الأربعاء، 27 مارس 2013

سياسة المال في الإسلام


العدالة الاجتماعية في الإسلام
الشهيد سيد قطب
سياسة المال في الإسلام
لعل الحديث عن سياسة المال هو أدخل شيء في الحديث عن " العدالة الاجتماعية". ولعل الكثيرين من الفقراء استبطأوا موعده في هذا الكتاب , وهم يقرأون الفصول الأولى منه إلى هذا الموضع. ولكني كنت أتعمد هذا الإبطاء به تعمداً ؛ فالعدالة الاجتماعية في الإسلام شيء أكبر من سياسة المال ـ كما عرفنا ـ وكان من الواجب أن نكشف عن نظرة الإسلام الكاملة إلى هذه العدالة . وأن نستعرض طبيعتها وأسسها ووسائلها في محيطها الواسع , قبل أن نستعرضها في مجال المال وحده , كما تصنع المباديء المادية ,التي ترخص من قيم الحياة كلها عدا قيمة المال .
والإسلام يسير في "سياسة المال" على هدى نظريته العامة , وفكرته الشاملة ؛ يلاحظ أولا في هذه السياسة ـ سياسة المال ـ تحقيق معنى العبودية لله وحده , بأن يخضع تداول المال لشرع الله . وهذا الشرع يحقق مصلحة الفرد ويحقق مصلحة الجماعة , ويقف بين ذلك قواماً لا يضار الفرد ولا يضار الجماعة ؛ ولا يقف في وجه الفطرة , ولا يعوق سنن الحياة الأصيلة , وغاياتها العليا البعيدة .
وهو يتبع في تحقيق هذه السياسة وسيلتيه الأساسيتين : التشريع والتوجيه . فيبلغ بالتشريع الأهداف العملية الكفيلة بتكوين مجتمع صالح قابل للرقي والنماء , ويرمي بالتوجيه إلى التسامي على الضرورات , والتطلع إلى حياة أرفع , والرقي بالحياة إلى عالم المثل , الذي لا يملك الجميع أن يرتفعوا إليه في جميع الأحوال , ويدع الباب دائما مفتوحاً للرقي والكمال .
ونضرب هنا مثالاً واحداً بشأن المال , قبل أن نتحدث بالتفصيل عن "سياسة المال" .
لقد جعل الإسلام حق المال هو الزكاة , وهو ما يقاتل الإمام الناس إن امتنعوا عنه , وما يفرضه عليهم بحق التشريع , وبقدر معين معلوم ثم جعل للإمام الحق في أن يأخذ بعد الزكاة ما يمنع به الضرر , ويرفع به الحرج , ويصون به المصلحة لجماعة المسلمين ؛ وهو حق كحق الزكاة , عند الحاجة إليه , موكول إلى مصلحة الأمة وعدالة الإمام , وقواعد النظام الإسلامي العام .
هذا في حدود التشريع , أما التوجيه فقد حبب إلى الناس أن ينسلخوا من كل مالهم وينفقوه كله في سبيل الله فهذا أبو ذر الغفاري ـ رضي الله عنه ـ يروي عن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوماً نحو أُحد وأنا معه , فقال : " يا أبا ذر" فقلت : لبيك يا رسول الله . فقال : الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة , إلا من قال كذا وكذا ـ عن يمينه وشماله وقدامه وخلفه ـ وقليل ما هم " .ثم قال " يا أبا ذر" فقلت نعم يا رسول الله بأبي أنت وأمي . قال : " ما يسرني أن لي مثل جبل أحد , أنفقه في سبيل الله , أموت وأترك منه قيراطين . قلت أو قنطارين يا رسول الله . قال : " بل قيراطين " ثم قال : "يا أبا ذر, أنت تريد الأكثر وأنا أريد الأقل"(1).
*     *     *
ذلك هو التشريع, وهذا هو التوجيه . هما معاً قوام " سياسة" المال" كما أنهما قوام كل سياسة في الإسلام .
وبعد فلنأخذ في التفصيل والبيان.
الملكـية الفـردية
حق الملكية الفردية :
يقرر الإسلام حق الملكية الفردية للمال ـ بوسائل التملك المشروعة التي سيرد بيانها بعد قليل ـ ويجعلها هي قاعدة نظامه ـ ويرتب على هذا التقرير نتائجه الطبيعية في حفظ هذا الحق لصاحبه وصيانته له عن السرقة أو النهب أو السلب أو الاختلاس بأية طريقة من الطرق ؛ أو المصادرة بدون ضرورة عامة مع التعويض المجزي الذي لا غبن فيه ويضع الحدود الرادعة لكفالة هذا كله . فوق ما يضع من التوجيهات التهذيبية لكف النفوس عن التطلع إلى ما ليس لها وما هو داخل في ملك الآخرين , كما يرتب عليه نتائجه الأخرى , وهي حق التصرف في المال بالبيع والإجارة والرهن والتصرف والهبة والوصية ... إلى آخر حقوق التصرف الحلال وفي نطاق الحدود التي سنها للتصرفات . ولا شبهة في تقرير هذا الحق الواضح الصريح في الإسلام ولا شبهة كذلك في أنه قاعدة الحياة الإسلامية وقاعدة الاقتصاد الإسلامي . القاعدة التي لا تخالف إلا لضرورة . وبقدر هذه الضرورة :".. لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ .. "(32 النساء) .." وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ .."( النساء 2) .." وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ .. "( الكهف 82) .. وقد جاء في الحديث : من قتل دون ماله فهو شهيد "(2).
وعقوبة السرقة الصارمة دليل على احترام هذا الحق وصيانته , ومنع الاعتداء عليه :" وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ .." (المائدة 38) .
أما الغصب فهو محرم ملعون من يجترحه . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :" من ظلم من الأرض شيئاً طوقه من سبع أرضين "(2) .. " من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقى الله عز وجل وهو عليه غضبان"(3) .
وكحق الملكية حق الإرث والتوريث : "لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ .. "( النساء 7) .." يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ .. "( النساء 11) .." يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ .."( النساء 176)" .
وتقرير حق الملكية الفردية يحقق العدالة بين الجهد والجزاء , فوق مسايرته للفطرة , واتفاقه مع الميول الأصيلة في النفس البشرية , تلك الميول التي يحسب الإسلام حسابها في إقامة نظام المجتمع ؛ وفي الوقت ذاته يتفق مع مصلحة الجماعة بإغراء الفرد على بذل أقصى جهد في طوقه لتنمية الحياة . فوق ما يحقق من العزة والكرامة والاستقلال ونمو الشخصية للأفراد بحيث يصلحون أن يكونوا أمناء على هذا الدين ؛ يقفون في وجه المنكر , ويحاسبون الحاكم وينصحونه . دون خوف من انقطاع أرزاقهم لو كانت بين يديه !
فالفرد مخلوق بفطرة حب الخير لذاته : "وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ "( العاديات 8)  مفطور على حب الحيازة والضن بما يملك :" قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ.." (الإسراء 100) ..".. وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ .. "( النساء 128) .. مفطور كذلك على حب ذريته والرغبة في أن يورثهم نتاج كده , والمال الذي يدخره لهم إن هو إلا عمل مختزن في صورة مال , يؤثر به الرجل ذريته على متاعه الخاص في حياته . ولا ضير من مجاراة هذه الميول الفطرية , ليبذل الفرد أقصى طاقته , وهو نشيط مقبل على العمل والإنتاج , لأنه يلبي أشواقه وحاجات نفسه ولا يحس أنه مسخر للعمل . ولا يبذل جهده كارهاً ولا يائساً . والجماعة هي التي تفيد بعد ذلك من جهده هذا وكده ؛ والإسلام يضع القواعد التي تتيح للجماعة هذه الفائدة , وتضمن تخفيف الأذى من إطلاق حرية الفرد , وتقرير حق الملكية الفردية له .
والعدالة تقتضي أن يلبي النظام أشواق الفرد ويرضي ميوله ـ في الحدود التي لا تضر الجماعة ـ جزاء ما بذل هذا الفرد من طاقته وجهده , وعرق جبينه , وكدح فكره , وكد أعصابه . والعدل أكبر قواعد الإسلام . والعدالة الاجتماعية لا تكون دائما على حساب الفرد.فهي للفرد , كما هي للجماعة . متى شئنا أن نسلك طريقا وسطاً , ونحقق العدالة في جميع صورها وأشكالها في الحياة.
وفضلاً على هذا كله فإن أحداً لا يجزم بأن تحطيم الحوافز الطبيعية المعقولة ينتج خيراً للفرد أو للجماعة ؛ وسوء الظن بالفطرة هو الذي يعين طريقاً واحدً للعدالة , بتحطيم هذه الحوافز والوقوف في وجهها ؛ كما أن النظريات الخيالية التي لا تعترف بالواقع , هي التي تفترض أن هذه الحوافز يمكن القضاء عليها من الخارج بالنظم والتشريعات في جيل أو عدة أجيال . والإسلام لا يسوء ظنه بالفطرة إلى هذا الحد ؛ كما أنه لا يعمد إلى إقامة بنيانه على الخيال , متجاهلاً كل الواقع العميق !
كذلك يمكن القول بأن احترام الإنسانية يقتضي أن ننظر إليها نظرة أعمق وأكثر إدراكا لعمق طبيعتها , و أصالة فطرتها , وتأصل جذورها , فنكون أكثر تعقلاً , وأشد تحرجاً , وأدق تفكيراً في محاولة توجيهها , وإقامة نظمها , فدلائل ملايين السنين التي عاشتها البشرية لا يجوز أن تذهب سدى , لنفترض نظريات عن ميولها وفطرتها وسلوكها , ثم نطبق هذه النظريات غصبا وقسراً !
أما تقرير حق الإرث والتوريث فقد سبق الحديث عن علته في فصل " التكافل الاجتماعي" وهو يتمشى مع الفطرة التي تحدثنا عنها هنا , كما يتمشى مع العدالة في مستواها الأعلى , ومع مصلحة الجماعة في حدود النظرة الشاملة , التي لا تضع الحواجز بين الجيل والأجيال من بني الإنسان ! وذلك فوق أن وسيلة من وسائل تفتيت الثروة كما سيجيء.
طبيعة الملكية الفردية :
ولكن الإسلام لا يدع حق الملكية الفردية مطلقا بلا قيود ولا حدود ـ كالنظام الرأسمالي ـ فهو يقرره , ويقرر بجواره مباديء أخرى , تجعله أداة لتحقيق مصلحة الجماعة بنفس الدرجة التي تتحقق بها مصلحة الفرد المالك سواء ! وهو يشرعه ويشرع له الحدود والقيود . التي ترسم لصاحبه طرقاً معينة في تنميته وإنفاقه وتداوله .. ومصلحة الجماعة كامنة من وراء هذا كله , ومصلحة الفرد ذاته كذلك , في حدود الأهداف الخلقية التي يقيم الإسلام عيها الحياة .
وأول مبدأ يقرره الإسلام ـ بجوار حق الملكية الفردية ـ أن الفرد أشبه شيء بالوكيل في هذا المال عن الجماعة ؛ وأن حيازته له إنما هي وظيفة أكثر منها امتلاكاً ؛ وأن المال في عمومه إنما هو أصلاً حق للجماعة , والجماعة مستخلفة فيه عن الله , الذي لا مالك لشيء سواه . والملكية الفردية تنشأ من بذل الفرد جهداً خاصاً لحيازة شيء معين من هذه الملكية العامة التي استخلف الله جنس الإنسان .
جاء في القرآن الكريم :" آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ .. "( الحديد 7) .. ولا يحتاج نص الآية إلى تأويل ليؤدي المعنى الذي فهمناه منه , وهو أن المال الذي في أيدي البشر مال الله ؛ وهم فيه خلفاء لا أُصلاء . وفي آية أخرى في صدد المكاتبين من الأرقاء : " وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ .."( النور 33) .. فما يعطونهم هذا المال من ملكهم , ولكنهم يعطونهم من مال الله وهم فيه وسطاء .
وهناك ما هو أصرح من هذا في حقيقة ملكية المال للفردية , بوصفها ملكية التصرف والانتفاع ـ وهذا هو الواقع ؛ فالملكية العينية لا قيمة لها بدون حق التصرف والانتفاع ـ فشرط بقاء هذه الوظيفة هو الصلاحية للتصرف ؛ فإذا سفه التصرف كان للولي أو للجماعة استرداد حق التصرف : " وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ .. "(5 النساء)  .. فحق التصرف مرهون بالرشد وإحسان القيام بالوظيفة ؛ فإذا لم يحققهما المالك وقفت النتائج الطبيعية للملك وهي حقوق التصرف . ويؤيد هذا المبدأ أن الإمام وريث من لا وريث له . فهو مال الجماعة وظف فيه فرد , فلما انقطع خلفه عاد المال إلى مصدره .
ولست أقرر هذا الأصل لأقرر شيوعية المال ـ فحق الملكية الفردية حق أساسي واضح في النظام الإسلامي ـ ولكني أقرره لما فيه من معنى دقيق مفيد في تكوين فكرة حقيقية عن طبيعة الملكية الفردية , وتقيدها بهذا الأصل العام في نظرة الإسلام إلى المال , واختلافها كلية عن النظرية الرأسمالية في الملكية الفردية . وبلغة أوضح :
 أقرر أن شعور الفرد بأنه مجرد موظف في هذا المال الذي في يده والذي هو في أصله ملك للجماعة , ويجعله يتقبل الفروض التي يضعها النظام على عاتقه , والقيود التي يد بها من تصرفاته ؛ كما أن شعور الجماعة بحقها الأصيل في هذا المال , يجعلها أجرأ في فرض الفروض , وسن الحدود ـ دون تجاوز لقواعد النظام الإسلامي التي أشرنا إليها .. وينتهي بهذا إلى قواعد تحقق العدالة الاجتماعية كاملة في الانتفاع بهذا المال .
ومبدأ آخر يقرره الإسلام في ملكية المال , هو كراهيته لأن يحبس في أيدي فئة خاصة من الناس , يتداول بينهم , ولا يجده الآخرون : "..كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ .."(7 الحشر ) . ومعنى هذا أن يؤخذ بعض المال من الأغنياء فيملك بالفعل للفقراء . ولهذا النص قصة تفيدنا هنا في فهم هذا المبدأ الإسلامي العام .
لقد هاجر المهاجرون مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مكة إلى المدينة ؛ فأما الفقراء . فما كان لهم مال ينقلونه معهم ؛ وأما الأغنياء فقد تركوا أموالهم خلفهم , فهم فقراء كالفقراء . ولقد سخت نفوس الأنصار وارتفعت على الشح الفطري الكامن في النفس البشرية ؛ فآخوا المهاجرين في كل شيء يملكون , حتى في أخص خصوصياتهم , طيبة نفوسهم بذلك , سمحة قلوبهم :".. يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ .."( الحشر 9).. وبذلك كانوا نموذجاً رائعاً لما تصنعه العقيدة بالنفوس ؛ وضربوا مثلاً جميلاً للتخلص من ضغط الضرورات والانطلاق إلى أرفع الأشواق .
ولكن الفجوة ظلت واسعة بين أثرياء المدينة , وفقراء المهاجرين ؛ والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرى سماحة الأنصار وسخاءهم , فلا يجد أن به حاجة لأن يطلب إليهم أكثر مما بذلوا , ولا أن يكلفهم رد بعض من أموالهم على المهاجرين , وهم يؤاخونهم في كل ما يملكون .. إلى أن كانت موقعة " بني النضير" التي لم تقع فيها حرب , بل سلمت للنبي صلحاً , فكان فيؤها كله لله وللرسول بخلاف ما يقع فيه الحرب , فتكون أربعة الأخماس للمقاتلين , والخمس وحده لله والرسول . عندئذ رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يعيد لجماعة المسلين شيئاً من التوازن في ملكية المال ؛ فمنح فيء بني النضير للمهاجرين خاصة , عدا رجلين فقيرين من الأنصار , تنطبق عليهما الحكمة التي أوحت إليه بتخصيص هذا الفيء للمهاجرين .
وفي هذه الواقعة يقول القرآن :" مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" (الحشر 8) .
ودلالة هذا التصرف من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذا التعليل لذلك التصرف في القرآن , غير خافية ولا حاجة إلى بيان , فهي تقرر مبدأ إسلامياً صريحاً , هو كراهة انحباس الثروة في أيد قليلة في الجماعة ؛ وضرورة تعديل الأوضاع التي تقع فيها هذه الظاهرة بتمليك الفقراء قسطاً من المال . ليكون هناك نوع من التوازن , " كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ" . ذلك أن تضخم المال في جانب وانحساره في الجانب الآخر , مثار مفسدة عظيمة فوق ما يثيره من أحقاد وأضغان .. فحيثما وجدت ثروة فائضة , كانت كالطاقة الحيوية الفائضة في الجسد , لا بد لها من تصريف ؛ وليس من المضمون دائما أن يكون هذا التصريف نظيفاً مأموناً , فلابد أن تأخذ طريقها أحياناً في صورة ترف مفسد للنفس مهلك للجسد , وفي صورة شهوات تقضي , تجد متنفسها في الجانب الآخر المحتاج إلى المال , يصل إليه عن طريق بيع العرض والاتجار فيه , ومن طريق الملق والكذب وفناء الشخصية ؛ لإرضاء شهوات الذين يملكون المال , وتمليق غرورهم وخيلائهم , والمضطر يركب الصعب ؛ وصاحب المال المتضخم لا يعنيه إلا أن يجد متصرفاً للفائض من حيويته , والفائض من ثروته وليست الدعارة وسائر ما يتصل بها من خمر وميسر وتجارة رقيق وقوادة وسقوط مروءة , وضياع شرف .. سوى أعراض لتضخم الثروة في جانب وانحسارها عن الجانب الآخر , وعدم التوازن في المجتمع نتيجة هذه التفاوت .
ذلك عدا أحقاد النفوس  وتغير القلوب على ذوي الثراء الفاحش من المحرومين الذين لا يجدون ما ينفقون ؛ فهم إما أن يحقدوا ؛ وإما أن تتهاوى نفوسهم وتتهافت , وتتضاءل قيمهم الذاتية في نظر أنفسهم ؛ فتهون عليهم كرامتهم أمام سطوة المال , ومظاهر الثراء ؛ ويصبحوا قطعاً آدمية حقيرة صغيرة , لا هم لها إلا إرضاء أصحاب الثراء الفاحش والجاه .
.. وهذا ما وقع في النظام الرأسمالي ..
والإسلام على كثرة ما يشيد بالقيم المعنوية , لا يغفل أثر القيم الاقتصادية ؛ ولا يكلف الناس فوق طاقتهم البشرية , مهما تسامى بهم عن الضرورات الأرضية . لذلك كره أن يكون المال دولة بين الأغنياء فحسب وجعل هذا أصلاً من أصول نظريته في سياسة المال . وأوجب رد بعض هذا المال للفقراء ؛ ليكون لهم مورد رزق مملوك لهم , يضمن لهم الكرامة والذاتية , ويجعلهم قادرين على القيام بأمانة هذا الدين في التغيير على المنكر من الحكام والمحكومين سواء .
على أن هناك نوعا من الأموال التي لا يجوز احتجازها للأفراد , عدد الرسول منها ثلاثة : الماء والكلأ والنار: " الناس شركاء في ثلاث : في الماء والكلأ والنار"(4), بوصفها موارد ومرافق عامة ضرورية لحياة الجماعة في البيئة العربية , فالانتفاع بها للجماعة كلها على وجه الشيوع والمشاركة العامة . والضروريات لحياة الجماعة تختلف في بيئة عن بيئة , وفي عصر عن عصر , والقياس ـ وهو أحد أصول التشريع في الإسلام ـ ينفسح لسواها عند التطبيق مما هو في حكمها ـ على ألا يؤثر ذلك في القواعد الأساسية للنظام الإسلامي ؛ ولا يُجرَّد الأفراد جميعاً من ملكياتهم الخاصة ليصبحوا أجراء عند الدولة , فإن الدولة عندئذ تملك استرقاقهم واستذلال رقابهم بأشد مما يملك الأفراد الأثرياء , لأنها تضم قوة المال إلى قوة السلطان !
وهناك جزء من المال هو حق لبعض المحتاجين في الجماعة , وهو المفروض في صورة زكاة : "وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ "( المعارج 25) .. وهو يخرج من ملكية دافعي الزكاة إلى ملكية مستحقي الزكاة :" إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ ... "الخ (التوبة 60) وهو حق تأخذه الجماعة ثم ترده مرة أخرى إلى الأفراد المحددين . فتكون وظيفة الجماعة حينئذ هي نقل الملكية الفردية من جهة إلى جهة , ومن يد إلى يد أخرى ..
فخلاصة الحقيقة عن طبيعة الملكية الفردية في الإسلام : أن الأصل هو المال للجماعة في عمومها ؛ وأن الملكية الفردية وظيفة ذات شروط وقيود ؛ وأن بعض المال شائع لا حق لأحد في امتلاكه , ينتفع به الجميع على وجه المشاركة , وأن جزءاً منه كذلك حق يرد إلى الجماعة لترده على فئات معينة فيها , هي في حاجة إليه , لصلاح حالها وحال الجماعة معها .
وسائل التملك الفردي :  
ويرتب الإسلام على نظريته هذه لطبيعة الملكية نتائجها المنطقية , فيضع الشروط للتملك , بحيث لا يخرج عن مصلحة الجماعة , ومصلحة الفرد الداخلة في مصلحة الجماعة لا تنفصل عنها أبداً.
فهو يقرر أولا أن الملكية لا تكون إلا بسلطان من الشارع . " فالشارع في الحقيقة هو الذي أعطى الإنسان الملك بترتيبه على السبب الشرعي , ولذا جاء في بعض التعريفات : "إن الملك حكم شرعي مقدر في العين أو المنفعة , يقتضي تمكين من يضاف إليه من انتفاعه بالشيء وأخذ العوض عنه ".
"وهذا المعنى , وهو الملكية لا تثبت إلا بإثبات الشارع وتقريره , أمر متفق عليه بين فقهاء الإسلام , لأن الحقوق كلها , ومنها حق الملكية لا تثبت إلا بإثبات الشرع لها , وتقريره لأسبابها , فالحق ليس ناشئاً عن طبائع الأشياء , ولكنه ناشيء عن إذن الشارع , وجعله السبب منتجاً لمسببه شرعاً"(5).
ولهذا الحكم قيمته في توضيح نظرية الإسلام في حق الملكية , فهي تمليك من الشارع , لفرد في الجماعة , شيئا خاصاً , لم يكن ليحق له ملكه لولا هذا التمليك , لأن الأصل أن المال مال الله مستخلف فيه بنو الإنسان , وكل إذن بتخصيصه لابد أن يصدر من الشارع حقيقة أو حكماً .
والعمل هو الوسيلة الوحيدة لنيل حق التملك في الإسلام . والعمل بكل أنواعه وألوانه . وفي هذا من العدالة بين الجهد والجزاء ما فيه . ولبيان ذلك نقول : إن وسائل التملك ابتداء للمال التي يعترف بها الإسلام هي :
أولاً : الصيد . وهو الوسيلة البدائية الأولى في حياة البشرية ؛ وإن كانت ما تزال وسيلة  للحصول على نوع من المال في الأوساط التي ارتفعت وتحضرت , فصيد السمك واللآلئ والمرجان والإسفنج وما إليها موارد ضخمة من موارد الدول والأفراد . وصيد الطير والحيوان هواية وتجارة ...
ثانياً : إحياء الموات من الأرض التي لا مالك لها , بأي وسيلة من وسائل الإحياء . ولابد من أن يقوم الفرد بإحيائها في ظرف ثلاث سنوات من وضع يده عليها , و إلا سقط حق ملكيته لها , لأن الغرض هو إحياء الموات لتحقيق المصلحة العامة في الاستفادة به , وثلاث سنوات محك كاف لقدرة واضع اليد على الإحياء فإن لم تتبين هذه القدرة عادت الأرض الموات التي لم يكن لها مالك للجماعة , ولا يحتجزها فرد منها : " عادي الأرض لله ورسوله , ثم لكم من بعد , فمن أحيا أرضاً ميتة فهي له ؛ وليس لمحتجز حق بعد ثلاث سنين "(6).
والقانون الإسلامي هنا أحكم من القانون الوضعي المستمد من القانون الفرنسي . ففي هذا القانون يكفي " وضع اليد" مدة خمس عشرة سنة , لتصبح الأرض ملكاً لواضع اليد , سواء أحياها أم تركها مواتاً في هذه المدة وفيما بعدها كذلك . فالحكمة هنا منتفية في تقرير حق الملكية , ونظرية " الأمر الواقع" هي وحدها تتحكم , وفرق بين النظرة الإسلامية ونظرة القانون الوضعي كبير!
ثالثاً : استخراج ما في باطن الأرض من المعادن (الركاز) , وهذا العمل يجعل أربعة أخماس ما يستخرج من معدن ملكاً لمن استخرجه , والخمس زكاة , إذ كان هذا الركاز مباحاً يحصل عليه الفرد بجهده وكده . وهنا لا بد من كلمة تقال : فقد كان ما يستخرج من الركاز إلى الوقت الذي شرع فيه هذا الحكم هو من المعادن القليلة الاستعمال , كالذهب والفضة , وهذه ليست من ضروريات الجماعة كلها كالبترول والفحم والحديد , فهل يلحق البترول والفحم والحديد وما في حكمها بالضروريات المشاعة كالماء والكلأ والنار , أم بالركاز الذي كان معروفاً في أوائل عهد الإسلام ؟ نحن نميل إلى رأي المالكية في اعتبار هذه الأنواع ملكاً عاماً , لا تنتقل ملكيته إلى مالك الأرض التي وجد فيها , لأن تملكه للأرض لا يعني تملك ما فيها , إذ ليس لمثلها تملك الأرض وتطلب في العادة .
رابعاً : تصنيع المادة الخامة , لتفي بحاجة حيوية , وتحقق منفعة لم تكن تحققها وهي خامة . أو تحسين وظيفتها بحيث تؤدي منفعة أكبر .. وقيمة العمل ـ بأنواعه ـ واضحة في هذه العملية .
خامساً : التجارة , وتتضمن مراحل متعددة قد يقوم بها كلها فرد واحد أو أفراد متعددون . ولكن الغاية التي تتحقق في النهاية هي نقل الأشياء الخامة أو المصنعة من يد إلى يد مما يزيد الانتفاع بالخامة أو السلعة .
سادساً : العمل بأجر للآخرين . والإسلام يحترم هذا العمل ويعظمه ؛ ويدعوا إلى توفية أجره معجلاً كاملاً غير منقوص .فالقرآن يغري بالعمل , ويجعله معرضاً للأنظار, محلاً للنظر والحكم : " وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ .. "(105 التوبة) .. وفي ذلك إغراء بالتجويد والإتقان , كما أن فيه تعظيماً للعمل يجعله موضع النظر والترقب والتأمل . وفي موضع آخر يحض على السعي والاضطراب في الأرض من أجله :" فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ .. " (الملك 15) .
والرسول الكريم تتوارد أحاديثه تترى عن قداسة العمل : " إن الله يحب العبد المؤمن المحترف "(7) . " ما أكل أحدكم طعاماً قط خيراً من عمل يده"(8).
وعلى أساس هذه النظرة للعمل , يحترم الإسلام حق العامل في الأجر . فهو يدعوا أولاً إلى الوفاء به , وينذر من يجور عليه من أصحاب العمل بحرب من الله وخصومة . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " قال الله عز وجل : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة : رجل أعطى بي ثم غدر , ورجل باع حراً فأكل ثمنه , ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره "(9). والجمع بين هذه المعاصي الثلاث , وتوحيد الجزاء عليها , ذو دلالة خاصة , فالمعصية الأولى هي خيانة وغدر لذمة الله , والثانية هي جريمة إهدار لإنسانية حر وأكل ثمنه . والثالثة هي أكل عرق الأجير , وهي كأكل ثمن الحر غدر بالإنسانية , وكخيانة العهد بعد الحلف بالله غدر بذمة الخالق . وكل منها يستحق الحرب من الله والخصومة , لشناعتها ووضوح معنى الغدر فيها .
وهو يدعو ثانياً إلى التعجيل بأداء هذا الأجر , فلا يكفي أداؤه كاملاً , بل لابد من أدائه عاجلاً . بقول الرسول الكريم : "أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه "(10).
والإسلام يلحظ في هذا حاجة نفسية وحاجة واقعية في حياة العامل . فأما الحاجة النفسية فهي إشعاره بالعناية والاهتمام , فالسرعة في أداء الأجر تحمل هذا المعنى , فيشعر بأن جهده مقدر وبأن مكانه في المجتمع محسوب . وأما الحاجة الواقعية فلأن العامل غالباً ما يكون محتاجاً لأجره أولاً بأول , يسد به ضرورياته هو وأهله وعياله ؛ وتأخير أدائه يؤذيه ؛ ويحرمه ثمرة جهده وعرقه في أنسب أوقاتها عنده ؛ ويقلل من نشاطه ورغبته في العمل . والإسلام حريص على أن يعمل كل من يستطيع , بأقصى ما يستطيع , متمتعاً بالرضى النفسي والاكتفاء المادي .
ولقد طلب الإسلام إلى العامل في مقابل هذه العناية بحقه أن يقوم هو من جانبه بتجويد العمل وإتقانه . فلكل حق مقابل من الواجب في الإسلام . وذلك طبيعي من ناحية التعادل بين الجهد والجزاء ؛ وطبيعي كذلك من الناحية الخلقية التي يحرص الإسلام على أن تكون أساساً للحياة . فالغش والإهمال في العمل دليل فساد الذمة ونومة  الضمير , واللجاج فيهما واعتياد عليهما من شأنه أن يدع تلك الذمة خراباً , هذا الضمير خواء فوق ما يصيب مصالح الجماعة كلها من فساد واضطراب .
ولا ندخل هنا في تفصيلات نسبة أجر العامل . ولا القاعدة التي تقوم عليها . وهل هي الساعات التي تنفق في إنتاج السلعة . أم " الوقت الاجتماعي" كما تقول الماركسية ! فهذه بحوث تفصيلية موضعها الكلام عن " الاقتصاد الإسلامي" في بحوث متخصصة .
سابعاً : الغزو , وينشأ عنه ملكية السلب وهو كل ما مع القتيل المشرك الذي يقتله مسلم :"من قتل قتيلا له عليه بينة فسلبه له"(11) . كما تنشأ عنه ملكية الغنيمة ؛ وأربعة أخماسها للمحاربين , وخمسها لله والرسول : "وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ .." (الأنفال 41) .
ثامناً : إقطاع السلطان بعض الأرض التي لا مالك لها , مما آل إلى بيت مال المسلمين, من المشركين الذين لا ورثة لهم , فالإمام وليهم ؛ أو من الأرض الموات لا مالك لها كذلك . وقد أقطع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبا بكر وعمر أرضاً , كما أقطع الخلفاء من بعده , مكافأة على جهد بارز وخدمة للإسلام , ولكن في حدود ضيقة , ومن الأرض التي لا مالك لها والأرض الموات . فلما جاء بنو أمية نهبوا الناس وأقطعوا الأرض لذويهم , فكانوا ملوكاً ظلمة و ولا خلفاء راشدين كما سيجيء .
تاسعاً : الحاجة إلى المال للحياة , فالإسلام شرع صرف أموال الزكاة في وجوه معينة :" إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ .. " (60 التوبة). فكون الإنسان واحداً من هؤلاء يجعله صاحب حق في ملكية نصيب من أموال الزكاة . وبعضهم لا يعمل شيئاً إلا كونه محتاجاً ! فالحاجة هنا بديل اضطراري من العمل الذي يكرمه الإسلام , ويجعله السبب الأول والأخير لنيل الامتلاك .
عاشراً : شتى صور "العمل" التي تتجدد , وتتمثل في بذل جهد عقلي أو عضلي ... تلك هي الأسباب التي اعترف بها الإسلام سبباً للتملك ابتداء , فأما ما عداها فهو ينكره , ولا يعترف به , فالسلب والنهب والغصب والسرقة ووضع اليد لا تسبب ملكاً وكذلك المقامرة فهي حرام :".. إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (المائدة 90)... والمال الذي يأتي عن طريق المحرم محرم , لأن القمار ليس عملاً , وإنما هو ابتزاز , فوق ما يقع من العداوة والبغضاء بين المتقامرين مما يتنافى مع خطة الإسلام الأولى في بث روح المودة والتعاون والإخاء :" إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ .. "(المائدة 91).
وحكمة تلك الأسباب واضحة في اعتمادها كلها على بذل الجهد ؛ فالجهد له جزاء , وهو من مقومات الحياة , وفيه تحقيق لعمارة الأرض , وإفادة المجتمع , وتهذيب النفس , وتطهير الضمير وتصحيح البنية , فليس كالعمل مهذب للروح , مقو للجسد , حافظ لكيان الإنسان كله من عوامل الترهل والكسل والخمول .
وما دام العمل ـ بشتى صورة ـ هو سبب التملك , فتقرير حق الملكية الفردية في الحدود التي بينا لا يضار به أحد , بل يصبح مجالاً لحث الفرد على بذل الجهد , ليرضى رغبته في الإستحواذ , ما دام يعمل في الحدود المشروعة فلا يضار أحداً .فإذا حاد عن هذه الحدود فالطريق إلى العدل هو رده إليها , لا وقفه عن النشاط , وتسويته بالقاعدين والخاملين وضعاف الاستعداد , ولا كفه عن التملك أصلاً بحجة أخذ الطريق على سوء الاستغلال . فسوء الاستغلال له علاجه ويمكن التدخل لكفه بقدر الضرورة .
وتمشيا مع نظرية الإسلام في ملكية المال ابتداء , فإنه يتدخل في طريقة نقل هذه الملكية فلا يدع الحرية فيها مطلقة ؛ ويبدو هذا في نظام الإرث والوصية والبيع وسائر العقود , أما الهبة والهدية فهما وحدهما المعفيان من كل قيد , المتروكة فيهما الحرية لصاحب المال أن يهب من ماله أو يهدي وهو حي كيف شاء ؛ لأن لهما قيداً من داخل النفس , هو أن صاحب المال لا يهب عادة ولا يهدي إلا بعض ماله , فلا ضرر على وارث , كما يقع في الوصية فإذا أسرف كان سيئ التصرف , وتعرض للحجر عليه , أي سلب حق التصرف في ملكيته .
فأما حين ترتفع يده عن المال فينتقل إلى من بعده من الورثة أو الموصى إليهم , فإنما ينتقل حسب نظام موضوع له حكمته وله مبرراته : " فلا وصية لوارث "(12) . ولا وصية في غير الثلث ,وهو الحد الأقصى . وقد شرعت الوصية ـ كما قلنا ـ لتلافي بعض الحالات التي يحرم فيها الإرث أقرباء توجب صلاتهم أن يكون لهم نصيب , ولكن درجتهم تجعل غيرهم من الورثة يحجبونهم عن الميراث , كما أنها بهذا الاعتبار وجه من وجوه البر والصدقة . وينتقل المال بالإرث حسب النظام المبين في آيتي الميراث . ( وقد سبق نصها في فصل التكافل الاجتماعي) .
والمبدأ العام في الأنصبة : أن للذكر مثل حظ الأنثيين ـ وقد كشفنا عن حكمة هذا التقسيم من قبل ـ وان للوريث العاصب مقدم على ذي الرحم , وإن كانت هناك حالات يخرج فيها ذو الرحم بنصيب أوفى . وذلك جزاء وفاق ترتيب التبعات في مقابل الحقوق . فالوريث العاصب مكلف تجاه المورث بتبعات أكبر . فالولد مثلاً يرث الكل بعد نصيب الجد والجدة , لأنه هو المكلف أولاً أن ينفق على الوالد لو احتاج في حياته . والأخ الشقيق يحجب غير الشقيق , لأنه هو الذي تجب عليه النفقة شرعاً عندما يعجز شقيقه عن الكسب . وهكذا تتوزع المغارم والمغانم أو الواجبات والحقوق وفي هذا النظام توزيعا عادلاً .
ولقد تحدثنا عن حكمة مبدأ الوراثة في فصل التكافل الاجتماعي بما فيه الكفاية , وبينا اتساقه مع مبادئ الإسلام الأساسية في هذا التكافل , وفي النظرة إلى العلاقات بين الأقرباء وبين الجيل والأجيال , ومراعاته كذلك للفطرة والميول وحاجات الفرد والجماعة على السواء .
فهنا نتحدث عن حكمة نظام الإرث في أحوال الجماعة .
فقلد رأينا أن الإسلام يكره تكدس الثروات , وانحصارها في أيد قليلة . ونظام الإرث الإسلامي أداة لتفتيت الثروات المتضخمة على توالي الأجيال . فالملكية الواحدة تنتقل إلى العديد من الذرية والأقارب بمجرد وفاة المالك , فتستحيل إلى ثروات متوسطة أو صغيرة ؛ وقلما تبقى كتلتها موحدة مع النظام إلا في حالات نادرة لا يقاس عليها , كأن يموت المالك وليس له إلا ولد يرث التركة كلها , لأنه ليس له أب ولا أم ولا زوجة ولا بنت !
أما الأحوال الغالبة فالثروة تتوزع على عدة أفراد .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)الشيخان والترمذي والنسائي
(2)الشيخان واللفظ للبخاري
(3)حديث رقم 3946مسند الإمام أحمد نشر الأستاذ أحمد شاكر
(4)ذكره صاحب مصابيح السنة الحسان .
(5)" الملكية ونظرية العقد في الشريعة الإسلامية" للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة
(6)رواه أبو يوسف في كتاب الخراج عن ليث عن طاوس
(7)من حديث ذكره القرطبي في التفسير
(8)البخاري
(9)البخاري
(10) ذكره صاحب مصابيح السنة في الصحاح
(11) الشيخان والترمذي والنسائي
       (12) أبو داود والترمذي

سياسة المال في الإسلام
طرق تنمية الملكية
العدالة الاجتماعية في الإسلام الشهيد سيد قطب

ليست هناك تعليقات: