الثلاثاء، 12 مارس 2013

فريضة الزكاة


كتبهامصطفى الكومي ، في 16 سبتمبر 2010 الساعة: 14:06 م

العدالة الاجتماعية في الإسلام
سياسة المال في الإسلام
الشهيد سيد قطب
فريضة الزكاة
والآن نتحدث عن الزكاة , الركن الاجتماعي البارز من أركان الإسلام , فحديث الزكاة أدخل شيء في سياسة المال في الإسلام .
الزكاة حق المال , وهي عبادة من ناحية , وواجب اجتماعي من ناحية أخرى ؛ فإذا جرينا على نظرية الإسلام في العبادات والاجتماعيات , قلنا أنها واجب اجتماعي تعبدي ؛ لذلك سماها "زكاة" , والزكاة طهارة ونماء . فهي طهارة للضمير والذمة بأداء الحق المفروض . وهي طهارة للنفس والقلب من فطرة الشح وغريزة حب الذات , فالمال عزيز , والملك حبيب , فحين تجود النفس به للآخرين , إنما تطهر وترتفع وتشرق . وهي طهارة للمال بأداء حقه وصيرورته بعد ذلك حلالاً . ولأن في الزكاة معنى العبادة , بلغ من لطف حس الإسلام ألا يطلب إلى أهل الذمة من أهل الكتاب أداءها , واستبدل بها الجزية ليشتركوا في نفقات الدولة العامة , دون أن تفرض عليهم عبادة خاصة من عبادات الإسلام إلا أن يختاروها.
والزكاة حق الجماعة في عنق الفرد , لتكفل لطوائف منها كفايتها أحيانا , وشيئاً من المتاع بعد الكفاف أحياناً , وبذلك يحقق الإسلام جانباً من مبدئه العام : "..كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ .." .. ذلك أن الإسلام يكره للناس الفقر والحاجة ؛ ويحتم أن ينال كل فرد كفايته من جهده الخاص وموارده الخاصة حين يستطيع , ومن مال الجماعة حين يعجز لسبب من الأسباب .
ويكره الإسلام الفقر والحاجة للناس لأنه يريد أن يعفيهم من ضرورات الحياة المادية ليفرغوا لما هو أعظم ؛ ولما هو أليق بالإنسانية وبالكرامة التي خص الله بها بني آدم : "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا"(الإسراء70) .
لقد كرمهم فعلاً بالعقل والعاطفة , بالأشواق الروحية إلى ما هو أعلى من ضروريات الجسد فإذا لم تتوافر لهم من ضرورات الحياة ما يتيح لهم فسحة من الوقت والجهد لهذه الأشواق الروحية , ولهذه المجالات الفكرية , فقد سلبوا ذلك التكريم ؛ وارتكسوا إلى مرتبة الحيوان. لا بل إن الحيوان ليجد طعامه وشرابه غالباً وإن بعض الحيوان ليختال ويقفز ويمرح , وإن بعض الطير ليغرد ويسقسق فرحاً بالحياة بعد أن ينال كفايته من الطعام والشراب .
فما هو بإنسان وما هو بكريم على الله , ذلك الذي تشغله ضرورات الطعام والشراب عن التطلع إلى مثل ما يناله الطير والحيوان , فضلاً على ما يجب للإنسان الذي كرمه الله .  
فإذا قضى وقته وجهده , ثم لم ينل كفايته , فتلك هي الطامة التي تهبط به دركات عماً أراد به الله ؛ والتي تصم الجماعة التي يعيش فيها , بأنها جماعة هابطة لا تستحق تكريم الله , لأنها تخالف عن إرادة الله .
إن الإنسان خليفة الله في أرضه ؛ قد استخلفه عليها لينمي الحياة فيها , ويرقبها ؛ ثم لجعلها ناضرة بهيجة ؛ ثم ليستمتع بجمالها ونضرتها ؛ ثم ليشكر الله على أنعمه التي آتاه .
والإنسان لن يبلغ من هذا كله شيئاً ؛ إذا كانت حياته تنقضي في سبيل اللقمة ولو كانت كافية فكيف إذا قضى الحياة فلم يجد الكفاية ؟
ويكره الإسلام أن تكون الفوارق بين أفراد الأمة بحيث تعيش منها جماعة في مستوى الترف , وتعيش جماعة أخرى في مستوى الشظف , ثم أن تتجاوز الشظف إلى الحرمان والجوع والعري . فهذه أمة غير مسلمة , والرسول يقول : " أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعاً فقد برئت منهم ذمة الله "(1) .. أو يقول : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "(2) ..يكره الإسلام هذه الفوارق لما ورائها من أحقاد وأضغان تحطم أركان المجتمع ؛ ولما فيها من أثرة وجشع وقسوة تفسد النفس والضمير ؛ ولما فيها من اضطرار المحتاجين : إما إلى السرقة والغصب , وإما إلى الذل وبيع الشرف والكرامة … وكلها منحدرات يتجافى الإسلام بالجماعة عنها .
ويكره الإسلام أن يكون المال دولة بين الأغنياء في الأمة وألا تجد الكثرة ما تنفق .
لأن ذلك ينتهي في النهاية بتجميد الحياة والعمل والإنتاج في هذه الأمة . بينما وجود الأموال في أيدي أكبر عدد منها يجعل هذه الأموال تنفق في شراء ضروريات الحياة لهذا العدد الكبير ؛ فيكثر الإقبال على السلع , فينشأ من هذا كثرة الإنتاج , فترتب عليها العمالة الكاملة للأيدي العاملة .. وبذلك تدور عجلة الحياة والعمل والإنتاج والاستهلاك دورتها الطبيعية المثمرة …
لهذه المعاني جميعها شرع الزكاة ؛ وجعلها فريضة في المال , وحقاً لمستحقيها , لا تفضلاً من مخرجيها ؛ وحدد لها نصاباً في المال يجعل الواجدين جميعاً يشتركون في أدائها . ذلك أن أقصى حد للإعفاء منها عشرون مثقالاً ذهباً أي ما يعادل ثلاثين جنيهاً بعملتنا على أن تكون فائضة عن الحاجات الضرورية لمالكيها وعن الدين وحال عليها الحول . وذلك بديهي لأن الإنسان لا يطالب بالزكاة وهو مستحق للزكاة ! أما في الزرع والثمار فهي موسمية موقوتة بمواسم الحصاد , وهي في عروض التجارة تقوم بالذهب والفضة , وفي الحيوان بنسب معينة تعادل نسبتها في المال , وهي ريع العشر على وجه التقريب . وفي الركاز الخمس . على خلاف في أنواع الركاز أتكون لصاحب الأرض أم للجماعة ….
أما المستحقون لها فهم كما نص عليهم القرآن :
 الفقراء , وهم الذين يملكون أقل من النصاب , أو يملكون نصاباً مستغرقاً في الدين , وظاهر أن هؤلاء يملكون شيئاً , ولكنه شيء قليل , والإسلام يريد أن ينال الناس كفايتهم , وشيئاً فوق الكفاية يعينهم على المتاع بالدنيا على قدر الإمكان .
والمساكين . وهم الفقراء الذين لا يملكون شيئاً . وهم بطبيعة الحال أجدر بالعطاء من الفقراء . ولكني ألمح أن ذكر الفقراء قبلهم في الآية يرمي إلى أن وجود شيء قليل لا يكفي , فكأنهم كالمساكين , لأن هدف الإسلام ليس مجرد الكفاف الضروري . ولكن شيء فوق الكفاف كما قدمت .
 والعاملون عليها وهم جباتها , وهؤلاء ـ وإن كانوا ـ يعطون جزاء العمل , فهو راتب الوظيفة وذلك داخل في نظام الجهد والأجر , لا في باب الحاجة وسدها .
والمؤلفة قلوبهم . وهم الذين كانوا دخلوا في الإسلام حديثاً لتقوية قلوبهم , واجتذاب من عداهم . ولكن هذا المصرف قد أقفل بعد أن أعز الله الإسلام عقب حروب الردة في أيام أبي بكر ولم يعد الإسلام في حاجة إلى تأليف القلوب بالمال . ومع أن هؤلاء قد نصت عليهم آية قرآنية , فإن عمر لم يجد حرجا في التصرف .
وفي الرقاب . وهم الأرقاء المكاتبون , الذين يستردون حريتهم نظير قدر من المال متفق عليه مع مالكيهم تيسيراً لهم لينالوا الحرية .
والغارمين . وهم الذين استغرق الدين ثرواتهم , على ألا يكون هذا الدين في معصية فلا يكون الترف وما يشبه سبباً فيه . وإعطائهم قسطاً من الزكاة فيه سداد لديونهم , وتخليص رقابهم منها , وفيه إعانة لهم على الحياة الكريمة .
وفي سبيل الله . وهو مصرف عام تحدده الظروف , ومنه تجهيز المجاهدين , وعلاج المرضى , وتعليم العاجزين عن التعليم ,وسائر ما تحقق به مصلحة لجماعة المسلمين . والتصرف في هذا الباب يتسع لكل عمل اجتماعي في سائر البيئات والظروف .
وابن السبيل . وهو المنقطع عن ماله الذي لا يجد ما ينفق , كالمهاجرين من الحروب والغارات والاضطهاد , الذين خلفوا أموالهم ورائهم , ولا سبيل لهم إلى الأموال .
والإسلام لا يقرر لهذه الطوائف حقها في الزكاة إلا بعد أن تستنفذ هي وسائلها الخاصة في الإرتزاق ؛ فالإسلام حريص على الكرامة الإنسانية ومن هو حريص على أن يكون لكل فرد مورد رزق يملكه ولا يخضع فيه للجماعة !
لذلك حث على الاستغناء عن طريق العمل وجعل واجب الجماعة الأول أن تهيئ العمل لكل فرد فيها . فقد جاء سائل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ  يستجديه , فأعطاه درهما وأمره أن يشتري به حبلاً ليحتطب به فيعيش من عمل يده . وقال :" لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه "(3) .
فهذه الإعانة من الزكاة هي وقاية اجتماعية أخيرة , وضمانة للعاجز الذي يبذل طوقه ثم لا يجد , أو يجد دون حق الكفاية , أو يجد , مجرد الكفاف , ثم هي وسيلة لأن يكون المال دولة بين الجميع لتحقيق الدورة الكاملة السليمة للمال بين الإنتاج و الاستهلاك والعمل من جديد … وفي هذا يجمع الإسلام بين الحرص على أن يعمل كل فرد بما في طاقته , وألا يرتكن على الإعانة الاجتماعية فيتبطل ؛ والحرص على أن يعين المحتاج بما يسد خلته , ويرفع عنه ثقل الضرورة ووطأة الحاجة , وييسر له الحياة الكريمة ثم الحرص على ضمان الدورة الصحيحة لرأس مال الأمة كما أسلفنا .
إن الزكاة هي قاعدة المجتمع المتكامل المتضامن الذي لا يحتاج إلى ضمانات النظام الربوي في أي جانب من جوانب حياته .
وقد بهتت صورة "الزكاة" في حِسنا وحِس الأجيال التعيسة التي لم تشهد نظام الإسلام مطبقاً في عالم الواقع ؛ ولم تشهد هذا النظام يقوم على أساس التصور الإيماني والتربية الإيمانية والأخلاق الإيمانية , فيصوغ النفس البشرية صياغة خاصة , ثم يقيم لها النظام الذي تتنفس فيه تصوراتها الصحيحة وأخلاقها النظيفة وفضائلها العالية . ويجعل "الزكاة" قاعدة هذا النظام , في مقابل نظام الجاهلية الذي يقوم على القاعدة الربوية . ويجعل الحياة تنمو والاقتصاد يرتقي عن طريق الجهد الفردي , أو التعاون البريء من الربا !
وبهتت هذه الصورة في حس هذه الأجيال التعيسة المنكودة الحظ التي تشهد تلك الصورة الرفيعة من صور الإنسانية . إنما ولدت وعاشت في غمرة النظام المادي , القائم على الأساس الربوي . وشهدت الكزازة والشح , والتكالب والتطاحن , والفردية الأثرة التي تحكم ضمائر الناس , فتجعل المال لا ينتقل إلى من يحتاجون إليه إلا في الصورة الربوية الخسيسة ! وجعلت الناس يعيشون بلا ضمانات , ما لم يكن لهم رصيد من المال ؛ أو يكونوا قد اشتركوا بجزء من مالهم في مؤسسات التأمين الربوية ! وجعلت التجارة والصناعة لا تجد المال الذي تقوم به , ما لم تحصل عليه بالطريقة الربوية , فوقر في حس هذه الأجيال المنكودة الطالع أنه ليس هناك نظام إلا هذا النظام ؛ وأن الحياة لا تقوم إلا على الأساس . !
بهتت صورة الزكاة حتى أصبحت هذه الأجيال تحسبها إحساناً فردياً هزيلاً , لا ينهض على أساسه نظام عصري ! ولكن كم تكون ضخامة حصيلة الزكاة , وهي تتناول اثنين ونصف في المائة من أصل رؤوس الأموال الأهلية مع ربحها(4) ؟ ويؤديها الناس الذين يصنعهم الإسلام صناعة خاصة , ويربيهم تربية خاصة ,بالتوجيهات والتشريعات وبنظام الحياة الخاص الذي يرتفع تصوره على ضمائر الذين لم يعيشوا فيه !وتحصلها الدولة المسلمة , حقاً مفروضاً , لا إحساناً فردياً : وتكفل بها كل من تقصر به وسائله الخاصة من الجماعة المسلمة ؛ حيث يشعر كل فرد أن حياته وحياة أولاده مكفولة في كل حالة ؛ وحيث يقضي عن الغارم المدين دينه سواء كان ديناً تجارياً أو غير تجاري , من حصيلة الزكاة .
وليس المهم هو شكلية النظام . إنما المهم هو روحه . فالمجتمع الذي يربيه الإسلام بتوجيهاته وتشريعاته ونظامه , متناسق مع شكل النظام وإجراءاته , متكامل مع التشريعات والتوجيهات , ينبع التكافل من ضمائره ومن تنظيماته معاً متناسقة متكاملة . وهذه حقيقة قد لا يتصورها الذين نشأوا وعاشوا في ظل الأنظمة المادية الأخرى . ولكنها حقيقة نعرفها نحن ـ أهل الإسلام ـ ونتذوقها بذوقنا الإيماني . فإذا كانوا هم محرومين من هذا الذوق لسوء طالعهم ونكد حظهم ـ وحظ البشرية التي صارت إليهم مقاليدها وقيادتها ـ فليكن هذا نصيبهم ! وليحرموا من هذا الخير الذي يبشر الله به :"..الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ.."
(البقرة277)..ليُحرموا من الطمأنينة والرضى , فوق حرمانهم من الأجر والثواب . فإنما بجهالتهم وجاهليتهم وعنادهم يُحرمون !

الشهيد سيد قطب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)مسند أحمد شاكر(4880) (2)متفق عليه .   (3) الشيخان
(4) ترتفع هذه النسبة إلى 5% وإلى 10% وإلى 20% في الزروع و الكنوز
سياسة المال في الإسلام
العدالة الاجتماعية في الإسلام
الشهيد سيد قطب

ليست هناك تعليقات: