الأربعاء، 27 مارس 2013

التحرر الوجداني


العدالة الاجتماعية في الإسلام
الشهيد سيد قطب
اسس العدالة الاجتماعية في الإسلام
التحرر الوجداني
لن تتحقق عدالة اجتماعية كاملة , ولن يضمن لها التنفيذ والبقاء , ما لم تستند إلى شعور نفسي باطن باستحقاق الفرد لها , وبحاجة الجماعة إليها ؛ وبعقيدة في أنها تؤدي إلى طاعة الله وإلى واقع إنساني أسمى . وما لم تستند كذلك إلى واقع مادي يهيئ للفرد أن يتمسك بها , ويحتمل تكاليفها ويدافع عنها . ولن يستحقها الفرد بالتشريع قبل أن يستحقها بالشعور , وبالقدرة العملية على استدامة هذا الشعور . ولن تحافظ الجماعة على التشريع إن وجد , إلا وهناك عقيدة تؤيده من الداخل , وإمكانيات عملية تؤيده من الخارج .. وهذا ما نظر إليه الإسلام في توجيهاته وتشريعاته جميعاً .
وتذهب المسيحية ـ كما صورتها الكنيسة والمجامع المقدسة ـ والبوذية كذلك , إلى أن التحرر الوجداني من لذائذ الحياة وشهواتها , والتوجه إلى ملكوت الرب في السماء , واحتقار الحياة الدنيا , كفيل بأن يضمن للإنسان حريته , وللضمير سعادته . وهذا حق . ولكنه ليس الحق كله . فدوافع الحياة لا تقهر في جميع الأحوال , وضروريات الحياة الواقعة لا تغُلب أبد الدهر , ولابد أن يخضع الإنسان لضغطها في أكثر الأحيان .
على أن قهر دوافع الحياة وكبتها ليس خيراً دائماً , فالله خالق الحياة لم يخلقها عبثاً , ولم يخلقها ليعطلها البشر ويوقفوا نموها . وأنه لمن الخير أن يسموا الإنسان على ضروراته , وأن يرتفع على شهواته ؛ ولكنه ليس من الخير أن يعطل الحياة ذاتها بذلك السمو وهذا الارتفاع .
فإذا كان هناك طريق لأن تنطلق القوى المكنونة في كيان البشرية ؛ وأن يرتفع الإنسان على الخضوع المذل لضروراته . فذلك هو الطريق الأقوم والأسلم وهذا ما هدف إليه الإسلام وهو يوحد ضرورات  الجسد وأشواق الروح في نظام , ويكفل التحرر الوجداني بالشعور الباطن والإمكان الواقع , و لا يغفل عن هذا أو ذاك .
وتذهب الشيوعية إلى التحرر الاقتصادي وحده كفيل بالتحرر الوجداني ؛ وان الضغط الاقتصادي على الفرد هو الذي يجعله يتخلى عما تكفل له القوانين النظرية أحياناً من عدالة ومساواة.. وهذا حق . ولكنه ليس الحق كله . فالتحرر الاقتصادي ذاته لا يكفل له البقاء في المجتمع إلا بالتحرر الوجداني من داخل الضمير . فهو عرضة لضغط آخر : ضغط الضرورات والاستعدادات والميول , التي لا تكفي التشريعات وحدها لمقاومتها . والفرد الذي تقعد به استعداداته الطبيعية عن مجاراة الآخرين في الإنتاج , وعن مجاراتهم في التطلع والطموح .. هذا الفرد لابد أن يفقد حرصه على المساواة , التي قد يكفلها له القانون , لإحساسه الباطن بأنه أقل من مستواه , ولو تبجح فترة وكابر . والفرد ذو الاستعدادات الفائقة النتاج الموفور . لابد أن يغالب قانون المساواة المطلقة ونظام الملكية العامة الشامل , فإن لم يستطع حقد عليهما وحنق ؛ فإما أن يتمرد , وأما أن يخبو ذكاؤه , وتنكمش استعداداته , ويقل نتاجه .
فأما حين تستند المساواة إلى تحرر وجداني عميق , كما تستند إلى التشريع والتنفيذ , فإن الشعور بها يكون أقوى عند القوي وعند الضعيف . إنها تستحيل في الضعيف تسامياً , وفي القوي تواضعاً ؛ وتلتقي في النفس بالعقيدة في الله , وفي وحدة الأمة وتكافلها .. وهذا ما هدف إليه الإسلام حين حرر الوجدان البشري تحرراً مطلقا كاملاً ؛ بعد ما كفل في الوقت ذاته حاجات الجسد,وضرورات الحياة , بحكم الأوضاع , وبحكم القانون , وبحكم الضمير سواء.
*    *    *
لقد بدأ الإسلام بتحرير الوجدان البشري من عبادة أحد غير الله , ومن الخضوع لأحد غير الله . فما لأحد عليه غير الله من سلطان ؛ وما من أحد يميته أو يحييه إلا الله ؛ وما من أحد يملك ضراً ولا نفعاً ؛ وما من احد يرزقه من شيء في الأرض ولا في السماء ؛ وليس بينه وبين الله وسيط ولا شفيع ؛ والله وحده هو الذي يستطيع , والكل سواه عبيد , ولا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم شيئاً.
" قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ "(الإخلاص) وإذا توحد الله توحدت عبادته , واتجه الجميع إليه فلا عبادة لسواه , ولا حاكمية لغيره , كي لا يتخذ الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله , ولا يكون لأحد منهم فضل على أحد إلا بعلمه وتقواه:
" قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ "(64آل عمران).
ويحرص الإسلام على هذا المعنى حرصاً شديداً ؛ فيتكيء عليه القرآن في مناسبات شتى . ولما كان الأنبياء هم مظنة أن يتجه إليهم الناس بشيء من العبادة , أو في معناها على وجه من الوجوه , فقد عني الإسلام بتحرير وجدان البشرية من هذه الناحية تحريراً كاملاً .
يقول عن نبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم : "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ؟"(144آل عمران).
ويخاطب هذا النبي في صراحة قوية : "لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ"(128آل عمران).كما يخاطبه في موضع آخر بما يشبه التهديد : "وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا(74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا"(75الإسراء).
ويأمره أن يجهر بحقيقة موقفه جهراً :" قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا"(22الجن).
ويتحدث عمن ألهوا عيسى ابن مريم , فيصمهم بالكفر والسخف :" لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا.. "(17المائدة).
ويقول عن المسيح في موضع آخر: "إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ "(59الزخرف) .
ويعرض مشهداً من مشاهد يوم القيامة يستجوب فيه عيسى ابن مريم عما زعمه بعض الناس عنه من ألوهية ؛ ويثبت براءة عيسى من هذا الزعم الذي لا يد له فيه , في أسلوب قوي أخاذ : " وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ(116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"(118المائدة).
كما يعرض صورة من تأليه العباد للعباد لا تتمثل في اعتقادهم بألوهيتهم , ولكن تتمثل في تلقي الشرائع منهم , وجعلهم بذلك أرباباً ولو لم يعتقدوا بألوهيتهم أو يقدموا لهم شعائر العبادة : "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ"(31التوبة).
وهكذا . وهكذا . يستمر القرآن في توكيد هذه العقيدة وتثبيتها وتوضيحها , ليصل إلى تحرير الوجدان البشري من كل شبهة شرك في ألوهية أو ربوبية , قد تضغط هذا الوجدان , وتخضعه لمخلوق من عباد الله , وإن يكن نبياً أو رسولاً , فإنه عبد من عباده لا إله!
فإذا انتفى أن يكون عبد بذاته أميز عند الله من عبد بذاته , انتفت الوسائط بين الله وعباده جميعاً ؛ فلا كهانة ولا وساطة , بل يتصل كل فرد صلة مباشرة بخالقه ؛ ويتصل شخصه الضعيف الفاني بقوة الأزل والأبد , ويستمد منها القوة والعزة والشجاعة , ويشعر برحمة الله وعنايته وعطفه , فيشتد إيمانه وتقوى معنويته .
والإسلام حريص كل الحرص على تقوية هذه الصلة , وإشعار الفرد أنه يملك الإستعانة بتلك القوة الكبرى أناء الليل وأطراف النهار:"اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ"(19الشورى).
"وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ "(186البقرة).. ".. وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ"(87يوسف).. "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا "(53الزمر).
وقد شرع الإسلام خمس صلوات , يقف فيها العبد كل يوم أمام ربه , ويتصل فيها المخلوق بخالقه , في أوقات منظمة , غير ما يعن له هو أن يقف أمام إلهه , أو يتصل به في توجهه ودعائه .
وليس الغرض من الصلاة أو الدعاء ألفاظاً وحركات , بل القصد هو التوجه الكامل بالقلب والفكر والجسد في وقت واحد إلى الله , تمشياً مع تصور الإسلام الكلي عن وحدة الإنسان وتكوينه , ووحدة الخالق في ألوهيته : "فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ"(5الماعون)..
*   *    *
فإذا تحرر الوجدان من شعور العبادة والخضوع لعبد من عباد الله ,وامتلأ بالشعور بأنه على اتصال كامل بالله , لم يتأثر بشعور الخوف على الحياة أو الخوف على الرزق , أو الخوف على المكانة . . . وهو شعور خبيث يغض من إحساس الفرد بنفسه ؛ وقد يدعوه إلى قبول الذل , وإلى التنازل عن كثير من كرامته , وكثير من حقوقه . ولكن الإسلام لشدة حرصه على أن يحقق للناس العزة والكرامة , وأن يبث في نفوسهم الاعتزاز بالحق , والمحافظة على العدل ؛ وان يضمن بذلك كله ـ علاوة على التشريع ـ عدالة اجتماعية مطلقة , لا يفرط فيها إنسان .. لهذا كله يعني عناية خاصة بان يقاوم الشعور بالخوف على الحياة وعلى الرزق وعلى المكانة , فالحياة بيد الله , وليس لمخلوق قدرة على أن ينقص هذه الحياة ساعة أو بعض ساعة ,كذلك ليس له أن يخدشها خدشا خفيفاً بضرر خفيف:" وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا"(145آل عمران)
.. "قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا"(51التوبة).." وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ "(49يونس).
إذن فلا كان الجبن والجبناء , والحياة والأجل , والنفع والضر بيد الله دون سواه:"قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ"(14الأنعام)
.." اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ "(26الرعد).. "وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ"(60العنكبوت).." قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ" (31يونس).. "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ"(3فاطر).. "وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ "(151الأنعام) "وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه ِإِنْ شَاءَ "(28التوبة) .
ويقرر القرآن أن خوف الفقر إنما هو من إيحاء الشيطان ليضعف النفس , ويصدها عن الثقة في الله , وعن الثقة في الخير : "الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ "(268البقرة) .
إذن فلا يجوز أن يُذِل الاسترزاق رقاب الناس , فإنما رزقهم بيد الله ؛ وبيد الله وحده ؛ ولن يملك أحد من عباده الضعفاء أن يقطع رزق إنسان , ولا أن يضيق عليه الرزق شيئاً. وهذا لا ينفي الأسباب والعمل , ولكنه يقوي القلب ويشجع الضمير , ويجعل الفقير المسترزق يواجه من يظن بيده رزقه بكل قوة وبكل شجاعة , فلا يقعده شعور الخوف عن المطالبة بحقه , وعن الاعتزاز بنفسه , ويدعوه إلى ترك بعض أجره أو بعض دينه أو بعض عزته احتفاظاً برزقه . على هذا النحو يجب أن يفهم توجيه القرآن واتجاه الإسلام , فهذا هو الفهم الحق الذي يتمشى مع منهجه العام في التوجيه والتشريع .
والخوف على المركز و المكانة قد يكون عدلاً للخوف من الموت والأذى , والخوف من الفقر والعيلة . والإسلام يحرص على أن يتحرر الفرد من الخوف أيضا ً, فلن يملك مخلوق لمخلوق في هذا الأمر شيئاً :" قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "(26آل عمران).." قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ "(89المؤمنون) .. "إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ"(160آل عمران) .." مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا"(10فاطر) . . "وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ "(8المنافقون). .
وإذن فلا خوف من هذه الناحية أيضاً , فإن القدرة لله وحده , وإن العزة لله جميعاً : "وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ "(18الأنعام)..
*    *     *
ولكن النفس البشرية قد تتحرر من عبودية القداسة , ومن عبودية الخوف على الحياة أو الرزق أو المكانة ؛ ثم تتأثر بعبودية القيم الاجتماعية . قيم المال والجاه والحسب والنسب , ولو لم ينله منها نفع ولا ضر . فإذا استشعر الوجدان عبودية معنوية لأية قيمة من القيم , فلن يملك حريته كاملة إزائها , ولن يشعر بالمساواة الحقة مع أصحابها . وهنا يتصدى الإسلام لهذه القيم جميعاً , فيضعها في موضعها الحقيقي بلا إغفال ولا مغالاة , ويرد القيم الحقيقية إلى اعتبارات معنوية ذاتية , كامنة في نفس الفرد , أو واضحة في عمله . وبذلك يضعف تأثير القيم المادية , وتضؤل آثارها النفسية ؛ فيكون هذا ـ بجانب ما يكفله الإسلام من ضمانات معيشية وقانونية ـ وسيلة للتحرر الوجداني الكامل:" إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ"(13الحجرات).. والكريم عند الله هو الكريم حقاً وصدقاً . "وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ"(37سبأ) . .
فليكونوا أكثر أموالاً وأكثر أولاداً , فما لهذا من قيمة تجعل لهم ميزة أو استعلاء , "إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا "فالإيمان هو قيمة مكنونة في الضمير , والعمل الصالح هو قيمة بارزة في الحياة , هما القيمتان الحقيقيتان اللتان لهما كل الاعتبار .
والإسلام لا يغض مع هذا من قيمة المال ولا من قيمة الأبناء : "الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" . . زينة ولكنها ليسا من قيمها التي ترفع وتخفض "وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا"(46الكهف) . .
ويضرب القرآن للقيم المادية والقيم المعنوية مثلاً قي نفسي رجلين , لا يدع مجالاً للشك في إيثار إحداهما على الأخرى , في الوقت الذي يرسم صورة واضحة قوية للنفس المؤمنة وحقيقة القيم فيها : " وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا"(43الكهف) .
وهكذا يبرز اعتزاز المؤمن بإيمانه , واستهانته بتلك القيم التي اعتز بها صاحبه وهو يحاوره . مما يلفت النظر أن صاحبه هذا المعتز بجنته لم يظهر الشرك بالله , ولكن القرآن عده شركاً وجعله  يعترف بإشراكه في النهاية . وذلك أنه أشرك قيمة مادية صرفة , وجعل لها الاعتبار في وجدانه . والمؤمن الحق لا يشرك بالله شيئاً .
وفي قصة "قارون" يعرض صورتين نفسيتين بإزاء فتنة المال والثراء : صورة لنفوس تزدهيها هذه القيم فتضعف وتتضاءل , وتحس بالصغر أما فتنة الأغنياء ؛ وصورة لنفوس مؤمنة تعتز وتقوى ولا تصغر أو تضعف أبداً : "إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ"(82القصص) .
ويرتب الإسلام على نظرته هذه نتائج فينهي الله نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يعطي قيمة لما يتمتع به بعضهم من متاع خلاب , فإنما هو فتنة واختبار وابتلاء : "وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى"(131طه) .
ويفهم بعضهم أن هذه الآية ونظائرها إنما تدعوا إلى ترك الأغنياء يغتنون كما يشاءون , ورضي الفقراء بحرمانهم حقوقهم التي كفلها الإسلام لهم . وهو خاطيء لا يلتفت إلى التصور الإسلامي العام . وهو تفسير المحترفين من"رجال الدين" في عصور الاستبداد لتنويم الشعور العام , وكفه عن المطالبة بالعدالة الاجتماعية . وعليهم وزرهم , والإسلام من تأويلهم برئ . فإنما جاءت هذه الآية وأمثالها لرد اعتبار القيم الإنسانية , ولإنقاذ أنفس الفقراء مما يلحقها من ضعف أو انكسار أما القيم المادية البحتة من مال ومتاع .
ومما يؤيد اتجاهنا هذا أمر الله ـ سبحانه ـ لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بألا يقيم وزناً لهذه القيم ؛ وألا يرتب اعتبارات الناس عليها :
"وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا " (28الكهف) . . "فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ "(55التوبة) .
وفي هذا المجال تعرض قصة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الرجل الأعمى الفقير " ابن أم مكتوم " ومع " الوليد بن المغيرة " سيد قومه . تلك القصة التي عتب الله فيها نبيه عتاباً شديداً :
" عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ"(12عبس) .
ولقد كانت لحظة حرص بشري ساورت محمداً ـ صلى الله عليه وسلم  ـ طمعاً في أن يهدي الله الوليد إلى الإسلام ؛ وكان بأمره مشغولاً حينما جاءه ابن أم مكتوم يطلب شيئاً من القرآن ويدعو مرة ومرة , وهو بأمر الوليد مشغول ؛ فتضايق منه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعبس في وجهه ؛ فعاتبه ربه هذا العتاب الشديد , الذي كاد يبلغ حد التأنيب ؛ تصحيحاً للقيم التي يعتز بها الإسلام , وتحقيقاً لمنهجه الصحيح , واتجاهه القويم , في تحرير الوجدان .
*    *    *
وأخيراً فقد تتحرر النفس البشرية من عبودية القداسة ومن خوف الموت والأذى والفقر والهوان ؛ ومن كل الاعتبارات الخارجية والقيم الاجتماعية ؛ ثم تبقى مستذلة لذاتها ,مستذلة للذاتها وشهواتها , مستذلة لمطامعها وأهوائها ؛ فيأتي لها القيد من داخل حين تنفلت منه من خارج ؛ فلا تبلغ التحرر الوجداني الكامل الذي يريده الإسلام لها , ليحقق لها العدالة الاجتماعية الإنسانية الكبرى .
والإسلام لا يغفل هذا الخطر الكامن على التحرر الوجداني , فيلقى إليه إلتفاتة عميقة , وتشهد بعنايته بدخائل النفس البشرية وأغوارها ؛ وتدل على رعايته لكل استعداداتها وملابساتها ؛ ويلم بما لم تلم به المسيحية وتجعله غاية غاياتها :
"قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ "(24التوبة) .
 وهكذا يجمع في آية واحدة جميع اللذائذ والمطامح والرغائب ونقط الضعف في نفس الإنسان , ليضعها في كفة , ويضع في الكفة الأخرى حب الله ورسوله , وحب الجهاد في سبيله , لتكون التضحية كاملة , والتخلص من أوهاق الشهوات كاملاً . فالنفس التي تتحرر من هذا كله هي النفس التي يتطلبها الإسلام , ويدعو إلى تكوينها لتستعلي على الضراوة المذلة , وتملك قياد أمرها وتنزع إلى ما هو أكبر وأبعد مدى من الرغبات الوقتية الصغيرة .
أو يقول : "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ"(15آل عمران).
وما كان هذا تخديراً ولا دعوة إلى الزهد وترك طيبات الحياة كما يحلو لبعضهم أن يفسر القرآن , أو كما يحلو لبعضهم أن يهتم الإسلام ؛ إنما كان دعوة للتحرر والانطلاق من ضعف الشهوات والغرائز , ثم لا ضرر بعد من ذلك من الاستمتاع بالحياة حين يملكها الإنسان ولا تملكه : "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ "(32الأعراف) "وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا "(77القصص).
وفي هذا الاتجاه نفسه كانت فريضة الصوم لترتفع النفس على ضرورات الفطرة القوية فترة من الوقت وتقوى بها إرادتها وتستعلي , ويسمو بها الإنسان على ذاته حين يرتفع على ضروراته .
ويسلك القرآن إلى هذه الغاية شتى السبل ؛ ومن بينها التحذير الإيحائي من فتنة الأموال والأولاد حين يقول : "أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ"(32الأنفال) . . وبذلك يثير عامل الحذر من الاندفاع وراء الضعف البشري بإزاء الأموال والأولاد . فكثيراً ما يؤتي المرء من ناحية حرصه على ماله أو بنيه , فيقبل ما لم يكن ليقبل , ويخضع لما لم يكن ليخضع , ويرتكب ما لم يكن ليرتكب . وقد خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذات يوم وهو محتضن أحد ابني بنته فاطمة ـ رضي الله عنها ـ وهو يقول :"إنكم لتبخلون وتجبنون وتجهلون"(الترمذي) .
وبعد , فلقد يتحرر المرء من كل ما يغض شعورياً من كرامته , ولكنه يحتاج . يحتاج إلى اللقمة فيذل , فليس أشد من الحاجة إذلالاً ؛ والبطن الجائعة لا تعرف المعاني العالية .
ولقد يضطر إلى الإستجداء فتذهب كرامته كلها ضياعاً . هنا يتولى الإسلام الأمر بالتشريع لمنع أسباب الحاجة ؛ ولإزالتها حين توجد : فيجعل للفرد حقه في الكفاية مفروضاً على الدولة وعلى القادرين في الأمة , فرضاً يعاقب عليه في الآخرة ويقاتل عليه في الدنيا (وسيأتي تفصيل ذلك عند الكلام على التكافل الاجتماعي في الإسلام) . ثم ينهى عن الاستجداء فيصف جماعة من المسلمين الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض؛ وصف استحسان بأنهم "لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا"(273البقرة)والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعطي سائلاً درهماً ثم يقول: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره , فيبيعها , فيكف الله بها وجهه , خير من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه"(الشيخان واللفظ للبخاري)ويقول :"اليد العليا خير من اليد السفلى"(الشيخان). فيحض على الاستغناء بوسائل أخرى غير وسيلة الاستجداء التي يراها الإسلام ضرورة مكروهة . أما أموال الزكاة فهي حق : حق يؤخذ , لا فضل يعطى :" وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ"(19الذاريات) . حق تأخذه الدولة لتملكه لأصحابه , وتنفق منه على مصالح المسلمين بما يدفع حاجة الجسد , ويحفظ كرامة النفس , ويصون عزة الوجدان . فإن لم يكف شرعت من الفرائض والوظائف في أموال القادرين والأغنياء بقدر ما يسد حاجة الضعفاء والفقراء ( وسيأتي بيان هذا في فصل سياسة المال) .   
*    *    *
وكذلك يأخذ الإسلام الأمر من وجوهه كلها ومن مناحيه جميعاً , فيكفل التحرر الوجداني تحررا مطلقاً ولا يقوم على المعنويات وحدها , ولا على الاقتصاديات وحدها , ولكن يقوم عليهما جميعاً . فيعرف للحياة واقعها , وللنفس طاقتها ؛ ويستثير في الطبيعة البشرية غاية أشواقها وأعلى طاقاتها ؛ ويدفع بها إلى التحرر الوجداني كاملاً صريحاً . فبغير التحرر الكامل لن تقوى على عوامل الضعف والخضوع والعبودية ؛ ولن تتطلب نصيبها من العدالة الاجتماعية ؛ ولن تصبر على تكاليف العدالة حين تتعاطاها.
وهذا التحرر هو أحد الأسس الركينة لبناء العدالة الاجتماعية في الإسلام . بل هو الركن الأول الذي تقوم عليه الأركان .

ليست هناك تعليقات: