الأربعاء، 27 مارس 2013

طرق الإنفاق


العدالة الاجتماعية في الإسلام
الشهيد سيد قطب
سياسة المال في الإسلام
طرق الإنفاق
تلك هي الحدود التي يضعها الإسلام لتنمية المال بالتعامل . أما إنفاقه فلا يدعه كذلك بلا ضوابط , فصاحب المال ليس حراً في غل يده فيه كما يشاء , أو في الإنفاق منه كما يشاء . ومع أن مثل هذا التصرف ذاتي , إلا أن الفرد ـ في الإسلام ـ ليس متروكاً لذاته يصنع بها ما يشاء , فله حريته ولكن داخل إطار من الحدود ؛ ثم أنه قلما يكون هناك تصرف شخصي لا علاقة له بالآخرين ـ وإن لم تكن علاقة مباشرة أو واضحة . فاليد المغلولة كاليد المسرفة كلتاهما لا يقبلها الإسلام , لما في كلتيهما من ضرر عائد على النفس وعلى الجماعة :" وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا "(الإسراء29).. "يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ "(الأعراف31).
فأما غل اليد فحرمان النفس من المتاع المشروع , والإسلام يكلف الفرد تمتيع ذاته في الحدود المشروعة . ويكره للناس أن يحرموا في غير محرم , لأن الحياة لا بد أن تستساغ , وأن تجمل , وأن تكون بهيجة في غير لهو ولا إسراف . والإسلام لا يوجب التزمت والزهد والحرمان من طيبات الحياة ؛ فهو يأمر بني آدم بأن يتزينوا الزينة اللائقة كما أمر في الآية الكريمة . ويقول في لهجة استنكارية بعد ذلك :" قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ "(الأعراف33) .
والإسلام يطلب الاستمتاع بمباهج الحياة المعقولة للناس جميعاً : كبيرهم وصغيرهم وغنيهم وفقيرهم . لذلك وجه الخطاب إلى "بني آدم" . فإذا دعا بعض الأحيان إلى الصبر والرضى فليست هذه دعوة للتزهد والحرمان . إنما هي دعوة لاحتفاظ النفس بطمأنينتها على الشدائد إلى أن تزول أو تُزال . أما بعد ذلك فكل فرد مطالب بأن يستمتع المتاع الحلال ؛ والجماعة مطالبة أن تهيئ هذا المتاع لأفرادها جميعاً , فلا تحرمهم مما يدعوهم الله أن يستمتعوا به في الحياة .
لذلك قرر للفقراء ـ وهم الذين يملكون ما دون نصاب الزكاة ـ نصيباً يعطونه من الزكاة للتوسعة عليهم في الرزق , لا لمجرد الكفاف . فهم يملكون الكفاف . ذلك أن الإسلام لا يدعو للكفاف وحده إنما يدعوا للمتاع بالحياة , والمتاع فوق الكفاف .
فإذا كان الإسلام يعطي الفقير من أموال الزكاة يوسع بها على نفسه ويستمتع بما هو فوق ضروراته , فأولى أن ينفق الواحد , وأن يتمتع بالحياة متاعاً معقولاً , وأن لا يحرم نفسه من طيباتها , وهي كثيرة لتغدو الحياة بهيجة جميلة ولتنطلق النفس إلى ما هو فوق الضرورة من التفكير العالي والإحساس الراقي , والتأمل في الكون والخلق , والنظر إلى الجمال والكمال . والرسول الكريم بقول : " إذا آتاك الله مالاً فلير أثر نعمه عليك وكرامته "(1) .فيعد الشظف والمتربة ـ مع القدرة ـ إنكاراً لنعمة الله , يكرهه الله .
هذا كله من ناحية , وثمة ناحية أخرى يلحظها الإسلام في حبس المال عن التداول والإنفاق .فحبسه هكذا تعطيل لوظيفة . الجماعة في حاجة إلى تداول أموالها العامة , لتنمي الحياة في شتى مظاهرها , وتضمن الإنتاج في أوسع ميادينه , وتهيئ للعاملين وسائل العمل , وللإنسانية طريق النشاط . وحبس الأموال يعطل هذا كله فهو حرام في نظر الإسلام , لما فيه من تعطيل للصالح الخاص والصالح العام .
أما الإسراف فهو الطرف الآخر , وهو مفسدة للفرد والجماعة كذلك . ونبادر أولاً فنقرر أن إنفاق المال في سبيل الله ولو أتي عليه كله ليس إسرافاً , لما أمر من حديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن جبل الذهب , وتمنيه أن لو كان له لما أبقى منه مقدار قيراطين , ولأنفقه كله في سبيل الله . إنما الإسراف هو الإسراف في الإنفاق على النفس , وهذا ما عناه الإسلام .
والإسراف بهذا المعنى هو الترف الذي يكرهه الإسلام كراهية شديدة ؛ ويبغض أن يكون المال دولة بين الأغنياء لئلا يؤدي تضخم الثروة لإنفاقها في سبيله ؛ ويعده مصدر شر لصاحبه وللجماعة التي يعيش فيها ؛ وبهذا يكون منكراً يجب على الجماعة أن تغيره و إلا عرضت نفسها إلى التهلكة بسببه .
والآيات القرآنية ,والأحاديث النبوية في كراهة الترف وتحريمه متواترة كثيرة بصفة بارزة , تشعر أنه من أكره الحرام إلى الله ورسوله والإسلام الذي يحض الناس على التمتع بطيبات الحياة , ويكره أن يحرموها على أنفسهم وهي لهم حلال , ويدعو إلى جعل الحياة بهيجة مقبولة لا قاتمة ولا منبوذة ... هذا الإسلام نفسه يكره السرف والترف وتلك الكراهية الشديدة العنيفة .
فالقرآن يصف المترفين أحيانا بسقوط الهمة وضعف القوة وهبوط الأريحية : "وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ" (86التوبة) .
وإذا عرفنا حرص الإسلام على الجهاد وحثه عليه وتعظيم من يتطوعون له , حتى ليقول الرسول الكريم : " من مات ولم يغز , ولم يحدث نفسه بغزو , مات على شعبة من شعب النفاق "(2) أدركنا في الجانب الآخر كم يحتقر أولي الطول هؤلاء لتخلفهم وقعودهم عن صفوف المجاهدين . ولا غرابة في هذا , فالمترف مترهل ضعيف الإرادة ناعم قليل الرجولة , لم يعتد الجهد فسقطت همته , وفترت أريحيته ؛ والجهد في الجهاد يعطل عليه متاعه الشهواني الرخيص , ويحرمه لذاته الحيوانية فترة من الوقت , وهو لا يعرف قيمة في الحياة سوى هذه القيم الداعرة الشائنة !
ثم يتحدث أحياناً عن المترفين في التاريخ , فإذا هم دائما يقفون في سبيل الهدى لأنفسهم ولأتباعهم المستضعفين ؛ وما دام هناك مترفون فهناك مستضعفون , يملقون خيلاءهم , ويحققون شهواتهم , ويفنون فيهم فناء الحشرات :"  وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ "(سبأ34).. "وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ "(المؤمنون34) .. "وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا "(الأحزاب68) . ولا غرابة في هذا فالمترفون حريصون على حياتهم الرخوة الشاذة المريضة , حريصون على شهواتهم ولذائذهم , حريصون على أن تكون من حولهم حاشية وبطانة خاضعة لنفوذهم ؛ والهدي والدين والإيمان يحرمهم الكثير مما يحرصون عليه ويحدد لهم سبل المتاع المباح ـ وهو بالقياس إليهم قليل ضئيل لا يرضى مرض نفوسهم وترهل شهواتهم ـ ويرفع قيم الناس جميعاً فلا يكون لهم من السلطان المطلق على المستضعفين , ما يجعلهم أدوات خاضعة وآلات منفذة ؛ ويحرمهم الخرافات والأوهام والأساطير التي يحيطون بها أنفسهم , ويستغلونها في المجتمعات الضالة الجاهلة المستسلمة .. لذلك هم أعداء كل هدى وكل عرفان , ذلك فضلا على ما يصنعه الترف  بالضمير , وما يحدثه المتاع الغليظ من جمود المشاعر :" وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا "(18الفرقان) . فالمتاع المترف الطويل الموروث عن الآباء ينسي الذكر , ويؤدي إلى الجدب والضحالة . والتعبير بأنهم " وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا" تعبير مصور عجيب عميق الدلالة , فالأرض البور هي الأرض المجدبة التي لا تنتج ولا تثمر , وكذلك قلوبهم ونفوسهم وحياتهم جدبة بائرة صلدة , لا تنبض فيها حياة .
والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسمي بيوت المترفين بيوت الشياطين , لما ينبع فيها من الفساد , ولما يخرج منها من الفتنة : " تكون إبل للشياطين , وبيوت للشياطين . فأما إبل الشيطان فقد رأيتها , يخرج أحدكم بنجيبات معه قد أسمنها , فلا يعلو بعيراً منها , ويمر بأخيه قد انقطع فلا يحمله , وأما بيوت الشياطين فلا أراها إلا هذه الأقفاص التي تستر الناس بالديباج "(3) وإذا كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رآها إبلا للشياطين , لا حاجة بأصحابها إلى ركوبها , بينما المنقطعون لا يجدون ما يركبون , فنحن نجدها سيارات فخمة تروح وتغدو للتافه الصغير من الأمور , وألوف لا يجدون أجرة الترام , ومئات لا يجدون حتى أرجلهم للمشي بها , فهي مقطوعة ذهبت بها الآفات ! أما البيوت التي رآها محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الأقفاص التي تستر الناس بالديباج , فنحن نراها ووسائل الترف فيها لم تخطر على قلب بشر في ذلك الزمان !
لا جرم إذن يكون الترف سبب الهلاك على مدى التاريخ . فالرف سبب للبطر :" وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا .." (القصص58).
لا جرم يكون الترف سبب العذاب في الآخرة بما يؤدي إليه من معصيات :" وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ "(الواقعة 48) !
ولكن الهلاك والعذاب لا يصيبان الفرد المترف وحده بل يصيبان الجماعة التي تسمح بوجود المترفين :" وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا(4) مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا "(16الإسراء) .. ذلك أن وجود المترفين في الجماعة , وسماح الجماعة بوجودهم , وسكوتها عليهم , وقعودها عن إزالة أسباب الترف , وتركها المترفين يفسدون ... كل ذلك أسباب تؤدي حتماً إلى الهلاك والتدمير بطبيعة وجودها . وهذا معنى الإرادة في الآية , أي تتبيع النتائج للمقدمات , وإيقاع المسببات إذا وجدت الأسباب , حسب السنة التي أرادها  الله للكون والحياة .
فالجماعة هي المسؤولة عن هذا المنكر الذي يقع فيها . فالترف لا بد أن يؤدي إلى المنكر بحكم وجوده في الجماعة ؛ وقد أبنا أن الطاقة الفائضة لا بد لها من متصرف . فهناك مال فائض . وهو طاقة . وهناك حيوية جسد فائضة كذلك . وهي طاقة . وهناك فضلة زمن فائضة بلا عمل ولا تفكير . وهي طاقة  . والفتية المترفون والفتيات المترفات , وهم يجدون الشباب  والفراغ والجدة , لا بد أن يفسقوا ؛ ولا بد أن يبحثوا عن مصارف أخرى لطاقة الجسد وطاقة المال وطاقة الوقت ؛ وغالباً ما تكون مصارف تافهة , تأخذ طابعها من الزمن والبيئة , ولكنها تتلقى عند حد التفاهة والميوعة والقذارة الحسية والمعنوية .
وفي الجانب الآخر المستغلون والمستربحون والمحتاجون , من تجار الرقيق , والمهرجين , والذيول , وحواشي المترفين , ينشرون الدعارة والترهل ويرخصون كل قيم الحياة الجادة , التي لا تروق للمترفين والمترفات .
ثم يسري الداء إلى سائر مرافق الحياة ... ثم تكون العاقبة التي لا بد منها وهي شيوع الفاحشة في الأمة , وانتشار الإباحية , وترهل الأجسام والعقول , وانحطاط المعنويات والروحيات .. عندئذ يحق أمر الله  فيدمر هذه الجماعة تدميراً !
ذلك رأي الإسلام في جريمة الترف . جريمة تبدأ فردية , فإذا سكتت عنها الجماعة , ولم تزل هذا المنكر باليد واللسان والقلب , آتت الجريمة ثمراتها , وأفرخ الوباء في جسم الجماعة, وعرضها للهلاك في النهاية , بحكم ترتب النتائج على المقدمات , والمسببات على الأسباب "..وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا "(الأحزاب62) .
ولكن ما هو حد الترف والحرمان , وما هو القصد بينهما والاعتدال ؟
إذا رجعنا إلى أول نشأة الإسلام , وجدنا بيئة محرومة يبدو فيها الشظف والفقر , ونجد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينهي عن لبس الحرير .." من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة"(5) . ويروي علي ـ كرم الله وجهه ـ أن الرسول نهاه عن القسَّي والمعصفر من الثياب ؛ كما نهى عن خاتم الذهب ... كل ذلك للرجال . وأما النساء فأُبيح لهن الحرير والذهب , وإن كان الرسول كره لابنته فاطمة أن تلبس الذهب ... فهذه خصوصية كان يأخذ بها النبي أهل بيته ولا يلزمها الناس .
ولكن نحسب أننا لا نحل حراماً حين نقول : إن الإسلام لا يدعو  إلى الشظف حين لا تدعو إليه ظروف البيئة وأحوال الجماعة . وحقيقة أن لبس الحرير والمعصفر من الثياب والمرقش كثيراً ما يزري بقيمة الرجال , ويدعوهم إلى الطراوة , وبخاصة في زمن الجهاد , ولكن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يطق أن يصل الشظف إلى حد المنظر الزري والإهمال للزي , فقد روى جابر قال : أتانا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ زائراً , فرأى رجلاً شعثاً قد تفرق شعره , فقال : " أما كان يجد هذا ما يسكن به رأسه ؟" . ورأى رجلاً عليه ثياب وسخة فقال :" أما كان يجد هذا ما يغسل به ثوبه ؟" . وروى أبو الأحوص الجشمي عن أبيه قال رآني النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعليّ أطمار فقال : هل لك من مال ؟ "قلت نعم ! :"من أي مال؟" قلت : من كل قد أتاني الله ,من الشاء والإبل , قال:" إذا آتاك الله مالاً فلير أثر نعمته وكرامته عليك "(6) . وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إن الله طيب يحب الطيب, نظيف يحب النظافة , كريم يحب الكرم , جواد يحب الجود فنظفوا أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود "(7) .
وقد مر بنا أمر الله لبني آدم : أن يأخذوا زينتهم عند المساجد , وألا يحرموا الطيبات التي أحلت لهم . فالذي نستخلصه من هذا أن مستوى المعيشة العام للجماعة هو الذي يحدد الترف والحرمان . حين فتح الله الأمصار على المسلمين وزادت الثروة العامة وارتفع مستوى المعيشة , وتغيرت أزيائهم , واستمتعوا بما لم يكونوا يستمتعون , فلم ينكر ذلك عليهم أحد إلا أن يتجاوزوا الوسط . والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : " كل ما شئت . والبس ما شئت ما خطئتك خصلتان اثنتان : سرف أو مخيلة "(8) .
ولكن نحب ـ مع ذلك ـ أن نقرر أن البساطة في الحياة هي طابع الإسلام الذي يحرص عليه ؛ وأن استعلاء النفس على المتاع هو السمة التي يريدها الإسلام لأهله ؛ فلا يصبحون عبيداً لهذا المتاع .
" تعس عبد الدرهم . تعس عبد الدينار . تعس عبد القطيفة . تعس وانتكس , وإذا شيك فلا انتقش " ...(9)  .
  ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)أبو داود والنسائي                              (6) أبو داود والنسائي
(2) مسلم وأبو داود والنسائي                     (7)رواه الترمذي بسند حسن              
(3) أبو داود                                        (8) البخاري
(4)أمرنا بمعنى أكثرنا                                (9)أخرجه البخاري
(5) البخاري



سياسة المال في الإسلام
فريضة الزكاة
العدالة الاجتماعية في الإسلام الشهيد سيد قطب 

ليست هناك تعليقات: