الأربعاء، 20 فبراير 2013

حَاضِر الإسْلام وَمُسْتَقبله


كتبهامصطفى الكومي ، في 3 نوفمبر 2010 الساعة: 13:12 م

حَاضِر الإسْلام وَمُسْتَقبله
الشهيد سيد قطب
نحن ندعو إلى استئناف حياة إسلامية في مجتمع إسلامي تحكمه العقيدة الإسلامية والتصور الإسلامي , كما تحكمه الشريعة الإسلامية والنظام الإسلامي .

ونحن نعلم أن الحياة الإسلامية ـ على هذا النحو ـ قدتوقفت منذ فترة طويلة في جميع أنحاء الأرض ؛ وان "وجود" الإسلام ذاته من ثم قد توقف كذلك !

ونحن نجهر بهذه الحقيقة الأخيرة ـ على الرغم مما قد تحدثه من صدمة وذعر وخيبة أمل للكثيرين ممن لا يزالون يحبون أن يكونوا "مسلمين" ! ـ ونجهر بها على هذا النحو في الوقت الذي ندعو فيه إلى استئناف حياة إسلامية , في مجتمع إسلامي , تحكمه العقيدة الإسلامية والتصور الإسلامي كما تحكمه الشريعة الإسلامية والنظام الإسلامي . ولا نرى أن في رؤية تلك الحقيقة والجهر بها كذلك ما يدعو إلى خيبة الأمل ؛ أو اليأس من هذه الدعوة ومن هذه المحاولة . على عكس نرى أن الجهر بهذه الحقيقة المؤلمة ـ حقيقة أن الحياة الإسلامية قد توقفت منذ فترة طويلة في جميع أنحاء الأرض , وأن "وجود" الإسلام ذاته من ثم قد توقف كذلك ـ نرى أن الجهر بهذه الحقيقة ضرورة من ضرورات الدعوة إلى الإسلام , ومحاولة استئناف حياة إسلامية..ضرورة لا مفر منها.
إن الأمر المستيقن في هذا الدين أنه لا يمكن أن يقوم في الضمير "عقيدة" . ولا في واقع الحياة "ديناً" إلا أن يشهد الناس : أن لا إله إلا الله . أي لا "حاكمية" إلا لله ..حاكمية تتمثل في قضائه وقدره كما تتمثل في شرعه وأمره ـ وهذه كلها سواء في كونها أساساً للعقيدة لا تقوم ـ ابتداء ـ في الضمير إلا به ـ كذلك هو لا يمكن أن يقوم في واقع الحياة "ديناً" إلا أن تتمثل العقيدة في نظام واقعي للحياة هو"الدين" , فتفرد فيه شريعة الله بالهيمنة على حياة الناس جملة وتفصيلاً ؛ ويبرأ فيه الحاكم والمحكوم من ادعاء حق"الألوهية" عن طريق ادعاء حق"الحاكمية" ومزاولة التشريع فعلاً بما لم يأذن به الله ؛ مما يتخذه البشر لأنفسهم من أنظمة وأوضاع وتشريعات وقوانين ؛ غير مستمدة من شريعة الله , نصاً حين النص , واجتهاداً ـ في حدود المبادئ العامة ـ حين لا يوجد النص . طاعة لأمر الله سبحانه : " فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ .. (النساء59)..
ونحن لا نحدد مدلول "الدين" ولا مفهوم "الإسلام" على هذا النحو من عند أنفسنا .. ففي مثل هذا الأمر الخطير , الذي يترتب عليه تقرير مفهوم لدين الله ؛ كما يترتب عليه الحكم بتوقف"وجود" الإسلام في الأرض اليوم ؛ وإعادة النظر في دعوى مئات الملايين من الناس أنهم"مسلمون" .. في مثل هذا الأمر لا يجوز أن يفتي الإنسان فيما يقصم الظهر في الدنيا والآخرة جميعاً !
إنما الذي يحدد مدلول "الدين" على هذا النحو , ومفهوم "الإسلام" هو الله ـ سبحانه ـ إله هذا الدين ورب هذا الإسلام .. وذلك في نصوص قاطعة لا سبيل إلى تأويلها ولا الاحتيال عليها :
"..وإِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ..(يوسف40)
" وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ..(المائدة49)
"..وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(المائدة45)..
" فلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا "(النساء65) ..
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا"(59النساء)..
كلها تقرر حقيقة واحدة . أنه لا إسلام ولا إيمان بغير الإقرار بالحاكمية لله وحده : والرجوع إليه فيما يقع عليه التنازع ـ مما لم يرد به نص ـ إذ لا رأي مع النص ولا نزاع , والحكم بما أنزل ـ دون سواه ـ في كل شؤون الحياة ؛ والرضى بهذا الحكم رضى قلبياً بعد الاستسلام له عملياً … وإن هذا هو "الدين القيم" .. وهذا هو "الإسلام" الذي أراده الله من الناس .
وحين نستعرض وجه الأرض كله اليوم ـ على ضوء هذا التقرير الإلهي لمفهوم الدين والإسلام ـ لا نرى لهذا الدين "وجودا" .. إن هذا الوجود قد توقف منذ أن تخلت آخر مجموعة من المسلمين عن إفراد الله سبحانه بالحاكمية في حياة البشر ؛ وذلك يوم تخلت عن الحكم بشريعته وحدها في كل شؤون الحياة .
ويجب أن نقرر هذه الحقيقة الأليمة , وأن نجهر بها , وألا نخشى خيبة الأمل التي تحدثها في قلوب الكثيرين الذين يحبون أن يكونوا "مسلمين" .. فهؤلاء من حقهم أن يستيقنوا : كيف يكونون مسلمين !
إن أعداء هذا الدين بذلوا طوال قرون وما يزالون يبذلون , جهوداً ضخمة ماكرة خبيثة , ليستغلوا إشفاق الكثيرين الذين يحبون أن يكونوا مسلمين , من وقع هذه الحقيقة المريرة , ومن مواجهتها في النور !  وتَحَرُّجُهم كذلك من إعلان أن "وجود" هذا الدين قد توقف , منذ أن تخلت آخر مجموعة مسلمة في الأرض عن تحكيم شريعة الله في أمرها كله ؛ فتخلت بذلك عن إفراد الله سبحانه بالحاكمية ـ [أو بالألوهية] ـ فهذه مرادفة لتلك , أو لازمة لها لا تتخلف .
هؤلاء الأعداء الماكرون الخبثاء يستغلون ذلك الإشفاق وهذا التحرج لتخدير مشاعر الكثيرين في الأرض , الذين يحبون أن يكونوا "مسلمين" وإيهامهم أنهم ما يزالون "مسلمين" فعلاً ! وأن "الإسلام بخير" ! وأن الناس يمكن أن يكونوا "مسلمين" دون أن تحكمهم شريعة هذا الدين ؛ بل دون أن يعتقدوا أن الحاكمية لله وحده , من ادعاها لنفسه فقد ادعى الألوهية , وكفر , وخرج من هذا الدين ! .
ولقد بلغ من تبجح هذا الخبث أن يكتب المستشرق "ولفرد كانتول سميث" كتاباً كاملاً تحت عنوان "الإسلام في العصر الحديث" هدفه الأساسي هو إثبات أن "العلمانية" التركية , التي قام بها "أتاتورك" , هي "إسلامية !" بل إنها هي "الحركة الإسلامية !" الوحيدة الناجحة في تاريخ الفترة الحديثة ؛ وأن على "المسلمين" الذين يريدون استبقاء "وجود" الإسلام أن يحذوا حذوها ؛ بوصفها المحاولة الوحيدة الصحيحة !
كذلك بلغ الخبث من التبجح ! وكذلك ينبغي أن نجهر نحن بالحقيقة المقابلة , التي قد يشفق منها الكثيرون ممن يحبون أن يكونوا مسلمين ؛ وممن يتحرجون أن يعلنوا أن وجود هذا الدين قد توقف .. لنبطل مفعول "المخدر" الخبيث , الذي يخدر به أعداء هذا الدين محبي هذا الدين !!!
وينبغي كذلك ألا نخشى ما يحدثه إعلان هذه الحقيقة من خيبة أمل مريرة .. فنحن واثقون بعد ذلك أن "المستقبل لهذا الدين" ؛ وأن التوقف عن الوجود لن يستمر . بل لن يطول ! وأن جميع الفقاعات التي ينفخ فيها الاستعمار الصليبي والصهيوني في الأرض ستنفثيء كما تنفثي الفقاعات دائماً مهما تكن ضخمة المظهر , شديدة البريق !
إن هذا الدين الذي توقف ـ مؤقتاً ـ عن الوجود ؛ عميق الجذور في هذه التربة ؛ وهو أعمق من هذا في تربة الفطرة .. إن اثني عشر قرناً من الوجود الواقعي لهذا الدين في الأرض لن يمكن محوها من هذه الأرض .. وإن فطرة الله التي فطر الناس عليها لن تغلبها محاولات الاستعمار الصليبي والصهيوني !
إن "المستقبل لهذا الدين" في هذه الأرض التي تحقق فيها وجوده الفعلي أكثر من مائتين وألف عام ؛ وفي غيرها من الأرض أيضاً , التي تصارع فيها الفطرة ما هو مفروض عليها من المذاهب والأنظمة والأحكام !
ذلك حاضر هذا الدين .. إن وجوده متوقف .. لأنه لا يوجد إلا المدلول الذي أراده الله له ؛ وهو أن يكون هو المهيمن وحده على حياة الناس كلها . وأن تتحقق به ألوهية الله ـ سبحانه ـ في الأرض تحقق هذه الألوهية في السماء . أي أن تتحقق عن طريق الإذعان لشريعته وأمره تحققها عن طريق قضائه وقدره .. تصديقاً لقول الله سبحانه :
"وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ .. (الزخرف84)

..


وهذا هو مستقبله .. أمل عريض واثق في عودة هذا الدين إلى الوجود .. أمل يسنده الوجود التاريخي الطويل ؛ ويؤكده الوجود "الفطري" الأصيل ..


إلا أن هذا الأمل العريض الواثق لا يجوز أن يقعدنا عن استعراض الأسباب التاريخية لذلك التوقف


ـ الوقتي ـ واستعراض العقبات في وجه الوجود الفعلي . واستعراض الجهود الأولية اللازمة أو الممهدة لهذا الوجود الفعلي ..


لقد أشرنا من قبل إلى الهزة التي أصابت المجتمع المسلم وهو حديث عهد بالوجود , وذلك فيما وقع من بني آدم من انحراف عن القمة التي كان المجتمع مستوياً عليها على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعهد الخلافة الراشدة .


فالآن نشير إشارات سريعة إلى أهم الصدمات التي واجهت هذا الدين بعد ذلك فثبت لها طوال هذه القرون .


ونحن واجدون أولاها في قيام الدولة العباسية واعتمادها على عناصر حديثة العهد بالإسلام , لم تخلص نيتها له بعد , لما يعتمل فيها من عصبية قومية لا تزال جذورها كامنة ؛ فلما تَقدم العهد بالدولة العباسية تركت العناصر التي قامت عليها والتي أخذت تندمج في الإسلام , إلى عناصر أخرى قلوبها غلف من الترك والشراكسة والديلم وسواها . وهكذا ظلت الدولة تعتمد على عناصر مضادة لروح الإسلام ؛ وتتأثر بهذه العناصر بحكم اعتمادها عليها . فلم يكن إلا روح الإسلام مقاوماً لهذه العناصر ولسلطان الدولة معها , بما يحمله من طاقة كامنة , وحيوية عظيمة .


ثم كانت غزوات التتار المدمرة , التي طغت على العالم الإسلامي ببربرية متوحشة , لم يلبث الإسلام أن طواها في تياره , وابتلعها فصارت بعض رواسبه , ولكن بعد أن هزت هذا الروح الإسلامي هزة عنيفة , وأثرت حتماً في أوضاعه وتقاليده . إلا أن الأمة الإسلامية ظلت ـ على الرغم من تضعضع الدولة أمام عاصفة التتار ـ قوية متماسكة الأواصر , قائمة على أصول هذا الدين مهما ندت عنها في بعض الجوانب الرسمية الخاصة .


وينبغي أن نذكر هنا أن الإمبراطورية الرومانية التي استغرق بناؤها ونموها نحو ألف عام , انقرضت وتفسخت في قرن واحد نتيجة لغزوات الهون والقوط , فلم يبق منها سوى بضعة معالم وإمارات , على حين بقيت الدولة الإسلامية قائمة على رقعة فسيحة , وهي الدولة التي لم يستغرق بناؤها سوى نيف ونصف قرن على الرغم من جميع النزاعات الداخلية بين الأسر الحاكمة , والضربات الخارجية من التتار وغير التتار , مما يشهد بحيوية الإسلام العظيمة في مواجهة تلك الظروف .


فإذا مضينا في تتبع الصدمات وجدنا صدمة الأندلس في الغرب , بعد صدمة الحروب الصليبية في الشرق . وقد هُزم الإسلام في الأولى وانتصر في الثانية , وظل يعاني العداء الوحشي من الروح الصليبية منذ ذلك الحين ظاهراً ومستتراً حتى الآن .


ولكن الكارثة التي أطبقت على الإسلام إنما كانت في هذا العصر الحديث , حين غلبت أوربا على العالم , وامتد ظل الاستعمار الصليبي , وغشى العالم الإسلامي كله شرقاً وغرباً , وأرصد لقتل الروح الإسلامية كل قواه , مستمداً دفعته من العداء الصليبي الموروث , ومن القوة المادية والثقافية التي يحملها , مضافاً إليها التضعضع الداخلي في قوة الأمة الإسلامية , وابتعادها رويداً رويداً في هذا المدى الطويل عن تعاليم دينها ووصاياه .


وفي الحديث عن العداء الصليبي الكامن في النفس الأوربية للإسلام ينبغي ألا تخدعنا الظواهر , وألا يستغفلنا التظاهر باحترام الحريات الدينية ؛ والقول بأن أوربا ليست متحمسة للمسيحية اليوم تحمسها لها إبان الحروب الصليبية , فليس هناك ما يدفعها إلى التحمس ضد الإسلام كما كانت في تلك الأيام !


إنها كلها خدع وأضاليل . وما كان اللورد أللنبي إلا مثلاً لضمير أوربا كلها , وهو يدخل بيت المقدس في الحرب العظمى الماضية فيقول :"اليوم انتهت الحروب الصليبية" ! وما كان الحاكم العام للسودان إلا ممثلاً لهذا الضمير , وهو يضع كل قوى الحكومة تحت تصرف المبشرين في جنوب السودان , ويمنع أي تاجر مسلم أن يمر هناك مجرد مرور . وقد حدث أن موظفاً بقى في الجنوب أمداً طويلاً وطلب نقله إلى الشمال فلم يجب , فهدته الحيلة أن يرفع صوته بالأذان فكان هذا إيذاناً بنقله في الغداة !


وانجلترا هي أشد الدول الأوربية تسامحاً وإغضاء ولباقة في معالجة مسائل الأديان .


وقد يعجب البعض لأن تظل هذه الروح التعصبية ضد الإسلام قوية إلى هذا الحد في الشعر الأوربي , وبعد ما تنكرت أوربا للمسيحية , ولم تعد صيحات الحجاج والقديسين هي التي تملأ سمعها كما كانت أيام الحروب الصليبية , ولكن هذا العجب يزول حين نلقى بالنا إلى حقيقتين واقعتين .


الحقيقة الأولى : "أن الشر الذي بعثه الصليبيون لم يقتصر على صليل السلاح , ولكنه كان قبل كل شيء وفي مقدمة كل شيء شراً ثقافياً . لقد نشأ تسميم العقل الأوربي عما شوهه قادة الأوربيين من تعاليم الإسلام ومثله العليا أمام الجموع الجاهلة في الغرب . وفي ذلك الحين استقرت تلك الفكرة المضحكة في عقول الأوربيين , من أن الإسلام دين شهواني وعنف حيواني , وانه تمسك بفروض شكلية , وليس تزكية للقلوب وتطهيراً لها ؛ ثم بقيت هذه الفكرة حيث استقرت . وفي ذلك الحين أيضاً نُبز محمد بقولهم "كلبي"(1) .


"ولقد بذرت بذور البغضاء .. إن حمية الصليبين الجاهلة كان لها ذيولها في أماكن كثيرة من أوربا , فشجع ذلك نصارى الأندلس على الحرب لإنقاذ بلادهم من "نير الوثنيين" ! وأما تدمير أسبانية المسلمة (الأندلس) فقد اقتضى قروناً كثيرة حتى تم . ولما تطاول أمد هذا القتال على وجه الحصر , أخذ الشعور ضد الإسلام في أوربا ينشب جذوره ثم ثبت . ولقد انتهى باستئصال شأفة العهد الإسلامي في أسبانية بعد اضطهاد بالغ في الوحشية والقسوة مما لم يشهده العالم قط ؛ وإن كانت أصداء القرح قد تجاوبت في أوربا على إثر ذلك , مع العلم بأن النتائج التي تلته كانت القضاء على العلوم والثقافة , والتبديل بها جهل العصور الوسطى وخشونتها .


"ولكن قبل أن يتاح لصدى هذه الحوادث أن يخفت في أسبانية حدثَ حدثُ ثالث عظيم الأهمية , زاد في فساد الصلات بين العلام الغربي وبين الإسلام , ذلك هو سقوط القسطنطينية في يد الأتراك . لقد كانت أوربا ترى بقية من الزهو اليوناني والروماني القديم على بيزنطيوم (القسطنطينية) وكانت تنظر إليها على أنها حصن أوربا ضد برابرة آسيا .


وبسقوط القسطنطينية فتح باب أوربا على مصراعيه للسيل الإسلامي . وفي القرون التي تلت والتي امتلأت بالحروب , ولم تبق عداوة أوربا للإسلام قضية ذات أهمية ثقافية فحسب بل ذات أهمية سياسية أيضاً . وهذا زاد في اشتداد تلك العداوة .


"ومع هذا كله فإن أوربا قد استفادت كثيراً من هذا النزاع . إن "النهضة" أو إحياء الفنون والعلوم الأوربية باستمدادها الواسع من المصادر الإسلامية والعربية على الأخص , كانت تعزي في الأكثر إلى الاتصال المادي بين الشرق والغرب . لقد استفادت أوربا أكثر مما استفاد العالم الإسلامي , ولكنها لم تعترف بهذا الجميل , وذلك بأن تنقص من بغضائها للإسلام , بل كان الأمر على العكس , فإن تلك البغضاء قد نمت مع تقدم الزمن , ثم استحالت عادة . ولقد كانت هذه البغضاء تغمر الشعور الشعبي كلما ذكرت كلمة "مسلم" .


ولقد دخلت في الأمثال السائرة عندهم حتى نزلت في قلب كل أوربي رجلاً كان أو امرأة . وأغرب من كله أنها ظلت حية بعد جميع أدوار التبدل الثقافي . وثم جاء عهد الإصلاح الديني حيث انقسمت أوربا شيعاً ؛ ووقفت كل شيعة مدججة بسلاحها في وجه كل شيعة أخرى ؛ لكن العداء للإسلام كان عاماً فيها كلها . بعدئذ جاء زمن اخذ الشعور الديني فيه يخبو , ولكن العداء للإسلام استمر . وإن من أبرز الحقائق على ذلك أن الفيلسوف والشاعر الفرنسي فولتير , وهو من ألد أعداء النصرانية وكنيستها في القرن الثامن عشر , كان في الوقت نفسه مبغضاً مغالياً للإسلام ولرسول الإسلام . وبعد بضعة عقود جاء زمن أخذ فيه علماء الغرب يدرسون الثقافات الأجنبية ويواجهونها بشيء من العطف ؛ أما فيما يتعلق بالإسلام فإن الاحتقار التقليدي أخذ يتسلل في شكل تحزب غير معقول إلى بحوثهم العلمية ؛ وبقى هذا الخليج الذي حفره التاريخ بين أوربا والعالم الإسلامي غير معقود فوقه بجسر . ثم أصبح احتقار الإسلام جزءاً أساسياً في التفكير الأوربي . والواقع أن المستشرقين الأولين في الأعصر الحديثة كانوا مبشرين نصارى يعملون في البلاد الإسلامية ؛ وكانت الصورة المشوهة التي اصطنعوها من تعاليم الإسلام وتاريخه مدبرة على أساس يضمن التأثير في موقف الأوربيين من "الوثنيين" . غير أن هذا الالتواء العقلي قد استمر مع أن عموم الاستشراق قد تحررت من نفوذ التبشير , ولم يبق لعلوم الاستشراق هذه عذر من حمية دينية جاهلية تسيء توجيهها . أما تحامل المستشرقين على الإسلام فغريزة موروثة , وخاصة طبيعية , تقوم على المؤثرات التي خلقتها الحروب الصليبية , بكل مالها من ذيول في عقول الأوربيين الأولين .


"ولقد يتساءل بعضهم فيقول : كيف يتفق أن نفوراً قديما مثل هذا ـ وقد كان دينياً في أساسه وممكنا في زمانه بسبب السيطرة الروحية للكنيسة النصرانية ـ يستمر في أوربا في زمن ليس الشعور الديني فيه إلا قضية من قضايا الماضي ؟


"ليست مثل هذه المعضلات موضع استغراب أبداً , فإنه من المشهور في علم النفس أن الإنسان قد يفقد جميع الاعتقادات الدينية التي تلقنها في أثناء الطفولة , بينما تظل بعض الخرافات الخاصة ـ والتي كانت من قبل تدور حول تلك الاعتقادات المهجورة ـ في قوتها , تتحدى كل تعليل عقلي في جميع أدوار ذلك الإنسان , وهذه حال الأوربيين مع الإسلام :


فعلى الرغم من أن الشعور الديني كان السبب في النفور من الإسلام قد أخلى مكانه في هذه الأثناء , لاستشراف حياة أكثر مادية , فإن النفور القديم نفسه قد بقى عنصراً من الوعي الباطني في عقول الأوربيين . وأما درجة هذا النفور من القوة , فإنها تختلف بلا شك بين شخص وآخر , ولكن وجوده لا ريب فيه . إن روح الحروب الصليبية ـ في شكل مصغر على كل حال ـ مازال يتسكع فوق أوربا , ولا تزال مدنيتها تقف من العالم الإسلامي موقفاً يحمل آثار واضحة لذلك الشبح المستميت في القتال "(2) .


والحقيقة الثانية : أن الاستعمار الأوربي والأمريكي الصليبي لا يملك أن يغفل من حسابه أن الروح الإسلامي صخرة مقاومة لمد الاستعمار ؛ وأنه لا مفر من تحطيم هذه الصخرة أو زحزحتها على الأقل ؛ ولا عبرة بما يقوله بعض المخدوعين أو المأجورين من أن أوربا لا يهمها الدين , ولا تراه مصدر قوة , ولا تخشى من العالم الإسلامي إلا قوته المادية .

فالدين في حقيقته قوة روحية لها حسابها في تجديد القوى المادية ؛ فوق أن الإسلام بالذات غير المسيحية , فهو يأمر بإعداد القوى المادية ويحض على المقاومة والكفاح , وينذر المستسلمين والمستضعفين بسوء المآل في الدنيا والآخرة :" وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ .. "(الأنفال60).." يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ .."(النساء144).." فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ .."(النساء74).. "وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)

إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ .."(آل عمران140) .


فالدين قوة روحية وتنظيمية ودعوة إلى قوة مادية ؛ والدين صخرة مقاومة ودعوة إلى شدة المقاومة . فلا مفر للاستعمار الأوربي والأمريكي أن يكون عدواً للدين .. كل ما هنالك أن مظاهر العداء تختلف بحسب أساليب كل أمة في الاستعمار ؛ ثم بحسب الظروف والأحوال . ففرنسا مثلاً تعلنها حرباً صريحة سافرة في المغرب العربي كله على الإسلام باسم "الظهير البربري" أو بأي اسم آخر . ويعلن ممثلوها في دمشق أنهم أحفاد الصليبيين جهاراً نهاراً . وانجلترا تراوغ فتسلك طريقها خلسة إلى معاهد التعليم في مصر لتنشئ عقلية عامة تحتقر كل مقومات الحياة الإسلامية بل الشرقية ؛ فإذا تم لها تكوين جيل من المعلمين بهذه العقلية , أطلقتهم في المدارس وفي دواوين المعارف يصبغون عقلية الأجيال هذه الصبغة , ويضعون المناهج والخطط مؤدية إلى تكوين هذه العقلية , مع المحافظة التامة على إبعاد العناصر التي تمثل الثقافة الإسلامية عن مراكز التوجيه في الوزارة . وبذلك تستغني عن مواجهة الشعور الديني بالعداوة السافرة , إذ تدع المهمة لفريق كبير ذي أثر بعيد في تكوين العقلية المصرية العامة .. أما في السودان الجنوبي فلا تجد حاجة إلى هذه المواربة , فتقف موقفها الذي وصفناه من المبشرين المسيحيين والتجار المسلمين ! وأمريكا تقيم الأوضاع والأنظمة التي تسحق الإسلام سحقاً بكل مقوماته العقيدية والخلقية والحركية في جميع أنحاء العالم الإسلامي ..


وهكذا صارت كل دولة مستعمرة على طريقة في مقاومة هذا الدين وخنقه منذ قرون مضت ؛ وما تزال تسير على خطة متعاونة في صميمها تبدو في موقف الأمم الغربية من كل قضية تواجه فيها الإسلام من قريب أو بعيد !


والذين يحسبون أن نفوذ اليهود المالي في الولايات المتحدة وسواها هو الذي يوجه الغربيين هذا التوجيه ؛ والذين يحسبون أن المطامع الإنجليزية والمكر الأنجلو سكسوني هو الذي يوجه الموقف ؛ والذين يحسبون أن الصراع بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية هو الذي يؤثر .. كل أولئك يغفلون عنصراً حقيقياً في المسألة يضاف إلى هذه العناصر جميعاً , هو الروح الصليبية التي تحملها دماء الغربيين , والتي تندس في عقلهم الباطن , مضافاً إليها الخوف الاستعماري من الروح الإسلامي , والعمل على تحطيم قوة الإسلام , حيث يربط الغربيين جميعاً شعور موحد ومصلحة موحدة في تحطيمها , تجمع بين روسيا الشيوعية وأمريكا الرأسمالية ! ولا ننسى دور الصهيونية العالمية في الكيد للإسلام وتجميع القوى ضده في العالم الاستعماري الصليبي والعالم المادي الشيوعي على السواء . وهو الدور المستمر الذي قام به اليهود دائماً منذ هجرة الرسول إلى المدينة وقيام دولة الإسلام !


والعجيب أن روح الإسلام على الرغم من جميع هذه الصدمات التي واجهته منذ الفترة الأولى في حياته إلى اليوم , وعلى الرغم من معالجة الصدمات له وأثر ذلك في كيانه الوليد ؛ ثم على الرغم من غلبة الحضارة الغربية اليوم بقوتيها المادية والثقافية , مما أحال بعض من يحملون أسماء المسلمين أدوات هدم وتحطيم للإسلام في أيدي المستعمرين وهم مستريحون !


على الرغم من هذا كله ظلت روح الإسلام في ذاتها سليمة , وظلت طاقته الكامنة تؤثر في مجرى الحياة الإنسانية بصفة عامة ؛ وتؤثر في صوغ السياسات العالمية وتوجيهها منذ أربعة عشر قرناً إلى اليوم ؛ فما من حركة سياسية أو حربية في العالم لم يحسب فيها للإسلام حساب ؛ حتى في عصور الضعف والفرقة وتخلخل الحياة الروحية والاجتماعية و الاقتصادية في العالم الإسلامي .


ولقد انقضت فترة الخمول والاضمحلال ؛ وأخذ المد الإسلامي في الظهور في كل مكان على الرغم من الضربات الساحقة التي توجه إلى طلائع البعث الإسلامي في كل مكان ! وهي مظاهر لا يمكن إغفالها , على الحيوية الكامنة في الإسلام , وعلى رصيده المدخر يكفي لاستئناف حياة إسلامية جديدة , لا تقوم على مجرد الرغبة والتفاؤل , بل على أسس عملية وواقعية كذلك ظاهرة للعيان , هي اليوم في دور التجمع والاستعداد على الرغم مما يبدو أحياناً من عوامل المقاومة والانتكاس , فما هي إلا فقاعات تنفقع , أو سحابة صيف تنقشع !


ولكنني على الرغم من إيماني إيماناً مطلقاً بحتمية استئناف الحياة الإسلامية في العالم الإسلامي , وباستعداد الإسلام لأن يكون نظاماً عالمياً ـ لا محلياً ـ في المستقبل .. فإنني لا أحب أن أندفع وراء خيال جامح , فأقرر أن هذا سهل ميسور !


كلا فهناك عراقيل شتى وضخمة , كما أن هناك أعمالاً عظيمة يجب أن تتم قبل أن يصبح استئناف الحياة الإسلامية الصحيحة ميسوراً في المجتمع الإسلامي ذاته . وتقدير تلك العوائق الضخمة , والتنبيه إلى هذه الأعمال الواجبة أمر يوجبه الشعور الحقيقي بعظمة الغاية التي نهدف إليها , وبثقل التبعة التي تنتظر من ينهض لهذه الغاية .


وليس يكفي أن يبعث المرء بالصيحة المدوية في حماسة فوارة , ليصبح الأمل واقعاً والرجاء حقيقة , إن لم يقدر كل العقبات وكل التبعات , وينبه من يبعث إليهم بصيحة إلى الجهد الضخم الذي يطلب إليهم أن يبذلوه .


وطبيعي أن انفراج المسافة بين سياسة الحكم وروح الإسلام فترة طويلة من الزمان , يجعل العودة إلى السياسة المستمدة من هذا الروح أصعب ؛ لأن جهاز الدولة والمجتمع , وقواعد الحياة بكل مقوماتها , والاتجاه النفسي والعقلي .. كلها تقوم على أسس معينة يصعب تغييرها قبل بذل جهود ضخمة طويلة . وكلما امتد الزمن زادت هذه الصعوبة , واحتاجت إلى جهود أضخم وأطول .


ثم يضاف إلى عامل الزمن الطويل عامل آخر حاضر ؛ وهو أننا لا نعيش في هذا العالم وحدنا , ولا نعيش كذلك في عزلة عنه . وتشابك مصالحنا وقضايانا مع هذا العالم الذي تسيطر عليه حضارة معينة , ذات عقلية مناقضة تماماً لعقلية الإسلام ـ كما سنبين فيما بعد ـ يجعل خطواتنا في سبيل استئناف حياة إسلامية صحيحة , خطوات بطيئة من جهة , وذات تكاليف علينا من جهة أخرى .


ومما يزيد هذا العامل الأخير أهمية , أن هذا العالم الغربي الذي تتشابك مصالحنا معه أقوى منا في الوقت الحاضر , وليست لنا السيطرة عليه أو القوة المكافئة لقوته كما كنا في أول عهد الإسلام ؛ ثم هو في الوقت ذاته عدو لنا , وعدو لديننا بوجه خاص . لذلك لن يدعنا ننشئ نظاماً إسلامياً من جديد , ونستأنف حياة إسلامية صحيحة , ما لم نبذل جهوداً مضاعفة , كان يمكن الاقتصاد فيها لو كانت لنا السيطرة على العالم الغربي أو القوة المكافئة لقوته , أو لو كان هو صديقاً لنا , ولديننا الذي نريد العودة إليه .


إلا أن هذا كله لا يعني أن العودة إلى النظام الإسلامي مستحيلة . وكل ما يعنيه أنها عمل عسر ضخم , في حاجة إلى جهود غير عادية ؛ قبل كل شيء في حاجة إلى حماسة في الإيمان به ؛ وجرأة في اقتحام العقبات المرصودة في طريقه ؛ وصبر على الجهد الشاق الواجب له , وثقة في ضرورته للعالم الإسلامي وللعالم الإنساني كله , وعقلية إنشائية مبتكرة , ليست وظيفتها مجرد ترقيع الواقع , بل إنشاء واقع جديد كامل غير مرقع !


ولعله من الحقائق ذات القيمة في المجال , أن نشير إلى أن الحضارة الغربية الراهنة قد قادت العالم إلى حربين شاملتين خلال ربع قرن ؛ كما قادته بعد الحرب الثانية إلى انقسام بين الكتلتين الشرقية والغربية , وإلى تهديد دائم بحرب ثالثة ؛ وإلى اضطرابات في كل مكان , وإلى جوع وعري وبؤس في ثلاثة أرباع المعمورة . وأن النظام العالمي كله اليوم في حالة واضطراب وبحث عن أسس جديدة , وتنقيب عن زاد روحي يرد إلى الإنسانية ثقتها بالمبادئ الإنسانية .


ولا ينبغي ـ مع هذا ـ أن نتفاءل أكثر مما يجب باستعداد العالم الغربي لقبول أسس حضارتنا الإسلامية , فهذا موضوع آخر .. نعم إن رجلاً كبرنارد شو يقول : إن العالم الغربي قد أخذ يتجه هذا الاتجاه , ويتنبأ بأنه في الطريق إليه فيقول :


" لقد تنبأت بأن دين محمد سيكون مقبولاً لدى أوربا غداً , وهو قد بدأ يكون مقبولاً لديها اليوم .. لقد عمد رجال الإكليروس في العصور الوسطى إلى تصوير الإسلام في أحلك الألوان ؛ وذلك بسبب الجهل أو بسبب التعصب الذميم . والواقع أنهم كانوا يسرفون في كراهية محمد وكراهية دينه ويعدونه خصماً للمسيح . أما أنا فأرى واجباً أن يدعى محمد منقذ الإنسانية , وأعتقد أن رجلاً مثله إذا تولى زعامة العالم الحديث نجح في حل مشكلاته , وأحل في العالم السلام والسعادة . وما أشد حاجة العالم إليهما !


" لقد أدرك مفكرون منصفون قاموا في القرن التاسع عشر , ما لدين محمد من قيمة ذاتية . من هؤلاء : كارليل , وجوته , وجيبون … بذلك حدث تحول صالح في موقف أوربا من الإسلام . وقد تقدمت أوربا تقدماً كبيراً في هذا القرن المتمم العشرين , فبدأت تحب عقيدة محمد . ولعلها تذهب في القرن التالي إلى أبعد من ذلك فتعترف بجدوى هذه العقيدة لحل مشاكلها .. وقد دان كثيرون من قومي ومن أهل أوربا بدين محمد في الحاضر . وهذا يجعلنا قادرين على أن نقول : إن تحول أوربا إلى الإسلام قد بدأ "(3) .


ولكننا نرى نبوءة برنارد شو لا تزال مجرد نبوءة ـ إن لم تكن مخدراً لشعور المسلمين ليطمئنوا وينتظروا اعتناق الأوربيين لدينهم ! ـ وعلى كل حال فإن انتظار تحققها سابق على الأقل لأوانه لسببين رئيسيين :


أولهما : هو هذا العداء الموروث للإسلام في أعماق الطبيعة الأوربية والأمريكية ؛ والذي يغذيه في العصر الحديث تعارض مصلحة الاستعمار الغربي والشرقي مع وجود هذه العقبة في طريقه .


وثانيهما : أن العقلية الأوربية تأصلت على أسس مادية , أثر الفكرة الروحية فيها ضئيل , منذ الحضارة الرومانية إلى العصر الحديث . وهذا القول يحتاج إلى تفصيل لا تقتصر فائدته على دلالته في هذا الموضع , بل تمتد إلى الإجابة على هذا السؤال الهام : هل يمكن أن تتعاون الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية ؟ وما حدود هذا التعاون ؟


لقد قلنا في أوائل هذا الكتاب : إن أوربا لم تكن مسيحية في يوم من الأيام . وذلك بسبب أن طبيعة الصراع فيها على رقعة من الأرض صغيرة ضنينة , جعلت مبادئ المسيحية السمحة لا تمتد جذورها في تلك التربة العصية ؛ وذلك فوق ما في طبيعة المسيحية من تزهد وعدم احتفال بالحياة الدنيا . فالآن نضيف إلى هذين العاملين عاملاً ثالثاً أشرنا إليه هناك إشارة عابرة ؛ وهو وجود الإمبراطورية الرومانية العريقة في طريق المسيحية , وبقاء تعاليم الإمبراطورية أساساً للحضارة الأوربية الحديثة , على الرغم من انتقال المسيحية إليها , إذ ظلت هذه على هامش الحياة .


ونقتطف هنا فقرات من كتاب "الإسلام على مفترق الطرق" نجد فيها الكفاية والغناء :


"كانت الفكرة التي تقوم عليها الإمبراطورية الرومانية .. الاجتياح بالقوة , واستغلال الأقوام الآخرين لفائدة الوطن الأم وحده . وفي سبيل الترفيه عن فئة ممتازة لم ير الرومانيون في عنفهم سوءاً , ولا في ظلمهم انحطاطاً . وإن "العدل الروماني" الشهير كان عدلاً للرومانيين وحدهم . ومن البين أن اتجاهاً كهذا كان ممكناً فقط على أساس إدراك مادي خالص للحياة وللحضارة , إدراك مادي هذبه على التأكيد ذوق فكري ولكنه على كل حال بعيد عن جميع القيم الروحية . إن الرومانيين في الحقيقة لم يعرفوا الدين ؛ وإن آلهتهم التقليدية لم تكن سوى محاكاة شاحبة للخرافات اليونانية . ولقد كانت أشباحاً سُكَّتَ عن وجودها حفظاً للعرف الاجتماعي ؛ ولم يكن يسمح لها قط بالتدخل في أمور الحياة الحقيقية ؛ بل كان عليها أن تنطق بالرجز على ألسنة عرافيها إذا سئلت مثل ذلك , ولكن لم يكن ينتظر منها أن تمنح البشر شرائع خلقية !


"تلك كانت التربة التي نمت فيها المدنية الحديثة . ولقد عملت بلا شك مؤثرات أخرى كثيرة في أثناء تطورها ؛ ثم إنها بطبيعة الحال قد بدلت وحورت في ذلك الإرث الثقافي الذي ورثته عن رومية في أكثر من ناحية واحدة . ولكن الحقيقة الباقية أن كل ما هو اليوم حقيقي في الاستشراف الغربي للحياة والأخلاق يرجع للمدنية الرومانية . وكما أن الجو الفكري والاجتماعي في رومية القديمة كان نفعياً بحتاً ولا دينياً ـ لا على الافتراض بل الحقيقة ـ فكذلك هو الجو في الغرب الحديث . ومن غير أن يكون لدى الأوربي برهان على بطلان الدين المطلق , ومن غير أن يسلم بالحاجة لمثل هذا البرهان .. ترى التفكير الأوربي الحديث ـ بينما هو يتسامح بالدين وأحياناً يؤكد أنه عرف اجتماعي ـ يترك , على العموم , الأخلاق المطلقة خراج نطاق الاعتبارات العملية . إن المدنية الغربية لا تجحد الله البتة , ولكنها لا ترى مجالاً ولا فائدة لله في نظامها الفكري الحالي . لقد اصطنعت فضيلة من العجز الفكري في الإنسان , أي من عجزه عن الإحاطة بمجموع الحياة . وهكذا يميل الأوربي الحديث إلى أن ينسب الأهمية العملية فقط إلى تلك الأفكار التي تقع في نطاق العلوم التجريبية وتلك التي ينتظر منها على الأقل أن تؤثر في صلات الإنسان الاجتماعية بطريقة ملموسة . وبما أن قضية وجود الله لا تقع تحت هذا الوجه ولا تحت ذاك , فإن العقل الأوربي يميل بداءة إلى إسقاط "الله" من دائرة الاعتبارات العملية !


"وهنا يعرض سؤال : كيف يمكن لهذا الاتجاه أن يتفق وطريقة التفكير المسيحي ؟ أليست النصرانية ـ المفروض فيها أن تكون الهيكل الروحي للمدنية الغربية ـ عقيدة مبنية على الأخلاق المطلقة كما هي الحال في الإسلام ؟ لا شك في أنها كذلك . ولكن حينئذ لا يمكن أن يكون ثمة خطأ أفدح من أن نعتبر أن المدنية الغربية الحديثة نتاج النصرانية . إن الأسس الفكرية الحقيقية في الغرب يجب أن تطلب في فهم الرومانيين القدماء للحياة على أنها قضية منفعة خالية من كل استشراف مطلق ؛ ويمكن التعبير عنها كما يلي : بما أننا لا نعرف شيئاً معيناً ـ من طرق الاختبار العلمي والتقدير في الحساب ـ لا عن أصل الحياة الإنسانية ولا عن مصيرها بعد موت الجسد .. فإن من الخير لنا أن نحصر قوانا في وجوه إمكاننا المادي والفكري , ومن غير أن نسمح لأنفسنا بأن نتقيد بالأخلاق المطلقة والقضايا الأدبية المبنية على دعاوي تتحدى الأدلة العلمية . فلا ريب إذن في أن هذا الاتجاه الذي تتميز به المدنية الغربية الحديثة , لا يجد قبولاً في التفكير الديني المسيحي كما لا يجد قبولاً في الإسلام أو في دين آخر , وذلك لأنه لا ديني في جوهره . وهكذا تكون نسبة نتاج المدنية الغربية الحديثة إلى النصرانية خطأً تاريخياً عظيماً . إن النصرانية ساهمت في جزء يسير جداً من الرقي العلمي المادي الذي فاق به الغرب , في مدنيته الحاضرة , كل ما سواه وفي الحق أن ذلك النتاج قد برز من كفاح أوربا المتطاول للكنيسة المسيحية ولاستشرافها للحياة .. ثم إن النصرانية اليوم في نظر السواد العظم معنى شكلياً فقط كما حال آلهة رومية , تلك الآلهة التي لم يكن يسمح لها , ولا ينتظر منها , أن يكون لها نفوذ حقيقي ما على المجتمع . ولا ريب في أنه لا يزال في الغرب أفراد عديدون يشعرون ويفكرون على أسلوب ديني , ويبذلون جهود القانط حتى يوفقوا بين معتقداتهم وبين روح حضارتهم ؛ ولكن هؤلاء شواذ فقط , إن الأوربي العادي ـ سواء عليه أكان ديمقراطياً أم فاشياً أم بلشفياً , صانعا أم مفكراً ـ يعرف ديناً إيجابياً واحداً هو التعبد للرقي المادي , أي الاعتقاد بأن ليس في الحياة هدف آخر سوى جعل هذه الحياة نفسها أيسر فأيسر , أو كما يقول التعبير الدارج : "طليقة من ظلم الطبيعة" . إن هياكل هذه الديانة إنما هي المصانع العظيمة و دور السينما والمختبرات الكيميائية وباحات الرقص وأماكن توليد الكهرباء ؛ وأما كهنة هذه الديانة فهم الصيارفة والمهندسين وكواكب السينما وقادة الصناعات وأبطال الطيران . وإن النتيجة التي لا مفر منها في هذه الحال هي الكدح لبلوغ القوة والمسرة ؛ وذلك يخلق جماعات متخاصمة مدججة بالسلاح ومصممة على أن يفني بعضها بعضاً حيثما تتصادم مصالحها المتقابلة . أما على الجانب الثقافي فنتيجة ذلك خلق نوع بشري تنحصر فلسفته الأخلاقية في مسائل الفائدة العملية , ويكون أسمى فارق لديه بين الخير والشر إنما هو التقدم المادي " ..


انتهى .


والخلاصة لهذا كله أن الضمير الأوربي الحالي ليس على استعداد لاستشعار روح الإسلام والاستعانة به في حل مشكلات الإنسانية . وإن يكن ذلك ليس مستحيلاً بعد عدة انقلابات وتطورات أخرى ؛ وبعد أن يبدأ العالم الإسلامي ذاته في استئناف حياة إسلامية واضحة المعالم , مستقلة الأسس , يجد فيها الغرب الواقعي التفكير , حقائق عملية قائمة تجذب حسه ؛ وتعادل تفكيره . وإن كان اعتقادي الخاص أن أجيالاً متطاولة ستنقضي قبل أن يستطيع الغرب استشعار روح الإسلام على نحو من الأنحاء .


والخلاصة لهذا كله كذلك أن أسلوب التفكير الإسلامي القائم على الغايات الخلقية للأعمال , لا يستطيع الإلتقاء بأسلوب التفكير الغربي الحاضر القائم على الغايات النفعية للأخلاق ؛ وهذا ما يجب علينا أن نحسب حسابه , ونحن نعمل لتحقيق حياة إسلامية سليمة , فلا نحاول ترقيع هذه الحياة باستعارات نستوردها من الخارج , لأن هذه الرقع لن تستقيم مع نسيج تفكيرنا الأصيل .


والذين يريدون من أصحابنا الدعوة إلى الإسلام أن يستعيروا مناهج الفكر الغربية يسلمون بالهزيمة منذ الجولة الأولى حين يحاولون تجديد حياتهم باستعارة الطرق الغربية في التفكير والحياة والسلوك ؛ وينتهون إلى وأد الحياة التي يعملون لإحيائها , لأنهم منذ الخطوة الأولى يعدلون عن طريقها الطبيعي الوحيد , وهو أن يفكروا على أسس إسلامية تجعل العنصر الأخلاقي أصيلاً في بناء الحياة ؛ وتنظر للغايات الخلقية للعمل , ولا تجعل المنفعة هي الغاية العليا للأخلاق . ولقد رأينا في الفصول الأولى من هذا الكتاب , أن الإسلام يحقق غايات الحياة الصالحة كلها , وهو يحافظ على العنصر الأخلاقي فيها ؛ وأن قيمته الحركية الكبرى كامنة في أنه لا يجزئ الحياة ؛ ولا يفصل بين الوسائل والغايات ؛ ولا يفترض التعارض بين المادي والروحي في كيان الحياة وفي طبيعة الكون والناس , بل يفترض أن الحياة وحدة كلية تسير بجملتها نحو هذه الأهداف في توافق واتساق .


يقدم الإسلام إذن للبشرية فكرة كاملة عن الحياة .. هذه الفكرة قابلة دائماً للنمو في التفريع والتطبيق ؛ ولكنها غير قابلة للتعديل أو المزج في الأصل والاتجاه .


ويجب لكي تؤتي هذه الفكرة الكاملة نتائجها الطبيعية كاملة , أن تطبق تطبيقاً كاملاً , و إلا فإن أقل تعديل في أساسها واتجاهها يحدث فيها اختلالاً , لا تتحقق معه صورة الحياة التي يرسمها الإسلام .


أما النمو الدائم في التفريع والتطبيق على أساس الفكرة الكلية فهو أمر طبيعي تقره طبيعة الإسلام , وتدعو إليه و وتهيئ له وسائله , وتعترف بها . فالاجتهاد المفتوح دائماً والسلطات الواسعة المتروكة للإمام الذي يحكم بشريعة الله … كل هذه وسائل حية لاستمرار النمو والتفريع والتطبيق لمسايرة حركة الحياة , وتلبية حاجاتها المتجددة … أمر واحد هو الذي يجب التزامه : ألا تخرج هذه التفريعات والتطبيقات على الأصول الأساسية للإسلام ؛ وألا تسلك اتجاهاً غير اتجاهه ؛ أو تحتال على روح الإسلام وتتلبس بروح أخرى غير روحه القوية المستقيمة .


وعندما يقوم المجتمع المسلم بالفعل فسيكون المجال مفتوحاً للاجتهاد ولتطبيق شرائع هذا الدين على هذا المجتمع . وسيكون مدار قبولنا لأي تفريع أو رده , أن نعرضه على فكرة الإسلام الأساسية و روحه العامة , فما وافق فكرته و روحه قبلناه , وما خالفها رفضناه , وعلى أن يكون مقرراً في نفوسنا إلى درجة الإيمان والحماسة : أننا نملك تصوراً عن الحياة أكبر مما يملك أتباع أي دين أو فلسفة أو حضارة , لأنه من صنع الله خالق الحياة .


ولكن هذا كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل الوسائل العملية لبلوغ هذه الهدف العظيم . فعلى بركة الله إذن نأخذ هذا التفصيل .


*      *      *


إن استئناف حياة إسلامية لا يتم بمجرد وضع تشريعات وقوانين ونظم مستمدة من الشريعة الإسلامية ؛ فهذا ركن واحد من ركنين يعتمد عليهما الإسلام دائماً في إقامة الحياة , وهو الركن الثاني لا الأول . أما الركن الأول , فهو العقيدة الصحيحة التي تفرد الله سبحانه بالألوهية ومن ثم تفرد بالحاكمية . وتنكر على غير الله أن يدعي حقَّ الألوهية , بادّعاء حق الحاكمية ومزاولته فعلاً !


أما العدالة الاجتماعية فهي جزء من تلك الحياة الإسلامية لا يتحقق كاملاً إلا بتحقق تلك الحياة , ولا يكفل له البقاء إلا بإقامتها على أسسها الوطيدة , شأنها في ذلك شأن كل نظام آخر , لا بد أن يعتمد على الإيمان به والثقه بصلاحيته ؛ و إلا فقد أسسه المعنوية , وقام على القهر التشريعي والنظامي وحده ؛ وهو قهر عمره مرهون بالقدرة على التملص منه . لذلك كان التشريع الإسلامي أدنى إلى الإتباع والطاعة لأنه يعتمد على عقيدة دينية . ولذلك أيضاً يجب أن تكون نقطة البدء هي استحياء العقيدة , ونفي ما علق بها من تحريفات وتأويلات وشبهات , لتكون سنداً للنظام التشريعي الذي نشير به لتحقيق حياة إسلامية صحيحة . وبذلك تقوم هذه الحياة ـ حين تقوم ـ على التشريع والتوجيه , وسيلتي الإسلام الأساسيتين في تحقيق أهدافه جميعاً .


يجب إذن أن نعيد بناء العقيدة الإسلامية على الأسس التي بيناها في مطلع هذا الفصل في نفوس الأفراد والجماعات قبل أن نفكر في موضوع التشريع الإسلامي الذي ينظم الحياة .


ولكن كيف يتسنى لنا أن نكوّن عقيدة إسلامية بثقافة , ووسائل تربية , وطرق تفكير , هي في صميمها غربية , وهي في صميمها معادية للفكرة الإسلامية .


أولاً : لأنها تقوم على أساس مادي مناهض لفكرة الإسلام عن الحياة .


ثانياً : لأن محاربة الإسلام جزء أصيل في تكوينها ؛ سواء ظهر هذا القصد واضحاً أو توارى في الثنايا والشعاب ؟


إننا كما قلت : نعلن هزيمتنا منذ الجولة الأولى إذا نحن اتخذنا الفكرة الغربية وسيلتنا إحياء الفكرة الإسلامية . فلا بد أولاً من التخلص من طريقة التفكير الغربية ؛ ولا بد من اتخاذ طريقة تفكير إسلامية ذاتية ؛ لنضمن أن يجيء النتاج خالصاً غير هجين !


إن مدلول "الحاكمية" في التصور الإسلامي لا ينحصر في قضية تلقي شريعة الحكم والتحاكم إليها . ومن ثم لا تتمثل العبودية لله وحده في مجرد تلقي الشريعة منه وحده , والتحاكم إلى هذه الشريعة وحدها .. متى قصرنا الشريعة على معنى أصول الحكم وقوانينه .. فإن هذا بدوره لا يمثل مدلول "الشريعة" في التصور الإسلامي !


إن شريعة الله تعني كل ما شرعه الله لتنظيم الحياة البشرية .. وهذا يتمثل في أصول الاعتقاد وأصول الحكم ؛ وأصول السلوك , وأصول المعرفة .. يتمثل في العقيدة والتصور .. وكل مقدمات هذا التصور .. ويتمثل في الأحكام التشريعية . ويتمثل في قواعد الأخلاق والسلوك . ويتمثل في القيم والموازين التي تسود المجتمع , وتقوّم بها الأشخاص والأشياء والأحداث .. ثم يتمثل في المعرفة بكل جوانبها وفي أصول النشاط الفكري والفني جملة .. وفي هذا كله لا بد من التلقي عن الله ؛ كالتلقي في الأحكام التشريعية سواء بسواء .. والأمر في الحاكمية ـ في جانبها المختص بالحكم والقانون ـ قد يكون الآن مفهوماً بعد الذي سقناه بشأنه من تقريرات . والأمر في قواعد الأخلاق والسلوك قد يكون مفهوماً أن يرجع فيها إلى أصول التصور الإسلامي جملة , وإلى ما ورد عنها في كتاب الله وسنة رسوله مفصلاً . والأمر في القيم والموازين التي تسود المجتمع , ويقوّم بها الأشخاص والأشياء والأحداث , قد يكون كذلك مفهوماً إلى حد ما . إذ أن القيم السائدة في مجتمع ما , ترجع مباشرة إلى التصور السائد فيه للوجود , وللعلاقات القائمة بين الوجود وخالقه , والعلاقات القائمة بين أطراف هذا الوجود ؛ وإلى الأهداف والغايات التي يقرر ذلك التصور أنها أهداف هذا المجتمع , أو أنها الغاية من الوجود الإنساني جملة ..


وعلى سبيل المثال .. فإن غاية الوجود الإنساني في التصور الإسلامي هي عبادة الله ـ أي العبودية له وحده والتحرر من عبادة العباد ـ ووظيفته هي الخلافة في الأرض عن الله , واستغلال طاقاتها ومدخراتها وأقواتها , والتركيب فيها والتحليل , وتنمية الحياة وترقيتها بالإبداع المادي , في ظل منهج الله وفي حدوده ؛ ليرتفع الإنسان في الحياة المادية إلى الاستمتاع بزينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ؛ وليرتفع في حياته الروحية المنطلقة من الضغوط المادية . ومقياس التفاضل في الحياة في التصور الإسلامي هو التقوى :"..إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ


.." (الحجرات13) وعلى أساس التقوى تقوم كل الأخلاق الإسلامية وكل قواعد السلوك .


فالتقوى تنشأ عن تمثل ألوهية الله وعبودية الإنسان . وتنشئ المشاعر التي تقوم عليها بناء الأخلاق كله … وقد تحدثنا من قبل عن هذه المقدمات . ولكننا نذكرها لندل على أن للإسلام قيمه الخاصة . وهي تُتلقى من ذات المصدر الذي تُتلقى منه العقيدة , ولا تتلقى من مصدر آخر لأنها من مقتضى العبودية لألوهية الله وحده .. وهي بعض معاني "شريعة الله" في مدلولها الحقيقي , الذي لا ينحصر في المدلول المتداول لكلمة الشريعة .


ومن ثم فإن أصول الاعتقاد والتصور , وأصول الأخلاق والسلوك , وأصول القيم والموازين التي تسود حياة المجتمع ـ بجملتها ـ لا يتلقاها المسلم من أي مصدر آخر إلا المصدر الرباني .. والأمر في هذا التلقي هو أمر العقيدة . فالتلقي من غير الله فيها مناف لأصل الاعتراف بالعبودية الشاملة للألوهية المتفردة .. شأنه شأن التلقي في الشرائع القانونية , الذي أسلفنا حكم الله فيه .


ليست هناك أخلاق زراعية , وأخلاق صناعية ؛ وليست هناك قيم خاصة بالمجتمع الزراعي , وقيم خاصة بالمجتمع الصناعي .. ليست هناك أخلاق للمجتمع البرجوازي , وأخلاق لمجتمع الصعاليك (البروليتاريا) . وليست هناك قيم للمجتمع البرجوازي وقيم لمجتمع الصعاليك … ليست هناك أخلاق رأسمالية وأخلاق اشتراكية . ولا قيم رأسمالية وقيم اشتراكية … إنما هنالك فقط أخلاق إسلامية وأخلاق جاهلية . وقيم إسلامية وقيم جاهلية .. هنالك قيم وأخلاق تنبثق من تصور : أن هناك ألوهية واحدة , وعبودية شاملة لكل شيء وكل حي .. وأخلاق وقيم تنبثق من تعدد الأرباب ـ في شتى صور الربوبية ـ وتمزق الضمير البشري وتمزق الحياة البشرية بين الأرباب المتفرقة ! .. هنالك أخلاق وقيم تنبثق من التصور الإسلامي للوجود , ولعلاقته بخالقه , ولمركز الإنسان في الوجود , ولغاية وجوده ووظيفته , ونوع ارتباطاته وعلاقاته بالكون المادي وبالأحياء وببني جنسه كذلك , وعلاقة هؤلاء جميعاً بالله . وأخلاق وقيم تنبثق من التصورات الجاهلية في شتى أشكالها وصورها .. والتصورات الجاهلية هي كل ما عدا التصور الإسلامي .. وهي السبل المتفرقة التي لا تلتقي بصراط الله الواحد ـ كما بينه هو في كتابه لا كما يصوره الناس بأهوائهم ـ ومن ثم لا تصل إلى الله أبداً .


والأوضاع الاجتماعية بجملتها , والأوضاع السياسية بجملتها , والأوضاع الاقتصادية بجملتها .. هي فروع عن التصور الاعتقادي ؛ وتطبيق واقعي للقيم المنبثقة من هذا التصور .. ومن ثم فالتلقي فيها كلها لا يجوز أن يكون له مصدر آخر غير مصدر التصور الإسلامي . أو غير مصدر الشريعة الإسلامية ـ بمدلولها الحقيقي الذي لا ينحصر في المدلول المتداول لكلمة الشريعة .. والتلقي فيها عن المصدر الرباني وحده , وهو مقتضى الإقرار بالعبودية الشاملة للألوهية المتفردة . والشأن فيه شأن التلقي في الأحكام القانونية التي ينحصر فيها مدلول "الشريعة" المتداول ! ويدور حولها معنى "الحاكمية" المتداول كذلك .. والشريعة أشمل نطاقاً . والحاكمية أوسع مدى من هذا المدلول المتداول !


على أن هذا كله قد يكون مفهوماً ـ شيئاً ما ـ ولا يكون الحديث فيه هنا مبتدأ , ولا غريباً على قراء مثل هذه البحوث . وإن كان ينبغي التوكيد على أن الأمر في هذه الشؤون كلها هو أمر العقيدة . فهو يتعلق مباشرة بالإقرار أو عدم الإقرار بالعبودية الشاملة للألوهية المتفردة ..


أما الأمر الذي قد يكون غريباً بعض الشيء فهو الرجوع في شأن النشاط الفني , والنشاط الفكري , والنشاط العلمي إلى التصور الإسلامي , وإلى مصدره الرباني . باعتبار أن هذا الشأن متعلق بالعقيدة . ومن مقتضيات الاعتراف بالعبودية الشاملة للألوهية المتفردة !


وفي النشاط الفني صدر كتاب كامل يتضمن بيان القضية . باعتبار أن النشاط الفني كله , هو تعبير إنساني عن تصورات الإنسان وانفعالاته واستجاباته وتوجهاته .. وهذه كلها يحكمها ـ بل ينشئها ـ في النفس المسلمة تصورها الإسلامي بشموله لكل جوانب الكون والنفس والحياة ؛ وعلاقتها ببارئ الكون والنفس والحياة . وبتصورها خاصة لحقيقة هذا الإنسان . ومركزه في الكون . وغاية وجوده . ووظيفته . وقيم حياته .. وكلها متضمنة في التصور الإسلامي الذي ليس هو مجرد تصور فكري . إنما هو تصور اعتقادي موح مؤثر فعال دافع ومسيطر على كل انبعاث في الكيان الإنساني (4) .. وسنتحدث عن هذه المسألة هنا باختصار في الفقرات التالية في الفصل .


فأما قضية النشاط الفكري والعلمي , وضرورة رد هذا النشاط إلى التصور الإسلامي ومصدره الرباني . تحقيقاً للإقرار بالعبودية الشاملة للألوهية المتفردة . أي تحقيقاً لإسلام المسلم من ناحية العقيدة .. فهذه هي القضية التي تقتضي منا بياناً كاملاً . لأنها قد تكون ـ بالقياس إلى قراء هذا العصر حتى المسلمين منهم , الذين يرون حتمية رد الحاكمية والتشريع لله لتتحقق صفة الإسلام والإيمان ـ غريبة أو غير مطروقة !


إن المسلم لا يملك أن يتلقى في أمر يختص بالعقيدة والتصور العام للوجود , أو يختص بالعبادة , أو يختص بالخلق , أو يختص بالقيم والموازين التي تحكم في المجتمع , أو يختص بالمبادئ والأصول في النظام السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي , أو يختص بتفسير بواعث النشاط الإنساني وبحركة تاريخه إلا من ذلك المصدر الرباني .. ولا يتلقى في هذا إلا عن مسلم يثق في دينه وتقواه , ومزاولته لعقيدته في الحياة ..


ولكن المسلم يملك أن يتلقى في العلوم البحتة , كالكمياء والطبيعة والأحياء والفلك والصناعة والزراعة وطرق الإدارة ـ من الناحية الفنية الإدارية البحتة ـ وطرق العمل من هذه الناحية كذلك , وطرق الحرب والقتال من هذا الجانب أيضاً … إلى آخر ما يشبه هذا النشاط .. يملك أن يتلقى في هذا كله عن المسلم وغير المسلم .. وإن كان الأصل في المجتمع المسلم حين يقوم أن يسعى لتوفير الكفايات في هذه الحقول كلها باعتبارها فروض كفاية , يجب أن يتخصص فيها أفراد فتسقط عن الباقين , و إلا أثم المجتمع كله إذا لم يوفر هذه الكفاية ولم يوفر الجو الذي تتكون فيه وتعيش وتعمل وتنتج .. ولكن إلى أن يتحقق هذا فإن للفرد المسلم أن يتلقى في هذه العلوم البحتة وتطبيقاتها العملية من المسلم ومن غير المسلم , وأن ينتفع فيها بجهد المسلم وغير المسلم , وأن يشغَل فيها المسلم وغير المسلم .. لأنها من الشؤون الداخلة في قوله الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ "أنتم أعلم بشؤون دنياكم" وهي لا تتعلق بتكوين تصور المسلم عن الحياة والكون والإنسان وغاية وجوده ؛ وحقيقة وظيفته ونوع ارتباطاته بالوجود من حوله , وبخالق الوجود كله . ولا تتعلق بالمبادئ والشرائع والأنظمة والأوضاع التي تنظم حياته أفراداً وجماعات .. ومن ثم فلا خطر فيها على زيغ عقيدته , وارتداده إلى الجاهلية !


فأما ما يتعلق بتفسير النشاط الإنساني كله أفراداً ومجتمعات ـ وهو المتعلق بالنظرة إلى "نفس" الإنسان , "وحركة تاريخه" , وما يختص بتفسير نشأة هذا الكون , ونشأة هذه الحياة , ونشأة هذا الإنسان , من ناحية ما وراء الطبيعة ( وهو ما لا تتعلق به العلوم البحتة من كيمياء وطبيعة وفلك وأحياء وطب …الخ ) فالشأن فيه شأن الشرائع القانونية والمبادئ والأصول التي تنظم حياته ونشاطه .. مرتبطة بالعقيدة . فلا يجوز للمسلم أن يتلقى فيه إلا عن مسلم , يثق في دينه وتقواه , ويعلم أنه يتلقى في هذا كله عن الله .. والمهم أن يرتبط هذا في حس المسلم بأمر عقيدته . وأن يعلم أن هذا مقتضى عبوديته لله وحده .. أي مقتضى إسلامه !


إنه قد يقرأ كل آثار النشاط الجاهلي ولكن لا ليكوّن منه تصوره في هذه الشؤون . إنما ليعرف كيف تنحرف الجاهلية ! وليعرف كيف يصحح هذه الانحرافات البشرية بردها إلى مقوّمات التصور الإسلامي .


إن اتجاهات الفلسفة بجملتها . واتجاهات تفسير التاريخ الإنساني بجملتها . واتجاهات على النفس بجملتها .( فيما عدا بعض الملاحظات والمشاهدات دون تفسيراتها العامة ) ومباحث الأخلاق بجملتها . واتجاهات دراسة الأديان المقارنة بجملتها . واتجاهات التفسيرات الاجتماعية بجملتها ( فيما عدا الإحصاءات والمعلومات المباشرة .. لا النتائج العامة المستخلصة منها ..) ..


إن هذه الاتجاهات كلها في الفكر الجاهلي ـ غير الإسلامي ـ قديماً وحديثاً متأثرة تأثراً مباشراً بتصورات جاهلية . وقائمة على هذه التصورات . ومعظمها ـ إن لم تكن كلها ـ تتضمن في أصولها المنهجية عداء ظاهراً أو خفياً للتصور الديني جملة , وللتصور الإسلامي على وجه الخصوص !


والأمر في هذه الألوان من النشاط الفكري والعلمي ليس كالأمر في علوم الكيمياء والطبيعة والفلك والأحياء والطب وما إليها .. ما دامت في حدود التجربة الواقعية , وتسجيل النتائج الواقعية . دون مجاوزتها إلى التفسير الفلسفي في صورة من صوره . وذلك كتجاوز "الدراوينية" مثلاً لمجال إثبات  المشاهدات وترتيبها في علم الأحياء إلى مجال القول ـ بدون دليل وبدون حجة للقول كذلك إلا الرغبة والهوى ـ إنه لا ضرورة لافتراض وجود قوة خارجة عن العالم الطبيعي لتفسير نشأة الحياة وتطورها !


إن لدى المسلم الكفاية من بيان ربه الصادق عن تلك الشؤون كلها في المستوى الذي تبدو فيه محاولات البشر في هذه المجالات هزيلة مضحكة . فضلاً على أن الأمر كله يتعلق تعلقاً مباشراً بالعقيدة : عقيدة الألوهية الواحدة والعبودية الشاملة . قاعدة هذا التصور وحقيقته الكبرى ..


إن حكاية أن الثقافة تراث "إنساني" لا وطن له ولا جنس ولا دين … هي حكاية صحيحة عندما تتعلق بالعلوم البحتة وتطبيقاتها العملية ـ دون تجاوز هذه المنطقة إلى التفسيرات الفلسفية لنتائج هذه العلوم ـ ولا إلى التفسيرات الفلسفية لنفس الإنسان ونشاطه وتاريخه , ولا إلى الفن والأدب والتعبيرات الشعورية جميعاً . ولكنها فيما وراء ذلك إحدى مصائد اليهودية العالمية التي يهمها تمييع الحواجز كلها ـ بما في ذلك بل في أول ذلك حواجز العقيدة والتصور ـ لكي ينفذ منها اليهود إلى جسم العالم كله , وهو مسترخ مخدر , ثم تزاول اليهودية فيه نشاطها الشيطاني . وفي أوله نشاطها الربوي . الذي ينتهي إلى جعل حصيلة كد البشرية تؤول إلى أصحاب المؤسسات المالية الربوية من اليهود !!!


ولكن الإسلام يعتبر أن هناك نوعين اثنين من الثقافة ـ فيما وراء العلوم البحتة وتطبيقاتها العملية ـ الثقافة الإسلامية , القائمة على قاعدة التصور الإسلامي .والثقافة الجاهلية القائمة على مناهج شتى كلها ترجع إلى قاعدة واحدة . قاعدة إقامة الفكر البشري إلهاً , لا يرجع إلى الله في ميزانه .. والثقافة الإسلامية شاملة لكل حقول النشاط الفكري والواقعي الإنساني ؛ وفيها من القواعد والمناهج والخصائص ما يكفل نمو هذا النشاط وحيويته دائماً .


ويكفي أن نعلم أن الاتجاه التجريبي , الذي قامت عليه الحضارة الصناعية الأوربية الحاضرة , قد نشأ ابتداء في الجامعات الإسلامية , مستمداً أصوله من التصور الإسلامي وتوجيهاته إلى الكون وطبيعته الواقعية ومدخراته وأقواته . ثم استقلت النهضة في أوربا بهذا المنهج واستمرت تُنميه وتُرقيه ؛ بينما ركد وترك نهائياً في العالم الإسلامي .. بسبب بعد هذا العالم تدريجياً ـ بفعل عوامل كامنة في محيطه وبفعل الكيد والهجوم الصهيوني والصليبي عليه من خارجه ـ عن عقيدته وتصوره ومنهجه الأساسي .. ثم قطعت أوربا ما بين المنهج الذي اقتبسته وبين أصوله الاعتقادية الإسلامية , وشردت به نهائياً بعيداً عن الله ؛ في أثناء شرودها عن الكنيسة التي تستطيل على الناس ـ بغياً وعدواً ـ باسم الله !


وكذلك أصبح نتاج الفكر الأوربي بجملته ـ شأنه شأن نتاج الفكر الجاهلي في جميع الأزمان وفي جميع البقاع ـ شيئاً آخر ذا طبيعة مختلفة من أساسها عن مقومات التصور الإسلامي ووجب أن يرجع المسلم إلى مقومات وحدها . وألا يأخذ إلا من المصدر الرباني إن استطاع بنفسه , و إلا فلا يأخذ إلا عن مسلم تقي , يعلم عن دينه وتقواه ما يطمئنه إلى الأخذ عنه .


إن حكاية فصل "العلم" عن صاحبه , لا يعرفها الإسلام فيما يختص بكل العلوم المتعلقة بمقومات التصور , المؤثرة في نظرة الإنسان إلى الوجود والحياة والنشاط الإنساني والأوضاع والقيم والموازين والتقاليد والعادات , وسائر ما يتعلق بحياة الكائن الإنساني من هذه النواحي ..


إن الإسلام يتسامح أن يتلقى المسلم عن غير المسلم و عن غير التقي من المسلمين في علم الكيمياء البحتة أو الطبيعة أو الفلك أو الطب أو الصناعة أو الزراعة . أو الأعمال الإدارية أو الكتابية .. وذلك في الحالات التي لا يجد فيها مسلماً تقياً يأخذ عنه في هذا كله كما هو واقعنا اليوم الناشئ من بعدنا عن ديننا ونهجنا وتصورنا لمقتضيات الخلافة في الأرض ـ بإذن الله ـ وما يلزم لهذه الخلافة من هذه العلوم والمهارات المختلفة !


ولكنه لا يتسامح أن يتلقى أصول عقيدته ولا مقومات تصوره . ولا تفسير قرآنه وحديثه وسيرة نبيه . ولا منهج تاريخه وتفسير نشاطه . ولا مذهب مجتمعه . ولا نظام حكمه ولا منهج سياسته . ولا موحيات فنه و أدبه وتعبيره … من مصادر غير إسلامية . ولا أن يتلقى عن غير مسلم يثق في دينه وتقواه .


إن الذي يقول هذا الكلام إنسان عاش يقرأ أربعين سنة كاملة , كان عمله الأول فيها هو القراءة والإطلاع , في معظم حقول المعرفة الإنسانية . ما هو من تخصصه وما هو من هواياته الثقافية .. ثم عاد إلى مصادر عقيدته وتصوره , فإذا هو يجد كل ما قرأه ضئيلاً ضئيلاً إلى جنب ذلك الرصيد الضخم ـ وما كان يمكن أن يكون الأمر إلا كذلك ـ وما هو بنادم على ما قضى فيه أربعين سنة من عمره . وإنما عرف الجاهلية على حقيقتها . وعلى انحرافها وعلى ضآلتها وعلى قزامتها .. وعلى جعجعتها وانتفاشها . وعلى غرورها وادعائها كذلك ! وعلم علم اليقين أنه لا يمكن أن يجمع المسلم بين هذين المصدرين في التلقي !!!


ومع ذلك فليس الذي سبق في هذه الفقرة رأياً لي أبديته .. فالأمر أكبر من أن يُفتَى فيه بالرأي , وأثقل في ميزان الله من أن يعتمد المسلم فيه على رأي .. إنما هو قول الله ـ سبحانه ـ وقول نبييه ـ صلى الله عليه وسلم ـ نحكّمه في هذا الشأن , ونرجع فيه إلى الله وإلى الرسول كما يرجع الذين آمنوا إلى الله وإلى الرسول فيما اختلفوا فيه . إن كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر .

يقول الله سبحانه عن الهدف النهائي لليهود والنصارى في شأن المسلمين بصفة عامة : "وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(البقرة109)

.

"وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ".. (البقرة120)

.


"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ".. (آل عمران100) .


وحين يتحدد الهدف النهائي لليهود والنصارى في شأن المسلمين على هذه النحو القاطع , يكون من البلاهة الظن لحظة بأنهم يصدرون في أي مبحث من المباحث المتعلقة بالعقيدة الإسلامية أو التاريخ الإسلامي , أو التوجيه في نظام المجتمع المسلم أو في سياسته أو اقتصاده إلى خير أو إلى هدى أو إلى نور … والذين يظنون ذلك فيما عند هؤلاء الناس بعد بيان الله سبحانه إنما هم الغافلون !


كذلك يتحدد من قول الله سبحانه : "قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى" المصدر الوحيد الذي يجب على المسلم الرجوع إليه في هذه الشؤون . فليس وراء هدى الله إلا الضلال . وليس في غيره هدى , كما تفيد صيغة القصر الواردة في النص : " قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى" .. ولا سبيل إلى الشك في مدلول هذا النص ولا إلى تأويله كذلك !


كذلك يرد الأمر القاطع بالإعراض عمن يتولى عن ذكر الله , ويقصر اهتمامه على شؤون الحياة الدنيا ؛ وينص كذلك على مثل هذا لا يعلم إلا ظناً , والمسلم منهي عن اتباع الظن . وانه لا يعلم إلا ظاهراً من الحياة الدنيا فهو لا يعلم علماً صحيحاً :

" فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى"..(النجم30).. " يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ"… (الروم7)

والذي يغفل عن هدى الله ولا يريد إلا الحياة الدنيا ـ وهو شأن جميع "العلماء" اليوم ! ـ لا يعلم إلا هذا الظاهر وليس هذا هو العلم الذي يثق المسلم في صاحبه فيتلقى عنه في كل شأنه . وإنما يجوز أن يتلقى عنه في حدود علمه المادي البحت . ولا يتلقى منه تفسيراً ولا تأويلاً عاماً للحياة أو متعلقاتها التصورية .. كما أنه ليس هو العلم الذي تشير إليه الآيات القرآنية , وتثني على أهله . فأي علم لا يؤدي إلى الاهتداء إلى الله ؛ ولا يقوم على إدراك فضل الله في تعليم الإنسان ما لم يعلم ؛ وفي منحه ابتداء القدرة على الإدراك ؛ وفي تسخير النواميس الطبيعية له .. أي علم لا يقوم على هذه الأسس هو علم ضال مضل ؛ وليس هو العلم الذي تقصده الآيات القرآنية وتثني عليه .. كما يفهم الذين ينتزعون النصوص القرآنية من سياقها ليستشهدوا بها في غير مواضعها !


إن العلم ـ بطبيعة الحال ـ ليس مقصوراً على علم العقيدة , وعلم الفرائض الدينية .. فالعلم يشمل كل شيء , ويتعلق بالقوانين الطبيعية وتسخيرها في خلافة الأرض تعلقه بالعقيدة والفرائض على السواء .. ولكن العلم الذي ينقطع عن قاعدته الإيمانية وعلم الفلك , وعلم الأحياء , وعلم الطبيعة , وعلم الكيمياء , وعلم الطب , وسائر هذه العلوم المتعلقة بالنواميس الطبيعية والقوانين الحيوية .. إنها كلها تؤدي إلى الله ؛ حين لا يستخدمها الهوى المنحرف للابتعاد عن الله .. كما اتجه المنهج الأوربي في النهضة العلمية ـ مع الأسف ـ بسبب الملابسات النكدة التي قامت في التاريخ الأوربي خاصة , بين المشتغلين بالعلم وبين الكنيسة الغاشمة ! ثم ترك آثاره العميقة في مناهج الفكر الأوربي كلها , وفي طبيعة التفكير الأوربي . وترك الرواسب المسممة بالعداء لأصل التصور الديني جملة ـ لا لأصل التصور الكنسي وحده ولا للكنيسة وحدها ـ في كل ما أنتجه الفكر الأوربي في كل حقل من حقول المعرفة . سواء كانت فلسفية ميتافيزيقية , أو كانت بحوثاً علمية بحتة لا علاقة لها ـ في الظاهر ـ بالموضوع الديني !


وإذا تقرر أن مناهج الفكر الغربي ونتاج هذه الفكر في كل حقول المعرفة ؛ يقوم ابتداء على أساس تلك الرواسب المسممة بالعداء لأصل التصور الديني جملة .. فإن تلك المناهج وهذا النتاج أشد عداء للتصور الإسلامي خاصة ؛ لأنه يتعمد هذا التصور والمفهومات الإسلامية ؛ ثم تحطيم الأسس التي يقوم عليها تميز المجتمع المسلم وعلى نتاجه كذلك في الدراسات الإسلامية .. ومن ثم تجب الحيطة كذلك في دراسة العلوم البحتة ـ التي لا بد في موقفنا الحاضر من تلقيها من المصادر الغربية ـ من أية ظلال فلسفية تتعلق بها . لأن هذه الظلال معادية في أساسها للتصور الديني جملة , وللتصور الإسلامي بصفة خاصة . وأي قدر منها يكفي لتسميم الينبوع الإسلامي الصافي ..


وسنحاول فيما يلي أن نقول كلمة مفصلة عن الأدب والتاريخ بوجه خاص , وكيف تدرس هذه الجوانب دراسة مأمونة لتنشئة "المسلم" وتنقية ضميره من شوائب الجاهلية التي تغمر وجه الأرض جميعاً .


إن الأدب أشد المؤثرات في تكوين فكرة وجدانية عن الحياة , وفي طبع النفس البشرية بطابع خاص . ومن هنا يجب أن يكون لنا أدب نابع من التصور الإسلامي . ولعله يحسن أن نقول هنا كلمة مفصلة عن منهج الأدب الإسلامي :


الأدب ـ كسائر الفنون ـ تعبير موح عن قيم حية ينفعل بها ضمير الفنان . هذه القيم قد تختلف من نفس إلى نفس , ومن بيئة إلى بيئة . ومن عصر إلى عصر , ولكنها في كل حال تنبثق من تصور معين للحياة , والارتباطات فيها بين الإنسان والكون , وبين بعض الإنسان وبعض .


ومن العبث أن تحاول تجريد الأدب أو الفنون عامة من القيم التي يحاول التعبير عنها مباشرة , أو التعبير عن وقعها في الحس الإنساني . فإننا لو أفلحنا ـ وهذا متعذر ـ في تجريدها من هذه القيم , لن تجد بين أيدينا سوى عبارات خاوية , أو خطوط جوفاء , أو أصوات غفل , أو كتل صماء .


كذلك من العبث محاولة فصل تلك القيم عن التصور الكلي للوجود والحياة , والارتباطات فيها بين الإنسان والكون والأحياء والأحداث , وبين بعض الإنسان وبعض . ويستوي أن شعر الإنسان بأن له تصوراً خاصاً للحياة أو لا يشعر , لأن هذا قائم في نفسه على كل حال , وهو الذي يحدد قيم الحياة في نظره , ويلون تأثراته بهذه القيم …


والإسلام تصور معين للحياة , وتنبثق منه قيم خاصة لها . فمن الطبيعي إذن أن يكون التعبير عن هذه القيم , أو عن وقعها في نفس الفنان , ذا لون خاص .


وأهم خاصية للإسلام أنه عقيدة ضخمة جادة فاعلة خالقة منشئة , تملأ فراغ النفس والحياة , وتستنفذ الطاقة البشرية في الشعور والعمل , وفي الوجدان والحركة , فلا تبقي فيها فراغاً للقلق والحيرة , ولا للتأمل الضائع الذي لا ينشئ سوى الصور والتأملات .


وأبرز ما فيه هو الواقعية العملية حتى في مجال التأملات والأشواق . فكل تأمل هو إدراك أو محاولة لإدراك طبيعة العلاقات الكونية أو الإنسانية , وتوكيد للصلة بين الخالق والمخلوق , أو بين مفردات هذا الوجود . وكل شوق هو دفعة لإنشاء هدف , أو لتحقيق هدف , مهما علا واستطال .


وقد جاء الإسلام لتطوير الحياة وترقيتها , لا للرضى بواقعها في زمان ما أو في مكان ما , ولا لمجرد تسجيل ما فيها من دوافع وكوابح , ومن نزعات وقيود , سواء في فترة خاصة , أو في المدى الطويل .


مهمة الإسلام دائماً أن يدفع بالحياة إلى التجدد والنمو والترقي , وأن يدفع بالطاقات البشرية إلى الإنشاء والانطلاق والارتفاع .


ومن ثم فالأدب أو الفن المنبثق من التصور الإسلامي للحياة , قد لا يحفل كثيراً بتصوير لحظات الضعف البشري , ولا يتوسع في عرضها , وبطبيعة الحال لا يحاول أن يبررها , فضلاً على أن يزينها بحجة أن هذا الضعف واقع , فلا ضرورة لإنكاره أو إخفائه .


إن الإسلام لا ينكر أن في البشرية ضعفاً , ولكنه يدرك كذلك أن في البشرية قوة . ويدرك أن من مهمته هي تغليب القوة على الضعف , ومحاولة رفع البشرية وتطويرها وترقيتها , لا تبرير ضعفها أو تزيينه .


والأدب أو الفن المنبثق من التصور الإسلامي للحياة قد يلم أحياناً بلحظات الضعف البشري , ولكنه لا يلبث عندها إلا ريثما يحاول رفع البشرية من وهدة هذه اللحظات , وإطلاقها من عقال الضرورة وضغطها . وهو لا يصنع هذا متأثراً بالمعنى الضيق لمفهوم "الأخلاق" إنما يصنعه متأثراً بطبيعة التصور الإسلامي للحياة , وبطبيعة الإسلام ذاته في تجديد الحياة وترقيتها , وعدم الاكتفاء بواقعها في لحظة أو فترة .


والنظرة الإسلامية لا تؤمن بسلبية الإنسان في هذه الأرض , ولا بضآلة الدور الذي يؤديه في تجديد الحياة وترقيتها . ومن ثم فالأدب أو الفن المنبثق من التصور الإسلامي لا يهتف للكائن البشري بضعفه ونقصه وهبوطه ؛ ولا يملأ فراغ مشاعره وحياته بأطياف اللذائذ الحسية , أو بالتشهي الذي لا يخلق إلا القلق والحيرة والحسد والسلبية . إنما يهتف لهذا الكائن بأشواق الاستعلاء والطلاقة , ويملأ فراغ حياته ومشاعره بالأهداف البشرية التي تجدد الحياة وترقيها . سواء في ضمير الفرد أو في واقع الجماعة .


وليست الخطب الوعظية هي سبيل الأدب أو الفن المنبثق من التصور الإسلامي , فهذه وسيلة بدائية وليست عملاً فنياً بطبيعة الحال .


كذلك ليست وظيفة هذا الأدب أو الفن هي تزوير الشخصية الإنسانية أو الواقع الحيوي , وإبراز الحياة البشرية في صورة مثالية لا وجود لها . إنما هو الصدق في تصوير المقدرات الكامنة أو الظاهرة في الإنسان , والصدق كذلك في تصوير أهداف الحياة اللائقة من البشر , لا بقطيع من الذئاب !


والأدب أو الفن المنبثق من التصور الإسلامي أدب أو فن موجه , بحكم أن الإسلام حركة تجديد وترقية مستمرة للحياة , فهو لا يرضى بالواقع في لحظة أو جيل , ولا يبرره أو يزينه لمجرد أنه واقع . فمهمته الرئيسية هي تغيير هذا الواقع وتحسينه , والإيحاء الدائم بالحركة الخالقة المنشئة لصور متجددة من الحياة .


وقد يلتقي في هذا مع الأدب أو الفن الموجه بالتفسير المادي للتاريخ , يلتقي معه لحظة واحدة ثم يفترقان ..


فالصراع الطبقي هو محور الحركة التطويرية في ذلك الفن . أما الإسلام فلا يعطي الصراع الطبقي كل هذه الأهمية , لأن نظرته إلى أهداف البشرية أوسع وأرقى . إنه لا يرضى بالظلم الاجتماعي ولا يقره , ولا يهتف للناس بالرضى به أو الّتذاذه ! وهو يعمل ـ فيما يعمل ـ لمكافحته وتبديله . ولكنه لا يقيم حركته على الحقد الطبقي , بل على الرغبة في تكريم الإنسان ورفعه عن درك الخضوع للحاجة والضرورة , وإطلاق إنسانيته المبدعة من الإنحصار في الطعام والشراب وجوعات الجسد على كل حال .


فالمحور الذي تدور عليه حركة النمو والتجدد في المنهج الإسلامي هو ترقية البشرية كلها , ودفعها إلى الانطلاق والارتفاع , وإلى الخلق والإبداع . وفي الطريق يلم بآلام الطبقات وقيودها , ليحطم هذه القيود , ويزيل تلك الآلام .


إنه لا يحقر آلام البشر , ولكنه لا يستخدم الحقد الطبقي لإزالتها , لاعتباره أن الحقد ذاته قيد يحول دون انطلاق البشرية إلى آفاق أعلى !


أما كيف يعالج هذه الآلام علاجاً واقعياً عملياً , لا وعظياً ولا خيالياً , فقد تحدثنا عنه في غير هذا الموضع . إنما المهم أن نقرر هنا أن الأدب أو الفن الإسلامي أدب أو فن موجه .


موجه بطبيعة التصور الإسلامي للحياة وارتباطات الكائن البشري فيها , وموجه بطبيعة المنهج الإسلامي ذاته , وهي طبيعة حركية دافعة للإنشاء والإبداع , وللترقي والارتفاع . ولست أعني التوجيه الإجباري على نحو ما يفرضه أصحاب مذهب التفسير المادي للتاريخ , إنما أعني أن تكيف النفس البشرية بالتصور المادي , أو أي تصور آخر , لأن التعبير الفني لا يخرج عن كونه تعبيراً عن النفس الإنسانية كتعبيرها بالسلوك في واقع الحياة .


وأخيراً فإن الإسلام لا يحارب الفنون ذاتها , ولكنه يعارض بعض التصورات والقيم التي يعبر عنها هذه الفنون . ويقيم مكانها ـ في عالم النفس ـ تصورات وقيماً أخرى , قادرة على الإيحاء بتصورات جمالية إبداعية , وعلى إبداع صور فنية أكثر جمالاً وطلاقة , وتنبثق انبثاقاً ذاتياً من طبيعة التصور الإسلامي , وتتكيف بخصائصه المميزة .


ولا ينبغي أن يفهم من هذا تحريم الآداب الأوربية على الناشئة المسلمة . فالذي نعنيه هو مجرد الاختيار والانتقاء . ففي هذه الآداب ما تلتئم روحه من بعض الجوانب مع الروح الإسلامية . لا لأنه حث على الفضائل وتقبيح للرذائل ؛ فالأدب ليس منبراً خطابياً للوعظ والإرشاد . ولكن لأنه ينظر إلى الحياة نظرة روحية أرفع من المادة ؛ ولأنه يعترف بالقيم المعنوية للحياة . فهذا اللون من الأدب يتفق في روحه مع المنهج الإسلامي في عمومه . وتمكن دراسته مع حسن الاختيار .


*     *     *


والتاريخ فرع من الأدب , ولكنه ذو طبيعة خاصة , ذو خطورة كذلك . فالتاريخ تفسير لوقائع الحياة , ولا بد أن يتأثر بالفلسفة والتصور العام للحياة . وستؤدي تفسيراته على هذا النحو إلى تكوين صورة عن الحياة تختلف اختلافاً رئيسياً عن التصور الإسلامي لاتجاه الحياة والتاريخ .


وفوق ذلك فإن المؤرخين ـ لأنهم أوربيين في الغالب ـ جعلوا محور التاريخ العالمي هو تاريخ أوربا . وهم في هذا معذورون بحكم الفطرة البشرية . وذلك إذا أغضينا عن الأثرة الغربية والغرور الأوربي . فدراسة ناشئتنا لتاريخ , تلك روحه وهذه طريقته , يجعلهم يخرجون بفكرتين باطلتين :


الأولى : أنه لا أثر للعوامل الروحية في سير خط الزمن , أو أن هذا الأثر ضعيف ضئيل .


والثانية : أن أوربا هي محرك خط الزمن , وأن الإسلام بالذات ليس له إلا أثر ضئيل وضعيف .


وأثر كل من هاتين الفكرتين مؤذ وخطير , سواء في تكوين فكرة عامة عن الحياة والخلق والسلوك , أو في الشعور بالعزة الإسلامية أمام التيار الأوربي الجارف .


يجب أن نأخذ في وضع تاريخ عالمي عام , من وجهة النظر الإسلامية , في تفسير الحوادث والوقائع , فلا تنفرد طريقة النظر الأوربية بهذا العمل الخطير . على أن نضع أوربا في هذا التاريخ في موضعها الحقيقي لا تتجاوزه , وعلى أن نبرز دور البشرية بصفة عامة , ودور الإسلام بصفة خاصة في خط سير التاريخ .


إن التاريخ ليس هو الحوادث , إنما هو تفسير هذه الحوادث , والاهتداء إلى الروابط الظاهرة والخفية التي تجمع بين شتاتها , وتجعل منها وحدة متماسكة الحلقات , متفاعلة الجزئيات , ممتدة مع الزمن والبيئة امتداد الكائن الحي في الزمان والمكان .


ولكي يفهم الإنسان الحادثة ويفسرها , ويربطها بما قبلها وما تلاها , وينبغي أن يكون لديه الاستعداد لإدراك مقومات النفس البشرية جميعها : روحية وفكرية وحيوية , ومقومات الحياة البشرية جميعها : معنوية ومادية . وأن يفتح روحه وفكره وحسه للحادثة , ويستجيب لوقعها في مداركه , ولا يرفض شيئاً من استجاباته لها إلا بعد تحرج وتمحيص ونقد .


وعلى ذلك فإن التاريخ الإسلامي يجب أن تعاد كتابته على أسس جديدة وبمنهج آخر .


يجب أن ينظر إلى الحياة الإسلامية من زاوية جديدة , وتحت أضواء جديدة , لكي تعطي كل أسرارها وإشعاعاتها , وتنكشف بكل عناصرها ومقوّماتها .


وفي هذه الدراسة الجديدة يجب أن تكون المصادر الإسلامية هي المرجع الأول , بعد أن يعيش الباحث بعقله وروحه وحسه في جو الإسلام كعقيدة وحركة وفكرة ونظام . وفي جو الحياة الإسلامية كقطعة من حياة البشرية الواقعية . وهذه الحياة في هذا الجو ضرورية جداً لتفتح نوافذ إدراكه جميعاً , لا لفهم تلك الحياة فحسب , بل لإدراكها ككائن حي , وإدراك مواقع الحوادث والوقائع في جسم هذا الكائن الحي .


وإنه ليعز على الباحث في أية فترة من حياة الإنسانية أن يدركها إدراكاً حقيقياً داخلياً إلا أن يتجاوب معها بكل ذاتيته , وأن يعيش في جوها بكامل مؤثراتها وإيحاءاتها . فليست هذه خصيصة قاصرة على الحياة الإسلامية ؛ وإن كانت أكثر وضوحاً بالقياس إلى الحياة الإسلامية , لأن مقومات هذه الحياة تختلف في كثير من أنواعها وماهياتها عن مقومات الفترة الحاضرة .


وإنه ليصعب أن نتصور إمكان دراسة الحياة الإسلامية كاملة دون إدراك كامل للعقيدة الإسلامية , وللتصور الإسلامي عن الألوهية والكون والحياة والإنسان , ولطبيعة استجابة المسلم لتلك العقيدة , وطريقته في الاستجابة للحياة كلها في ظل تلك العقيدة . وهذه الخصائص كلها لا يمكن أن تطلب إلا عند باحث مسلم , يعيش في حركة إسلامية ؛ وهي الخصائص التي لا بد من توافرها عند إعادة كتابة التاريخ الإسلامي .


إنه لا بد من إدراك البواعث الحقيقية لتصرفات الناس في خلال هذه الحياة التاريخية الإسلامية , وعلاقة هذه البواعث بالحوادث , والتطورات , والانقلابات . ولا بد من ربط هذا كله بطبيعة العقيدة الإسلامية وما فيها من روح ثورية ـ لا في شكلها الخارجي وخطواتها العملية فحسب ـ ولكن في تفسيرها للعلاقات الكونية , وللعلاقات الإنسانية , والعلاقات الاجتماعية . وفي تصويرها لنظام الحكم وسياسة الحكم وسياسة المال وطرق التشريع ووسائل التنفيذ ..الخ . وهي كلها من مقومات الحياة , وبالتالي من مقومات التاريخ لهذه الحياة .


إن المعارك الحربية , والمعاهدات السياسية , والاحتكاكات الدولية .. وما إليها مما يعني به التاريخ غالباً أكثر من سواه .. إنها كلها محكومة بعوامل أخرى هي التي يجب أن تبرز عند كتابة التاريخ.. هذه العوامل هي التي يختلف الباحثون في إدراكها وتقديرها : كل يخضع للفلسفة التي تسيطر على تفكيره وتقديره , أي لطريقة إدراكها للحياة في عمومها . وللباحث المسلم الذي يعيش في حركة إسلامية , المزية هنا في دراسة الحياة الإسلامية , لأن طريقة إدراكه للحياة تمت بصلة إلى حقيقة هذه العوامل المؤثرة في سير التاريخ . ومن ثم فهو أقدر على التلبس بها واستبطانها , والاستجابة لها استجابة كاملة صحيحة .


وعلى ضوء إدراكه لطبيعة العقيدة الإسلامية , وطريقة استجابة المسلمين لها , يستطيع أن يزن دوافع الحياة الإسلامية في تلك الفترة التاريخية , والقيم الإنسانية الكامنة فيها , وأسباب النصر والهزيمة في كل خطوة . وأن يتصور الحياة الظاهرة والباطنة لتلك الجماعات الإنسانية في مهد الإسلام الأول وفي البلاد التي انساح فيها , فيضم إلى الجوانب الظاهرة التي لا يدرك الغربيون سواها في الغالب , كل الجوانب الروحية الخفية التي يعدها الإسلام واقعاً من الواقع , ويحسب لها حسابها في سير الزمان وتشكل الحياة في كل زمان ومكان .


ولما كانت الحياة الإسلامية فترة من الحياة البشرية , والمسلمون جماعة من بني الإنسان في حيز من الزمان والمكان , والإسلام رسالة كونية بشرية غير محدودة بالزمان والمكان .. فإن التاريخ الإسلامي لا يمكن فصله من التاريخ الإنساني .


وقد تأثرت تلك الفترة ـ من غير شك ـ بمواجهة الإسلام فيها للجاهلية , والتعامل مع تلك العوامل التي كانت واقعة عند مولد الإسلام . ثم أثرت بدورها في تجارب البشرية من بعد , وبخاصة تلك الجهات التي امتدت إليها أو جاورتها . فلا بد إذن عند كتابة التاريخ الإسلامي من الإلمام بالصورة التي انتهت إليها الإنسانية قبل مولد الإسلام , والحالة التي صارت إليها المجتمعات البشرية في الأرض , وبخاصة من ناحية العقائد الدينية وسائر ما يتعلق بها من أفكار وفلسفات ونظريات , ومن ناحية الأوضاع الاجتماعية وما يتعلق بها من نظم الحكم وسياسة المال وعلاقات المجتمع والأخلاق والعادات والأفكار , كي تتبين على ضوئها حقيقة دور الإسلام وطبيعته , ويمكن تفسير استجابة العالم لهذا النظام الجديد قبولاً أو رفضاً , وتصور أسباب الصراع وعوامل النصر والهزيمة كاملة وعناصر التفاعل والتدافع والتلاقي والانعكاس على مر الأيام .


وإذا كان الإلمام بوضع العالم إذ ذاك ضرورياً , فإن الإلمام بوضع الجزيرة العربية وتصور الحياة فيها من كافة نواحيها أكثر ضرورة بوصفها مهد الإسلام الأول من جهة , ومركز التجمع والانسياح من جهة أخرى .


فهل كانت مصادفة عابرة أن يظهر هذا الرسول بهذا الدين في هذا الموضع من الأرض في هذا الزمان ؟ أم أن هنالك نظاماً مقدوراً , وقصداً مقصوداً , وتدبيراً معيناً , وترتيباً موضوعاً , لتلتقي هذه الظواهر كلها حيث التقت , كي تؤدي دوراً معيناً , ليس أقل نتائجه تخطيط خريطة العالم في عالم الظاهر , وفي عالم الشعور على هذا الوضع الذي سارت إليه الأمور , منذ ذلك التاريخ البعيد؟!


ولعل هذا الخاطر أن يسوق إلى دراسة "محمد الرسول" في هذا السياق الكوني للتاريخ . فلعل في شخصه , وفي نسبه , وفي بيئة حياته , وفي تقاليد بيئته .. وفي سائر ما يحيط بالفرد الإنساني من مقومات , عوامل مقصودة , وموافقات مدبرة ؛ وأنها لم تكن مصادفة عابرة أن يشار إليه من بين الجموع البشرية الحاشدة , وأن يقال له : أنت . فانتدب لهذا الحدث الكوني الذي لم يسبق ولم يلحق بنظير .


ولعله كذلك أن يسوق إلى دراسة طبيعة هذا الحدث , والفكرة الكلية التي يتضمنها , قبل البدء في دراسة الأحداث والانقلابات العالمية التي تمت على أساسها ..


وبذلك تتهيأ لمثل هذا التاريخ صورة مستكملة الجوانب لكل الأوضاع والأحوال التي نشأت عنها الاستجابات التي وقعت بالفعل في تاريخ الإسلام في الفترة التي تلت ظهوره , كما يتهيأ له تفسير هذه الاستجابات تفسيراً صحيحاً , مستكملاً لكل عناصر الحكم والتقدير .


وبذلك يستحيل التاريخ عملية استبطان و تجاوب في ضمائر الأشياء والأشخاص , والأزمان والأحداث . ويتصل بناموس الكون , ومدارج البشرية , ويصبح كائناً حياً , ومادة حياة .


ومتى استقام البحث على ذلك المنهج الذي أسلفنا , وبرزت تلك المقومات الأساسية لطبيعة الدعوة , وطبيعة الرسول , وطبيعة البيئة التي استقبلت الدعوة واستقبلت الرسول , وطبيعة المجتمع الإنساني الذي كان يعاصر مولد الإسلام ؛ وطبيعة العقائد والأفكار التي كانت تسوده يومذاك ..


متى برزت تلك المقومات الأساسية , سهل تتبع نشاطها وتفاعلها وصيرورتها , وأمكن تصوير خطوات الدعوة على عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الخطوات التي تسير متأثرة بتلك المقومات كلها ؛ وتفاعل بعضها مع بعض , وتيسر لنا وللناس في هذا الجيل أن نعرف كيف اختار الرسول رجاله , ومن أية طينة كان هؤلاء الرجال ؛ وكيف أعدهم للمهمة العظمى ؛ وكيف بنى الرسول نظامه , وعلى أي الأسس قام هذا النظام ؛ وكيف تحولت الجزيرة العربية مهداً لهذا الدين الجديد , أو لهذا النظام الجديد ؛ وماذا كان في طبيعتها وفي ظروفها وفي رجالها وبيوتها وعشائرها , وفي علاقاتها الاجتماعية , وملابساتها الاقتصادية والجغرافية والحيوية .. من استعداد لتلبية هذا الحدث أو معارضته .. إلى آخر هذه المباحث التي تصور المرحلة الأولى من مراحل حياة الإسلام , أو من تاريخ الإسلام , والتي تصح تسميتها باسم : "الإسلام على عهد الرسول ".


ثم تجيء المرحلة الثانية : مرحلة "المد الإسلامي" . ذلك عندما انساح الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها . عندما فاض ذلك الفيض الانفجاري العجيب الذي لم يعرف له العالم نظيراً في سرعته وقوته . لا من ناحية الفتح العسكري وحده , ولكن من ناحية التأثير الروحي والفكري والاجتماعي أيضاً . أي من الناحية الإنسانية الشاملة , التي شهدت تحولاً كاملاً في خط سير التاريخ على مولد هذا الدين الجديد , وانتشاره ذلك الانتشار العجيب ! وهنا تبدو قيمة المنهج الذي أشرنا إليه , ويمكن تتبع أعمال الهدم والبناء , التي قام بها الإسلام في تلك الرقعة الفسيحة التي امتد إليها , وتفاعله مع الأفكار والعقائد التي كانت سائدة فيها , ومع النظم الاجتماعية التي كانت تظللها , ومع الظروف الاقتصادية , والمخلفات التاريخية , والملابسات الإنسانية , في أخصب بقاع الأرض , وأكثرها حضارة في ذلك الزمان .


والمد الإسلامي لم يقف عند الحدود التي وصلت إليها فتوحاته العسكرية . فلقد امتدت الموجة الفكرية , والحضارة إلي كونها إلى ما وراء حدود العالم الإسلامي قطعاً . ولا بد من دراسة آثار هذا المد فيما وراء هذه الحدود. دراستها طرداً و عكساً في حياة العالم الإسلامي ذاته , وفي حياة العالم غير الإسلامي كله . فقد أخذ هذا العالم من الإسلامي وأعطى , وقد تأثر به و أثر فيه . ودراسة هذه التفاعلات في ضوء المنهج الذي صورنا خصائصه , كفيلة بأن تنشئ صورة للعالم الإنساني وخطواته الحية مختلفة قليلاً أو كثيراً عن الصورة التي اعتاد الغربيون أن يرسموها , والتي اعتدنا نحن أن نراها !


ثم يجيء دور "انحسار المد الإسلامي" . وعلى ضوء المنهج وضوء دراسة المراحل التاريخية السالفة يمكن أن نتبين أسباب هذا الانحسار وعوامله الداخلية والخارجية جميعاً : إن كانت هذه العوامل من طبيعة العقيدة الإسلامية والنظام الإسلامي كما يزعم من يلقون الشبهات على الإسلام , أو أنها من صنع المسلمين أنفسهم , ومن صنع أعداء هذا الدين في العالم غير الإسلامي ؟ ثم هل كان هذا الانحسار شاملاً أم جزئياً ؟ وسطحياً أم عميقاً ؟ وما أثر هذا الانحسار في خط سير التاريخ , وفي تكييفه أحوال البشر , وفي قواعد التفكير والسلوك , وفي العلاقات الدولية والإنسانية ؟ وما وزن الأفكار والنظم والعقائد التي استحدثتها الإنسانية بالقياس إلى نظائرها في الإسلام ؟ وماذا كسبت البشرية وماذا خسرت من وراء انحسار المد الإسلامي وظهور هذا المد الأوربي الذي ما تزال تظللنا بقاياه ؟ ومن ثم يصبح الحديث عن "حاضر الإسلام" طبيعياً وفي أوانه , قائماً على أسسه الواضحة الصريحة ؛ وليس حديثاً تمليه العاطفة أو التعصب من هذا الجانب أو ذاك , ويصبح التاريخ الإنساني ـ في ضوء منهجنا الخاص ـ مسلسل الحلقات , متشابك الأواصر , ويتحدد دور الإسلام في هذا التاريخ في الماضي وفي الحاضر , و تتبين خطوطه في المستقبل على ضوء الماضي والحاضر .


*      *      *


هذه إشارات مجملة للعمل في الدائرة الفكرية للتمهيد للوجود الفعلي للإسلام . ولكن شيئاً من هذا لن يكون ذا قيمة قبل أن تدرك العصبة المؤمنة في الأرض أن هذا الدين عقيدة تتمثل في إفراد الله سبحانه بالألوهية , ومن ثم إفراده بالحاكمية . و "دين" يتمثل في نظام يترجم هذه العقيدة .. وأن تدرك كذلك أن هناك توقفاً في "وجود" الإسلام . وأن الخطوة الأولى هي إعادة وجود الإسلام عقيدة , ليمكن بعد ذلك وجوده نظاماً . وأن يستيقنوا أن المستقبل لهذا الدين ؛ على الرغم من هذا التوقف الموقوت .

والله المستعان .

الشهيد سيد قطب

ليست هناك تعليقات: