدساكر والقرى الإسلامية التي لا تزال مطبوعة بالطابع الإسلامي , سواء أكان أهلها عرباً أم عجماً , بيضاً أم سوداً , في المشرق أم في المغرب . فقد رأيت جماعة المسلمين في كثير منها لا يزالون يحيون حياة الخير والتضامن والتكافل والتعاون على البر .. لا يزالون أقرب إلى المجتمع الصالح كما أراده صاحب الدعوة , من عشرات الملايين الذين فتنوا بالحضارة الغربية المادية , فهم يعيشون لأنفسهم , ولو انقرضت جماعتهم , ويؤثرون شهواتهم على البر بأهلهم فضلاً عن جيرانهم ".
هذا التكافل الذي توحي به روح الإسلام لم يكن متروكاً للوجدان الفردي والجماعي وحده . فقد كان الحاكم يُلزم به ويطيقه . فهذا عمر بن الخطاب يفرض للمفطوم والمسن والمريض فريضة من بيت المال ـ وذلك غير مصارف الزكاة المعروفة . وهذا هو يدرأ حد السرقة في عام الرمادة حين جاع الناس . لأن في الجوع شبهة الاضطرار إلى السرقة , والحدود تدرأ بالشبهات . ولعل الحادثة التالية عن عمر ذات معنى حاسم في التطبيق العملي للتكافل , ولحق الملكية الفردية وحدوده في محيط الجماعة !
"روي أن غلماناً لابن حاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة , فأتى بهم عمر فأقروا , فأمر كثير بن الصلت بقطع أيديهم , فلما ولىّ رده , ثم قال . أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم , حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له , لقطعت أيديهم ثم وجه القول إلى عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة فقال : وأيمن الله إذ لم أفعل ذلك لأغرمنك غرامة توجعك ! ثم قال : يا مزني , بكم أريدت منك ناقتك؟ قال بأربعمائة . قال عمر لأبن حاطب : إذهب فأعطه ثمانمائة " وأعفي الغلمان السارقين من الحد , لأن صاحبهم اضطرهم إلى السرقة لجوعهم , وحاجتهم إلى سد رمقهم .
ومما يزيد في جلال هذا التكافل الاجتماعي في تاريخ الإسلام أن يتعدى الدائرة الإسلامية إلي الدائرة الإنسانية .
رأى عمر شيخاً ضريراً يسأل على باب فسأل , فعلم أنه يهودي فقال له : ما ألجأك إلى ما أرى ؟ قال : الجزية والحاجة والسن . فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فأعطاه ما يكفيه ساعتها , وأرسل إلى خازن بيت المال : أنظر هذا وضرباءه فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته , ثم نخذله عند الهرم . إنما الصدقات للفقراء والمساكين . وهذا من مساكين أهل الكتاب . ووضع عنه الجزية وعن ضرباءه  .
ولما سافر إلى دمشق مر بأرض قوم مجذمين من النصارى , فأمر أن يعطوا من الصدقات , وأن يجري عليهم القوت . وهكذا ترتفع روح الإسلام بعمر إلى هذا الأفق الإنساني الكريم منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً ؛ فيجعل الضمان الاجتماعي حقاً إنسانياً , لا يتعلق بدين ولا ملة , ولا تعوقه عقيدة ولا شرعة .
ألا إنه الأفق البعيد السامق الذي تطلع البشرية اليوم دون مرتقاه !
فأما سياسة الحكم وسياسة المال من الوجهة الرسمية في الدولة , فقد شهد الواقع التاريخي عنهما فترة فريدة في حياة الإسلام , ولم تعمر طويلاً مع الأسف الشديد . وسنرى فيما بعد علة هذا , لنرى إن كانت العلة كامنة في طبيعة النظام الإسلامي في هاتين الناحيتين كما يزعم الزاعمون أم إنها الملابسات الأخرى التي لا علاقة لها بطبيعة هذا النظام . ولنبدأ بالحديث عن سياسة الحكم , إذ كانت سياسة المال في الواقع التاريخي تبعاً لها , وفرعاً عن تصورها . حينما حضرت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الوفاة دعا بأبي بكر ليصلي بالناس ؛ فلما راجعته عائشة , لأن أبا بكر رجل أسيف , فإذا قام في الناس لم يسمعوا صوته .. أخذه الغضب , وذكر صويحبات يوسف ! وأصر على دعوة أبي بكر ليصلي بالناس . أفكان ذلك استخلافاً من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لصاحبه في الغار ؟ وهل فهم المسلمون منه فهماً صريحاً ؟
نستبعد نحن الفرضين . فلو شاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يستخلف , ولو كان هذا الاستخلاف من فرائض هذا الدين , لجهر بالاستخلاف كما جهر بكل فريضة أخرى من فرائض دينه . ولو أنّ فهم المسلمون منه فهماً صريحاً أنه يستخلف أبا بكر ما ثار الجدل في السقيفة بين المهاجرين والأنصار , فما كان الأنصار ليجادلوا في أمر رسول الله . كان الأمر إذن للشورى بين المسلمين , وللإقناع وللاقتناع بمن هو أحق الناس بالخلافة . ولئن كان الجدل يوم السقيفة قد انتهى إلى أن تكون الخلافة في المهاجرين , فما كان ذلك فرضاً إسلامياً ؛ ولكنه تواضع بين جماعة المسلمين , كان الأنصار يملكون رده ولا تثريب عليهم لولا أنهم ارتضوه لأنه أصلح خليفة , ولأن المهاجرين أسبق إلى الإسلام , ولعوامل محلية واقعة بين الأوس والخزرج كذلك في المدينة . وإذا كان التراضي قد تم يومذاك أن تكون الخلافة في المهاجرين , فما كان هناك ما يلزم أن تكون قريش خاصة ؛ ولو كان الأمر كذلك ما قال عمر بن الخطاب وهو يعين أهل الشورى بعده :"ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لاستخلفته" فسالم ليس قرشياً عن يقين وروح الإسلام ومبادئه تأبى أن تجعل لقريش درجة فوق درجة المسلمين , لمجرد أنها قريش , أو أن فيها نسب الرسول . والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الذي يقول :"من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه" (2) .
ولقد استخلف أبو بكر عمر , ولكن هذا لم يكن إلزاماً منه للمسلمين ؛ فلقد كانوا في حلّ من رد هذا الاستخلاف . وعمر لم يصبح خليفة بحكم استخلاف أبي بكر له , بل بمبايعة إياه . وكذلك عين عمر بعده ستة للشورى على أن يختاروا منهم واحداً . وما كان المسلمون بملزمين أن يختاروا واحداً من الستة , وإنما هم التزموا لأن الواقع كان يشهد بأن الستة هم الأفضل , وإن تعيين عمر لهم يتفق مع الواقع .. من هنا جاء الالتزام . فأما البيعة لعليّ ؛ فقد ارتضاها قوم , وأباها آخرون , فكانت الحرب للمرة الأولى بين المسلمين . وأعقبتها الكوارث التي حاقت بروح الإسلام ومبادئه في الحكم والمال , وفي غير الحكم والمال . هذا الاستعراض السريع يكشف لنا عن قاعدة الإسلام الأصيلة في الحكم . وهيأن اختيار المسلمين المطلق هو المؤهل الوحيد للحكم . وهذا ما فهمه المسلمون وهم يؤخرون علياً ابن عم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأقرب الناس نسباً إليه . ولقد يكون عليَّ قد غبن في تأخيره ـ وبخاصة بعد عمر .ولكن هذا التأخير كان له فضله في التقرير العملي لنظرية الإسلام في الحكم ,حتى لا تقوم عليها شبه من حق الوراثة , الذي هو أبعد شيء عن روح الإسلام ومبادئه . وأياً كان الغبن الذي أصاب شخص الإمام كرم الله وجهه فإن تقرير هذه القاعدة كان أكبر منه على كل حال !
فلما جاء الأمويين , وصارت الخلافة الإسلامية ملكاً عضوضاً في بني أمية , لم يكن من وحي الإسلام , إنما كان من وحي الجاهلية الذي أطفأ إشراقه الروح الإسلامي . ويكفي أن نُثْبِت هنا بعض الروايات عن الملابسات التي صاحبت البيعة ليزيد بن معاوية : كان معاوية بعد أخذ البيعة ليزيد في الشام قد كلف سعيد بن العاص أن يحتال لإقناع أهل الحجاز , فعجز , فسار معاوية إلى مكة ومعه الجند والمال . ودعا وجهاء المسلمين فقال لهم : " قد علمتم سيرتي فيكم وصلتي لأرحامكم بيزيد أخوكم وابن عمكم , وأردت أن تقدموا يزيد باسم الخلافة , وتكونوا أنتم تعزلون وتؤمرون وتجبون المال وتقسمونه " فأجابه عبد الله بن الزبير مخيراً بين أن يصنع كما صنع رسول الله إذ لم يستخلف أحداً , أو كما صنع أبو بكر إذ عهد إلى رجل ليس من بني أبيه , أو كما صنع عمر إذ جعل الأمر شورى في ستة نفر ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه . فاستشاط معاوية غضباً وهو يقول : " هل عندك غير هذا ؟ " قال : لا . والتفت معاوية إلى الآخرين يسألهم : فأنتم ؟ قالوا على ما قال ابن الزبير . فقال يتوعدهم :"أعذر من أنذر . إني كنت أخطب فيكم فيقوم إليّ القائم منكم فيكذبني على رؤوس الناس , فأحمل ذلك وأصفح . وإني قائم بمقالة , فاقسم بالله لئن رد علي أحدكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه ؛ فلا يبقين رجل إلا على نفسه "!
فأما الذي كان بعد ذلك , فهو أن أقام صاحب حرس معاوية رجلين على رأس كل وجيه من وجهاء الحجاز المعارضين , وقد قال له معاوية :"إن ذهب رجل منهم يرد عليَّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفهما ".
ثم رقي المنبر فقال :"هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم , لا يبرم أمر دونهم ولا يقضي إلا على مشورتهم . وإنهم قد رضوا وبايعوا يزيد , فبايعوه على اسم الله "(3) .
فبايع الناس !!!
على هذا الأساس الذي لا يعترف به الإسلام البتة قام ملك يزيد . فمن هو يزيد ؟
هو الذي يقول فيه عبد الله بن حنظلة : " والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمي بالحجارة من السماء . إن رجلاً ينكح الأمهات والبنات والأخوات ويشرب الخمر , ويدع الصلاة . والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت الله فيه بلاء حسناً ".
فإذا كانت هذه مقالة خصم ليزيد , فإن تصرفات يزيد العملية الواقعية فيما بعد , من قتل للحسين ـ رضي الله عنه ـ على ذلك النحو الشنيع , إلى حصار البيت ورميه … إلخ تشهد بأن خصوم يزيد لم يبالغوا كثيراً فيما قالوه !          
وأياً ما كان الأمر فإن أحداً لا يجرؤ على الزعم بأن يزيد كان أصلح المسلمين للخلافة وفيهم الصحابة والتابعون . إنما كانت مسألة وراثة الملك في البيت الأموي . وكان هذا الاتجاه طعنة نافذة في قلب الإسلام , ونظام الإسلام , واتجاه الإسلام . وفي سبيل تبرئة الإسلام : وروحه ومبادئه , من ذلك النظام الوراثي الذي ابتدع ابتداعاً في الإسلام نقرر هذه الحقائق لتكون واضحة في تصور الحكم الإسلامي على حقيقته .
*     *     *
ولكي ندرك عمق هذه الحقيقة , يجب أن نستعرض صوراً من سياسة الحكم في العهود المختلفة على أيدي أبي بكر وعمر . وعلى أيدي عثمان ومروان . وعلى يدي عليّ الإمام . ثم على يدي الملوك من أمية . ومَن بعدهم من بني العباس . بعد هذه الهزة المبكرة في تاريخ الإسلام .
حينما ندب المسلمون أبا بكر ليكون خليفة رسول الله , لم تزد وظيفته في نظره على أن يكون قائماً بتنفيذ دين الله وشريعته بين المسلمين ! فلم يخطر له أن هذه الوظيفة تبيح له شيئاً لم يكن مباحاً له وهو فرد من الرعية , أو تمنحه حقاً جديداً لم يكن له , أو تسقط عنه تكليفا واحداً مما يكلفه , سواء لنفسه أو لعشيرته أو لأهله !
وقف عقب انتهاء البيعة له بالسقيفة فقال : " أما بعد ـ أيها الناس ـ فإني قد وليت عليكم , ولست بخيركم , فإن أحسنت فأعينوني , وإن أسأت فقوّموني . الصدق أمانة والكذب خيانة . والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله , والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله , ولا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل ؛ ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء . أطيعوني ما أطعت الله فيكم ورسوله . فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم ".
وكان منزل أبي بكر بالسنح على مقربة من المدينة منزلا صغيراً متواضعاً . فلما ولي الخلافة لم يغيره ولم يغير فيه . وكان يمشي على قدميه من منزله بالسنح إلى المدينة غدواً ورواحاً ؛ وربما ركب فرساً له لا أفراس بيت المال ؛ حتى إذا زادت أعباء عمله انتقل إلى المدينة . وكان يعيش من رزقه في التجارة , فلما أصبح أراد أن يغدو على تجارته . فامسكه المسلمون , وقالوا : إن هذا الأمر لا يصلح مع التجارة . فسأل ـ كأنما لا يعلم طريقاً آخر للقوت ـ ومم أعيش ؟ فترووا في الأمر ؛ ثم جعلوا له من بيت المال كفايته لقوته وقوت عياله , جزاء قعوده عن التجارة , واحتباسه للوظيفة .
ومع هذا فقد أوصى عندما حضرته الوفاة أن يحصي ما أخذه من بيت المال ,فيرد من ماله وأرضه , تورعاً وتعففاً عن مال المسلمين وكان يعد نفسه مسؤولاً عن حاجة كل فرد في الرعية , مدفوعاً إلى هذا باليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على ضمير الحاكم والمحكوم , والحساسية المرهفة التي يثيرها في ضمير الجميع . وقد وصل في هذا إلى حد أنه قد كان يحلب لضعفاء ممن حوله بالسنح أغنامهم ؛ فلما ولي الخلافة سمع جارية تقول : اليوم لا تحلب لنا منائح دارنا ! فقال : بلى لعمري لأحلبنها لكم .. فكان يحلبها , وربما سأل صاحبتها : يا جارية ! أتحبين أن أرغي لك أم أصرح ؟ فربما قالت : أرغ , وربما قالت : صرح . فأي ذلك قالته فعل . وكان عمر بن الخطاب ـ في خلافة أبي بكر ـ يتعهد امرأة عمياء بالمدينة ويقوم بأمرها , فكان إذا جاءها ألفاها قد قضيت حاجتها ؛ فترصد عمر يوماً , فإذا أبو بكر هو الذي يكفيها مؤونتها , لا تشغله عن ذلك الخلافة وتبعاتها . عندئذ صاح عمر حين رآه :"أنت هو لعمري!"
هذه لمحة من تصور أبي بكر للحكم . فلما أن خلفه عمر لم يختلف هذا التصور , ولم يفهم عمر أن منصبه الجديد يرتب له حقوقاً جديدة من أي نوع ـ غير أن يزيد في تبعاته في القيام بتنفيذ شرع الله .
خطب عقب البيعة له فقال :"أيها الناس : ما أنا إلا رجل منكم , ولولا أنني كرهت أن أرد أمر خليفة رسول الله ما تقلدت أمركم".
وخطب خطبته الثانية فقال فيها : " ولكم عليّ أيها الناس خصال أذكرها لكم فخذوني بها : ولكم علي ألا أجتبي شيئاً من خراجكم ولا ما أفاء الله عليكم إلا من وجهه ؛ ولكم عليّ إذا وقع في يدي ألا يخرج منها إلا في حقه ؛ ولكم عليّ ألا ألقيكم في المهالك ولا أجمركم في ثغوركم , وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال ".
وكان يقول : " إني أنزلت مال الله مني بمنزلة مال اليتيم , فإن استغنيت عففت عنه ؛ وإن افتقرت أكلت بالمعروف " .
سئل يوماً عما يحل له من مال الله فقال :"أنا أخبركم بما استحل منه : يحل لي حلتان : حلة في الشتاء وحلة في القيظ , وما أحج عليه وأعتمر من الظهر , وقوتي وقوت أهلي كقوت رجل من قريش , ليس بأغناهم ولا بأفقرهم , ثم أنا رجل من المسلمين يصيبني ما أصابهم " .وكذلك عاش , ولكنه كثيراً ما كان يتحرج حتى مما أحل لنفسه .. اشتكى يوماً فوصف له العسل وفي بيت المال عكة منه , فلما كان على المنبر قال :" إن أذنتم لي فيها , وإلا فإنها عليّ حرام " , فأذنوا له .
ورأى المسلمون ما هو عليه من الشدة , فذهب بعضهم إلى ابنته حفصة أم المؤمنيين فقالوا لها :"أبى عمر إلا شدة على نفسه وحصرا , وقد بسط الله له في الرزق , فليبسط في هذا الفيء فيما شاء منه , وهو في حل من جماعة المسلمين " . فلما كلمته حفصة في ذلك كان جوابه : فأما في ديني وأمانتي فلا !"
وكان يشعر شعوراً عميقاً بوجوب المساواة بينه وبين أفراد رعيته ؛ فلما جاع الناس في عام الرمادة , آلى على نفسه : لا يذوق سمناً ولا لحماً حتى يحيا الناس . وظل كذلك حتى اسود جلده وبسر من أكل الزيت ؛ ثم جاءت السوق عكة من سمن ووطب من لبن اشتراهما غلام له بأربعين درهماً وذهب إليه ينبئه أن الله أحله من يمينه , وأن قد قدمت السوق عكة من سمن ووطب من لبن وقد اشتراها له فلما علم الثمن قال له :"أغليت فتصدق بهما , فإني أكره أن آكل إسرافاً " وأطرق هنيهة ثم قال :" كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسسني ما يمسهم ؟ ".
لقد كان يرى أن يحرم نفسه حرمان رعيته , وليحس بما يمسها كما قال ؛ ولأنه في أعماق نفسه ما كان يرى أن قيامه بالحكم يجعل له حقوقاً وامتيازات ليست لسائر الناس ؛ وأنه إن لا يعدل في هذا فما هو بمستحق طاعة الرعية ؛ وقصة البرود اليمنية , وإقراره بسقوط طاعته حتى يثبت عدله قد سبق أن ذكرناها ؛ وهي تقرر مبدأ من مباديء الحكم في الإسلام : وان لا طاعة لإمام غير عادل ؛ ولو كان يقر أن الحاكمية لله وحده ويحكم بشريعة الله , ولكنه لا يعدل في الأحكام .
ولقد كان هذا الشعور الإسلامي عميقاً في نفسه , مصاحباً له في كل ملابسة. فقد ساوم رجلاً على فرس , ثم ركبه ليجربه فعطب , فأراد أن يرده إلى صاحبه فأبى , فتحاكما إلى شريح القاضي , فسمع حجة كل منهما , ثم قال :" يا أمير المؤمنين خذ ما ابتعت , أو رد كما أخذت " فقال . عمر :" وهل القضاء إلا هكذا ؟ " . ثم أقام شريحاً على قضاء الكوفة جزاء ما قضى بالحق والعدل .
*     *     *
فإذا فهم عمر الحكم على أساس هذا التصور , فلا مجال لأن يكون لقرابة الحاكم امتيازات ما على سائر الرعية ما على سائر أفراد الرعية . فإذا . فإذا تناول ابنه عبد الرحمن الخمر فلا بد من الحد , وقصته في ذلك معروفة ؛ وإذا عدا ابن عمرو بن العاص على المصري فلا بد من القصاص . فأما في المال فعماله مسؤولون عن كل ما زاد في أموالهم بعد الولاية , خشية أن يكون نموّها على حساب مال المسلمين , أو بسبب من جاه الولاية . و"من أين لك هذا" كان قانونه الذي عامل به عماله واحداً واحداً كلما وجد مبرراً لأن يعملهم به , فقد قاسم عمرو بن العاص واليه في مصر , وسعد بن أبي وقاص واليه في الكوفة , كما ضم مال أبي هريرة واليه في البحرين .
ولقد كان قوام تصور الحكم في نفس عمر باختصار هو :الطاعة والنصح في حدود الدين من الرعية , والعدل والحسنى كذلك من الراعي . ولقد قبل من رجل من رعيته أن يقول له : " لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا " فأقر بذلك مبدأ حق الرعية في تقويم الراعي . كما خطب الناس يوماً فقال :" إني لم أستعمل عليكم عمالي ليضربوا أبشاركم , وليشتموا أعراضكم , ويأخذوا أموالكم ؛ ولكني استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم .فمن ظلمه عامل بمظلمة , فلا إذن له عليّ , ليرفعها إليّ حتى أقصه منه " . فأقر بذلك حدود الحاكم على الناس لا يتعداها .  
ولشعوره العميق بتبعات الحاكم لم يشأ أن يجعلها اثنان من أسرة الخطاب , فمنع أن يكون ابنه عبد الله مرشحاً لها . وإن جعله من أهل الشورى . وقال قولته المشهورة التي تنطق بحقيقة تصوره للخلافة : " لا أرب لنا في أموركم , وما حمدتها فأرغب فيها لأحد من بيتي , إن كان خيراً فقد أصبنا منه , وإن كان شراً فبحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد ".
*     *     *
هذا التصور لحقيقة الحكم قد تغير شيئاً ما دون شك على عهد عثمان ـ وإن بقى في سياج الإسلام ـ لقد أدركت الخلافة عثمان وهو شيخ كبير . ومن ورائه مروان بن الحكم يصرف الأمر بكثير من الانحراف عن الإسلام . كما أن طبيعة عثمان الرخية , وحدبه الشديد على أهله , قد ساهم كلاهما في صدور تصرفات أنكرها الكثيرون من الصحابة من حوله , وكانت لها معقبات كثيرة , وآثار في الفتنة التي عانى الإسلام منها كثيراً .
منح عثمان , من بيت المال زوج ابنته الحارث بن الحكم يوم عرسه مائتي ألف درهم . فلما أصبح الصباح جاءه زيد بن أرقم خازن مال المسلمين , وقد بدا في وجهه الحزن وترقرقت في عينه الدموع , فسأله أن يعفيه من عمله ؛ ولما علم منه السبب وعرف أنه عطيته لصهره من مال المسلمين , قال مستغرباً :"أتبكي يا ابن أرقم أن وصلت رحمي ؟" فرد الرجل الذي يستشعر روح الإسلام المرهف :"لا يا أمير المؤمنين . ولكن أبكي لأني أظنك أخذت هذا المال عوضاً عما كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله . والله لو اعطيته مئة درهم لكان كثيراً !" فغضب عثمان على الرجل الذي لا يطيق ضميره هذه التوسعة من مال المسلمين على أقارب خليفة المسلمين وقال له :"ألق بالمفاتيح يا ابن أرقم فإنا سنجد غيرك "! والأمثلة كثيرة في سيرة عثمان على هذه التوسعات ؛ فقد منح الزبير ذات يوم ستمائة ألف , ومنح طلحة مائتي ألف ,ونفل مروان بن الحكم خمس خراج إفريقية . ولقد عاتبه في ذلك ناس من الصحابة على رأسهم علي بن أبي طالب , فأجاب : " إن لي قرابة ورحماً" فأنكروا عليه وسألوه : " فما كان لأبي بكر وعمر قرابة ورحم ؟ فقال :"إن أبا بكر وعمر كانا يحتسبان في منع قرابتهما , وأنا أحتسب في إعطاء قرابتي " فقاموا عنه غاضبين يقولون : " فهديهما والله أحب إلينا من هديك "..
وغير المال كانت الولايات تغدق على الولاة من قرابة عثمان . وفيهم معاوية الذي وسع عليه في الملك فضم إليه فلسطين وحمص ؛ وجمع له قيادة الأجناد الأربعة ومهد له بعد ذلك أن يطلب الملك في خلافة عليّ وقد جمع المال والأجناد . وفيهم الحكم بن العاص طريد رسول الله الذي آواه عثمان وجعل ابنه مروان بن الحكم وزيره المتصرف . وفيهم عبد الله ابن سعد بن أبي السرح أخوه من الرضاعة … الخ .
ولقد كان الصحابة يرون هذه التصرفات الخطيرة العواقب , فيتداعون إلى المدينة لإنقاذ تقاليد الإسلام , وإنقاذ الخليفة من المحنة ؛ والخليفة في كبرته لا يملك أمره من مروان . وإنه لمن الصعب أن نتهم روح الإسلام في نفس عثمان ؛ ولكن من الصعب كذلك أن نعفيه من الخطأ , الذي نلتمس أسبابه في ولاية مروان الوزارة ؛ في كبرة عثمان . ولقد اجتمع الناس , فكلفوا عليّ بن أبي طالب أن يدخل إلى عثمان فيكلمه , فدخل إليه فقال :" الناس ورائي وقد كلموني فيك . والله ما أدري ما أقول لك , وما أعرف شيئاً تجهله , ولا أدلك على أمر لا تعرفه . إنك لتعلم ما نعلم ؛ ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ؛ ولا خلونا بشيء فنبلغكه ؛ وما خُصصنا بأمر دونك . وقد رأيت وسمعت وصحبت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونلت صهره . وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحق منك ؛ ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك ؛ وإنك أقرب إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رحماً ؛ ولقد نلت من صهر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما لم ينالا ؛ ولا سبقاك إلى شيء . فالله الله في نفسك ؛ فإنك والله ما تُبَصَّرُ من عمى ؛ ولا تُعَلمُ من جهل ؛ وإن الطريق لواضح بيّن ؛ وإن أعلام الدين لقائمة . وتعلم يا عثمان أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هُدي و هَدى ؛ فأقام سنة معلومة , وأمات بدعة متروكة ؛ فو الله إن كلَّا لَبيَّن ؛ وإن السنن لقائمة لها أعلام ؛ وإن شر الناس عند الله إمام جائر ضَل وضُل به ؛ فأمات سنة معلومة , وأحيا بدعة متروكة . وإني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول :"يُؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر , فيلقى في جهنم "(4) .
فقال عثمان :" قد والله علمت ليقولن الذي قلت . أما والله لو كنت مكاني ما عنفتك ولا أسلمتك ولا عبت عليك ؛ وما جئت منكراً أن وصلت رحماً , وسددت خلة , وآويت ضائعاً , ووليت شبيهاً بمن كان عمر يولي . أنشدك الله يا عليّ . هل تعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك ؟ ؟ قال نعم , قال أتعلم أن عمر ولاه ؟ قال نعم . قال : فلِمَ تلومني أن وليت ابن عامر في رحمه وقرابته ؟ قال علي : سأخبرك . إن عمر كان كل من ولّى فإنما يطأ على صماخه , إن بلغه عنه حرف جلبه , ثم بلغ به أقصى الغاية . وأنت لا تفعل . ضعفت ورفقت على أقربائك . قال عثمان : وأقرباؤك أيضاً ! قال عليّ : لعمري إن رحمهم مني لقريبة , ولكن الفضل في غيرهم . قال عثمان : هل تعلم أن عمر ولى معاوية خلافته كلها ؟ فقد وليته , فقال علي : أنشدك الله ! هل تعلم أن معاوية كان أخوف من أن يرفأ غلام عمر منه ؟ قال نعم . قال علي فإن معاوية يقطع الأمور دونك وأنت لا تعلمها , فيقول للناس : هذا أمر عثمان , فيبلغك ولا تُغير على معاوية! "
وأخيرا ثارت الثائرة على عثمان , واختلط فيها الحق بالباطل , والخير بالشر . ولكن لا بد لمن ينظر إلى الأمور بعين الإسلام , ويستشعر الأمور بروح الإسلام , أن يقرر أن تلك الثورة في عمومها كانت فورة من روح الإسلام ؛ وذلك دون إغفال لم كان وراءها من كيد اليهودي ابن سبأ عليه لعنة الله !
واعتذارنا لعثمان رضي الله عنه : أن الخلافة قد جاءت إليه متأخرة , فكانت العصبة الأموية حوله وهو يدلف إلى الثمانين , فكان موقفه كما وصفه صاحبه علي بن أبي طالب : " إني إن قعدت في بيتي قال : تركتني وقرابتي وحقي ؛ وإن تكلمت فجاء ما يريد , يلعب به مروان , فصار سيقة له يسوقه حيث شاء , بعد كبر السن وصحبته لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ".
ولقد كان من جراء مباكرة الدين الناشيء بالتمكين منه للعصبة الأموية على يدي الخليفة الثالث في كبرته , أن تقاليده العملية لم تتأصل على أسس من تعاليمه النظرية لفترة أطول . وقد نشأ عن عهد عثمان الطويل في الخلافة أن تنمو السلطة الأموية ويستفحل أمرها في الشام وفي غير الشام ؛ وأن تتضخم الثروات نتيجة لسياسة عثمان (كما سيجيء) وأن تخلخل الثورة على عثمان بناء الأمة الإسلامية في وقت مبكر شديد التبكير . مع كل ما يحمله تاريخ هذه الفترة وأحداثها من أمجاد لهذا الدين , تكشف عن نقلة بعيدة جداً في تصور الناس للحياة والحكم , وحقوق الأمراء وحقوق الرعية , إلا أن الفتنة التي وقعت لا يمكن التقليل من خطرها وآثارها البعيدة المدى .
*    *    *
مضى عثمان إلى رحمة ربه , وقد خلف الدولة الأموية قائمة بالفعل بفضل ما مكن لها في الأرض , وبخاصة في الشام , وبفضل ما مكن للمباديء الأموية المجافية لروح الإسلام , من إقامة الملك الوراثي والاستئثار بالمغانم والأموال والمنافع , مما أحدث خلخلة في الروح الإسلامي العام . وليس بالقليل ما يشيع في نفس الرعية ـ إن حقاً أو باطلاً ـ أن الخليفة يؤثر أهله , ويمنحهم مئات الألوف ؛ ويعزل أصحاب رسول الله ليولي أعداء رسول الله ؛ ويبعد مثل أبي ذر لأنه أنكر كنز الأموال , وأنكر الترف الذي يخب فيه الأثرياء , ودعا إلى مثل ما كان يدعو إليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الإنفاق والبر والتعفف .. فإن النتيجة الطبيعية لشيوع مثل هذه الأفكار ؛ إن حقاً وإن باطلاً , أن تثور نفوس , وأن تنحل نفوس . تثور نفوس الذين أشربت نفوسهم روح الدين إنكاراً وتأثماً ؛ وتنحل نفوس الذين لبسوا الإسلام رداء , ولم تخالط بشاشته قلوبهم , والذين تجرفهم مطامع الدنيا ويرون الانحدار مع التيار . وهذا كله قد كان في أواخر عهد عثمان .
فلما أن جاء علي ـ كرم الله وجهه ـ لم يكن من اليسير أن يرد الأمر إلى نصابه في هوادة .
وقد علم المستنفعون على عهد عثمان , وبخاصة من أمية , أن عليا لن يسكت عليهم , فانحازوا بطبيعتهم وبمصالحهم إلى معاوية .
جاء علي ليرد التصور الإسلامي للحكم إلى نفوس الحكام ونفوس الناس . جاء ليأكل الشعير تطحنه امرأته بيديها , ويختم على جراب الشعير ويقول :"لا أحب أن يدخل بطني إلا ما أعلم " . وربما باع سيفه ليشتري بثمنه الكساء والطعام , وكره أن ينزل القصر الأبيض بالكوفة مؤثراً عليه الخصاص التي يسكنها الفقراء . جاء ليعيش كما روى عنه النضر ابن منصور عن عقبة بن علقمة قال :دخلت على عليّ عليه السلام , فإذا بين يديه لبن حامض , آذتني حموضته ؛ وكسر يابسة . فقلت : يا أمير المؤمنين ! أتأكل مثل هذا ؟ فقال لي: يا أبا الجنوب ! كان رسول الله يأكل أيبس من هذا ويلبس أخشن من هذا ـ وأشار إلى ثيابه ـ فإن لم آخذ به خفت ألا ألحق به " أو كما روى عنه هارون بن عنترة عن أبيه قال : دخلت على عليّ بالخورنق , وهو فصل الشتاء , وعليه خلق قطيفة , وهو يرعد فيه . فقلت : يا أمير المؤمنين ! إن الله قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيباً , وأنت تفعل هذا بنفسك ؟ فقال :"والله ما أرزؤكم شيئاً , وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة ". وما يصنع عليُّ هذا بنفسه وأهله , وهو يجهل أن الدين يبيح له فوق ما يصنع , وأنه لا يحتم التزهد والحرمان والشظف , وان حظه من بيت المال في ذلك الحين ـ كفرد من المسلمين ـ يبلغ أضعاف ما يأخذ , وإن راتبه كأمير للمؤمنين يؤدي خدمة عامة , أكبر من هذا لو شاء أن يأخذ مثلما خصصه عمر لبعض ولاته على الأقاليم , إذ قدر لعمار بن ياسر حين ولاه الكوفة ستمائة درهم في الشهر له ولمساعديه , ويزاد عليها عطاؤه الذي يوزع عليه كما توزع العطية على نظرائه , ونصف شاة ونصف جريب من الدقيق ؛ كما قدر لعبد الله ابن مسعود مئة درهم وربع شاة لتعليمه الناس بالكوفة وقيامه على بيت المال فيها , ولعثمان ابن حنيف مائة وخمسين درهماً وربع شاة في اليوم مع عطائه السنوي وهو خمسة آلاف درهم …
ما يصنع عليّ بنفسه ما صنع وهو يجهل هذا كله . إنما كان يعلم أن الحاكم مظنة وقدوة . مظنة التبحبح بالمال العام إذ كان تحت سلطانه ؛ وقدوة الولاة والرعية في التحرج والتعفف . فأخذ نفسه بعزائم أبي بكر وعمر في الأمر . فالأفق الأعلى كان هو الأحرى بخلفاء رسول الله على دين الله . وسار عليّ ـ كرم الله وجهه ـ في طريقه يرد للحكم صورته كما صاغها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والخليفتان بعده …
 "وجد درعه عند رجل نصراني , فأقبل به إلى شريح قاضيه , يخاصمه مخاصمة رجل من عامة رعاياه , وقال : إنها درعي ولم أبع , ولم أهب . فسأل شريح النصراني : ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين ؟ قال النصراني : ما الدرع إلا درعي , وما أمير المؤمنين عندي بكاذب ! فالتفت شريح إلى عليّ يسأله : يا أمير المؤمنين هل من بينة ؟ فضحك عليّ وقال : أصاب شريح . ما لي بينة ! فقضى بالدرع للنصراني , أخذها ومشى , و" أمير المؤمنين" ينظر إليه .. إلا أن النصراني لم يخط خطوات حتى عاد يقول : أما أنا فأشهد أن هذه أحكام أنبياء … أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه فيقضي عليه ! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين . اتبعت الجيش وأنت منطلق إلى صفين ؛ فخرجت من بعيرك الأورق . فقال عليّ : أما إذ أسلمت فهي لك "(5).
ولقد كان منهاجه الذي شرعه هو ما قاله في خطبته عقب البيعة له :
" أيها الناس . إنما أنا رجل منكم , لي ما لكم , وعلي ما عليكم , وإني حاملكم على منهج نبيكم ومنفذ فيكم ما أمرت به .. ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان , وكل مال أعطاه من مال الله , فهو مردود في بيت المال . فإن الحق لا يبطله شيء . ولو وجدته قد تزوج به النساء , وملك الإماء , وفرق في البلدان لرددته . فإن في العدل سعة ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق .
" أيها الناس .. ألا لا يقولن رجال منكم غداً ـ قد غمرتهم الدنيا فامتلكوا العقار وفجروا الأنهار , وركبوا الخيل , واتخذوا الوصائف المرققة ـ إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه, وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعملون : "حرمنا بن أبي طالب حقوقنا " . ألا وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله يرى أن الفضل له على سواه بصحبته , فإن الفضل غداً عند الله , وثوابه وأجره على الله . ألا وأيما رجل استجاب لله ولرسوله , فصدق ملتنا ودخل ديننا واستقبل قبلتنا , فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده ؛ فأنتم عباد الله , والمال مال الله , يقسم بينكم بالسوية , ولا فضل فيه لأحد على أحد , وللمتقين عند الله أحسن الجزاء" .
ولقد كان من الطبيعي ألا يرضى المستنفعون عن عليّ , وألا يقنع بشرعة المساواة من اعتادوا التفضيل , ومن مردوا على الاستئثار . فانحاز هؤلاء في النهاية إلى المعسكر الآخر : معسكر أمية , حيث يجدون فيه تحقيقاً لأطماعهم , على حساب العدل والحق اللذين يصر عليهما عليّ ـ رضي الله عنه ـ هذا الإصرار!
والذين يرون في معاوية دهاء وبراعة لا يرونها في عليّ ؛ ويعزون إليها غلبة معاوية في النهاية , إنما يخطئون تقدير الظروف , كما يخطئون فهم عليّ و واجبه . ولقد كان واجب عليّ الأول والأخير , أن يرد للتقاليد الإسلامية قوتها ؛ وأن يرد إلى الدين روحة ؛ وأن يجلو الغاشية التي غشت هذا الروح على أيدي بني أمية في كبرة عثمان . ولو جارى وسائل بني أمية في المعركة لبطلت مهمته الحقيقية , ولما كان لظفره بالخلافة خالصة من قيمة في حياة هذا الدين. إن علياً أما أن يكون علياً أو فلتذهب الخلافة عنه , بل فلتذهب حياته معها . وهذا هو الفهم الصحيح الذي لم يغب عنه ـ كرم الله وجهه ـ وهو يقول ـ فيما روي عنه إن صحت الرواية :"والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر . ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس ".

الشهيد سيد قطب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)يراجع كتاب " السلام العالمي والإسلام" وفصل " طبيعة الفتح الإسلامي" في كتاب "دراسات إسلامية" للمؤلف .
(2)مسلم وأبو داود والترمذي
(3)ابن الأثير في حوادث سنة56هـ . ونحن لا نحب أن نجزم بصدق مثل هذه الرواية ولكن تبرئة الإسلام في ذاته نقول : إنها إن صحت كان هذا مخالفة أساسية لطبيعة المنهج الإسلامي في الحكم لا تبررها حجة , ولا يقوم لها عذر !
(4)ذكره الطبري فيما يرويه في سنة أربع وثلاثين هجرية .
(5)عبقرية الإمام , للأستاذ العقاد
العدالة الاجتماعية في الإسلام
الشهيد سيد قطب
من الواقع التاريخي في الإسلام(3) 

ليست هناك تعليقات: