الأربعاء، 27 مارس 2013

سياسة الحكم في الإسلام

العدالة الاجتماعية في الإسلام
الشهيد سيد قطب
سياسة الحكم في الإسلام
كل حديث عن "العدالة الاجتماعية في الإسلام" لابد أن يلم بالحديث عن " سياسة الحكم في الإسلام" تبعا للقاعدة التي أسلفنا عند الحديث على " طبيعة العدالة الاجتماعية " فيه ؛ وأنها تتناول جميع مظاهر الحياة , وجميع ألوان النشاط ؛ وكما تتناول القيم المعنوية والمادية متمازجة متناسقة .
وسياسة الحكم ذات علاقة بهذا كله ؛ فضلاً على المنوط بها في النهاية تنفيذ التشريع ؛ وتعهد  المجتمع من كل جوانبه ؛ وتحقيق العدالة والتوازن فيه ؛ وتوزيع المال حسب القواعد التي سنها الإسلام .
والكلام عن " سياسة الحكم" يطول ويحتاج إلى مبحث خاص ؛ ولما كان قصدنا في الكتاب بيان ما يختص بالعدالة الاجتماعية من هذه السياسة , فسنحاول بقدر الإمكان أن نتناول هذا الجانب وحده ؛ وإن كانت الصعوبة في دراسة الإسلام أن الباحث يجد كل جوانبه متماسكة ؛ وليس هناك انعزال بين هذه الجوانب .فهذا الدين كله وحدة : العبادات والمعاملات . سياسة الحكم وسياسة المال . التشريعات والتوجيهات . العقيدة والسلوك . الدنيا والآخرة .. كلها أجزاء منسقة في جهاز متكامل ؛ يصعب إفراد جزء منها بالحديث , دون التطرق إلى بقية الأجزاء . لكن سنحاول بقدر الإمكان !
*    *    *
بعض من يتحدثون عن النظام الإسلامي ـ سواء النظام الاجتماعي أم نظام الحكم وشكل الحكم ـ يجتهدون في أن يعقدوا الصلات والمشابه بينه وبين أنواع النظم التي عرفتها البشرية قديما وحديثاً , قبل الإسلام وبعده . ويعتقد بعضهم أنه يجد للإسلام سنداً قوياً حين يعقد الصلة بينه وبين نظام آخر من النظم العالمية القديمة أو الحديثة.
إن هذه المحاولة إن هي إلا إحساس داخلي بالهزيمة أمام النظم البشرية التي صاغها البشر لأنفسهم في معزل عن الله . فما يعتز الإسلام بأن يكون بينه وبين هذه النظم مشابه ؛ وما يضيره ألا تكون . فالإسلام يقدم للبشرية نموذجا من النظام المتكامل لا تجد مثله في أي نظام عرفته الأرض , ومن قبل الإسلام ومن بعده سواء . والإسلام لا يحاول ولم يحاول أن يقلد نظاما من النظم , أو أن يعقد بينه وبينها صلة أو مشابهة ؛ بل اختار طريقة متفرداً فذاً وقدم للإنسانية علاجاً كاملاً لمشكلاتها جميعاً .
وقد يحدث في تطور النظم البشرية أن تلتقي بالإسلام تارة , وأن تفترق عنه تارة ولكنه هو نظام مستقل متكامل , لا علاقة له بتلك النظم ؛ ولا حين تلتقي معه , ولا حين تفترق عنه . فهذا الافتراق وذلك الالتقاء عرضيان , وفي أجزاء متفرقة ؛ ولا عبرة بالاتفاق أو الاختلاف في الجزئيات والعرضيات , إنما المعول عليه هو النظرة الأساسية , والتصور الخاص . وللإسلام نظرته الأساسية وتصوره الخاص , وعنه تتفرع الجزئيات , فتلتقي أو تفترق عن جزئيات في النظم الأخرى , ثم يمضي الإسلام في طريقه المتفرد بعد كل اتفاق أو اختلاف .
إن القاعدة التي يقوم عليها النظام الإسلامي تختلف عن القواعد التي تقوم عليها الأنظمة البشرية جميعاً .. إنه يقوم على أساس أن الحاكمية لله وحده . فهو الذي يشرع وحده . وسائر الأنظمة تقوم على أساس أن الحاكمية للإنسان , فهو الذي يشرع لنفسه .. وهما قاعدتان لا تلتقيان . ومن ثم فالنظام الإسلامي لا يلتقي مع أي نظام . ولا يجوز وصفه بغير صفة الإسلام ..
وليست وظيفة الباحث الإسلامي حين يعرض للحديث عن النظام الإسلامي أن يلتمس له المشابه والموافقات مع أي نظام آخر قديم أو حديث , فهذه المشابه والموافقات ـ فضلاً على أنها سطحية وجزئية , ووليدة مصادفات في الجزئيات , لا في التصور العام والنظرة الأساسية ـ لا تكسب الإسلام قوة كما يظن بعض المهزومين ! وطريقهم الصحيح أن يعرضوا أسس دينهم لذاتها , وبإيمان كامل بأنها أسس كاملة , سواء وافقت جميع النظم الأخرى أو خالفتها جميعاً , ومجرد تطلب التأييد لنظم الإسلام من مشابه وموافقات مع النظم الأخرى , هو إحساس بالهزيمة كما قلنا , ولا يقدم عليه باحث مسلم , يعرف هذا الدين حق معرفته , ويبحثه حق بحثه ,
لقد عرف العالم في نشأته وتطوره نظماً عدة . وليس النظام الإسلامي واحداً من هذه النظم . وليس خليطاً منها , وليس مستمداً من مجموعها .. إنما هو نظام قائم بذاته مستقل بفكرته متفرد بوسائله , وعلينا أن نعرضه مستقلاً , لأنه نشأ مستقلاً , وسار في طريقه مستقلاً . لهذه الاعتبارات لم أستسغ تعبير الدكتور هيكل عن العالم الإسلامي بأنه " الإمبراطورية الإسلامية" , ولا قوله : " إن الإسلام إمبراطوري " . فليس أبعد عن فهم روح الإسلام الحقيقة من القول بأنه إمبراطوري , مهما فرقنا بين مدلول الإمبراطورية الإسلامية ومدلول الإمبراطورية المعروف ؛ وليس أبعد من فهم حقيقة الصلات في العالم الإسلامي من القول بأنه إمبراطورية إسلامية !
ومن الغريب أن الدكتور هيكل في حديثه عن حكم الإسلام في "حياة محمد" أو " الصديق أبو بكر" أو " الفاروق عمر" يلمس الخلاف الحقيقي الداخلي بين طبيعة الإسلام , وطبيعة سائر النظم التي عرفها العالم , ولكنه ينساق إلى هذين التعبيرين انسياقا , بحكم قوة إيحاء المظاهر الأجنبية ! ثم تشابه بعض المظاهر بين الإسلام والإمبراطورية . وبحكم أنه لم يلحظ ذلك الافتراق الأصيل بين نظام يقوم على حاكمية الله وحده , ونظام آخر يقوم على حاكمية الإنسان !
ولعل المظهر الشكلي هو تكون العالم الإسلامي من عدة أقاليم متباينة الأجناس والثقافات , ويرجع أمر الحكم فيها إلى مركز واحد . وهذا مظهر الإمبراطورية ! ولكنه مجرد مظهر , والمعول عليه هو طبيعة نظر هذا المركز إلى الأقاليم ؛ وطبيعة العلاقات بينه وبينها .
كل متتبع لروح الإسلام ولطريقته في الحكم , ويجزم بأنها أبعد ما تكون عن الإمبراطوريات المعروفة . فالإسلام يسوي بين المسلمين في جميع أجزاء العالم ؛ وينكر العصبيات الجنسية والقومية والإقليمية. وتبعاً لهذه الروح لا يجعل الأقاليم مستعمرات ولا مواضع استغلال , ولا منابع تصب في المركز لفائدته وحده . فكل إقليم هو بضعة من جسم العالم الإسلامي , ولأهله سائر الحقوق التي لأهل المركز .  وإذا كان بعض الأقاليم يحكمها والٍ من قِبَل المركز الإسلامي , فإنما يحكمها بوصفه رجلاً مسلماً صالحاً للولاية , لا بوصفه حاكما مستعمراً ؛ على أن كثيراً من هذه الأقاليم المفتوحة كان يحكمها واحد من أهلها , ولكن بصفته مسلماً صالحاً لهذه الولاية . وكذلك كان ما يجبى من أموال الأقاليم ينفق فيها أولاً ,فإن فضل منه شيء رد إلى بيت مال المسلمين , لينفق على المسلمين كافة عند الحاجة , لا ليخصص لأهل المركز الإسلامي ولو افتقرت الأقاليم , كما هو العهد في الإمبراطوريات .
وكل هذا يجعل المسافة بعيدة بين العالم الإسلامي , أو الأمة الإسلامية بتعبير أدق , وبين الإمبراطورية , ويكون القول بأن الإسلام " إمبراطوري " انزلاقاً مع اصطلاح غريب على روح الإسلام وعلى تاريخه سواء , والأولى أن نقول : إنه كان عالمي النزعة , لما فيه من فكرة قوية عن وحدة العالم , ولما يرمي إليه من ضم البشرية كلها إلى لوائه متساوية متآخية .
لقد كان الدكتور طه حسين أدق في تعبيره وهو يتحدث في مقدمة كتابه " الفتنة الكبرى ـ عثمان " عن نظام الحكم الإسلامي , بالقياس إلى جميع النظم الأخرى , فيرى أنه يختلف في طبيعته الأصيلة عن سائرها؛ فذلك هو الحق عند النظر إلى روح الحكم وطبيعته , لا إلى مظاهره وجزئياته . وإن كان الدكتور طه حسين يجعل تقريره هذا مقدمة لنتيجة أخرى خطيرة وهي أن الإسلام بصورته التي تحقق بها على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم والشيخين بعده إنما كان فلتة في الزمان , لا تملك البشرية أن تزاولها طويلاً !
وهذه هي النغمة التي يجعلها المستشرقون وتلاميذهم في البلاد الإسلامية مقدمة للقول بعدم صلاحية الإسلام لأن يكون نظام حكم في هذه الأيام !
وكذلك لم أستسغ حديث من يتحدثون عن " اشتراكية الإسلام " و " ديمقراطية الإسلام" .. وما إلى ذلك من الخلط بين نظام من صنع الله ـ سبحانه ـ وأنظمة من صنع البشر , تحمل طابع البشر وخصائص البشر من النقص والكمال , والخطأ والصواب , والضعف والقوة , والهوى والحق .. بينما نظام الإسلام رباني بريء من هذه الخصائص , كامل شامل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
إن الإسلام يقدم حلولاً مستقلة لمشكلات الإنسانية , يستمدها من تصوره الخاص , ومن منهجه الذاتي , ومن أسسه الأصيلة , ومن وسائله المتميزة ؛ علينا حين نناقشه ألا نكله إلى مذاهب ونظريات أخرى تفسره , أو تضيف إليه ؛ فهو منهج متكامل , ووحدة متجانسة ؛ وإدخال أي عنصر غريب فيه كفيل بأن يفسده , كالجهاز الدقيق الكامل , أية قطعة غريبة عنه تعطل الجهاز كله وتظهر كأنها رقعة فيه!
وأنا أدلي بهذه الكلمة المجملة هنا , لأن كثيرا ممن اندست في ثقافتهم وأفكارهم قطع غريبة من أجهزة النظم الأجنبية , يحسبون أنهم يكسبون الإسلام قوة جديدة , فإذا هم طعموه بتلك النظم . وهو وهم خاطيء يفسد الإسلام ؛ ويعطل روحه عن العمل ؛ وهو في الوقت ذاته إحساس خفي بالهزيمة , ولو لم يعترفوا صراحة بالهزيمة !
*    *    *
يقوم النظام الإسلامي على فكرتين أساسيتين مستمدتين من تصوره الكلي للإلوهية والكون والحياة والإنسان : فكرة وحدة الإنسانية في الجنس , والطبيعة , والنشأة وفكرة أن الإسلام هو النظام العالمي العام , الذي لا يقبل الله من أحد نظاماً غيره . لأنه لا يقبل من أحد دينا إلا الإسلام . والدين ـ في المفهوم الإسلامي ـ هو النظام العام الذي يحكم الحياة.
فأما فكرة وحدة الإنسانية جنساً وطبيعة ونشأة , فقد تحدثنا عنها من قبل بالتفصيل عند الكلام على " أسس العدالة الاجتماعية في الإسلام".
وأما فكرة أن الإسلام هو النظام العالمي العام , الذي لا يقبل الله من أحد نظاماً غيره فهي مستمدة من أن محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو رسول الله إلى الناس كافة , وأنه خاتم النبيين , وأن دينه أقوم دين : "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً ..(28)"سبأ "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)"الأنبياء .." .. "رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ .. (40)" الأحزاب..".. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ..(3)" المائدة.." إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ..(9)" الإسراء..
" والدين" في المفهوم الإسلامي هو المرادف لكلمة "النظام" في الاصطلاحات الحديثة ! مع شمول المدلول للعقيدة في الضمير , والخلق في السلوك , والشريعة في المجتمع فكلها داخلة في مفهوم "الدين" في الإسلام . ومن ثم لا يمكن أن يكون هناك نظام يقبله  الله ويقره الإسلام , ما لم يكن هذا النظام مستمدا من التصور الإسلامي الاعتقادي, ومتمثلاً في تنظيمات وتشريعات مستمدة من الشريعة الإسلامية دون سواها .. وأهم من هذا كله أن يذعن أصحاب هذا النظام لألوهية الله وربوبيته , فلا يدعون لأنفسهم حق إصدار الشرائع والأنظمة لأن هذا الحق لله وحدة في الإسلام . وهنا يفترق النظام الإسلامي عن كل الأنظمة البشرية الافتراق الأساسي .
ولكن الإسلام مع هذا لا يقسر الآخرين على اعتناقه :" لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ .. (256)" البقرة .. بل يدع لهم أقصى الحرية والحماية في مزاولة شعائرهم الدينية . ويبلغ من دقة حسه بهذه الحرية أن يفرض على المسلمين وحدهم " الزكاة" والجهاد ويأخذ في مقابلها من أهل الذمة "الجزية" إذ هم شركاء في حماية الدولة الإسلامية لهم , وعليهم جميعا نفقاتها , ولكنه لا يجعلها على أهل الذمة "زكاة" ـ كما أنه لا يفرض عليهم الجهاد ـ إلا إذا ارتضوا هم وقبلوا , لأن الزكاة فريضة إسلامية وعبادة خاصة بالمسلمين , وكذلك الجهاد , وهو لا يريد أن يقسر أهل الذمة على عبادة من عبادات المسلمين , فيأخذ المال منهم بصفته المالية وحدها ؛ وينفي عنه الصفة التعبدية الملحوظة في فريضة الزكاة ! كما يعفيهم من الجهاد لحماية دار الإسلام التي يتمتعون بأمنها ورخائها . وهذا منتهى دقة الحساسية بالعدل في معاملة الآخرين .
والإسلام إذ يدع للآخرين حريتهم في هذه الحدود يتأثر بروحه العالمية ؛ وهو على ثقة بأنهم متى أتيح لهم أن ينظروا في الإسلام نظر تدبر وإمعان , دون حيلولة من قوة مادية , أو جهالة فكرية , فإنهم بفطرتهم يفيئون إلى الإسلام الذي يحقق التوازن الكامل بين جميع الأهداف التي رمت إليها الديانات من قبله , وبين جميع النزعات والأشواق في الفطرة البشرية ؛ ويضمن للجميع المساواة المطلقة والتكافل التام ؛ ويرمي إلى تحقيق الوحدة الإنسانية في دائرة التصور ودائرة النظام .
وقيام النظام الإسلامي على هاتين الفكرتين كان ذا أثر في كيانه واتجاهه , جعله يلحظ في التشريعات والتوجيهات , وفي سياسة الحكم , وسياسة المال , وسائر النظم التي تضمنها , أنه لا يشرع لجنس , ولا لجيل ؛ وإنما للأجناس جميعاً , وللأجيال جميعاً؛ فاتبع الأسس الإنسانية الشاملة في تشريعاته ونظمه ؛ ووضع القواعد العامة , والمبادئ الواسعة ؛ وترك الكثير من التطبيقات لتطور الزمان وبروز الحاجات ..
وهذا الاتجاه إلى القواعد الكلية واضح في " سياسة الحكم " التي نعقد لها هذا الفصل بصفة خاصة .
*    *    *
تقوم نظرية الحكم في الإسلام على أساس شهادة أن لا إله إلا الله . ومتى تقرر أن الألوهية لله وحده بهذه الشهادة تقرر بها أن الحاكمية في حياة البشر لله وحده . والله سبحانه يتولى الحاكمية في حياة البشر عن طريق تصريف أمرهم بمشيئته وقدره من جانب , وعن طريق تنظيم أوضاعهم وحياتهم وحقوقهم وواجباتهم , وعلاقاتهم وارتباطاتهم بشريعته ومنهجه من جانب آخر. وفي النظام الإسلامي لا يشارك الله سبحانه أحد , لا في مشيئته وقدره , ولا في منهجه وشريعته .. و إلا فهو الشرك أو الكفر ! وبناء على هذه القاعدة لا يمكن أن يقوم البشر بوضع أنظمة الحكم وشرائعه وقوانينه من عند أنفسهم ؛ لأن هذا معناه رفض ألوهية الله , وادعاء خصائص الألوهية في الوقت ذاته .. وهذا هو الكفر الصراح .
وفي هذه القاعدة يختلف نظام الحكم الإسلامي في أساسه عن كل الأنظمة التي وضعها البشر سواء في ذلك نظام الحكم أو النظام الاجتماعي كله ـ وهذا هو الذي لا يجعل من المستساغ أن يخلط بين الإسلام وأنظمة البشر في الأسماء !
وتقوم " سياسة الحكم في الإسلام " بعد التسليم بقاعدة الألوهية الواحدة و الحاكمية الواحدة ـ على أساس العدل من الحكام والطاعة من المحكومين , والشورى بين الحاكم والمحكوم ... وهي خطوط أساسية كبيرة , تتفرع منها سائر الخطوط التي ترسم شكل الحكم وصورته . بعد أن ترسم القاعدة السابقة طبيعته وحقيقته :
(أ‌)       العدل من الحكام : "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ .. (90)"النحل .. " .. وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ .. (58)النساء ..".. وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ..(152)"الأنعام ..".. وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ ..(8)" المائدة.
" إن أحب الناس إلى يوم القيامة وأقربهم مجلساً: إمام عادل ؛ وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذاباً إمام جائر "(1).
فهو العدل المطلق الذي لا يميل ميزانه الحب والبغض ؛ ولا تغير قواعده المودة والشنآن .
العدل الذي لا يتأثر بالقرابة بين الأفراد , ولا بالتباغض بين الأقوام , فيتمتع به أفراد الأمة الإسلامية جميعاً , لا يفرق بينهم حسب ولا نسب , ولا مال ولا جاه ؛ كما تتمتع به الأقوام الأخرى , ولو كان بينها وبين المسلمين شنآن , وتلك قمة العدل لا يبلغها أي قانون دولي إلى هذه اللحظة , ولا أي قانون داخلي . بل لا يقاربها كذلك !
والذين يمارون في هذا عليهم أن يراجعوا عدالة الأقوياء والضعفاء بين الأمم ؛ وعدالة المتحاربين بعضهم بالقياس إلى بعض . ثم عليهم أن يراجعوا عدالة البيض للحمر والسود في الولايات المتحدة ؛ وعدالة البيض للملونين في جنوب إفريقية ؛ وعدالة الشيوعيين والوثنيين والصليبيين للمسلمين في روسيا والصين ويوغسلافيا والهند والحبشة (2) وفي الإشارة ما يغني . فهي أحوال معاصرة يعلمها كل إنسان .
والمهم في عدالة الإسلام أنها لم تكن مجرد نظريات ؛ بل أخذت طريقها إلى واقع الحياة , فحفظ "الواقع التاريخي" منها أمثلة متواترة , وسيأتي تفصيلها في موضعها الخاص إذ نحن هنا بصدد عرض " المبادئ" الإسلامية مجردة كما تدل عليه النصوص .
(ب‌)   والطاعة للمحكومين : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ .. (59)" النساء . وللجمع في الآية بين الله والرسول وأولي الأمر معناه في بيان طبيعة هذه الطاعة وحدودها ؛ فالطاعة لولي الأمر مستمدة من طاعة الله والرسول , ولأن ولي الأمر في الإسلام لا يطاع  لذاته . وإنما يطاع لإذعانه هو لسلطان الله وحده واعترافه له بالحاكمية , ثم لقيامه على شريعة الله ورسوله . ومن اعترافه بحاكمية الله وحده , ثم تنفيذه لهذه الشريعة يستمد حق الطاعة , فإذا انحرف عن هذه  أو تلك سقطت طاعته , ولم يجب لأمره النفاذ . يقول صاحب الرسالة ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية , فإذا أمر بمعصية , فلا سمع ولا طاعة"(3) . ويقول : " اسمعوا وأطيعوا ـ وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ـ ما أقام فيكم كتاب الله تعالى"(4) . وواضح في هذا الحديث توقيت السمع والطاعة بإقامة كتاب الله تعالى . فليست الطاعة المطلقة لأوامر الحاكم , وليست هي الطاعة الدائمة ولو ترك شريعة الله ورسوله .
ويجب أن نفرق بين قيام الحاكم بتنفيذ الشريعة الدينية , وبين استمداده السلطان من صفة دينية لشخصه . فليست للحاكم سلطة دينية يتلقاها مباشرة من السماء , كما كان لبعض الحكام في القديم في نوع الحكم المسمى " ثيوقراطية" إنما هو يصبح حاكماً باختيار المسلمين الكامل وحريتهم المطلقة . ولا يقيدهم عهد من حاكم قبله , ولا وراثة كذلك في أسرة ثم يستمد سلطته بعد ذلك من قيامه بتنفيذ شريعة الله دون أن يدعي لنفسه حق التشريع ابتداء بسلطان ذاتي له . فإذا لم يرضه المسلمون لم تقم له ولاية ؛ وإذا رضوه ثم ترك شريعة الله لم تكن له طاعة .
ومن هنا ندرك حكمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أنه لم يعين خليفة من بعده . إذا كان هذا مظنة أن يستمد خليفته سلطة دينية ذاتية من استخلاف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ له .
إن الإسلام لا يعرف هيئة "دينية" مثل "هيئة الإكليروس" في الكنيسة المسيحية . والحكم الإسلامي ليس هو الذي تقوم به هيئة معينة ؛ ولكنه كل حكم تنفذ فيه الشريعة الإسلامية إقرارا من الحاكم بأن الحاكمية لله وحده , وأن مهمته هو لا تتعدى تنفيذ الشريعة فإذا كان معنى "الحكومة الدينية" في أي ديانة أو طائفة معينة هي التي تتولى الحكم , فإن هذا المعنى ينتفي في الإسلام انتفاء كاملاً ؛ وليس هناك مبرر لأن يفهم أحد أن الحكم في الإسلام يحتاج إلى أكثر من تنفيذ الشريعة الإسلامية , بعد إفراد الله سبحانه بحق الحاكمية .
كل حكم يقوم على قاعدة أن الحاكمية لله وحده , ثم تنفذ فيه الشريعة الإسلامية ,هو حكم إسلامي . وكل حكم لا يقوم على أساس,إفراد الله سبحانه بالحاكمية , ولا تنفذ فيه هذه الشريعة , لا يعترف به الإسلام , ولو قامت عليه هيئة دينية , أو حمل عنواناً إسلامياً ! والطاعة من المحكومين منوطة وموقوتة فقط باعتراف الحاكم بان الحكم لله وحده , ثم تنفيذه لشريعة الله : بلا شرط غير العدل في الحكم وطاعة الله .
(ج) والمشورة بين الحكام والمحكومين :".. وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ .. (159)"آل عمران..".. وَأَمْرُهُمْ شُورَى .. (38)"الشورى.. فالشورى أصل من أصول الحياة في الإسلام , وهي أوسع مدى من دائرة الحكم , لأنها قاعدة حياة الأمة المسلمة كما تدل عليها الآية أما طريقة الشورى , فلم يحدد لها نظاماً خاصاً , وتطبيقها إذن متروك للظروف والمقتضيات . فقد كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستشير المسلمين ـ فيما لم يرد فيه وحي ـ ويأخذ برأيهم فيما هم أعرف به من شؤون دنياهم ، كمواقع الحرب وخططها .. سمع لرأيهم في غزوة بدر , فنزل على ماء بدر بعد أن كان قد نزل على مبعدة منه , وسمع لرأيهم في حفر الخندق وسمع لهم في الأسرى مخالفاً رأي عمر , حتى نزل الوحي بتأييد عمر .. أما ما كان فيه وحي , فلا مجال فيه للشورى بطبيعة الحال , فهو مقرر من مقررات الدين .
وكذلك سار الخلفاء في استشارة المسلمين : استشار أبو بكر في شأن مانعي الزكاة وأنفذ رأيه في محاربتهم ؛ وكان عمر يعارض أولاً؛ ولكنه فاء إلى رأي أبي بكر اقتناعاً به , بعد ما فتح الله قلبه له , وهو يرى أبا بكر يصر عليه ؛ واستشار أهل مكة في حرب الشام على رغم معارضة عمر . واستشار عمر في دخول الأرض الموبوءة وانتهى إلى رأي . ثم وجد نصا من السنة يؤيده فالتزمه ... وهكذا كانت الشورى لا على نظام مقرر مرسوم ؛ لأن الظروف الواقعية كانت تعين أهل الشورى في كل فترة بحيث لا يلتبس الأمر في شأنهم . ولكن عمومية الأمر تدع المجال مفتوحاً لأشكال متعددة من النظم والطرق لا يحددها الإسلام , اكتفاء بتقرير المبدأ العام .
على أن الحركة الإسلامية في فترة تعين هي بطبيعتها أهل الشورى من أهل البلاء والسبق والرأي ؛ في يسر لا تعرفه الأنظمة البشرية .(5)
*    *    *
ليس للحاكم إذن ـ فيما عدا الطاعة لأمره , والنصح له والمعونة على إقامة الشريعة ـ حقوق أخرى ليست لأي فرد من عامة المسلمين .
ومع أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن حاكماً فحسب ، بل كان صاحب الشريعة , فقد سن للحاكم حدوده في دائرة ما يمنحه الإسلام من حقوق ؛ وسار خلفاؤه على هداه ـ كما سيجيء في فصل الواقع التاريخي ـ فكان يقص من نفسه إلا أن يعفو صاحب الحق عنه ؛ وجاءه صاحب دين فأغلظ عليه , فهم المسلمون به فأشار عليهم أن يدَّعوه ,لأن لصاحب الحق مقالاً ! وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ:" لا يحل لي من غنائمكم هذه إلا الخمس , والخمس مردود عليكم "(6).
وقال لعشيرته وأهله القربين : " يا معشر قريش اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً . يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً . يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً . ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً . ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي , لا أغني عنك من الله شيئاً"(7).
وقال لعلي وفاطمة , لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تلوي بطونهم من الجوع"وقال لهما في مرة : " لا أخدمكما وادع أهل الصفة تطوى"(8) . وقال "إن بني إسرائيل كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه , وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه. لو كانت فاطمة لقطعت يدها"(9) .
فليس للحاكم إذن حق زائد في الحدود , ولا في الأموال ؛ وليس لأهله حق فيها غير ما لرجل من عامة المسلمين .
وليس للحاكم أن يعتدي على أرواح الناس وأجسادهم , ولا حرماتهم أو أموالهم . فإذا هو أقام الحدود , ونفذ الفرائض , فقد انتهى إلى آخر حدوده ؛ وانقطعت سلطته على الناس , وعصمهم الله من سلطانه : أرواحاً وأجساداً وحرمات وأموالاً....
ولقد ضمن الإسلام , في أوامر صريحة عامة , تلك الأرواح والأجساد والحرمات والأموال , بصورة لا تدع مجالاً للشك في مدى حرصه على ضمانة الأمن والسلام والكرامة للجميع :
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا .. (27)" النور.." وَلَا تَجَسَّسُوا"12الحجرات: والحديث " كل المسلم على المسلم حرام : دمه وعرضه وماله"(10) .. والنفس بالنفس .. والجروح قصاص.
*    *    *
وحين يضيق الإسلام سلطة الإمام فيما يختص بشخصه , يوسع له إلى أقصى الحدود في رعاية المصالح المرسلة للجماعة , تلك المصالح التي لم يرد فيها نص والتي تتجدد بتجدد الزمان والأحوال . فالقاعدة العامة : أن للإمام المسلم القائم على شريعة الله أن يحدث من الأقضية بقدر ما يجد من مشكلات , تنفيذاً لقوله تعالى : " وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ "78 الحج .. وتحقيقا لأهداف الدين العامة , في إصلاح حال الفرد وحال الجماعة , وحال الإنسانية كلها , في حدود المبادئ المقررة في الإسلام , وبشرط العدل الذي يجب توافره في الإمام .
فكل ما يوقع بالأمة ضررا من أي نوع , على الأمام أن يزيله ؛ وكل ما يحقق للأمة نفعاً من أي نوع ,عليه أن يقوم به , على ألا يخالف نصاً من نصوص الدين . وهي سلطات واسعة تتناول جوانب الحياة كلها . وتحقيق العدالة الاجتماعية بكل ملابساتها داخل هذه السلطات . فله أن يتجاوز في الناحية المالية مثلاً , فريضة الزكاة إلى ضرائب أخرى يتحقق بها التعادل والتوازن , وتزول بها الأحقاد والضغائن ؛ وترتفع بها عن الأمة مضار الترف , مضار الشظف , ومضار احتباس المال في أيدي قلة من الناس , ولكن دون أن يخل بنص أو بقاعدة أساسية من قواعد الحياة الإسلامية . فليس له أن يُحفى الناس , فيأخذ كل مالهم ويدعهم فقراء ؛ أو يجعل موارد رزقهم كلها في يديه يستذل أعناقهم بها ويجعلهم عبيداً له ؛ ويفقدهم القدرة على أن يقوموا بواجبهم في النصيحة الحرة والرقابة الواعية , وتغيير المنكر أياً كان مصدره . فإن هذا كله لا يتأتى للأفراد قط ما لم تكن لهم موارد رزق خاصة لا يتحكم فيها الأمام والولاة . فالذي يملك موارد الرزق تذل له رقاب العباد !
والواقع التاريخي في حياة الأمة الإسلامية قد حوى نماذج كثيرة من رعاية المصالح المرسلة ـ دون إخلال بقواعد الحياة الإسلامية التي أشرنا إليها ـ وهناك تطبيقات مستطاعة في كل وقت , فالإسلام ليس نظاما متحجراً ؛ وتطبيقاته التفصيلية لا تقف عند عصر من العصور , ولا بيئة من البيئات . وكل ما يريد الإسلام تثبيته هو القواعد الأساسية التي تحدد ملامحه الربانية , وتحفظ المجتمع المسلم من الذوبان في المجتمعات الجاهلية , أو تحرمه القدرة على قيادة هذه المجتمعات التي لقيادتها .
*    *    *
وبعد فهذا حديث عن الناحية "الرسمية" في "سياسة الحكم في الإسلام" ووراءها ناحية"التطوع"التي يتجاوز بها "التوجيه" ما يفرضه "التشريع" على طريقة الإسلام في كل تكاليفه ونظمه .
فسياسة الحكم في الإسلام تقوم على أساس من الضمير , فوق قيامها على أساس من التشريع . وتقوم على أساس أن الله حاضر في كل لحظة مع الحاكم والمحكوم , رقيب على هذا وذاك : "ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة"(11). " وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)" البقرة..
فالراعي والرعية مطالبان كلاهما برعاية الله في كل تصرف , وخشية الله هي الضمانة الأخيرة في تحقيق العدالة . وقد مر بنا أن الإسلام ينوط بالضمير البشري بعد تهذيبه أموراً كباراً في الحدود وفي الأموال فإذا لم تكن خشية الله في هذا الضمير البشري بعد تهذيبه أموراً كباراً في الحدود والأموال . فإذا لم تكن خشية الله في هذا الضمير , فلا ضمان , لأن التشريع يمكن الاحتيال عليه والتستر دونه , وغش الحاكم والقاضي والناس.
ولا يفهم من هذا أن النظام الإسلامي الاجتماعي قائم على هذا الضمير وحده.
ولكن الذي ينبغي أن يفهم هو أن في الإسلام ضمانة أخرى غير مجرد التشريع . وهي تحسب له ـ من ناحية القدرة على التحقق ـ ميزة على النظم التي تعتمد على التشريع وحده , بلا تحرج من ضمير , ولا حساسية في الشعور.

ــــــــــــــــــــــــــ
(1) الشيخان والترمذي
(2) (تراجع فصول "المسلمون متعصبون في كتاب دراسات إسلامية")
(3) الشيخان
(4) البخاري
(5)تفصيل هذا الإجمال في فصل :"مجتمع شورى" في كتاب: "نحو مجتمع إسلامي".
(6)أبو داود والنسائي
(7)متفق عليه
(8)حديث رقم 596من المسند نشر الأستاذ أحمد محمد شاكر.
(9) رواه الجماعة
(10) الشيخان
(11) الشيخان
سياسة المال في الإسلام
العدالة الاجتماعية في الإسلام
الشهيد سيد قطب

ليست هناك تعليقات: