الثلاثاء، 12 مارس 2013

وسائل العدالة الاجتماعية في الإسلام


كتبهامصطفى الكومي ، في 17 أغسطس 2010 الساعة: 22:08 م

العدالة الاجتماعية في الإسلام
الشهيد سيد قطب
وسائل العدالة الاجتماعية في الإسلام
من داخل النفس يعمل الإسلام , ومن أعماق الضمير يحاول الإصلاح ؛ ولكنه لا يغفل أبداً عن الواقع العملي في محيط الحياة ؛ ولا عن حقيقة النفس البشرية , وما يعتورها من ارتفاع وهبوط , وتطلع وانكماش , وأشواق طائرة وضرورات مقيدة , وطاقة محدودة , على كل حال , دون الكمال المطلق في جميع الأحوال .
وعلى قدر علمه العميق بأغوار النفس البشرية يشرع ويوجه ؛ ويصوغ أوامره ونواهيه ؛ ويضع حدوده وينفذها ثم يهتف للضمير البشري أن يتسامى فوق التكاليف المفروضة ما استطاع .
والحياة تصبح ممكنة وصالحة إذا نحن نفذنا التكاليف المفروضة في هذا الدين ؛ ولكن النفس المسلمة تظل تعرج في معارج الكمال بما يوجه إليه الضمير البشري من تسامح وارتفاع وتسام ؛ فالتوجيه الوجداني في هذا الدين هو الجزء المكمل للتكليف المفروض فيه ؛ ثم هو الكفيل بتنفيذ هذا التكليف عن طواعية ورضى وإقبال , وبمنح الحياة البشرية قيمتها الإنسانية الكريمة المترفعة عن القيود والضرورات , وعن ضغط القانون , ودفع التكليف أيضاً .
وحينما حاول الإسلام أن يحقق العدالة الاجتماعية كاملة ارتفع بها عن أن تكون عدالة اقتصادية محدودة , وأن يكون التكليف وحده هو الذي يكفلها ؛ فجعلها عدالة إنسانية شاملة , وأقامها على ركنين قويين : الضمير البشري من داخل النفس والتكليف القانوني في محيط المجتمع , وزاوج بين هذه القوة وتلك , ومثيراً في الوجدان الإنساني أعمق انفعالاته , غير غافل عن ضعف الإنسان وحاجته إلى الوازع الخارجي كما يقول عثمان ابن عفان : يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن .
وكل من ينظر في هذا الدين نظرة فاحصة منصفة يدرك الجهد الضخم الذي بذله لتهذيب النفس البشرية من جميع جوانبها وفي جميع اتجاهاتها وملابساتها . فهذا الدين هو الذي يجعل أقصى الثناء على نبيه ـ، صلى الله عليه وسلم ـ أن يقول : "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ"(4 القلم) . فالخلق هو الدعامة الأولى لبناء المجتمع المتماسك الركين , ولاتصال الأرض بالسماء , والفناء بالخلود , في ضمير الإنسان الفاني المحدود .
ولم يبخل الإسلام بثقته على الضمير البشري بعد تهذيبه ؛فأقامه حارساً على التشريعات ينفذها ويرعاها ؛ وجعل تنفيذ الكثير منها في ضمانته ؛ فالشهادة هي أساس إقامة الحدود في أحوال كثيرة , وفي لإثبات الحقوق كذلك . والشهادة مسألة مردها إلى الضمير الفردي , وإلى رقابة الله على هذا الضمير : "وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"(4النور).."وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ(6)"النور .. وحتى عندما يأمر بالكتابة يجعل الشهادة واجبة : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى"(282البقرة) .
والشهادة واجب وتكليف في البدء : "وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا"(282البقرة) وهي واجب وتكليف عند التقاضي :"وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ"(283البقرة).. وهكذا يمنح الثقة للضمير البشري في الحدود التي قد تصل إلى الجلد والرجم , وفي الحقوق المالية على السواء . وهي ثقة لابد منها لتكريم الإنسان ورفعه إلى مستواه المرموق المطلوب .
ولكن الإسلام لم يدع هذا الضمير لذاته , وهو ينوط به هذه الشؤون الخطيرة , ويقيمه حارساً على تنفيذ التشريع والتكليف , ويدعوه إلى السمو فوق ما يوجبه التشريع والتكليف .. لقد أقام عليه رقيباً من خشية الله , وصور له رقابة الله في صور فريدة رائعة مؤثرة :"مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)"(المجادلة).." وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)"(ق) .." فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى"(7طه).
ولقد بشره وانذره , وجعل كل عمل من أعماله محسوبا عليه في الدنيا والآخرة ولا مفر من عاقبته , ولا فكاك من جزائه : "وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)"(الأنبياء) .."إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)" (الزلزلة) .. وهكذا مما يقيم على هذا الضمير رقابة من الخشية والتقوى ,ويجعله أداة صالحة لرقابة التنفيذ في كل ما شرع الدين من حدود وتكاليف .
*    *     *
على هذا الضمير الذي رباه الإسلام , وعلى التشريع الذي جاءت به شريعته . اعتمد في إرساء قواعد العدالة الاجتماعية . وبهذه الوسيلة المزدوجة نجح في إنشاء مجتمع إنساني متوازن متناسق , سنعرض صوراً منه في فصل آت . أما الآن فنكتفي باستعراض نموذج من تلك الطريقة في التشريع والتوجيه , ونختار موضوع الزكاة والدقة لعلاقته القوية بموضوع الكتاب .
فرض الإسلام الزكاة حقاً . في أموال القادرين للمحرومين .حقاً تتقاضاه الدولة المسلمة بحكم الشريعة وبقوة السلطان . ولكن راح يحفز الوجدان على أداء هذا الحق .حتى يجعل أداءه رغبة ذاتية من القادرين على الأداء .
فالزكاة ركن من أركان الإسلام , وضرورة من ضرورات الإيمان : "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)"(المؤمنون).."تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(3)" (النمل) .
والمشركون الذين لا يؤمنون بالآخرة هم الذين لا يؤدون الزكاة : "وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)"(فصلت) .
وأداء الزكاة وسيلة من وسائل الحصول على رحمة الله : "وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)"(النور).
والنصر من عند الله لمن يؤدون هذا الحق , ويقيمون بواجبهم للمجتمع , فيستحقون التمكين لهم في الأرض :" الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ .. (41)"( الحج) .
والزكاة شريعة إنسانية خالدة تضمنتها أوامر الأنبياء قبل الإسلام ؛ فلا دين بغير هذا الواجب الاجتماعي العريق . يقول عن إسماعيل : "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)"(مريم).. ويقول عن ابراهيم : "وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)"(الأنبياء).
والويل لمن لا يؤدي هذا الواجب المفروض . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ : " من أتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته , مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان , يطوقه يوم القيامة , ثم يأخذ بلهزمتيه ـ يعني شدقيه ـ يقول أنا مالك , أنا كنزك "(البخاري والنسائي) . وهي صورة مفزعة مروعة مخيفة .
هذه الزكاة حق مفروض بقوة الشريعة , مقدر في المال بحساب معلوم . وبجانبها الصدقة ؛ وهي موكولة لضمير الفرد بلا حساب ؛ وهي وحي الوجدان والشعور , ثمرة التراحم والإخاء اللذين عنى بهما الإسلام كل العناية تحقيقا للترابط الإنساني والتكافل الاجتماعي , عن طريق الشعور الشخصي بالواجب والإحساس النفسي بالرحمة , ليبلغ بذلك هدفين : التهذيب الوجداني العميق , والتضامن الإنساني الوثيق . وإن الإسلام ليجعل هذا التراحم إنسانيا خالصاً لا تقف حدوده عند الإخوة الدينية ؛ فيقول القرآن :"لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)"(الممتحنة).. ويقول الرسول : " ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء"(أبو داود والترمذي) . فيضرب المثل العالي في التراحم الإنساني , الخالص حتى من عصبية الدين .
ثم يخطو الخطوة الكبرى فيشمل بالرحمة كل من تنبض فيه الحياة . قال نبي الإسلام الكريم " بينما رجل يمشي بطريق اشتد به العطش , فوجد بئراً ؛ فنزل فشرب , ثم خرج وإذا بكلب يلهث , ياكل الثرى من العطش ؛ فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني . فنزل البئرفملأ خفه ماء , ثم أمسكه بفيه حتى رقى , فسقى الكلب , فشكر الله له فغفر له " . قالوا يا رسول الله : وإن لنا في البهائم لأجراً ؟ فقال نعم , وفي كل كبد رطبة أجر"( الشيخان) . وقال "دخلت امرأة النار في هرة ربطتها , فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض " (البخاري) .
فالرحمة في الإسلام أساس الإيمان وعلامته , لأنها دليل تأثر الضمير بهذا الدين , وتغلغله فيه .
وعلى هذا الأساس يوجه الإسلام إلى الصدقة والبر , ويحبب في الإنفاق طوعاً واحتساباً , وانتظارا لرضاء الله وعوضه في الدنيا , ولثوابه في الآخرة , واجتناباً لغضبه ونقمته وعذابه .
فالبشرى للمخبتين الطائعين الذين ينفقون من أموالهم لرضاه : "وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)"(الحج).. وهي صورة مؤثرة في الوجدان حقاً , ويعيد رسمها في مناسبة أخرى فيقول "إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ(15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)"( السجدة).
كما يصور الإيثار صورة جميلة رقيقة في نفوس أهل المدينة الذين استقبلوا المهاجرين فآووهم وشاركوهم مالهم وبيوتهم في رحابة صدر وسماحة نفس :"وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)"( الحشر) .
وهي صورة للإنسانية العليا في أجمل صورها وأبدعها . وهناك صورة لا تقل عنها جمالاً ورقة وانعطافاً لجماعة من عباد الله , وتذكر بعض المراجع أنهم علي وزوجه فاطمة بنت الرسول وأهل بيتهما :"(6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15)قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)"الإنسان .
والصدقة قرض لله مضمون الوفاء : " مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)" الحديد .. "إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)" الحديد..
أو هي تجارة رابحة مجزية :"إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)"فاطر .
على أية حال فهي محلفة وليس خسارة ولا ظلم : " وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ(272)" البقرة.
والجنة والآخرة جزاء كريم للمنفقين : "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)" آل عمران.
والصدقة تطهير للنفس والمال وقد أمر الرسول أن يأخذ من قوم أذنبوا واعترفوا بذنوبهم قسطا من مالهم ينفق في الخير تطهيرا وتزكية لهم : " وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)" التوبة .
والإنفاق يتسق مع الوفاء بعهد الله والخشية منه و الخوف من سوء الحساب ؛ ويدل على العقل والتبصر . والكف عنه قطع لما أمر الله به أن يوصل ؛ ونوع من نقض العهد والإفساد في الأرض : الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)" الرعد .
والامتناع عن الإنفاق في سبيل الله هلكة : " وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ..َ(195)"البقرة . التهلكة الفردية بتعريض النفس للعذاب في الآخرة من الله , والنقمة في الدنيا من الناس ؛ والتهلكة الجماعية بما يشيعه عدم الإنفاق في المجتمع من تفاوت وظلم , وفتن وأحقاد وضعف وانحلال .
ومنع الخير اعتداء : أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ(24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25)"ق.. "وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)"القلم .. معتد على حق الله وحق الجماعة , وحق نفسه كعضو في الجماعة .
والبر يؤدي إلى الجنة ويجتاز بالبار العقبة إليها .والعقبة هي فك الرقاب , وإطعام الطعام يوم الجوع والمتربة : "وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)" البلد.
والكف عن البر يؤدي إلى النار , ويسلك صاحبه مع الكفار : "مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ(46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)" المدثر .."وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ .. (180)" آل عمران .."وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ(35)"التوبة .
*    *    *
وليس الكنز هنا هو مجرد الامتناع عن الزكاة , فالصدقة والإنفاق كثيراً ما يذكران بعد و قبل ذكر الزكاة , مما يدل على أن الزكاة شيء مفروض محدد , والصدقة والإنفاق مطلقان غير محددين بنصاب .. عن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا بن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك , وإن تمسكه شر لك" (1)(مسلم والترمذي) . وعن بلال ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ : " ما رزقت فلا تخبأ , وما سئلت فلا تمنع .فقلت : يا رسول الله وكيف لي بذلك ؟ قال هو ذاك أو النار"(2)رواه الطبراني في الكبير وأبو الشيخ بن حبان في كتاب الثواب والحاكم وقال صحيح الإسناد.
لا بل إن العقاب قد يحل بالباخلين في الدنيا جزاء ما بخلوا ومنعوا الخير ؛ ويضرب القرآن الكريم مثلا في قصة قصيرة , وقصة جماعة كانت لهم حديقة يُطعمون من ثمرها الفقراء , ثم خطر لهم أن يبخلوا ويمنعوا , فدارت الدائرة على الحديقة , وذهب الله بثمرها فأصبحوا نادمين : " إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ(18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ(19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ(21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22)فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25)فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30)قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(33)"القلم .
لذلك يدعوا القرآن الناس للبذل قبل فوات الأوان :"قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)" ابراهيم .. " وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)" المنافقون .
ويحذرهم الشح ليقوا أنفسهم منه , فلا يدفعهم حرصهم على الأموال والأولاد إليه,
فإنما هذه فتنة لهم واختبار : إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)" التغابن .
والنبي يوجب الصدقة على كل مسلم ولو كان لا يجد , وتفسير ذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "على كل مسلم صدقة . قالوا فإن لم يجد ؟ قال فيعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق .قالوا : فإن لم يستطع أن يفعل ؟ قال يعين ذا الحاجة الملهوف . قالوا : فإن لم يفعل ؟ قال فيمسك عن الشر فإنه له صدقة " (3)الشيخان واللفظ للبخاري .. وهكذا يستوي الناس جميعا في البذل , كل بقدر ما يملك , وكل بقدر ما يستطيع .
*     *     *
وأبواب الإنفاق تدور مع الحاجة ومواضعها ؛ فالأقربون أولى بالمعروف ؛ ولكن سواهم موصولون بهم يذكرون في معرض الحض على البر جنبا لجنب مع الأقربين ؛ فالبر عاطفة إنسانية قبل أن تكون وجدانا قرابة وذكر البر موصول غالباً بذكر الإيمان , إذا كان دليل الإيمان كما أسلفنا : " وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)" النساء.. "يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)" البقرة .
وهكذا يتصل الجار والصاحب بالوالدين والأقربين . كما يتصل بالجميع اليتامى والمساكين وابن السبيل . كلهم سواء , حتى الذين تقع منهم مساءة , كالتي وقعت من " مسطح" قريب أبو بكر , الذي اشترك في حديث الإفك ابنة أبي بكر , عائشة زوج النبي . فإن الإسلام يدعو للصفح عنهم , وينهي عن حرمانهم . فلما حلف أبو بكر وهو في ثورة غضبه على عرضه المنهوك كذباً أن يحرم مسطحاً ما كان يبره به , نزلت الآية : "وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(22)" النور ؟
وهكذا يرتفع بالشعور الإنساني في هذا المجال إلى مستوى رفيع كريم , تشرف به الإنسانية في أعصارها جميعا ؛ وتفخر به في الماضي والحاضر والمستقبل إلى ما شاء الله .
ثم يرتفع بالبر ذاته , فيجعله برا بالله سبحانه , ويرسم له هذه الصورة المبدعة , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ :" إن الله عز وجل يقول يوم القيامة : يابن آدم مرضت فلم تعدني ظ قال يا رب يف أعودك وأنت رب العالمين ؟ قال أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده ؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ؟ يابن آدم استطعمتك فلم تطعمني ! قال يارب : وكيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ قال : أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه ؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ؟ يابن آدم استسقيتك فلم تقني ! قال يارب كيف أسقيك وانت رب العالمين ؟ قال : استسقاك عبدي فلان فلم تسقه . أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي "رواه مسلم.
ثم يجعل للصدقة آداباً ترفعها عن أن تكون تفضلاً واستعلاء من الواجد على المحروم , أو أن تكون رياء صادراً عن شعور غير كريم؛ لأن الصدقة إن هبطت دوافعها , أو تبعها المن على آخذها , استحالت عملاً خسيساً يؤذي النفس والخلق والضمير , ويؤذي المجتمع كذلك في أفراده وفي روابطه . وليس كالمن بالإحسان شيء يمض النفس ويذلها , أو يصرفها عن قبول الإحسان ؛ وليس كالرياء بالصدقة مفسد للضمير حقير في عرف الأخلاق . والإسلام يعمل على رفع نفوس المعطين والآخذين جميعاً ؛ ويحرص على ذلك حرصا شديداً : "مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) "البقرة .
ولهذا يستحسن إخفاء الصدقة ودفعها سرا للمعوزين . حفظا لكرامتهم من جهة ؛ ومنعاً للإختيال والفخر من جهة أخرى : "إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ..(271)"البقرة .. ويتحدث النبي صلى الله عليه وسلم ـ مثنياً على الرجل" تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" وهو تصوير بارع جميل لكتمان البر واحتسابه في غير مفخرة ولا إعلان .
*    *     *
والإسلام يقدر غريزة حب الذات وحب المال ؛ ويقرر أن الشح حاضر في النفس الإنسانية لا يغيب : "وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ"128 النساء فيعالج هذا كله علاجاً نفسياً بما تقدم من الترغيب والتحذير والحض والتصوير , حتى ليتم له ما يريد وحتى ليطلب إلى هذه النفس الشحيحة أن تجود بما هو حبيب إليها عزيز عليها :" لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ..(92)"آل عمران .. فتستجيب إليه , وتتلمس الطيب تجود به , وبذلك يصل إلى غاية البذل وأصعب الجود وأكرم العطاء , والنابع من أعماق الشعور ؛ ويرفع الإنسان على نفسه ؛ ويغلب جانب التسامي فيه على جانب الضرورة , وجانب الوجدان على جانب الغريزة ؛ وذلك في ذاته هدف إنساني رفيع يستحق الجهد فيه ,فكيف وهو هدف اجتماعي , لإيجاد التوازن , ومكافحة الحرمان , وتحقيق التكامل بين القادرين والعاجزين , وتكوين مجتمع متناسق متعاون سليم .
*     *     *
على هذا النهج ـ الذي توسعنا في عرض نموذج يسير الإسلام ,فيهتم بالإقناع الوجداني كلما شرع تكليفاً ؛ ويقف بالتكاليف عند الحد الضروري لسلامة المجتمع , وفي حدود الطاقة العامة لجماهير الناس ؛ ثم يخاطب الوجدان للإقناع بالتكليف , وللسمو فوقه ما استطاع ؛ ليرتفع بالحياة الإنسانية ويجذبها دائماً بخيط الصعود ؛ ويدع المجال فسيحاً بين الحد الأدنى المطلوب والحد الأعلى المرغوب , وتتسابق الأفراد والأجيال , على مدى الأزمان والقرون .
وعلى هذا النهج قد سار في تحقيق العدالة الاجتماعية .. وفي الفصلين التاليين من هذا الكتاب حديث مفصل عن "سياسة الحكم " و "سياسة المال" وفيهما يتجلى اعتماد الإسلام على وسيلتيه الأساسيتين : التشريع والتوجيه في تحقيق العدالة الكبرى في كل حقل من حقول الحياة .
ولقد آتى هذا النهج ثمراته كاملة في فجر الإسلام وظل يؤتيها في فترات القرون الأربعة عشر التي تلت . وإنه لقادر على أن يعيدها في الحاضر والمستقبل , حين يُفهم على حقيقته , وحين يوجه وجهته , وحين يسلك الناس طريقه الحق القويم .

الشهيد سيد قطب

ليست هناك تعليقات: