الأربعاء، 27 مارس 2013

من الواقع التاريخي في الإسلام(1)


العدالة الاجتماعية في الإسلام
الشهيد سيد قطب
من الواقع التاريخي في الإسلام(1)

هناك ما يصح أن نطلق عليه باطمئنان :"روح الإسلام"!
هذا الروح يستشعره من يتتبع طبيعة هذا الدين وتاريخه على السواء ؛ ويحسه كامناً وراء تشريعاته وتوجيهاته , مستكناً في هذه التشريعات والتوجيهات .. مع أن هذه الروح واضح قوي , بحيث لا يملك الإنسان نفسه من التأثر به , والاستغراق في جوه , إلا أنه ككل شعور كلي عميق , أو تصور كلي شامل ـ يصعب التعبير عنه في عبارات محدودة فهو يتجلى في الاتجاهات والأهداف , وفي الحوادث والواقع , وفي السلوك والشعائر ؛ ويصعب ضبطه في قالب من اللفظ محدود .
هذا الروح هو الذي يرسم الأفق الأعلى الذي يتطلب الإسلام من معتنقيه أن يتطلعوا إليه , وأن يحاولوا بلوغه , لا بتنفيذ الفرائض والتكاليف فحسب , ولكن بالتطوع الذاتي لما هو فوق الفرائض والتكاليف .. وهذا الأفق عسير المرتقى , وأعسر من ارتقائه الثبات عليه ! لأن نوازع الحياة البشرية , وضغط الضرورات الإنسانية , لا يطوعان للأكثرين من الناس أن يرقوا إلى هذا الأفق العالي , ولا أن يصبروا عليه طويلاً , وإن ارتقوا إليه في فورة من فورات الشوق والتطلع ؛ فلهذا الأفق تكاليفه العسيرة , وهي تكاليف في النفس والمال , وفي الشعور والسلوك . ولعل أشد هذه التكاليف مؤنة هي تلك اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على ضمير الفرد , والحساسية المرهفة التي يثيرها في شعوره , تجاه الحقوق والواجبات , لذاته وللجماعة التي يعيش فيها , وللإنسانية التي ينتسب إليها , وللخالق الذي يراقبه في الصغيرة والكبيرة , ويعلم سره ونجواه .
ولكن صعوبة هذا المرتقى , وتعذر الاستواء عليه طويلاً.. لا يعني أن الإسلام فكرة شاعرية خيالية , ومثل وجداني تدركه الأشواق وتقصر دونه الأعمال , فذلك الأفق الأعلى الذي نتحدث عنه لا يكلفه كل إنسان في جميع الأزمان ؛ إنما هو هدف مرسوم لتحاوله البشرية اليوم , كما تحاوله غداً , وكما حاولته بالأمس , فبلغت إليه أحياناً , وقصرت عنه أحياناً . وهو مثل فيه من الثقة بالإنسان وضميره وطاقاته قدر كبير , وفيه الدليل على أن الإنسانية غير ميئوس منها في المستقبل  القريب أو البعيد . ودون ذلك مجال فسيح للعمل والواقع المستطاعين للأكثرين و"لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا .."(البقرة286) وسماحة الإسلام تقبل من الجميع ما يستطيعون في حدود مرسومة , لا تهبط عنها الحياة " وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا .."(الأحقاف19) والطريق إلى الأفق الأعلى أبداً مفتوح . والفرائض والتكاليف بذاتها تكفي لاستقامة الحياة وصلاحها .
ولقد كان لذلك الروح الذي أشرنا إليه أثر في واقع الإسلام التاريخي , فاستحال الإسلام ـ وهو عقيدة وتصور ـ شخصيات ووقائع ؛ ولم يعد نظريات مجردة , ولا مجموعة إرشادات مواعظ , ولا مثلاً وأخيلة ؛ إنما عاد نماذج إنسانية تعيش ؛ ووقائع عملية تتحقق , وسلوكاً وتصرفات تشهد بالعين , وتسمع بالأذن , وتترك آثارها في واقع الحياة , وفي أطوار التاريخ , فكأنما كان روحاً يتلبس بهذه الشخوص فيحولها , ويصوغها صياغة جديدة وينشئها نشأة أخرى .
وهذا هو التفسير الأصدق لكل هذا الحشد من الشخصيات العجيبة التي احتفظ بها تاريخ الإسلام في نشأته , وعلى مدى عصوره . ولكل تلك الوقائع والأحداث التي يكاد المرء يحسبها أساطير ابتدعها خيال محلق ؛ ولم تكن ذات يوم حقائق سجلها الواقع ووعاها التاريخ !
نماذج التطهر الروحي , والشجاعة النفسية , والتضحية المؤثرة , والفناء في العقيدة , والومضات الروحية والفكرية البارعة , والبطولات الحية في شتى مناحي الحياة .. لا يكاد يحصيها التاريخ .
ولا بد أن نعقد الصلة جملة بين هذه البطولات والخوارق المتناثرة على مدار التاريخ وبين روح الإسلام القوي الفعال , الذي يعد مصدر هذه الطاقة المنبثة في أطوائها جميعاً .
أما دراسة هذه البطولات والخوارق مفرقة , دون وصلها بهذا المنبع الأصيل , فأخشى أن تكون ناقصة ومضللة عن الحقائق الأساسية في الكون والحياة , برجعها سر عظمة كل شخصية إلى عبقرية خاصة بها , وإهمال الروح المشع المؤثر , ذلك الروح الذي مس أرواح الأبطال , كما مس عجلة الزمن , وطبائع الأحداث , ودفعها جميعاً في تيار حي قوي جياش , تنغمر في لجه العبقريات والوقائع والأحداث !
ولن نكون مخطئين حين نرد انبعاث هذه العبقريات كلها , وبروز تلك البطولات جميعها , إلى فعل ذلك الروح القوي ؛ فهو حركة كونية شاملة , تتوافى مع الطاقات , الفردية في الظاهر , الكونية الحقيقة . ومقياس عظمة كل عبقرية منفردة هو استعدادها لتلقي ذلك الفيض الكوني ؛ فلا عجب إن كانت أكبر عظمة هي نبوة محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ  فهي التي تلقت ذلك الفيض كله واستوعبته ؛ وأطاقت تلقيه كاملاً والصبر عليه طويلاً , لأنها في صميمها قوة كونية لا طاقة فردية .
ثم تتدرج العظمات تحت أفق النبوة , في أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي معتنقي دينه على مدار التاريخ , كل بقدر ما فيه من استعداد لتلقي ذلك الروح الكامن في ذلك الدين العظيم .
هذه النظرة الشاملة هي التي تكشف لنا عن مس ذلك الروح لأرواح البشر ؛ وما نبه من عبقريات ؛ وما أبرز من بطولات ؛ وما حول من مجرى التاريخ الإنساني على وجه العموم .
وإننا لنملك أن نرى الآثار الواضحة لمسّ ذلك الروح في أحداث التاريخ الكبرى كما نراها في حوادث السلوك اليومية . والعظمة الروحية لا تقاس بالكم والمساحة , بل بالنوع والدلالة . فالعظمة التي تتجلى في غلبة حفنة من عرب الجزيرة على إمبراطوريتي كسرى وقيصر في فترة زمنية قصيرة . لا نظير لها في القصر , لا نبخسها قدرها إذا نحن قسناها إلى العظمة التي تتجلى في صبر بلال العبد الحبشي . على إيذاء قريش إيذاء فوق طاقة البشر احتماله , لتفتنه عن دينه وهو عليه ثابت , يرمضه حر الحجارة المحماة وثقلها على بطنه وصدره , مع الجوع والعطش والإيذاء , فما يزيد على قوله "أحد .أحد" في وقدة هذا العذاب الذي لا يطاق .
إن هذا الروح لهو الذي يمس "رجل الشارع" لا مال له ولا جاه , فيقف به أمام السلطان القادر القاهر يجبهه بكلمة الحق لا يخشى في الله لومة لائم , كما نلمسه في الخليفة الراشد , تدين له الممالك , وهو على حاله من القناعة والسمو والتواضع . كلاهما يغترف من معين واحد , هو ذلك الروح القوي المؤثر العميق .
على ذكر غلبة العرب على إمبراطوريتي كسرى وقيصر ؛ يجب أن نحسب حساب ذلك الروح . وانتصاره على القوى المادية الضخمة المرصودة في طريقه . المحشودة في الإمبراطوريتين الضخمتين والتي لم يكن العرب أكفاء لها بغير ذلك الروح . فانتصار الإسلام هنا هو انتصار عقيدة تقمصت النفوس البشرية ؛ وإن فيه لتأييداً قوياً للتفسير الإسلامي للتاريخ . لا تقف أمامه سائر التفسيرات لأنها تعجز لا محالة عن تعليل ذلك الانتصار الغريب .
على أن النقلة النفسية البعيدة التي نقلها الإسلام لعرب الجزيرة في الشعور والسلوك . وفي الأهداف والغايات وفي التنظيم الاجتماعي والاقتصادي .. لا تقل دلالة في هذا المجال عن دلالة الفتوح , بل هي أوضح وأقوى . فأي تطور اقتصادي تم في حياة الجزيرة بين مبعث محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووفاته أحدث هذا الانقلاب كله في التفكير والشعور والتنظيم والتوجيه ؟ إنما هي العقيدة التي صنعت كل الأعاجيب .
وإنه ليصعب في هذا المجال أن نستعرض هذا الانقلاب ؛ فحسبنا منه هذه اللمحة التي شهد بها شاهد من العرب أنفسهم في ذلك حين هاجر بعض المسلمين إلى الحبشة فراراً بدينهم من إيذاء قريش أوائل الدعوة الإسلامية ؛ فخشيت قريش أن يكون في ذلك المهجر متنفس للمسلمين , فبعثت بسفيرين من لدنها إلى نجاشي الحبشة ليرد أولئك المهاجرين . وهما عمرو ابن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة فقالا: " أيها الملك! إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء . فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك . وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت . وقد بَعَثَنَا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وعشائرهم , لتردهم إليهم , فهم أعلى بهم عيناً , وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه " .
فلما سأل النجاشي المسلمين : " ما هذا الدين الذي فارقتم به قومكم , ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من الملل؟ " كان جواب جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ :"أيها الملك ! كنا قوماً أهل جاهلية , نعبد الأصنام , ونأكل الميتة ونأتي الفواحش , ونقطع الأرحام , ونسيء الجوار . ويأكل القوي منا الضعيف ... فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا . نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه . فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ؛ وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة , وصلة الرحم , وحسن الجوار , والكف عن المحارم والدماء . ونهانا عن الفواحش . وقول الزور وأكل مال اليتيم . وقذف المحصنات . وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً , وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ..."الخ (1) .ولقد كان السفيران حاضرين , فيهما عمرو , لا تنقصه ذلاقة اللسان ولا سعة الحيلة فلم يكذبا جعفراً في تصويره لحال الجزيرة قبل الإسلام , ولحقيقة الدين الجديد ومثله ؛ فهي صورة صحيحة صادقة لما كان وما صار .
تلك شهادة من بطون التاريخ عن الجزيرة العربية , وهذه شهادة أخرى من رجل غير مسلم في العصر الحديث عن العالم كله إذ ذاك . يقول (ج .هـ .دينسون) في كتابه "العواطف كأساس للحضارة" :
" ففي القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدن على شفا جرف هار من الفوضى , لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت , ولم يك ثم ما يعتد به مما يقوم مقامها ؛ وكان يبدو إذ ذاك أن المدنية الكبرى التي تكلف بناؤها جهود أربعة آلاف سنة مشرفة على التفكك والانحلال , وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية , إذ القبائل تتحارب وتتناحر , لا قانون ولا نظام أما النظم التي خلفتها المسيحية فكانت تعمل على الفرقة والانهيار بدلاً من الاتحاد والنظام . وكانت المدنية كشجرة ضخمة متفرعة أمتد ظلها إلى العالم كله واقفة تترنح وقد تسرب إليها العطب حتى اللباب ... وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحد العالم جميعه "(2) .
*    *    *
وبعد فإن الحديث يطول , وليس هذا الكتاب هو "الإسلام" إنما هو "العدالة الاجتماعية في الإسلام" فبحسبنا أن نعرض نماذج من الواقع التاريخي في الموضوع الخاص .
*    *    *
ولكننا لن نبدأ النماذج في هذا الاتجاه حتى نعرض بعضها في شان آخر أعمق في ضمير الإسلام , وعليه قامت كل آساس الإسلام .
قلنا منذ قليل عن تلك اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على ضمير الفرد , والحساسية المرهفة التي يثيرها في شعوره . ولقد حفظ الواقع التاريخي للإسلام نماذج لتلك اليقظة الدائمة .
ولهذه الحساسية المرهفة , أكثر من أن نأتي هنا بها , والنماذج القليلة المنوعة تغني عن الكثير . عن بريدة قال :"جاء ماعز بن مالك إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : يا رسول الله طهرني , فقال : ويحك ! ارجع فاستغفر الله وتب إليه . قال فرجع غير بعيد , ثم جاء فقال : يا رسول الله طهرني . فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل ذلك . حتى إذا كانت الرابعة قال رسول الله : مما أطهرك ؟ قال : من الزنا . فسأل رسول الله : أبه جنون ؟ فاخبر أنه ليس بمجنون . فقال أشرب خمراً ؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر. فقال أزنيت ؟ قال نعم ! فأمر به فرجم . فلبثوا يومين أو ثلاثة ثم جاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : استغفروا لماعز بن مالك , لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم . ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد , فقالت : يا رسول الله طهرني . فقال : ويحك ! ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه . فقالت تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك ! إنها حبلى من الزنا ! فقال أنت ؟ قالت نعم . قال لها حتى تضعي ما في بطنك . قال فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت , فأتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال قد وضعت الغامدية , فقال إذن لا نرجمها وندع ولدها صغيراً ليس له من ترضعه . فقام رجل من الأنصار فقال : إليّ رضاعه يا نبي الله . قال فرجمها . ويروي أنه قال لها : اذهبي حتى تلدي فلما ولدت قال: اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه ؛ فلما فطمته أتته بالصبي وفي يده كسرة خبز , فقالت هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام . فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين , ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها , وأمر الناس فرجموها . فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها , فتنضح الدم على وجه خالد , فسبها فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مهلاً يا خالد , فو الذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له , ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت(3) .
فهذا ماعز بن مالك وهذه صاحبته ؛ ولم يكن أحدهما أو كلاهما ليجهل العقاب الأليم الذي يناله , والمصير الشنيع الذي يحل به ؛ ولم يكن أحد قد رآهما لتثبت عليها الجريمة ؛ ولكنهما يلحان على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكلما شاءت رحمته ورحمة الإسلام أن لا يمضي في تتبع الاعتراف أصرا وألحا , وأغلقا على أنفسهما جميع الأبواب والمنافذ ؛ بل زادت المرأة أن تجبه محمداً رسول الله بأنه يريد أن يردها كما رد ماعزاً : إن كانت لتكاد تقول لرسول الله في شريعته !
لم هذا كله؟ .. في قوله وقولها :"طهرني يا رسول الله" ما يشير إلى الباعث القوي الذي يغلب في أنفسهما على رغبة الحياة . إنها يقظة الضمير , وحساسية الشعور . إنها الرغبة في التطهر من الإثم الذي لم يطلع عليه أحد إلا الله . إنه الحياء أن يلقيا الله غداً لم يطهرا من ذنب ارتكباه .
ذلك هو الإسلام . في حساسيته المرهفة تبدو في ضمير الجاني . وفي رحمته العميقة , تبدو في رد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهما ؛ كذلك يبدو في حزمه في تنفيذ العقوبة عند ثبوت التهمة , لا يقفه نبل الاعتراف ولا عظم التوبة , لأن الجاني والشارع يلتقيان هنا عند الرغبة في قيام هذا الدين على أساسه الركين.
فهذه في الحدود . فكيف بها في الاعتبارات الاجتماعية التي يضحي أحياناً في سبيلها بالحياة ؟
إنها قصة عزل خالد عن إمارة الجيش في الشام , وتوليتها أبا عبيدة . وخالد هو القائد الذي لم يُهزم إلى ذلك اليوم في موقعة قط , وهو الجندي الذي تجري الجندية في كيانه في الجاهلية والإسلام . خالد هذا يُعزل من الأمارة فلا يضطغن , ولا تأخذه العزة فينسحب من الميدان ـ ولا نقول يحاول الثورة ـ بل يظل في المعركة بالعزيمة ذاتها , وبالرغبة في نصرة دين الله , والاستشهاد في سبيل الله لا يلقي بالاً إلى هذه الاعتبارات كلها في الموقف , لأن اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على ضمير الفرد , والحساسية المرهفة التي يثيرها في ضميره فوق الاعتبارات وفوق كل الملابسات .
ولهذه الواقعة دلالتها في الجانب الآخر . جانب عمر بن الخطاب . لقد كان عزله خالداً نتيجة هذه الحساسية المرهفة نفسها . فقلد أخذ على خالد في خلافة أبي بكر أشياء ثار لها ضميره , وهاجت لها حساسيته . أخذ عليه تسرعه في قتل مالك بن نويرة , وإعراسه بعد ذلك بامرأته ؛ كما أخذ عليه بعدها حادثة قريبة منها هي زواجه من ابنة مجّاعة في حرب مسيلمة الكذاب , غداة مقتل ألف ومائتين من خيرة الصحابة في هذه الحرب .. فلم يشفع له عنده فيما اعتقد خطئه , أن كان أكبر القواد وأكثرهم انتصارات , والأمة الإسلامية على أبواب حروب ضخمة في الشام والعراق ؛ وهي أحوج ما تكون على عبقرية خالد التي لم تهزم قط , فلم يكن شيء من ذلك بقادر على أن يسكن حساسية ضمير عمر بخطأ خالد الفاحش ؛ وبضرورة إبعاده عن غمارة الجيش ثم عن الجيش كله . وقد انضم إلى هذه الحوادث كلها طريقة خالد في استقلاله بما يوكل إليه من الأمور , لا تتفق وخطة عمر , وطبيعته من الإشراف على الدقائق والجزئيات , استجابة لحساسية ضميره بالتبعات(4) .
ولسائل أن يسأل : ولم أبقى أبو بكر على خالد إذن وهذا خطؤه ؟
إن أبا بكر لم يسؤ ظنه بخالد إلى هذا الحد الذي بلغه ظن عمر ؛ فقد رأى أنه أخطأ في التأويل , ولم يقصد خطيئة ولا إثماً فوسعه عفوه , وإن غضب على فعلته , وبخاصة الثانية , فكتب له كتاباً "يقطر دماً" . ولكن لما كان تقديره أن عمل خالد يقع في دائرة الخطأ , عفا عنه وأبقاه .
هذا هو التفسير الصحيح الذي يتفق وحساسية الضمير الإسلامي في تلك الفترة .
وأعجب العجب ما أورده رجل كالدكتور هيكل في تعليل موقف أبي بكر وموقف عمر , من خالد بن الوليد . مما يتجافى مع روح الإسلام , وإن كان يتفق مع ألاعيب السياسة العصرية في هذه الأيام . قال في كتابه "الصديق أبو بكر" ص 150ـ152:
" بلغ اختلاف الرأي بين أبي بكر وعمر في حادث مالك بن نويرة ما رأيت . وكلا الرجلين كان يريد للإسلام والمسلمين الخير ولا ريب . أفكان اختلافهما مع ذلك راجعاً إلى خلاف في تقدير ما صنع خالد أم كان اختلافاً على السياسة التي يجب أن تتبع في هذا الموقف الدقيق من حياة المسلمين .موقف الردة وقيام الثورة بها في أنحاء شبه الجزيرة ؟!
الرأي عندي في هذا الخلاف أنه كان اختلافاً في السياسة التي يجب أن تتبع في هذا الموقف . وهو اختلاف يتفق وطبائع الرجلين . أما عمر , وكان مثال العدل الصارم , فكان يرى أن خالداً عدا على امرئ مسلم , ونزا على امرأته قبل انقضاء عدتها ؛ فلا يصح بقاؤه في الجيش حتى لا يعود لمثلها فيفسِد أمر المسلمين . ويسيء إلى مكانتهم بين العرب ؛ ولا يصح أن يترك بغير عقاب على ما أثم مع ليلى . ولو صح أنه تأول فأخطأ في أمر مالك . وهذا ما لا يجيزه عمر فحسبه ما صنع مع زوجته ليقام عليه الحد(5) . وليس ينهض عذراً له أنه سيف الله , وانه القائد الذي يسير النصر في ركابه . فلو أن مثل هذا العذر نهض لأبيحت لخالد وأمثاله المحارم , ولكان ذلك أسوأ مثل يضرب للمسلمين في احترام كتاب الله . لذلك لم يفتأ عمر يعيد على أبي بكر ويلح حتى استدعى خالداً , وعنفه على فعلته .
أما أبو بكر فكان يرى الموقف أخطر من أن تقام لمثل هذه الأمور وزن . وما قَتْلُ رجل أو طائفة من الرجال لخطأ في التأويل أو لغير خطأ , والخطر محيط بالدولة كلها . والثورة ناشبة في بلاد العرب من أقصاها إلى أقصاها . وهذا القائد الذي يتهم بأنه أخطأ من أعظم القوى التي يدفع بها البلاء , ويتقي بها الخطر ؟! وما التزوج بامرأة على خلاف تقاليد العرب , بل ما الدخول بها قبل أن يتم طهرها , إذا وقع هذا من فاتح غزا فحق له بحكم الغزو أن تكون له سبايا يصبحن ملك يمينه(6) ! إن التزمت في تطبيق التشريع لا يجب أن يتناول النوابغ والعظماء من أمثال خالد , وبخاصة إذا كان ذلك يضر بالدولة أو يعرضها للخطر ولقد كان المسلمون في حاجة إلى سيف خالد , وكانوا في حاجة إليه يوم استدعاه أبو بكر وعنفه أكثر من حاجتهم إليه من قبل . فقد كان مسيلمة باليمامة على مقربة من البطاح في أربعين ألفاً من بني حنيفة ؛ وكانت ثورته بالإسلام والمسلمين أعنف ثورة ؛ وكان قد تغلب على عكرمة بن أبي جهل من قواد المسلمين , وكان الرجاء معلقاً بسيف خالداً يعزل خالد وتتعرض جيوش المسلمين لتغلب مسيلمة , ويتعرض دين الله لما يمكن أن نتعرض له ! إن خالداً آية الله وسيف الله . فلتكن سياسة أبي بكر حين استدعاه إليه أن يكتفي بتعنيفه , وأن يأمره في الوقت نفسه بالسير إلى اليمامة ولقاء مسيلمة .
"هذا رأيي هو التصوير الصحيح لما كان بين أبي بكر وعمر من خلاف في هذا الحادث . ولعل أبا بكر إنما أصدر أمره إلى خالد يومئذ بالسير للقاء مسيلمة بعد تغلب متنبئ بني حنيفة على عكرمة . ليرى أهل المدينة ومن كان على رأي عمر منهم خاصة , أن خالداً رجل الملمات , وأنه قد قذف به حين أصدر إليه هذا الأمر إلى جحيم , إما ابتلعه وقضى عليه فكان ذلك خير عقاب له على ما صنع بأم تميم وزوجها ؛ وإما صهره النصر فيه وطهره , فخرج مظفراً غانماً قد سكَّن من المسلمين روعاً , لا تعد فعلته بالبطاح شيئاً مذكوراً إلى جانبه " .
هذا هو التصوير "الصحيح" للأمر في نظر الدكتور هيكل ! وإن أعجب فعجب لرجل يعيش بفكره ونفسه في جو هذه الفترة من التاريخ الإسلامي , وفي ظل هذه الضمائر المرهفة الحساسة الشديدة الحساسية من رجاله ؛ ثم لا يرتفع ضميره هو وشعوره بتفسير الحوادث عن هذا المستوى , المستمد مباشرة من ملابسات السياسة في عصرنا المادي الحاضر , لا من روح الإسلام وتاريخه في تلك الفترة ! إنما هذه سياسة أيامنا الحاضرة تبرر الوسيلة بالغاية , وتهبط بالضمير الإنساني إلى مستوى الضرورات الوقتية ؛ وتحسب هذا براعة في السياسة , ولباقة في تصريف الأمور . وما أصغر أبا بكر في هذا التصوير الذي يقول الدكتور هيكل : إنه هو التصوير الصحيح ! لولا أن أبا بكر كان أكبر وأبعد من مدى المجهر الذي ينظر به رجل يعيش في عصر هابط , فلا يستطيع إطلاقاً أن يرتفع إلى ذلك الأفق السامق البعيد . فضلاً على الجهل الفاضح بأولويات الشريعة الإسلامية .
ومرة أخرى يعود الدكتور هيكل في كتابه " الفاروق عمر"جزء أول , ليصور أفكار عمر وهو يهم بعزل خالد , فيدركه هبوط العصر الذي يعيش فيه , وتقعد به ثقلة رئيس الحزب الذي يرى المصالح الوقتية والضرورات المحلية ؛ ولا يطيق أبداً أن يستشعر روح الإسلام في آفاقه العليا . ذلك حيث يقول في ص99ـ100 :
"كيف غامر عمر بعزل خالد على رأس قوات المسلمين بالشام ؟ وهذه القوات في موقف دقيق ؟ فقد كانوا هناك بإزاء الروم , لا يواجهونهم , ولا يقدرون من أمرهم على شيء , ولا يقدر الروم من أمر المسلمين على شيء . كان ذلك موقفهم قبل أن يذهب خالد بن الوليد من العراق إليهم , ثم ظلوا فيه بعد أن أقام خالد بينهم , وكان كلا الفريقين يتحين الفرصة التي يخرج فيها من جموده , ويوقع فيها بعدوه . أفلا يخشى الخليفة أن يفت أمره بعزل خالد في أعضاد المسلمين , فيزيد موقفه دقة ؟ أو لم يكن الأجمل به أن يتريث حتى يخرج خالد بالمسلمين من المأزق الذي هم فيه , وله بعد ذلك أن يأمر بما يشاء !
"هذه اعتبارات لها من غير شك قيمتها في تطور القتال ؛ وسنرى من بعد أن أبا عبيدة قدرها قدرها , دون أن يخشى برم الخليفة به أو غضبه عليه . لكن عمر نظر في الأمر من غير هذه الناحية , فلو أنه أرجأ الأمر بعزل خالد إلى ما بعد المعركة لأضر ذلك بسياسته وأفسد عليه خطته . فليس للمعركة مصير إلا أن ينهزم المسلمون فيها أو ينتصروا . فإن انهزموا لم يغن عزل خالد عن هزيمتهم ؛ وإن انتصروا وخالد قائدهم لم يكن لعمر أن يعزل قائداً في أوج نصره . فإن فعل أتى أمراً إداً . وعمر حريص على ألا يبقى خالد على القيادة العامة بالشام أو بغير الشام ؛ لذلك أسرع فأصدر الأمر بعزله , وله من العذر أن خالداً لم يحقق ما ندبه أبو بكر لتحقيقه . فإذا انتصر المسلمون بعد هذا فلا تثريب على عمر فيه , فهو إنما صنع ما اقتنع بأنه الحق , وصنعه وخالد في موقف لا يظلمه من يأمر بعزله ".
هكذا يفكر . هيكل "باشا" في القرن العشرين , ثم يسند تفكيره إلى عمر في صدر الإسلام ؛ كما فكر من قبل ثم أسند تفكيره إلى أبي بكر ! وهذه قولة رجل لم تمس روحه روح أبي بكر ولا روح عمر , ولم تستطع حياته في جو الإسلام فترة أن تنتزعه من ملابسات القرن العشرين , وما فيه من التواءات واحتيالات وانتهازات فرص على حساب الضمير أو حساب الحق أو حساب الدين .
وما ظن هيكل بعمر ؟ أفكان عمر مبقياً على خالد لو كان الظرف غير الظرف , ولو كانت الفرصة غير الفرصة ؟ وهو يعتقد بينه وبين ضميره ـ كما صوره هيكل "باشا" ـ أن خالداً آثم في حق مالك بن نويرة وفي حق الله والدين ؟
أهو عمر ذلك الرجل الذي يقيم وزناً لهذه الاعتبارات , ويحني رأسه . وهو الذي كان يثني الشواهق ولا ينثني , ويواجه العاصفة بالإيمان ولا ينحني!
مثل هذا قد يصنعه ملوك بني أمية أو ملوك بني العباس , ويعده الناس منهم دهاء وسعة حيلة ؛ فأما عمر فلا , وأما أبو بكر فلا كذلك . وإنما يظن بعضهم بهما هذا الظن لضحالة روح العصر وهبوط مقاييسه ومعاييره !
وبعد , فقد أسهبت في عرض هذا اللون من التفكير وتفنيده , لأصحح الخطأ العميق الذي يقع فيه من يريدون تصوير طرائق التفكير والشعور في عصر ارتفاع الروح الإسلامي , على ضوء التفكير والشعور في عصرنا المادي البعيد عن ذلك الروح المرهف . وما يجره هذا الخطأ من سوء الفهم لحقائق الضمير البشري , وطاقته في السمو والحساسية . وما أريد أن ألبس أولئك الرجال ثوباً فضفاضاً , ولا أصورهم معصومين من كل ضعف بشري ؛ ولكن ما أريد أن أرد الثقة بالضمير البشري إلى نفوس الناس ؛ كما أريد أن أصور هذه الفترة من حياة المسلمين في صورتها الصحيحة التي يستشعرها بقوة كل ضمير فيه استعداد للتطلع إلى هذا الأفق البعيد !
ثم لنمض في استعراض نماذج الحساسية المرهفة في شتى المناحي .
هذا عمر بن الخطاب خليفة يقبل حاملاً قربة ماء , فيسأله ابنه في استنكار : لم فعلت هذا فيجيب :"أعجبتني نفسي فأحببت أن أذلها " . يا لها من حساسية ! لقد استشعرت نفس الرجل شيئاً من الزهو في أعماقها بالخلافة وبالفتوح وبالعظمة المقبلة , فكره لها أن تلج في هذا الزهو , فبادر يذلها . ويذلها على مرأى من الناس . ولا يبالي أنه الخليفة الحاكم على رقعة تضم إلى بلاد العرب معظم إمبراطوريتي كسرى وقيصر !
وهذا على بن أبي طالب خليفة يرعد من البرد في الشتاء , وعلى جسده ثوب صيفي لا وقاء له سواه . وبيت المال في يده , تذوده عنه تلك اليقظة في الضمير , وذلك الإرهاف في الشعور .
ثم هذا أبو عبيدة مع جنده في عمواس , وقد أخذها الطاعون الفاتك , ويخاف عمر على أمين الأمة فيدعوه ليلتمس له مخرجاً من الهلاك في كتاب يقول له فيه : " أما بعد , فإني قد عرضت لي إليك حاجة أريد أن أشافهك فيها , فعزمت عليك إذا نظرت في كتابي هذا ألا تضعه من يدك , حتى تقبل إليّ " . وينظر أبو عبيدة في الكتاب فيدرك قصد عمر , ويشعر أنه إنما أراد أن يستله من الوباء الفتاك , فيقول :"يغفر الله لأمير المؤمنين !" ثم يكتب إليه :"إني قد عرفت حاجتك إليّ , وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم , فلست أريد فراقهم , حتى يقضي الله فيّ وفيهم أمره وقضاءه , فحللني من عزمتك يا أمير المؤمنين , ودعني في جندي " . ويقرأ عمر الكتاب فيبكي ؛ فيسأله من حوله : أمات أبو عبيدة ؟ فيجيب والدمع يخنقه : " لا . وكأن قدِ" ... وقد كان !
أهو الإيمان العميق بقدر الله يمسك أبا عبيدة في مراده ! إنه لهو , ومعه تلك الحساسية ألا يفر بنفسه ويدع جنده , وهو وإياهم جند في سبيل الله .
وهذا بلال بن رباح مؤذن الرسول , يرجوه أخوه في الإسلام " أبو رويحة الخثعمي " أن يتوسط له في الزواج من قوم من أهل اليمن فيقول لهم :"أنا بلال بن رباح . وهذا أخي أبو رويحة , وهو أمرؤ سوء في الخلق والدين , فإن شئتم أن تزوجوه فزوجوه , وإن شئتم أن تدعوا فدعوا" .
هكذا لا يدلس عليهم , ولا يخفي من أمر أخيه شيئاً , ولا يذكر أنه وسيط لينسى أنه مسؤول أمام الله فيما يقول . وقد زوجه القوم مطمئنين إلى هذا الصدق , وحسبهم أن يكون صاحبهم وسيطاً بين ابنتهم ومن خطبها إليه !
ثم هذا أبو حنيفة قد بعث بمتاع إلى حفص بن عبد الرحمن شريكه في التجارة , وأعلمه أن في ثوب منه عيباً , فبيَّنه للناس , فباع حفص المتاع , ونسي أن يبين , واستوفى ثمناً كاملاً لثوب غير كامل ـ وقيل إن الثمن كان ثلاثين ألفاً , أو خمسة وثلاثين ألفاً ـ فأبى أبو حنيفة إلا أن يبعث لشريكه يكلفه أن يبحث عن المشتري ؛ ولكنه لم يهتد إلى الرجل ؛ فأبي أبو حنيفة إلا فصالاً من شريكه , تاركاً . بل رفض أن يضيف الثمن إلى حر ماله , وتصدق به كاملاً"(7).
ويروى أنه كان عند يونس بن عُبيد حلل مختلفة الأثمان . ضرب قيمة كل حلة منه أربعمائة , وضرب كل حلة قيمتها مائتان . فمر إلى الصلاة , وخلف ابن أخيه في الدكان , فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة , فعرض عليه من حلل المائتين , فاستحسنها ورضيها واشتراها , فمضى بها وهي على يديه , فاستقبله يونس , فعرف حلته فقال للأعرابي : بكم اشتريت ؟ فقال : بأربعمائة , فقال : لا تساوي أكثر من مائتين , فارجع حتى تردها ! فقال هذه تساوي في بلدنا خمسمائة وأنا أرتضيت ,فقال يونس : انصرف , فإن النصح في الدين خير من الدنيا بما فيها . ثم رده إلى الدكان , ورد عليه مائتي درهم , وخاصم ابن أخيه في ذلك , وقال له : أما استحييت ! أما اتقيت الله ! تربح مثل الثمن وتترك النصح للمسلمين فقال : والله ما أخذها إلا وهو راضٍ بها . قال فهلا رضيت له بما ترضاه لنفسك ؟ " وروى عن محمد بن المنكدر أن غلامه باع لأعرابي في غيبته شقة من الخمسيات بعشرة , فلم يزل يطلب ذلك الأعرابي طول النهار حتى وجده . فقال له : إن الغلام قد غلط فباعك ما يساوي خمسة بعشرة . فقال : يا هذا قد رضيت . فقال : إن رضيت فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا . ورد عليه خمسة "(8) .
ومفتاح هذه الحوادث الثلاث هو قول بن عبيد لابن أخيه : " أما استحييت؟ أما اتقيت الله ؟"نعم إنه الحياء من الله , وإنها التقوى لله .ذلك ما يثيره الإسلام في النفس الإنسانية بقوة حين تستشعر روحه , ويمتزج بها وتخالطه بشاشته .
وإن وراء هذه النماذج التي عرضناها لعشرات ومئات من أمثالها في كل منحى وكل اتجاه , وحسبنا منها هذه المثل القليلة لتشير إلى الآفاق التي يهدف إليها الإسلام في تطهير الضمير البشري ورفعه ؛ ليستعلي على جميع الملابسات والضرورات . على حب النفس والحياة , وحب المال والجاه ؛ وليصبر على تكاليف اليقظة الدائمة التي يفرضها على ضمير الفرد والحساسية المرهفة التي يثيرها في شعوره ليضمن بذلك بلوغ تلك الآفاق . ثم نمضي من بعد مطمئنين , نستعرض بعض جوانب الواقع التاريخي للإسلام في العدالة الاجتماعية , على هدى من تلك الآفاق المشعة العالية في واقع الإسلام .
*    *    *
المساواة المطلقة بين بني الإنسان كانت رسالة الإسلام , والتحرر الوجداني المطلق من جميع القيم وجميع الاعتبارات التي تخدش هذه المساواة . ولقد أسلفنا الحديث عن نظرية الإسلام في المساواة والتحرر , والنصوص التي لا تدع مجالاً للشك في عمق هذه النظرية وتأصلها في بناء الفكرة الإسلامية عن المجتمع الإنساني , فالآن ننظر كيف طبقت هذه النظرية في واقع الحياة .
كان الرقيق في كل مكان على وجه الأرض طبقة غير طبقة الأحرار , وكذلك كان في الجزيرة العربية . فأما محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد زوج ابنة عمته "زينب بنت جحش" سليلة قريش الهاشمية من مولاه زيد , والزواج مسألة حساسة ترتفع فيها قضية المساواة إلى أفق دونه كل أفق ؛ وما كان أحد غير هذا النبي , ولا كانت قوة غير قوة هذا الدين , بكافية أن تحقق هذه المعجزة التي لا تتحقق إلى اليوم في غير بلاد الإسلام . ونحن نشهد في الولايات المتحدة التي بطل فيها الرق بحكم القانون , أن الزنجي لا يحرم عليه الزواج بالبيضاء ـ أية بيضاء ـ فحسب, بل يحرم عليه دخول المدارس والجامعات والمطاعم , والجلوس إلى جوار البيض في المركبات العامة والنزول معهم في المثاوي والفنادق حتى الآن !
وحين آخى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين المهاجرين والأنصار في أول الهجرة كان عمه حمزة ومولاه زيد أخوين , وكان أبو بكر وخارجة بن زيد أخوين , وأبو رويحة الخثعمي وبلال بن رباح أخوين . ولم تكن هذه الأخوة مجرد لفظ , ولكنها صلة الحياة التي تعدل صلة الدم : صلة القربى في النفس والمال وسائر مظاهر الحياة .
ثم يبعث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بزيد مولاه قائداً لغزوة مؤتة ؛ ثم بابنه أسامة قائداً لغزو الروم في جيش يضم كثرة من المهاجرين والأنصار , فيهم أبو بكر وفيهم عمر , وزيرا الرسول وصاحباه , والخليفتان بعده بإجماع المسلمين . وفيهم سعد بن أبي وقاص وهو ذو قربى من رسول الله إذ كان من أخواله بني زهرة ومن أسبق قريش إلى الإسلام , شرح الله له صدره وهو ابن سبعة عشر عاماً , وهو ذو مال ونعمة وقدرة على الحرب وعبقرية في الجهاد .
فإذا قبض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصر أبو بكر على إرسال جيش أسامة , ثَبت قائده الذي اختاره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم سار يودعه إلى ظاهر المدينة , أسامة راكب وأبو بكر الخليفة راجل , فيستحي أسامة أن يركب وهو شاب وخليفة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يمشي وهو شيخ , فيقول : "يا خليفة رسول الله , لتركبن أو لأنزلن " فيقسم الخليفة :"والله لا تنزل : ووالله لا أركب . وما علي أن أغبر قدميَّ في سبيل الله ساعة ؟".. ثم يرى أبو بكر أنه في حاجة إلى عمر , وقد حمل عبء الخلافة على عاتقه ؛ ولكن عمر إنما هو جندي في جيش أسامة , وأسامة هو الأمير , فلابد من استئذانه فيه , فإذا الخليفة يقول : " إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل".
يا لله ! .. إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل .. إنها آفاق عوالٍ , لا يرقى إليها تعليق أو مقال .
ثم تمضي عجلة الزمن فيرى عمر بن الخطاب خليفة يولي عمار بن ياسر على الكوفة ـ وهو أحد الموالي ـ ويقف بباب عمر سهيل بن عمرو بن الحارث بن هشام , وأبو سفيان ابن حرب وجماعة من كبراء قريش ؛ فيأذن قبلهم لصهيب وبلال , وهما موليان فقيران , لأنهما كانا من أهل بدر ومن السابقين من الصحابة ؛ فتورم أنف أبي سفيان من الغضب لهذا التقديم ؛ وينطلق لسانه يدعو بدعوى الجاهلية يقول : " لم أر كاليوم قط . يأذن لهؤلاء العبيد , ويتركنا على بابه "!
ويمر عمر بن الخطاب يوماً بمكة فيرى الخدم وقوفاً لا يأكلون مع سادتهم , فيغضب , ويقول لسادتهم مستنكراً :" ما لقوم يستأثرون على خدامهم ؟ ثم يدعو الخدم للأكل مع السادة في جفنة واحدة !
وكان عمر قد استعمل على مكة نافع بن الحارث , فلقيه بعسفان , فقال له عمر : من استخلفت على الوادي ؟ قال: استخلفت بن أبزي . قال : وما ابن أبزي؟ فقال : رجل من موالينا. فقال عمر : استخلفت عليهم مولى ؟ فقال : إنه قارئ لكتاب الله , عالم بالفرائض , قاض . فقال عمر : أما إن نبيكم ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد قال " إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع آخرين ".
وما كان سؤال عمر استنكاراً . إنما هو استفهام ليعلم فيم كانت مزية ابن أبزي وهو لا يعرفه ؛ وإلا فهو الذي يقول وهو يوصي بالستة أهل الشورى بعده : "لو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لوليته " فهو عنده آثر من أهل الشورى وهم :عثمان وعلي وطلحة والزبير وابن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر !
خطب رجل من الموالي إلى رجل من قريش أخته , وأعطاه مالاً جزيلاً , فأبى القرشي تزويجها إياه , فلما بلغ ذلك عمر , قال للقرشي : ما منعك أن تزوجه , فإن له صلاحاً وقد أحسن عطية أختك ؟ فقال القرشي : يا أمير المؤمنين , إن لنا حسباً , وإنه ليس لها بكفء .فقال عمر : لقد جاء بحسب الدنيا والآخرة . أما حسب الدنيا فالمال , وأما حسب الآخرة فالتقوى . زوَّج الرجل إن كانت المرأة راضية . فراجعها أخوها فرضيت . فزوجها منه . وقد رأينا من قبل كيف كان بلال المولى شفيعاً لأبي رويحة العربي في الزواج عند أهل اليمن , فأكرموه من أجل بلال وقبلوه !
وقد كان المجال مفتوحاً أمام الموالي ليبلغوا أقصى مراتب المجد في كل اتجاه : قد كان عبد الله بن عباس يُذكر ويُذكر معه مولاه عكرمة . وكان عبد الله بن عمر يُذكر ومعه مولاه نافع . وأنس بن مالك ومعه مولاه ابن سيرين . وأبو هريرة ومعه مولاه عبد الرحمن ابن هرمز .
" وفي البصرة كان الحسن البصري , وفي مكة كان مجاهد بن جبر , وعطاء بن أبي رباح , وطاووس بن كيسان هم الفقهاء.
" وفي مصر تولى الفتيا يزيد بن أبي حبيب في أيام عمر بن عبد العزيز , وهو مولى أسود من دنقلة ..."(9).
وبهذه الروح نفسها كان المسلمون ينظرون إلى العمال . فالعامل بيده مُكَرَم محترم , لا في عالم النظريات والمثل , بل في واقع الحياة ؛ لا يخدش منزلة العامل أن تكون صناعته ما تكون , فللعمل شرفه أياً كان ؛ ولن تمنعه حرفته من التزود بالعلم والتفوق فيه والاعتراف له بالأستاذية والتوقير . " كان أبو حنيفة خزازاً , كما كان كثير من رجالات الفقه بعده تجاراً وصناعاً .
" هذا الإمام الخصاف أحمد بن عمر بن مهير , أبوه تلميذ محمد والحسن صاحبي أبي حنيفة ؛ وكان الخصاف يؤلف للمهتدي بالله كتاب الخراج ؛ ويصنف كتبه العظيمة في الفقه في حين يعيش من خصف النعال . وهذا الكرابيسي يبيع الكرابيس أو الثياب الخام وهذا القفال يخرج يده فإذا على ظهر كفه آثار , فيقول : هذا أثر عملي في الابتداء (صناعة الأقفال): وهذا ابن قطلوبغاً يعمل خياطاً . والجصاص شيخ زمانه ينتسب إلى العمل في الجص . ثم هذا الصفَّار(من بيع الأواني الصفرية أي النحاسية) والصيدلاني (من بيع العطر) والحلواني (كان أبوه يبيع الحلوى) والدقاق والصابوني والنعالي والبقالي والقدوري وغيرهم كثيرون .. يشهدون من خلال حقب التاريخ , وبمجرد أن انفجر فجر الحضارة الإسلامية , أن هذه الأمة حققت  في العصور الأولى , ما جاهد العالم الغربي عشرات القرون لتحقيقه ولما يكد يحققه : أن ليس ثمة مهن رفيعة , وأخرى وضيعة , وإنما ثمة رجال رفيعون وآخرون لا رفعة فيهم "(10).
ولكن هذا الأفق من المساواة الإنسانية لا يتم تمامه حتى نعلم كيف كان المجتمع الإسلامي يعامل الأعلين من الناس فيه , فإنه لا يكفي أن يحترم الأدنى ويسوّده , إن لم ينزل الأعلى مستوى واحد معه لا يفضله فيه إلا بالعمل , والعمل وحده , لا بالحسب والنسب , والجاه والمال .
قال أبو يوسف في كتاب "الخراج" : حدثني عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال: كتب عمر ـ رضي الله عنه ـ إلى عماله أن يوافوه بالموسم , فوافوه , فقام وقال : يا أيها الناس إني أبعث عمالي هؤلاء , ولاة بالحق عليكم ؛ ولم استعملهم ليصيبوا من أبشاركم ولا من دمائكم ولا من أموالكم ؛ فمن كانت له مظلمة عند أحد منهم فليقم , قال : فما قام من الناس يومئذ إلا رجل واحد , فقال يا أمير المؤمنين : عاملك ضربني مائة سوط . فقال عمر : أتضربه مائة سوط ؟ قم فاستقد منه : فقام إليه عمرو بن العاص فقال له : يا أمير المؤمنين إنك إن تفتح هذا على عمالك كبر عليهم ؛ وكانت سنة يأخذ بها من بعدك . فقال ألا أُقيده منك , وقد رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقيد من نفسه ؟ قم فاستقد . فقال عمرو : دعنا إذن فلنرضه . قال فقال : دونكم . قال : فارضوه بأن اشتريت منه بمائتي دينار, كل سوط بدينارين .!
ولقد اتقاها عمرو بن العاص عن سواه , ولم يستطيع أن يتوقاها عن ابنه حينما لطم ابن المصري فأقاد له منه عمر , وهو يقول للمصري :"اضرب بن الأكرمين" وكاد عمرو يذوقها لولا أن كف المصري وعفا !
ولقد جلس عمر ذات يوم يقسم مالاً بين المسلمين , فازدحم الناس عليه ؛ فأقبل سعد بن أبي وقاص ـ وقد مَّر بنا نسبه وبلاؤه في الإسلام ـ فزاحم الناس حتى زحمهم وخلص إلى عمر , فعلاه عمر بالدرة وهو يقول :"لم تهب سلطان الله في الأرض فأردت أن أعلمك أن سلطان الله لا يهابك ".
ولعل قائلاً أن يقول : إنما هذا خليفة !
فننظر الآن ماذا يلقي الخلفاء والملوك من رعاياهم من حرية في القول والشعور . منشؤها ذلك التحرر الوجداني الذي بثه الإسلام في الضمير ؛ وتلك المساواة المطلقة التي حققها في القول والعمل . وذلك النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي كفل لكل فرد وجوده وكرامته وكفل له العدل والنصفة من الأعلياء قبل الضعفاء !
وهذا عمر يخطب الناس وهو خليفة فيقول:"إن رأيتم فيَّ اعوجاجاً فقوّموني" فيندب له رجل من عامة المسلمين يقول :" لو وجدنا فيك اعوجاجاً لَقَوَّمْنَاه بحد سيوفنا" .فما يزيد عمر على أن يقول :"الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقوّمه بحد سيفه"!
وغنم المسلمون أبراداً يمانية , فخصه برد وخص ابنه عبد الله برد ـ كأي رجل من المسلمين ـ ولما كان الخليفة في حاجة إلى ثوب , فقد تبرع له عبد الله ببرده ليضمه إلى برده فيصنع منهما ثوباً . ثم وقف يخطب الناس وعليه هذا الثوب .فقال :"أيها الناس ! اسمعوا وأطيعوا" فوقف سلمان فقال : لا سمع لك علينا ولا طاعة . قال عمر : ولم ؟ قال سلمان : من أين لك بهذا الثوب , وقد نالك برد واحد وأنت رجل طوال ؟ قال : لا تعجل. ونادى : يا عبد الله ! فلم يجبه أحد (فكلهم عبد الله!) قال : يا عبد الله بن عمر . قال : لبيك أمير المؤمنين . قال : ناشدتك الله البُرْد الذي ائتزرت به اهو بُرْدك ؟ قال الله نعم . قال سلمان : الآن مر نسمع ونطع ".
وبعد , فلعل قائلاً أن يقول : إنما ذلك عمر!
فذا أبو جعفر المنصور ينشيء دولة في ظل الإرهاب والبطش ـ ولكنه لا يستطيع أن يمضي في ذلك إلى بعيد , وسلطان الإسلام قائم يحمي الناس حتى من ذوي البطش والإرهاب ! .. ها هو ذا يقيم دولة في هذا الجو فيدخل عليه سفيان الثوري فيقول : ".. فما قولك أنت  يا أمير المؤمنين فيما أنفقت من مال الله , ومال أمة محمد بغير إذنهم " . وقد قال عمر في حجة حجها وقد انفق ستة عشر ديناراً وهو ومن معه : " ما أرانا إلا وقد أجحفنا ببيت المال". وقد علمت ما حدثنا به منصور بن عمار وأنت حاضر ذلك . وأول كاتب كتبه في المجلس , عن إبراهيم عن الأسود عن علقمة عن ابن مسعود أن رسول الله قال :"رب متخوض في مال الله ومال رسول الله فيما شاءت نفسه .. له النار غداً "؟ فيقول أبو عبيد الكاتب ـ أحد متزلفي الحاشية في بلاط الملوك : أمير المؤمنين يُسْتقبَل بمثل هذا؟ فيجيبه سفيان الثوري بعنف :"اسكت , فإنما أهلك فرعون هامان , وهامان فرعون"(11) . ثم يخرج وقد صدع بكلمة الحق القوية , حيث لا يملك الجبابرة ـ مهما تجبَّرُوا ـ أن يجرؤوا على من عمرت قلبه , وارتفع على الضرورات , وأخلص نفسه لله .
وهذا هو الواثق ـ وهو أحد الملوك المستبدين أيضاً ـ يدخل عليه شيخ من المتكلمين , فيسلم فلا يرد عليه الواثق , إنما يقول : لا سلم الله عليك ! فإذا الرجل يجبهه :" بئس ما أدبك معلمك ! قال الله تعالى :"إذا حييتم بتحيةٍ فحُّيوا بأحسن منها أو ردُّوها" فلا حييتني بأحسن منها ولا رددتها "(12) .
ويجلس أبو يوسف للقضاء . فيختصم إليه رجل مع الهادي , الملك العباسي . في بستان؛ ويرى أبو يوسف أن الحق مع الرجل , ولكن للسلطان شهود . فيقول : " إن الخصم يطلب أن يحلف الهادي على أن شهوده صادقون ! فينكل الهادي عن اليمين ـ لم يعتقد فيها من مهانة له ـ ويرد البستان على صاحبه . وكذلك يحلف الرشيد في قضية رأي أن يحلفه فيها . وشهد عنده الفضل بن الربيع فرد شهادته , فعاتبه الخليفة قائلاً : لم رددت شهادته ؟ قال سمعته يقول أنا عبدك . فإن كان صادقاً فلا شهادة للعبد . وإن كان كاذباً إنه لكذلك"(13)
ولم تخب هذه الشعلة التي أضاءها الإسلام في الضمير حتى في أحلك عصور التاريخ , فقد تناثرت على مداه أمثلة لهذا التحرر الوجداني , والسمو الروحي على جميع القيم , وجميع القوى وجميع الملابسات . " كان احمد بن طولون في مصر يعظّم بكار بن قتيبة القاضي الحنفي فيجيء على مجلسه ؛ ولا يحس بكار بمقدمه إلا إذا جاء إلى جنبه . فلما طالبه بلعن الموفق ( ولى عهد الخليفة العباسي ) توقف وقال :ألا لعنة الله على الظالمين. وقيل لابن طولون :إنما قصدك بهذا القول . فطالبه ابن طولون برد الجوائز التي أجازه بها , فأخذها كما هي بخواتمها . وسجنه في دار اكتريت له , فكان يجلس في طاق ويحدث الناس بإذن التمسوه من ابن طولون  فلما عرضت لابن طولون علته التي مات بها وجاء إليه يستحله ؛ فقال للرسول : قل له أنا شيخ كبير , وأنت عليل , والملتقى قريب , والله الحاجز بيننا . ومات ابن طولون فكان بكار يقول : مات البائس "(14) .
هكذا مات البائس . لما كان يحسه في نفسه من تعالٍ عليه , ولما كان يراه فيه من بؤس ولو أوتي السلطان !
وفي أيام الدولة الأيوبية :"لما والى إسماعيل الإفرنج أيام الحروب الصليبية , وسلم لهم صيداء وغيرها من الحصون لينجدوه على الملك نجم الدين أيوب , أنكر عليه عز الدين بن عبد السلام هذه الفعلة , فغضب عليه وعزله واعتقله . ثم بعث إليه يعده ويمنيه , فقال له الرسول : "تعاد إليك مناصبك وزيادة , وما عليك إلا أن تنكسر للسلطان" فما كان جواب الشيخ إلا أن قال : " والله ما أرضاه أن يقبل يدي. يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ(15).
وفي أيام الظاهر بيبرس كان الشيخ محيي الدين النووي بدمشق , وكان كثير الوعظ للظاهر , يكتب إليه بما يراه إن كان بمصر , ويصدع بكلمة الحق أمامه إن كان الظاهر بدمشق .
وقد سجل السيوطي في حسن المحاضرة طائفة كبيرة من تلك المكاتبات , وأكثرها خاص بطلب ترك بعض الضرائب المفروضة لضيق الحال , وخشية المآل , فيقول في إحداها :"إن أهل الشام في هذه السنة في ضيق وضعف حال , بسبب قلة الأمطار وغلاء الأسعار , وقلة الغلات والنبات , وهلاك المواشي , وأنتم تعلمون أنه تجب الشفقة على الرعية ونصيحتهم (أي ولي الأمر) في مصلحته ومصلحتهم ؛ فإن الدين النصيحة ".
وقد رد السلطان هذه النصيحة رداً عنيفاً , واستنكر على العلماء موقفهم منه , وسكوتهم يوم كانت البلاد تحت سنابك الخيل في عهد التتار عندما استولوا على الشام ؛ فيرد الشيخ أيضاً رداً قوياً مؤكداً قوله ونصيحته , ومبيناً أنها الميثاق الذي أخذه الله على العلماء ليبينه , ويقول ـ رضي الله عنه ـ رداً عليه وعلى تهديده :"وأما ما ذُكر في الجواب من كوننا لم ننكر على الكفار كيف كانوا في البلاد , فكيف يقاس ملوك الإسلام وأهل الإيمان وأهل القرآن بطغاة الكفار ؟ وبأي شيء كنا نذكر طغاة الكفار , وهم لا يعتقدون شيئاً من ديننا ... وأما أنا فلا يضرني التهديد ولا يمنعني ذلك من نصيحة السلطان , فإني أعتقد أن هذا واجب علي وعلى غيري , وما ترتب على الواجب فهو خير وزيادة عند الله ... وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد , وقد أمرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نقول الحق حيثما كان , وألا نخاف في الله لومة لائم ؛ ونحن نحب السلطان في كل الأحوال , وما ينفعه في آخرته ودنياه ".
وقد توالت كتب الشيخ بهذه القوة الرفيقة , ولكن لم ينتصح الظاهر بنصيحته , واستمر في جبايته لأنها الحرب التي تحتاج إلى المال والعتاد ؛ وقد جمع السلطان فتاوي العلماء في تأييد عمله , فكتبوا بما أراد ما عدا الشيخ محيي فإن ذلك زاده استمساكاً برأيه وشدة فيه ؛ فأحضره الظاهر ليوقع على ما وقعوا ؛ فعندئذ أجابه جواباً عنيفاً , بعد تلك الكتب الرفيقة قال له : "أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير بندقدار , وليس لك مال , ثم منّ الله عليك وجعلك ملكاً , وسمعت أن عندك ألف مملوك , كل مملوك له حياصة(16) من ذهب , وعندك مائة جارية , لكل جارية حق من الحلي , فإن أنفقت ذلك كله , وبقيت مماليكك بالبنود الصوف بدلاً من الحوائص , وبقيت الجواري بثيابهن دون الحلي أفتيتك بأخذ المال من الرعية ".
فغضب الظاهر , وقال أخرج من بلدي (أي دمشق) فقال : السمع والطاعة . وخرج إلى نوى بالشام , فقال الفقهاء : إن هذا من كبار علماءنا وصلحائنا , وممن يقتدى به , فأعده إلى دمشق , فرسم برجوعه , فامتنع الشيخ , وقال : لا أدخلها والظاهر بها , فمات الظاهر بعد شهر(17).
وقد وعى التاريخ القريب نماذج من هذه الكرامة نذكر منها حادثين سمعتهما من أفواه الرواة ولا أعلم أنهما قد دونّا . والأول رواه لي المرحوم أحمد شفيق باشا المؤرخ المعروف عن عصر إسماعيل , والثاني يرويه الكثيرون لقرب عهده في أيام الخديو توفيق .
فأما الحادث الأول فكان عندما زار السلطان عبد العزيز مصر في أيام إسماعيل . وكان إسماعيل حفيا بالزيارة , لأنها كانت جزءاً من برنامجه للحصول على لقب خديو , مع عدة امتيازات في نظام الحكم بمصر . وكان من برنامج الزيارة أن يستقبل السلطان العلماء في السراي . ولما كانت للمقابلة السنية تقاليد , منها أن ينحني الداخل إلى الأرض , ويأخذ "تعظيماً تركياً" ثلاث مرات , ثم ما أدري ماذا تلك التقاليد العتيقة السخيفة المنافية لروح الإسلام ... فقد كان حتماً على رجال السراي أن يدربوا العلماء على طريقة المقابلة عدة أيام , كي لا يخطئوا في حضرة السلطان !
وعندما حان الموعد دخل السادة العلماء الأجلاء ؛ فنسوا دينهم واشتروا به دنياهم ؛ وانحنوا أمام مخلوق مثلهم تلك الانحناءات ؛ وأخذوا من الأرض السلام إلى رؤوسهم , ثم منها إلى أفواههم , ثم منها إلى صدورهم . وخرجوا موجهين ظهرهم إلى الباب ووجههم إلى السلطان , كما أمرهم رجال التشريفات .. ! إلا عالماً واحداً هو الشيخ حسن العدوي ؛ ذكر دينه ونسي دنياه ؛ واستحضر في قلبه لا عزة إلا لله . دخل مرفوع الرأس . كما ينبغي أن يدخل الرجال المؤمنون بالله , وواجه الخليفة بتحية الإسلام :" السلام عليكم يا أمير المؤمنين" وابتدره بالنصيحة التي ينبغي أن يتلقى بها العالم الحاكم . دعاه إلى تقوى الله , والخوف من عذاب الله , والعدل والرحمة بين رعاياه ... فلما انتهى سلم وخرج مرفوع الرأس كما يخرج الرجال المؤمنون بالله !
وأسقط في يد الخديو ورجال السراي , وظنوا أن الأمر كله قد انقلب عليهم , وأن السلطان لا بد غاضب , فضائعة تلك الجهود التي بذلوا , فذاهبة تلك الآمال التي نسجوا..!
ولكن كلمة الحق المؤمنة لا تذهب سدى ؛ فلا بد أن تصدع القلوب قوية حارة , كما انبعث من مكمنها قوية حارة . وهكذا كان . فقال السلطان : ليس عندكم إلا هذا العالم . وخلع عليه دون سواه !
وأما الحادث الثاني فوقع في"دار العلوم" بين الخديو توفيق باشا والشيخ حسن الطويل . كان الرجل يلبس جلباباً وجبة غير مشقوقة , وهو أستاذ في الدار . وفي يوم علم الناظر أن الخديوي سيزور مدرسته , فأخذ أهبته , وزين مدرسته , وكان من الأهبة أن يغير الشيخ حسن الطويل زيه , ويستحضر له قفطاناً وجبة مشقوقة , حتى يظهر في الزي الذي يليق به أن يقابل به الحكام ! وسمع الشيخ طلب الناظر فوافق بالإيماء . وفي الصباح حضر الشيخ كما هو ومعه منديل "محلاوي" به حزمة ملابس. ولما رآه الناظر هكذا سيء وجهه , فقال والغضب والألم يبدوان عليه : أين الجبة والقفطان يا سيدنا الشيخ ؟ فأشار إلى المنديل وقال : هنا ؟ وترك الناظر يفهم أنه سيرتديهما عند قدوم الزائر العظيم ! فاطمأن الناظر إلى هذا التصرف الغريب ! ومر الوقت واهتزت أركان الدار بقدوم الزائر المرتقب . وهنا كانت المفاجاة العظمى للناظر وللأساتذة وللجميع .. تقدم الشيخ من الخديوي وبيده الحزمة وهو يقول في بساطة وثقة واعتداد : قالوا لا بد أن تحضر بالجبة والقفطان , فحضرت بالجبة والقفطان , فإن كنت تريد الجبة والقفطان فها هما , وإن كنت تريد " حسن الطويل" فهذا هو حسن الطويل ! قال الخديو طبعاً إنه يريد حسن الطويل !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)من رواية ابن اسحاق عن أم سلمة في السيرة لابن هشام , الجزء الأول
(2) عن كتاب "الإسلام والنظام العالمي الجديد" تأليف مولاي محمد علي وترجمة الأستاذ أحمد جودة السحار
(3)مسلم والنسائي
(4)عن كتاب "خالد بن الوليد" للأستاذ صادق عرجون .
(5)لو كان هذا صحيحاً لأقام عليه الحد في خلافته.
(6)هذا كلام رجل يجهل بديهيات الشريعة الإسلامية . فإذا كان خالد عدا على امرئ مسلم فلابد من إقامة الحد عليه . ثم ما دام هذا المرء مسلماً فزوجه لا تسبى في حرب !!
(7)عن كتاب " أبو حنيفة بطل الحرية والتسامح في الإسلام" للأستاذ عبد الحليم الجندي.
(8) عن كتاب "الرسالة الخالدة" للأستاذ عبد الرحمن عزام
 (9)عن كتاب :"أبو حنيفة بطل الحرية والتسامح في الإسلام "للأستاذ عبد الحليم الجندي.
(10) المصدر السابق
(11) عن كتاب "أبو حنيفة" للأستاذ الجندي.
(12) عن كتاب:"المسند" الجزء الأول. نشر الأستاذ أحمد محمد شاكر.
(13)عن كتاب :"أبو حنيفة" للأستاذ الجندي
(14)المصدر السابق
(15)المصدر السابق
(16)الحياصة : الثياب الموشاة بالذهب في مضايقها.
(17)عن كتاب "بن تيمية" للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة .

من الواقع التاريخي في الإسلام(2)
العدالة الاجتماعية في الإسلام الشهيد سيد قطب

ليست هناك تعليقات: