الأربعاء، 27 مارس 2013

الدين والمجتمع بين المسيحية والإسلام


العدالة الاجتماعية في الإسلام
الشهيد سيد قطب

بسم الله الرحمن الرحيم

الدين والمجتمع بين المسيحية والإسلام

في عالم الاقتصاد, لا يلجأ الفرد إلى الاستدانة, وله رصيد مذخور, قبل أن يراجع رصيده , فيرى إن كان فيه غناه , ولا تلجأ الدولة إلى الاستيراد قبل أن تراجع خزائنها, وتنظر في خاماتها ومقدراتها كذلك .. أفلا يقوم رصيد الروح , وزاد الفكر و وراثات القلب والضمير و كما تقوّم السلع والأموال في حياة الناس؟ !
بلى! لكن في العالم الذي يطلق عليه اسم" العالم الإسلامي", لا تراجع رصيدها الروحي وتراثها الفكري, قبل أن تفكر في استيراد المبادئ والخطط, واستعارة النظم والشرائع, من خلف السهوب ومن وراء البحار !
إن الناس تنظر فترى واقعا اجتماعيا لا يسر , وتبصر فترى أوضاعا اجتماعية لا تحقق العدالة ,عندئذ تتجه بأبصارها إلى أوربا وأمريكا وروسيا والصين ويوغسلافيا ... وما إليها ! تستجلب منها الحلول لمشكلاتها , كما تستورد منها السلع لمعاشها. غير أنها عند استيراد السلع تراجع أرصدتها القديمة, وتحصي موجوداتها في السوق, وتنظر في قدرتها على الإنتاج. فأما عند استيراد المبادئ والنظم والقوانين فلا تصنع شيئا من هذا كله؛ولا تتحرج أن تلقي بكل تراثها الروحي , وكل مقوماتها الفكرية, وكل الحلول التي يمكن أن يتيحها النظر فيما لديها من أسس ومبادئ ونظريات , لتستجلب المبادئ الديمقراطية, أو الاشتراكية , أو الشيوعية ؛فتكل إليها حل مشكلاتها الاجتماعية ؛ مهما اختلفت أوضاعها ,وظروفها , وتاريخها , ومقومات حياتها المادية والفكرية والروحية , عن ظروف القوم فيما وراء البحار , وفيما خلف السهوب!
وهؤلاء الناس يعلنون أن دينهم هو الإسلام . ويزعمون أحياناً أنهم حماة الإسلام ودعاته! ولكنهم يقصون هذا الدين من حياتهم العملية ,ولا يحكم الحياة , ولا يصرف شئونها , ولا يعالج مشكلاتها ... فالدين ـ كما يقال ـ صلة ما بين العبد وربه ؛ أما صلات الناس , وعلاقات المجتمع , ومشكلات الحياة , وسياسة الحكم وسياسة المال ... فلا دخل للدين بها , ولا دخل لها بالدين .. هذا ما يقوله الذين لا ينكرون الدين . فأما الآخرون فيقولون : لا تذكروا لنا هذا الدين ؛ فالدين إن هو إلا مخدر أستغله الرأسماليون والحكام المستبدون , لتنويم الطبقات الكادحة , وتخدير الجماهير المحرومة! ومن أين جاء هؤلاء الناس بهذه النظريات الغريبة على طبيعة الإسلام , وعلى تاريخ الإسلام ؟ لقد استوردوها هي الأخرى ـ كما يستوردون كل شيء ـ من خلف السهوب ومن وراء البحار!
ذلك أن قصة العزلة بين الدين والدنيا لم تنبت في العالم الإسلامي , ولم يعرفها الإسلام , وقصة تخدير الدين للمشاعر لم تكن يوماً وليدة هذا الدين , ولم تعرفها طبيعته . ولكنهم يتلقفونها كالببغاء, ويحاكونها محاكاة كالقردة , ولا يحاولون أن يفتشوا عن أصلها ونشأتها , ولا يعرفون مصدرها وموردها.. فلننظر من أين جاءت , وكيف جاءت هذه القولة الغريبة .

*     *     *
لقد نشأت المسيحية في ظلال الإمبراطورية الرومانية ؛ وفي وقت تحجرت فيه الديانة اليهودية ؛ واستحالت طقوسا جامدة لا حياة فيها , ومظاهر خاوية لا روح فيها . وكان للإمبراطورية الرومانية قوانينها المشهورة التي لا تزال ينبوعا للقوانين الأوربية الحديثة ؛وكان للمجتمع الروماني نظمه الوضعية ؛ ومقوماته الاجتماعية , فلم تكن المسيحية الكنسية كما صاغها بولس وقدمها لأوروبا , وفي الظروف التي كانت قائمة يومذاك , بقادرة على أن تضع للدولة الرومانية الوطيدة , وللمجتمع الروماني المعقد , قوانين ونظماً , وحدوداً للسير على هداها وفي الدولة والمجتمع . بينما بنو إسرائيل الذين أرسل إليهم عيسى عليه السلام والأرض المقدسة كلها مستعمرة رومانية ! فانصرفت بحكم هذه الظروف إلى التهذيب الروحي والتطهير الوجداني ؛ وعنيت بهذا الجانب بقدر ما كانت معنية بنقد الطقوس الجامدة , والمظاهر الخاوية في شعائر اليهودية , ورد الروح والحياة إلى الضمير الإسرائيلي .
ولقد بلغت المسيحية في بعض فتراتها مستوى عاليا في التطهير الروحي , والتجرد المادي , والسماحة الوجدانية , وأدت واجبها في  هذا الجانب من حياة الإنسانية الروحية , وبقدر ما تستطيع تعاليم روحية مجردة من الشريعة أن ترتفع بالروح , وأن تسمو بالوجدان , وأن تنظف القلب والضمير وأن تكبت الغرائز , وتعلوا على الضرورات , وتهدف إلى أشواق مقدسة في عالم المثال والخيال , وتاركة للدولة تنظمه بقوانينها الأرضية في عالم الظاهر والواقع , إذ كانت هي معنية بعالم النفس والضمير , وكانت بذلك منطقية مع الصورة التي رسمتها الكنيسة للمسيحية , ومع نشأتها في بيئة خاصة , ومع حاجة الأمة الإسرائيلية بصفة خاصة في تلك الفترة .
ولما عبرت المسيحية في صورتها هذه البحر إلى أوربا وجدت الرومان ورثة الحضارة الإغريقية المادية الوثنية , وكما وجدت أقواما في أنحاء أوربا حديثي العهد بالبربرية , يتناحرون بجموعهم الكثيفة على رقعة من الأرض ضيقة , وذات طبيعة قاسية وعرة ضنينة شحيحة , لا يملك من يعيش فيها طعم الراحة فترة , ولا يلقي سلاحه لحظة , ولا أن يركن في واقع الحياة إلى نظريات المسيحية وتعلقها بملكوت السماء , وانعزالها عن الحياة الأرضية الواقعية .
لقد رأى هؤلاء الأقوام أن الدين لا يصلح للحياة , فقالوا: إن الدين صلة ما بين العبد والرب , وأنه لا بأس عليهم أن يستظلوا بظله في الكنيسة ؛ وأن يستروحوا نسماته في الهيكل المقدس , وأن يواجهوا صراعا الحياة بعد ذل في المجتمع بتقاليدهم البربرية ؛ وأن يدعوا السيف يقضي بحكمه في أبان همجيتهم , ويدعوا القانون المدني يقضي بحكمه بعد أن تحضروا . فأما الدين فقد بقى في عزلته الوجدانية هناك في القلوب والضمائر, وفي الهيكل المقدس وكرسي الاعتراف ! ولم تتمثل المسيحية هنالك قط في نظام يهيمن على الحياة كلها ,  ويربط ملكوت الأرض بملكوت السماء .
ومن هنا كانت تلك العزلة بين الدين والدنيا في حياة الأوربيين . بل كانت الحقيقة الواقعة التي تنطق بها طبائع الأشياء , وهي أن أوربا لم تكن مسيحية قط في يوم من الأيام. وقد بقى الدين في عزلة عن تكييف الحياة وتنظيمها من يوم دخوله إلى يومنا هذا .
ولكن رجال الدين من القساوسة , ومن الكرادلة , والبابوات .. لم يكونوا ليستطيعوا أن يضمنوا مصالحهم , ولا أن يحافظوا على نفوذهم , إذا بقيت الكنيسة في عزلة عن الحياة الاقتصادية الاجتماعية والسياسة فلابد إذن أن تكون الكنيسة سلطة تقابل سلطة الملوك والأمراء ولا بد أن تستغل سلطانها الروحي في ميدان الحياة العامة . وجاءت عصور كان للكنيسة أملاك وجيوش وسلطان لا تقل عن أملاك  الملوك وجيوشهم وسلطانهم .  ووقع النزاع ـ كما لابد أن يقع ـ بين الكنيسة والسلطة , وبين البابوات والأباطرة ؛ وكان الدهماء في الغالب في صف الكنيسة . ثم وقع الوفاق ـ  كما لابد أن يقع ـ بين هاتين السلطتين , لالتقاء مصلحتيهما في تسخير الجماهير, واستغلال الدهماء , ما دامت مصالح مادية واقتصادية في حقيقتها , وما دام النزاع في أصله على السلطة الزمنية .
وكان هذا . وقيل : إن الدين مسخر لإخضاع الملايين للمستبدين ورجال الدين . لأنه هكذا كان الأوربيين !
*   *   *
وبقيت الكنيسة سلطة مقدسة , وتملك رقاب الناس في الدنيا , وفي الآخرة كذلك بقيت تبيع " صكوك الغفران " وتصدر "قرارات الحرمان" , وظلت تتحكم في مشاعر الناس وأفكارهم على السواء ؛ ومن خلفها محاكم التفتيش , تقتل وتحرق كل من يرفع رأسه , أو يتهم بالزيغ والإلحاد .. حتى جاء عصر الإحياء ورأت الكنيسة ما يهدد سلطانها  من تفتح الأذهان والمشاعر بعد القرون المظلمة ؛ ولم يكن هينا عليها أن تفقد سلطانها أمام تيار الفكر الحديث والعلم الآخذ بالنماء؛ فانطلقت تقاوم وتجاهد لتكميم الأفواه الجريئة , وتعطيل الأفكار المتحررة من الجهل والخرافة , التي تناقض النظريات البالية العتيقة ؛ فكان العداء الشنيع بين الكنيسة وحرية الفكر منذ ذلك التاريخ . ولما كانت الكنيسة لا تريد أن تكتفي بملكوت السماء , و أن تقنع بالتحكم بالآخرة . فقد اصطدمت نظرياتها عن الأرض والأفلاك والمواد بنظريات العلم القائمة على الدراسة الطليقة مما فرضته الكنيسة من مقررات , ولم تقم إلا على ناقص من علم البشر , ولا علاقة لها بالدين في أصوله ... فقد نشأت أجيال من العلماء والمفكرين تكره الكنيسة وتحتقرها معاً ؛ وتكن في نفوسها العداوة والبغضاء والاشمئزاز للدين ولرجال الدين .    
ومن هنا كانت الجفوة بين الدين والعلم , وبين الكنيسة والفكر , في حياة الأوربيين !(1)
*   *   *
ثم سارت الحياة في طريقها ؛ وآتى العلم الحديث ثمراته ونشأ عنه في عالم الصناعة ما يعرف بالإنتاج الكبير ؛ وتضخمت رؤوس الأموال ؛ وأصبح في ميدان العمل معسكران منفصلان : معسكر أصحاب رؤؤس الأموال , ومعسكر العمال ؛ وانفرجت الهوة بين مصلحة كل المعسكرين ؛ وانتقلت السلطة الحقيقية من يد الدولة إلى أيدي أصحاب رؤوس الأموال . ولما لم يكن بد للكنيسة أن تنضم للسلطة الحقيقية , فقد انضمت إلى معسكر رأس المال ! .
ولا أحب أن أظلم رجال الكنيسة الأوربية جميعا ؛ فقد يكون منهم المستنفع الذي يدرك مركز القوة فينضم إليه ؛ ويتخذ من الدين مخدراً للطبقات الكادحة ؛يصدها عن الثورة لحقها ؛ ويخذلها عن طلب النصفة في الدنيا , ويمنيها العوض في الآخرة . ولكن بعضهم لا بد أن يكون مخلصا في دعوة من هذا القبيل , حسب فهمه لعقيدته المسيحية كما رسمتها الكنيسة , فالمسيحية في جوهرها تزهد , واحتقار للحياة الظاهرة , وتطلع إلى ملكوت الرب وعلم السماء , وانفصال كامل بين بين ملكوت الأرض وملكوت السماء . وعلى أية حال , لقد وجدت الطبقات الكادحة التي تريد أن تصارع ,أن الدين لا يغذي رغبتها في الصراع ؛ وأن الكنيسة تتخذ منه مخدراً للكادحين ؛ فأعلنت ثورتها الكاملة على الدين ؛ وقالت عنه : إنه مخدر الملايين . وسواء كان دعاة المذهب المادي مخلصين في موقفهم من الكنيسة أم غير مخلصين , فالحق أن الكنيسة كانت تقف في غير صف الكادحين !
ومن هنا كان العداء الجاهر الصريح بين الشيوعية والدين (2)!
*   *   *
ولكن نحن ! نحن الذين نسمي أنفسنا مسلمين ونتسمى بأسماء المسلمين ـ ما بالنا وهذا كله ؟ وظروفنا التاريخية , وطبيعة الإسلام وظروفه ليست في شيء من هذا جميعه !
ولقد نشأ الإسلام في أرض لا سلطان لإمبراطورية ولا ملك عليها ؛ ونشأ في مجتمع بدوي قبلي ليست به أوضاع أو قوانين من نوع ما كان في الإمبراطورية الرومانية . وكان هذا انسب وضع لهذا الدين في نشأته الأولى , ليتولى إنشاء المجتمع الذي يريده بلا عوائق حقيقية ويضع له قوانينه ونظمه ؛ ويتولى في الوقت ذاته ضميره وروحه , كما يتولى سلوكه ومعاملاته ؛ ويجمع بين الدنيا والدين في توجيهاته وتشريعاته .. وقد قام على أساس توحيد عالم الأرض وعالم السماء في نظام واحد يعيش في ضمير الفرد , كما يعيش في ضمير الجماعة , ولا ينفصل فيه النشاط العملي عن الوازع الديني ؛ ولا يتعدد جوهره الموحد , وإن اختلفت مظاهره ومسالكه .
ولم يكن الإسلام ـ ووظيفته الأولى هي إنشاء صورة جديدة وكاملة للحياة الإنسانية ـ بمستطيع أن ينعزل في الوجدان البشري , بعيدا عن الحياة العملية الواقعية ؛ ولم يكن مضطراً من ناحية نشأته التاريخية كذلك أن يضيق دائرة عمله لحظة واحدة خشية إمبراطورية أو سلطان ؛ فهو سيد نفسه حتى والجاهلية العربية تعارضه . فهي تعارضه بغير أوضاع اجتماعية ذات جذور راسخة وبغير نظام اجتماعي وطيد الأركان كالمجتمع الذي صادفته المسيحية في أول عهدها . وميدان عمله هو الحياة البشرية كلها , روحيها وماديها , دينها ودنيويها.  وقد نشأ في أنسب بيئة ليزاول طبيعته كاملة , ويبلور حقيقته في صورة واقعية منذ اللحظة الأولى . والله أعلم حيث يجعل رسالته , وقد كان من قدر الله لهذا الدين الذي سيبقى إلى آخر الزمان أن يطبق تطبيقاً كاملاً بلا عوائق منذ ولادته لتبقى منه صورة كاملة للأجيال لا غبش فيها ولا شبهة .
ولن يستقيم هذا الدين في عزلة عن المجتمع ؛ ولن يكون أهله مسلمين , وهم لا يُحكّمونه في نظامه الاجتماعي والقانوني والمالي ؛ ولن يكون مجتمعهم إسلامياً , وأحكام الإسلام وشرائعه منفية من قوانينهم ونظمهم وليس لهم من الإسلام إلا شعائر وعبادات ؛ فلإسلام هو العبودية لله وحده , ولإفراده بخصائص الألوهية , وفي أولها الحاكمية , كما سنفصل بعد:
(فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (3)..( ... وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا...)(4)..
( ...  وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)(5).
ومما يجعل هذا الطريق متعينا , أن هذا الدين كل لا يتجزأ: عباداته ومعاملاته وشرائعه وتوجيهاته . والشعائر التعبدية ليست منفصلة في طبيعته وأهدافه عن النظم والمعاملات , فالصلاة وهي من أخص الشعائر التعبدية تعني توجه الفرد وتوجه الجماعة إلى اله واحد عزيز قادر, ولا تعنوا الجباه إلا له , وإلى قبلة واحدة لا زيغ عنها ولا فسوخ , كما تعني المساواة أمام ديان واحد , الكل له عبيد , والكل أمامه سواء , ( شهادة أن لا إله إلا الله) ـ وهي الركن ألاعتقادي الأول في هذا الدين ـ تعني منهجاً كاملاً للحياة يقوم على التحرر المطلق وجدانيا وعمليا من كل عبودية لغير الله . وهذا التحرر الذي هو الخطوة الأساسية لتحقيق مجتمع صالح وكريم , الكل فيه متساوون .
وعلى أية حال فلن يرتاب باحث في هذا الدين , في أن فكرة المجتمع واضحة بارزة في شعائره ونظمه على السواء , وأنها الفكرة الأولى القوية الشائعة في كيانه كله . فإذا شاهدنا في بعض العصور محاولة لتضخيم الجانب "التعبدي"في هذا الدين وعزله عن الجانب الاجتماعي , أو عزل الجانب الاجتماعي عنه , فتلك آفة العصر لا آفة الدين( 6) .
وليس هذا الذي نقوله عن الإسلام بدعاً نبتدعه , ولا تأويلاً جديدا لحقيقته , وإنما هو الإسلام كما أبان عن وجهته , وكما فهمه صاحبه الأول ـ محمد صلى الله عليه وسلم ـ وكما فهمه أصحابه المخلصون له , والقريبون من منبعه الأصيل. جاء في القرآن الكريم : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّه...ِ" (7) وكلنا يعلم كم تستغرق الصلاة المفروضة من الزمن في اليوم , وما بقي للسعي والعمل , فوقت الصلاة نسبة ضئيلة في حياة الإنسان , وللمجتمع والحياة ما تبقى طوال الليل والنهار . وجاء في موضع آخر : " وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا"(7) لأن الغالب في النهار المعاش لا الشعائر التعبدية .
على أن الإسلام لا يعد العبادة فيه هي مجرد إقامة الشعائر , إنما الحياة كلها خاضعة لشريعة الله , متوجهاً بكل نشاط فيها إلى الله . ومن ثم يعد كل خدمة اجتماعية وكل عمل من أعمال الخير فيه عبادة . قال صلى الله عليه وسلم : " الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار"(8)والحادثتان التاليتان قاطعتان الدلالة على روح الإسلام , كما يفهمه صاحبه رسول الله : عن أنس رضي الله عنه قال : كنا مع النبي في سفر , فمنا الصائم ومنا المفطر . قال : فنزلنا منزلاً في يوم حار , أكثرنا ظلا صاحب الكساء , فمنا من يتقي الشمس بيده . قال فسقط الصوام وقام المفطرون فضربوا البنية , سقوا الركاب . فقال صلوات الله عليه وسلامه : ذهب المفطرون اليوم بالأجر كله (9) .
وعنه أيضاً أنه قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته , فلما أخبروا كأنهم تقالوها ! وقالوا أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ قال أحدهم : أما أنا فاصلي الليل أبداً . وقال الآخر : وأنا أصوم الدهر لا أفطر . وقال آخر : وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبداً فجاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليهم فقال : "أنتم الذين قلتم كذا وكذا . أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له . ولكني أصوم وأفطر , وأصلي وارقد , وأتزوج النساء . فمن رغب عن سنتي فليس مني(10)" .
ولم يكن ذلك من محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو أعرف بدينه , استهانة بأمر الصوم والصلاة ؛ ولكن إدراكاً لحقيقة هذا الدين , الذي يعمل للحياة وهو يعمل للعقيدة, فيمزج العقيدة بالحياة , ولا يقف بها في معزل وجداني في عالم الضمير .
وهذا ما فهمه عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ حين رأى رجلاً يظهر النسك والتماوت , فخفقه بالدُّرة وقال :" لا تمت علينا ديننا أماتك الله ". أو حين شهد عنده شاهد , فقال : أئتني بمن يعرفك , فأتاه برجل , وأثنى عليه خيراً , فقال له عمر : أنت جاره الأدنى الذي يعرف مدخله ومخرجه ؟ قال : لا . قال كنت رفيقه في السفر الذي يستدل به على مكارم الخلاق ؟ قال : لا . قال فعاملته بالدينار والدرهم الذي يستبين به رع الرجل ؟ قال : لا . قال : أظنك رأيته قائما في المسجد يهمهم بالقرآن , يخفض رأسه تارة ويرفعه أخرى! قال : نعم! فقال : اذهب فلست تعرفه ! وقال للرجل : اذهب فأتني بمن يعرفك !
فهذه من عمر ـ رضي الله عنه ـ كتلك من نبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم فهم صحيح لحقيقة هذا الدين , وتصوره للعباد والسلوك , وفي العقيدة المستسرة في الضمير , والعمل الواضح للعيان : " وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا(12) ". " ... وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ...(13)". " وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(14)".. " لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ.." (15)
" من رأي منكم منكرا فليغيره "(16) .
فهذا هو قوام الإسلام في العمل والاعتقاد . ولا عزلة إذن بين الدين والدنيا , ولا بين العقيدة والاجتماع , كما كان الحال في المسيحية التي صاغتها المجامع المقدسة .
*   *   *
والإسلام لا كهانة فيه ولا وساطة بين الخلق والخالق , فكل مسلم في أطراف الأرض , وفي فجاج البحر , يستطيع بمفرده أن يتصل بربه , بلا كاهن ولا قسيس . والإمام المسلم لا يستمد ولايته من ’الحق الإلهي’ ولا من الوساطة بين الله والناس , إنما يستمد مباشرته من الجماعة الإسلامية , كما يستمد السلطة ذاتها من تنفيذ الشريعة , التي يستوي الكل في فهمها وتطبيقها متى فقهوها , ويحتكم إليها الكل على السواء .
فليس في الإسلام " رجل دين " بالمعنى المفهوم في الديانات التي لا تصح مزاولة الشعائر التعبدية فيها إلا بحضور رجل الدين . إنما في الإسلام علماء دين , وليس للعالم بهذا الدين من حق خاص في رقاب المسلمين , وليس للحاكم في رقابهم إلا تنفيذ الشريعة التي يبتدعها هو , بل يفرضها الله على الجميع . وأما في الآخرة , فالكل مصيرهم إلى الله : "وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا"(17) .
فلا صراع إذن بين علماء الدين والسلطان على رقاب العباد , ولا أموالهم ؛ وليست هنالك مصالح اقتصادية ولا معنوية يتنازعانها ؛ وليست هنالك سلطة روحية أخرى زمنية في الإسلام فلا مجال للصراع عليها , كما كان الحال بين الأباطرة والبابوات . والإسلام لا يعادي العلم ولا يكره العلماء ؛ بل يجعل العلم المؤدي إلى معرفة الله ـ وكل علم صحيح يؤدي إلى هذه الغاية ـ فريضة مقدسة داخلة في الطاعات الدينية : " طلب العلم فريضة على كل مسلم "(18) .. " من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً سهل الله له طريقا إلى الجنة"(19) .
لم يعرف التاريخ الإسلامي تلك الاضطهادات المنكرة المنظمة لرجال الفكر أو رجال العلم كما عرفتها محاكم التفتيش . والمرات القليلة النادرة التي عوقب فيها رجال على أفكارهم , تعد شاذة في تاريخ المسلمين , وفي الغالب كانت تتلبس بها حالات سياسية , وتكمن خلفها نزعات حزبية , وهي على وجه العموم ليست طابعاً بارزا للحياة الإسلامية ؛ وقد جاءت على أيدي أناس ينكر عليهم الإسلام أن يكونوا فَهمَة للإسلام .
وذلك طبيعي في دين لم يعتمد الخوارق والمعجزات ؛ وإنما قام على التأمل والنظر في آيات الله في الأنفس والآفاق :
"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ".."يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)  وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ "(21)
وذلك طبيعي أيضاً في دين يربط التقوى بالعلم ؛ ويجعل العلم سبيلاً إلى معرفة الله وخشيته : ".. إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ .."(22)... ويرفع العلماء على الجهال : " ..قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ .."(23).. " فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب " (24) .
فلا جفوة إذن بين الدين والعلم الصحيح المؤدي إلى معرفة الله عن طريق آياته في الأنفس والآفاق .لا جفوة بين الدين وهذا العلم , لا في طبيعة الإسلام ولا في تاريخه , كالجفوة التي وقعت بين الكنيسة والعلماء في عصر النهضة وما تلاه .
فأما وقوف " رجال الدين (25)" في صف السلطان وأصحاب المال وتخديرهم بالدين للعاملين المحرومين , فلا نكران لوقوعه في بعض عهود التاريخ الإسلامي . ولكن روح الدين الحقيقية تنكر على هؤلاء موقفهم ؛ والدين يتوعدهم بالعذاب والنكال جزاء ما اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً . ولقد حفظ التاريخ بجانب سير هؤلاء سيراً لنماذج من " علماء الدين "الذين لم تأخذهم في الحق لومة لائم , أو الذين جابهوا السلطان وأصحاب المال بحق الفقراء وحق الله ؛ وكما حرضوا أصحاب الحقوق على حقوقهم , وبينوها لهم , وتعرضوا لظلم الحكام , وللنفي أحياناً والاضطهاد .
*   *    *
ليس لدينا إذن سبب واحد لتنحية الإسلام عن المجتمع , لا من طبيعته الخاصة , ولا من ظروفه التاريخية , كالأسباب التي لازمت المسيحية في أوربا ؛ فعزلت الدنيا عن الدين
وتركت للدين تهذيب الضمير وتطهير الوجدان ؛ بينما تركت للقوانين الوضعية تنظيم المجتمع وتسيير الحياة .
كذلك ليست لدينا أسباب حقيقية للعداوة بين الإسلام والكفاح لتحقيق العدالة الاجتماعية ـ في حدود المنهج الإسلامي والشريعة الإسلامية ـ كالتي لابست العداوة بين المسيحية والشيوعية ؛ فالإسلام يفرض قواعد العدالة الاجتماعية ؛ ويضمن حقوق الفقراء في أموال الأغنياء ؛ ويضع للحكم والمال سياسة عادلة ؛ ولا يحتاج لتخدير المشاعر , ولا دعوة الناس لترك حقوقهم على الأرض , وانتظارها في ملكوت السماء . بل إنه لينذر الذين يتنازلون عن حقوقهم الشرعية , تحت أي ضغط , بسوء العذاب في الآخرة ؛ ويسميهم ظالمي أنفسهم : " إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا "(26)..
ويحرضهم على القتال لحقهم " ومن قتل دون مظلمته فهو شهيد "(27) .
فإذا اضطرت أوربا لتنحية الدين عن حياتها العامة , فلسنا بمضطرين أن نجاريها في هذا الطريق ؛ وإذا اضطرت الشيوعية أن تعادي الدين لتضمن حقوق الطبقات الكادحة ـ كما تزعم ـ فلسنا في حاجة إلى معاداة الدين !
ولكن بعض الناس ـ وفيهم من يزعمون أنهم مسلمون ويتسمون بأسماء إسلامية ـ يقولون : ومن الذي يضمن لنا أن هذا النظام الذي أقامه الإسلام في عصر تاريخي خاص , لا يزال يحمل عناصر النمو والتجديد الكفيلة بأن تجعله صالحاً للتطبيق في عصور تاريخية أخرى , قد تختلف مقوماتها كثيراً أو قليلاً عن مقومات العصر التاريخي الذي نشأ فيه الإسلام ؟
وهذا الكتاب بجملته هو الإجابة لهؤلاء على مثل هذا السؤال . ولكننا نقول هنا إجمال : إن الإسلام ـ وهو من صنع بارئ هذا الكون ومنشئ نواميسه , والعالِم بما يجِد فيه وما يتطور ـ كان في علمه هذا التطور التاريخي , وما يترتب عليه من تطور اجتماعي واقتصادي وفكري عام . وأنه لهذا وضع الخطوط الثابتة , والمبادئ العامة , والقواعد
الشاملة التي لا تخرج أطوار الإنسان في النهاية عن حدودها ؛ وترك التطبيقات لتطور الزمان , بروز الحاجات , في حدود مبادئه العامة , وقواعده الشاملة ؛ ولم يُدل بتفصيلات جزئية مقيدة إلا في المسائل التي لا تتغير حكمتها , والتي تؤدي أغراضها كاملة في كل بيئة , والتي يريد الله تثبيتها في الحياة البشرية , لأنها ضمان للخصائص التي يرتضيها لهذه الحياة . وانه بهذا الشمول وبهذه المرونة ,وقد كفل لأحكامه التطبيقية النمو والتجدد على مدى الأزمان .
ولقد بذل فقهاء هذا الدين جهداً ضخماً مشكورا في التطبيق والقياس والتفريع كفل لأحكام الإسلام أن تلبى حاجات المجتمع المتجددة في ذلك الزمان , الذي كان المجتمع فيه محكوماً بشريعة الإسلام .. ثم وقف هذا الجهد عندما تخلى المجتمع عن الإسلام بتخليه عن شريعة الإسلام , منذ أن غلب الاستعمار الصليبي على دار الإسلام في كل مكان !
ولم يكن العلاج لتلك الحال أن ندع ديننا الشامل في عزلة تعبدية , وننطلق إلى التشريع الفرنسي نستمد منه القانون , أو إلى النظريات السياسية الغربية نستمد منها نظام الحكم , أو إلى النظريات المادية نستمد منها نظام المجتمع , قبل أن نيئس من صلاحية هذه الشريعة لإقامة المجتمع الحديث ! ذلك النمو العضوي الطبيعي لأي نظام في بيئة من البيئات , يجعله أصلح بالقياس إلى هذه البيئة ـ على الأقل ـ من كل نظام متعسف غريب على طبيعة هذه البيئة , لم يتم فيها نموه العضوي الرتيب ... وذلك كله فضلاً على ما تقتضيه منا دعوى الإسلام التي ندعيها . وهي دعوى لا تقوم إلا على أساس من العبودية لألوهية الله وحده . ولن تتحقق العبودية لألوهية الله وحده إلا في صورة واحدة : صورة الحكم بشريعة الله . ولكنه الجهل بحقيقة هذا الدين , وبطبيعة المجتمعات وقوانين الحياة , والكسل العقلي والنفسي عن مراجعة الرصيد القديم , والتقليد المضحك للاتجاه الغربي أو الشرقي في فصل الدين عن الحياة , وحيث اقتضت ذلك طبيعة نشأة الدين عندهم دون أن تقتضيها طبيعة نشأة الإسلام , وحيث قامت هنالك الجفوة بين الدين والعلم والدولة لأسباب تاريخية بيناها , ولا نظير لها في تاريخ الإسلام !
وليس معنى هذا أننا ندعو إلى الوقوف بأوضاع المجتمع عند شكل تاريخي معين . فالإسلام منهج وإطار تصاغ منه أشكال متجددة ـ وفي الوقت ذاته قائمة على أصول ثابتة ـ للمجتمع المسلم وفق ظروفه المحيطة . ولكننا ندعو ـ على الأقل ـ إلى مراجعة الرصيد المذخور , ومعرفة أسسه العامة , وقبل أن نعمد إلى تقليد مبتسر , مفقود الأسس التاريخية في حياتنا , وتضيع شخصيتنا , ونصبح ذيلاً للقافلة الإنسانية . وديننا يدعو إلى أن نكون دائما في المقدمة : " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ "(28).." وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا " (29).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يراجع الفصام النكد في كتاب المستقبل لهذا الدين
(2) لا ينبغي أن ننسى ـ مع ذلك ـ أن الشيوعية مؤسسة يهودية ماسونية , وأن أولى وركائز الخطة اليهودية في تدمير العالم ـ غير اليهودي ـ هو سلب الدين منه وإبعاده عن المقوم الأساسي للحياة ! (3) النساء [65] (4 الحشر [7] (5) المائدة [44]
(6) التعبد في الإسلام يشمل الشعائر والشرائع والحركة والنشاط الإنساني كله . ولكن غلب في التآليف الفقهية اصطلاح العبادات على أحكام الشعائر واصطلاح المعاملات على فقه الشرائع . والإسلام وحدة لا تتجزأ راجع فصل" الشمول " في كتاب" خصائص التصور الإسلامي ومقوماته".
(7)الجمعة [9ـ10].(8) النبأ [10ـ11].(9) الشيخان الترمذي والنسائي.
(10) أخرجه الستة .(11) الشيخان والنسائي .(12) القصص77 (13) الحج 40
(14) البقرة 190  (15) البقرة177 (16) مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
(17) مريم 95 (18) ابن ماجه (19)مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي
(20)البقرة164 (21) الروم 19ـ 24 (22) فاطر 28 (23) الزمر9
(24)أبو داود و الترمذي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي
(25)نحن نفرق بين اصطلاح رجال الدين واصطلاح علماء الدين ... ففي بعض العهود يحاول أصحاب السلطان أن يقيموا في الإسلام هيئة دينية يستخدموها في تحريف الكلم عن مواضعه, والإفتاء بما يرضي أصحاب السلطان , ويصدق أقوالهم وأفعالهم وأوضاعهم التي لا سند لها من الدين وهي هيئات تشبه إكليروس الكنيسة لا يعرفها الإسلام.
(26) النساء97 (27) النسائي (28)آل عمران 110 (29) البقرة143


العدالة الاجتماعية في الإسلام
الشهيد سيد قطب
طبيعة العدالة الاجتماعية في الإسلام

ليست هناك تعليقات: