الأربعاء، 27 مارس 2013

طبيعة العدالة الاجتماعية في الإسلام


العدالة الاجتماعية في الإسلام
الشهيد سيد قطب
طبيعة العدالة الاجتماعية في الإسلام
لن ندرك طبيعة العدالة الاجتماعية في الإسلام , حتى ندرك مجملاً للتصور الإسلامي عن الألوهية والكون والحياة والإنسان . فليست العدالة الاجتماعية إلا فرعا من ذلك الأصل الكبير الذي ترجع إليه كل تعاليم الإسلام .
إن الإسلام وهو يتولى تنظيم الحياة الإنسانية جميعاً , ولم يعالج نواحيها المختلفة جزافاً ولم يتناولها أجزاء وتفاريق . وذلك أن له تصوراً كلياً متكاملاً عن الألوهية والكون و الحياة والإنسان ؛ ويرد إليه كافة الفروع والتفصيلات ويربط إليه نظرياته جميعاً وتشريعاته وحدوده , وعباداته ومعاملاته ؛ فيصدر فيها كلها عن هذا التصور الشامل المتكامل , ولا يرتجل الرأي لكل حالة ؛ ولا يعالج كل مشكلة وحدها في عزلة عن سائر المشكلات .
ومعرفة هذا التصور الكلي للإسلام تيسر للباحث فيه فهم أصوله وقواعده ؛ وتسهل عليه أن يرُد الجزئيات إلى الكليات ؛ وأن يتتبع في لذة وعمق خطوطه واتجاهاته , ويلحظ أنها متشابكة متكاملة , وأنها كل لا يتجزأ , وأنها لا تعمل عملاً مثمراً للحياة إلا وهي متكاملة الأجزاء والاتجاهات.
وطريق الباحث في الإسلام أن يتبين أولاً تصوره الشامل عن الألوهية والكون والحياة والإنسان , قبل أن يبحث عن رأيه في الحكم أو رأيه في المال , أو رأيه في علاقات الأمم والأفراد ... فإنما هذه فروع تصدر من التصور الكلي , ولا تفهم بدونه فهما صحيحاً عميقاً.
والتصور الإسلامي الصحيح لا يُلتمس عند ابن سينا و ابن رشد أو الفارابي وأمثالهم ممن يطلق عليهم وصف " فلاسفة الإسلام " ؛ ففلسفة هؤلاء إنما هي ظلال للفلسفة الإغريقية غريبة في روحها عن روح الإسلام . وللإسلام تصوره الأصيل الكامل , يلتمس في أصوله الصحيحة ؛ القرآن والحديث , وفي سيرة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسنته العملية . وهذه الأصول هي حسبُ أي باحث متعمق ليدرك تصور الإسلام الكلي الذي يصدر عنه في كل تعاليمه وتشريعاته ومعاملاته .
وقد تناول الإسلام طبيعة العلاقة بين الخالق والخلق , وطبيعة العلاقة بين الكون والحياة والإنسان , وطبيعة العلاقة بين الإنسان ونفسه , وبين الفرد والجماعة , وبين الفرد والدولة وبين الجماعات الإنسانية كافة , وبين الجيل والأجيال . ورد ذلك كله إلى تصور كلي جامع , ملحوظ الخطوط في سائر الفروع والتفصيلات ..
والبحث المفصل في هذا التصور ليس مجاله هذا الكتاب وهو موضوع بحث مفصل بعنوان " خصائص التصور الإسلامي ومقوماته " (1) .ولكنني سأشير فقط إلى رؤوس موضوعات عامة تمهيداً للحديث في موضوع العدالة الاجتماعية في الإسلام .
*    *     *
لقد ظلت الإنسانية أدهاراً طويلة لا تستقيم على تصور شامل عن الخالق والخلق وعن الكون والحياة والإنسان .
وكانت كلما جاءها رسول من عند الله بصورة منه , قبلتها منها قلة , وأعرضت عنها كثرة . ثم عادت بجملتها فارتدت عنه إلى تصورات جاهلية منحرفة ومشوهة ... حتى جاء الإسلام بأكمل تصور وأشمل شريعة مقترنين , وأقام عليها نظاما واقعيا للحياة يتمثل فيه التصور والشريعة في صورة عملية .
فأما العلاقة بين الخالق والخلق ( الكون والحياة والإنسان ) فهي الإرادة المباشرة التي تصدر عنها المخلوقات جميعا : " إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ "(2) فلا واسطة بين الخلق والخالق من قوة أو مادة . فمن إرادته المطلقة تصدر الموجودات صدوراً مباشراً ؛ وبإرادته المطلقة تحفظ وتنظم وتسير : " .. يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ .. "(3) .. " ..وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ.. " (4).. " لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ"(5).. "تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "(6) .
وهذا الوجود الصادر عن الإرادة المطلقة , وحدة متكاملة , وكل جزء فيها ملحوظ فيه تناسقه مع سائر الأجزاء ؛ ولكل موجود فيه حكمة تتعلق بهذا التناسق الكامل الملحوظ ؛ " .. وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا "(7).. " إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ "(8) .. " الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ "(9).. " وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا .."(10).. " اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ "(11).. وهكذا وهكذا يبدو أن لكل موجود حكمة تتناسق مع غاية الوجود , وأن الإرادة التي يصدر عنها الوجود أولاً , ويحفظ  بها وينتظم ثانياً , تلاحظ في كل موجود تناسقه ونفعه الكلي للوجود . ولأن الوجود وحدة متكاملة الأجزاء , متناسقة الخِلقة والنظام والاتجاه , بحكم صدوره المباشر عن الإرادة الواحدة المطلقة الكاملة , كان مهيأً وصالحاً ومساعداً لوجود الحياة بصفة عامة , ولوجود الإنسان ـ أرقى نماذج الحياة ـ بصفة خاصة ؛ فليس في الكون عدواً للحياة ولا عدواً للإنسان ؛ وليست الطبيعة ـ بتعبير الجاهلية الحاضرة ـ خصماً للإنسان يصارعه ويغالبه , وإنما هي من خلق الله , وهي صديق لا تختلف اتجاهاته عن اتجاهات الحياة والإنسان , وليست وظيفة الأحياء أن يصارعوا الطبيعة , وهم في أحضانها نشأوا , وهي وهم من ذلك الوجود الواحد الصادر عن الإرادة الواحدة . والإنسان بالذات إنما يعيش في جو صديق وبين أصدقاء من الموجودات : فالله حين خلق الأرض "وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا .."(12).. "وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ .."(13) .. " وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ "(14).. " هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ .. " (15).." هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا" (16).. والسماء بكواكبها جزء من الكون متكامل مع سائر أجزائه , وكل ما فيها وما في الأرض صديق ومعاون ومتناسق مع سائر أفراده : " وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا "(17).. "أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا "(18)
وهكذا تقرر العقيدة الإسلامية أن الله رب الإنسان قد خلق هذه القوى كلها لتكون له صديقاً مساعداً متعاوناً . أم سبيله إلى كسب هذه الصداقة فهو أن يتأمل هذه القوى و يتعرف إليها ويتعاون معها . أما سبيله إلى كسب هذه الصداقة فهو أن يتأمل هذه القوى ويتعرف إليها ويتعاون معها . وإذا كانت هذه القوى تؤذيه أحياناً , فإنما تؤذيه لأنه لم يتدبرها , ولم يعرف الناموس الذي يسيرها . والخالق ـ مع هذا ـ لا يدع الأحياء والناس لذلك الكون الصديق بلا رعاية مباشرة , وعناية متصلة ؛ فإرادته المباشرة متصلة بالكون كله , ومتصلة بكل فرد من موجوداته في الوقت نفسه : " إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ "(19).." وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا.. "(20).. " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ "(21).. " وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ " (22).. " .. وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ .."(23)...الخ
  لأن الوجود الموحد صادر عن إرداة واحدة ؛ ولأن الناس جزء من الكون كتعاون كتناسق مع سائر أجزائه ؛ ولأن أفراد الإنسان خلايا متعاونة متناسقة مع الكون .. لم يكن بد إذن أن تكون متعاونة متناسقة فيما بينها . لذلك كان تصور الإسلام أن الإنسانية وحدة , تفترق أجزائها لتجتمع ؛ وتختلف لتتسق ؛ وتذهب شتى المذاهب للتعاون في النهاية بعضها مع بعض , كي تصبح صالحة لتتعاون مع الوجود الموحد : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ٌ " (24).
ونظام الحياة الإنسانية لا يستقيم حتى يتم هذا التعاون والتناسق وفق منهج الله وشرعه . وتحقيقه واجب لصالح الإنسانية كلها , وحتى ليباح استخدام القوة لإرجاع من يشذ عن هذا النهج إليه : "إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ "(25) .." وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ "(26) .." وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ "(27) .
فالأصل هو التعاون والتعارف والتناسق في حدود منهج الله وشرعه ؛ ومن شذ على هذا الأصل , فليرد إليه بكل طريق ؛ لأن سنة الله في الكون أولى بالإتباع من أهواء الأفراد والجماعات ؛ والتكافل بين الجميع يتفق مع غاية الكون الواحد , وغاية خالقه الواحد سبحانه .
فإذا نحن وصلنا إلى الإنسان الجنس , والإنسان الفرد , فهو وحدة متكاملة , وقواه المختلفة الظاهر الموحدة الاتجاه في الحقيقة , وشانه في ذلك شأن الكون كله ذي القوة المتعددة المظاهر .
ولقد ظلت الإنسانية أدهاراً طويلة لا تهتدي إلى فكرة شاملة عن القوى الكونية والإنسانية . وظلت تفرق بين القوى الروحية والقوى المادية , تنكر إحداهما لتثبت الأخرى , أو تعترف بوجودهما في حالة تعارض وخصام؛ وتصوغ تعاليمها على أساس أن هناك تعارضا أساسياً بين هذه القوى وتلك ؛ وأن رجحان إحداهما مرهون بخفة الأخرى ؛ وأنه لا مفر من رجحان كفة وخفة كفة , لأن التعارض في نظرها أساسي في فطرة الكون والناس . والمسيحية ـ كما صاغتها الكنيسة والمجامع المقدسة ـ من أظهر المثال على فكرة هذا التعارض في الإنسان ؛ وهي متفقة إلى حد ما في هذه الفكرة الهندوكية , ثم مع البوذية ـ على اختلاف بينهما فيها ـ فخلاص الروح مرهون بكبت الجسد أو بتعذيبه , أو بإفنائه , أو على الأقل بإهماله والكف عن لذائذه .
وهذا الأصل الكبير في المسيحية المحرفة , وفي الديانات التي تشبهها , وتترتب عليه تفريعات كثيرة في النظر إلى الحياة ومتاعها , وإلى سلوك الفرد وسلوك الجماعة حيالها , وفي النظر إلى الإنسان وما يضطرب في كيانه من قوى وطاقات .
وقد ظلت المعركة قائمة بين هذه القوى وتلك ؛ وظل الإنسان ممزقاً في هذه المعركة ,حيران لا يهتدي إلى قرار .. حتى جاء الإسلام , فإذا هو يعرض صورة كاملة متناسقة , لا عوج فيها ولا اضطراب , ولا تعارض فيها ولا خصام . جاء ليوحد القوى والطاقات جميعاً , ويمزج الأشواق والنزعات والميول , وينسق بين اتجاهاتها جميعاً , ويعترف بها وحدة متكاملة في الكون والحياة والإنسان . جاء ليجمع بين الأرض والسماء في نظام الكون ؛ والدنيا والآخرة في نظام الدين ؛ والروح والجسد في نظام الإنسان ؛ والعبادة والعمل في نظام الحياة .. ويسلكها جميعاً في طريق موحد . هو الطريق إلى الله ! ويخضعها كلها لسلطان واحد : هو سلطان الله ! .
فالكون وحدة , مركبة من الظاهر المعلوم والمغيب المجهول , والحياة وحدة مركبة من طاقات مادية وطاقات روحية لا تنفصل أبداً إلا وقع الاختلال بينها والاضطراب , والإنسان وحدة مركبة من الأشواق المتطلعة إلى السماء والنزعات اللاصقة بالأرض ؛ ولا انفصام بين هذه وتلك في طبيعة الإنسان , لأنه لا انفصام بين السماء والأرض أو بين المعلوم والمجهول في طبيعة هذا الدين .
ومن وراء هذا جميعه قوة الأزل والأبد . تلك التي لا أول لها يعرف , ولا آخر لها يوصف , تسيطر في النهاية على الكون والحياة والناس .. إنها قوة الله ..
والفرد الفاني يملك أن يتصل بهذه القوة الأزلية الأبدية , وهي توجهه في الحياة , وهو يستمدها في الشدائد . يملك أن يتصل بها وهو في المحراب يصلي ويتطلع إلى السماء , كما يملك أن يتصل بها وهو في الأرض يعمل مشغولاً بمعاشه ومحياه .
والفرد يملك أن يعمل للآخرة , وهو يصوم فيمنع عن الجسد كل لذائذه ؛ وهو يفطر فيستمتع بكل طيبات الحياة . ما دام يعمل هذا أو ذاك متوجهاً بقلبه إلى الله .
والحياة الدنيا بما فيها من صلاة وعمل وبما فيها من متاع وحرمان , وهي وحدها الطريق إلى الآخرة بما فيها من جنة ونار , ومن عقاب ورضوان .
إنها الوحدة بين أجزاء الكون وقواه , والوحدة بين كل طاقات الحياة ؛ والوحدة بين الإنسان نفسه , وبين واقعه ورؤاه !
إنها الوحدة التي تعقد السلام الدائم بين الكون والحياة , وبين الحياة والأحياء , وبين الجماعة والفرد , وبين أشواق الفرد ونزعاته . وفي النهاية بين الدنيا والدين , وبين الأرض والسماء.
وهي لا تعقد هذا السلام على حساب الجسد ولا على حساب الروح , بل تطلق لكل منهما نشاطه , لتوحد هذا النشاط , وتتجه به إلى الخير والصلاح والنماء.
ولا تعقده على حساب الفرد أو على حساب الجماعة , أو لحساب طائفة على طائفة , أو لحساب جيل على جيل , فلكل حقوقه ولكل واجباته , على سنة العدل والمساواة .
والفرد والجماعة والطائفة والأمة والجيل والأجيال كلها يحكمها قانون واحد , ذو هدف واحد : أن ينطلق نشاط الفرد وان ينطلق نشاط الجماعة ـ غير متعارضين ـ وان يعمل الجيل وتعمل الأجيال لبناء الحياة وإنمائها , والتوجه بها إلى خالق الحياة .
*    *    *
الإسلام دين الوحدة بين القوى الكونية جميعاً , فلا جرم هو دين التوحيد : توحيد الإله, وتوحيد الأديان جميعا في دين الله . وتوحيد الرسل في التبشير لهذا الدين الواحد منذ فجر الحياة (28) : " إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ "(29).
والإسلام دين الوحدة بين العبادة والمعاملة , والعقيدة والشريعة , والروحيات والماديات, والقيم الاقتصادية والقيم المعنوية , والدنيا والآخرة , والأرض والسماء !
وعن تلك الوحدة الكبرى تصدر تشريعاته وفرائضه , وتوجيهاته وحدوده , وقواعده في سياسة الحكم وسياسة المال , وفي توزيع المغانم والمغارم , وفي الحقوق والواجبات . وفي ذلك الأصل الكبير تنطوي سائر الأجزاء والتفصيلات .
وحين ندرك هذا الشمول في طبيعة النظرة الإسلامية للإلوهية والكون والحياة والإنسان , ندرك معها الخطوط الأساسية للعدالة الاجتماعية في الإسلام .
فهي قبل كل شيء عدالة إنسانية شاملة لكل جوانب الحياة الإنسانية ومقوماتها , وليست مجرد عدالة اقتصادية محدودة . وهي إذن تتناول جميع مظاهر الحياة وجوانب النشاط فيها , وكما تتناول الشعور والسلوك , والضمائر والوجدانات . والقيم التي تتناولها هذه العدالة ليست القيم الاقتصادية وحدها , وليست القيم المادية على وجه العموم . إنما هي هذه ممتزجة بها القيم المعنوية والروحية جميعاً.
وحينما تنظر المسيحية المحرفة للإنسان من خلال أشواقه الروحية وحدها , وتحاول أن تكبت نزعاته لتطلق أشواقه . وحينما تنظر الشيوعية إلى الإنسان من خلال حاجاته المادية وحدها ؛ وتنظر إلى الإنسانية , بل إلى الكون كله , من خلال المادة بمفردها ... ينظر الإسلام إلى الإنسان على انه وحدة لا تنفصل أشواقه الروحية مع نزعاته الحسية , ولا تنفك حاجاته المعنوية عن حاجاته المادية ؛ وينظر إلى الكون والحياة هذه النظرة الشاملة التي لا تعدد فيها ولا انفصام .. وهذا هو مفرق الطريق بين الشيوعية والمسيحية والإسلام ! مفرق الطريق الناشئ من أن الإسلام من صنعة الله الخالصة , والمسيحية دخل فيها من تحريفات البشر , والشيوعية من أوهام الإنسان الخالصة !
ثم إن الحياة في نظر الإسلام تراحم وتواد وتعاون و تكافل محدد الأسس مقرر النظم , بين المسلمين على وجه خاص , وبين جميع أفراد الإنسانية على وجه عام . وهي كذلك في نظر المسيحية , ولكنها لا تقوم على تشريع واضح مرسوم ولا على واقع محدد معلوم . بينما هي في نظر الشيوعية تنازع وصراع بين الطبقات , ينتهي إلى انتصار طبقة على طبقة , فيتم الحلم الشيوعي الكبير ! ومن هنا يبدو أن المسيحية رؤيا في عالم المثال المجرد يلوح بها للبشر في ملكوت السماء ؛ وأن الإسلام هو حلم الإنسانية الخالد , ومجسماً في حقيقة تعيش على الأرض ؛ وأن الشيوعية هي حقد البشرية العارض في جيل من أجيال الناس !
*    *    *
على هذين الخطين الكبيرين : الوحدة المطلقة المتعادلة المتناسقة , والتكافل العام بين الأفراد والجماعات , يسير الإسلام في تحقيق العدالة الإجتماعية , مراعياً العناصر الأساسية في فطرة الإنسانية , غير متجاهل كذلك للطاقة البشرية .
يقول القرآن الكريم عن الإنسان : " وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ "(30).. حب الخير لذاته ولما يتصل بذاته . ويقول في وصف الإنسان بالبخل فطرة وطبعاً : " وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ "(31).. فهو حاضر أبداً . ووردت في صورة فنية معجبة لهذه الفطرة البشرية العجيبة : "قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا"(32).. على حين يقرر أن رحمة الله وسعت كل شيء . فيبرز بهذه السعة وبذلك الإمساك مدى الشح في فطرة الإنسان , ولو ترك بلا تهذيب أو توجيه !
وعندما يضع الإسلام نظمه وتشريعاته , وعظاته وتوجيهاته , ولا يغفل ذلك الحب الفطري للذات , ولا ينسى ذلك الشح الفطري العميق ؛ ولكنه يعالج الأثرة , ويعالج الشح , بالتوجيه بالتشريع . فلا يكلف الإنسان إلا وسعه , ولا يغفل في الوقت ذاته حاجات الجماعة ومصالحها وغايات الحياة العليا في الفرد والجماعة على توالي العصور والأجيال .
وإذا كان من الظلم الاجتماعي الذي يتنافى مع العدالة أن تطغى مطامح الفرد ومطامعه على الجماعة , فإنه من الظلم كذلك أن تطغى الجماعة على فطرة الفرد وطاقته . أنه من الظلم لا لهذا الفرد وحده , بل للجماعة ذاتها فتحطيم نشاط الفرد بتحطيم ميوله ونوازعه لا يقف أثره السيئ عند حرمان هذا الفرد ما هو حق له , بل يتجاوزه إلى حرمان الجماعة أن تنتفع بكل طاقته . ومتى كفل النظام للجماعة حقها في جهد الفرد وطاقته ؛ ووضع لحرية الفرد ونوازعه وأطماعه الحدود الكابحة ؛ فلا ينبغي أن يغفل حق الفرد في انطلاق نشاطه , في الحدود التي تضار بها الجماعة , ولا يضار بها الفرد ذاته ؛ ولا تصطدم بأهداف الحياة العليا . فالحياة تعاون وتكافل في نظر الإسلام , لا حرب وتنازع وخصام ! كما أنها إطلاق للطاقات الفردية والعامة ؛ وليست كبتاً حرماناً وسجناً . وكل ما ليس حراماً فهو مباح ؛ والمرء يثاب على نشاط حيوي في حدود منهج الله وشرعه يراعي فيه وجه الله وحده , ويحقق به الغايات العليا للحياة كما ارتضاها الله .
وانفساح المجال في نظرة الإسلام للحياة , وتجاوزه القيم الاقتصادية البحته إلى سائر القيم التي تقوم الحياة عليها ... يجعله أقدر على إيجاد توازن وتعادل في المجتمع . وعلى تحقيق العدالة في الدائرة الإنسانية كلها ؛ ويعفيه من التفسير الضيق للعدالة كما تفهمها الشيوعية . فالعدالة في نظر الشيوعية مساواة في الجور تمنع التفاوت الاقتصادي ـ وإن كانت حين اصطدمت بالتطبيق العملي لم تستطع تنفيذ هذه المساواة الآلية التحكمية ـ والعدالة في نظر الإسلام مساواة إنسانية ينظر فيها إلى تعادل القيم ؛ بما فيها القيمة الاقتصادية البحتة . وهي على وجه الدقة تكافؤ في الفرص , وترك المواهب بعد ذلك تعمل في الحدود التي لا تتعارض مع الأهداف العليا للحياة .
ولأن القيم في نظر الإسلام كثيرة متمازجة كانت العدالة في مجموعها أيسر ؛ لذلك لم يضطر إلى تحتيم المساواة الاقتصادية بمعناها الحرفي الضيق , الذي يصطدم بالفطرة , ويتعارض مع طبيعة المواهب المتفاوتة , ويعوق الاستعدادات الفائقة , ويسوي بينها وبين الاستعدادات الضعيفة , ويمنع أصحاب المواهب من إنفاق مواهبهم لخير أنفسهم , ولخير الأمة , فيحرم الأمة , ويحرم الإنسانية نتاج هذه المواهب.
إنه لا جدوى من المغالطة في أن استعدادات الأفراد الطبيعية ليست متساوية ؛ فنحن إذا غالطنا في المواهب الكامنة ـ ولا سبيل للمغالطة فيها عندما تجري الحياة العملية مجراها ـ فإننا لا نستطيع أن نغالط في أن بعض الأفراد يولد باستعدادات فطرية للصحة والاكتمال والاحتمال , وبعضهم يولد باستعدادات جسدية للمرض والنقص والضعف , ولا سبيل إلى تسوية جميع الاستعدادات والمواهب ما دامت الآلة لم تستطع بعد صنع الأحياء , لتصبهم في قالب واحد , على نظام الأجهزة والآلات!
إن إنكار الاستعدادات الجسدية والفكرية والروحية الفائقة هو ضرب من العبث لا يستحق المناقشة . فلابد أن نحسب حسابها ؛ وأن نمنحها الفرصة لتؤتي أقصى ما تستطيع من ثمراتها . ثم نحاول بعد ذلك أن نأخذ من هذه الثمرات ما نراه لازماً لمصلحة المجتمع لا أن نقطع الطريق على هذه الاستعدادات فنظلمها بتسويتها بالاستعدادات الضعيفة ونغلها عن العمل , ونبددها على الأمة والإنسانية تبديداً .
ولقد قرر الإسلام مبدأ تكافؤ الفرص , ومبدأ العدل بين الجميع ؛ ثم ترك الباب مفتوحاً للتفاضل بالجهد والعمل ؛ ثم جعل القيم الأصلية في المجتمع المسلم قيماً أخرى غير القيم الاقتصادية : " إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ  "(33).. "يرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ  "(34).. " الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا"(35) " .
وهكذا يبدو أن هناك قيماً أخرى غير القيم البحتة , يحسب الإسلام حسابها ؛ ويجعلها هي القيم الحقيقية , ويجعل منها وسيلة للتعادل في المجتمع حين تتفاوت الأرزاق المالية بين الناس , بأسباب التفاوات المعقولة على الجهد والموهبة ,لا على الوسائل المنكرة التي يحرمها الإسلام تحريما ( كما سيأتي في فصل سياسة المال) .
 لا يفرض الإسلام إذن المساواة الحرفية في المال , لأن تحصيل المال تابع لاستعدادات ليست متساوية . فالعدل المطلق يقتضي أن تتفاوت الأرزاق , وأن يفضل بعض الناس بعضاً فيها , مع تحقيق العدالة الإنسانية : بإتاحة الفرص المتساوية للجميع ؛ فلا يقف أمام فرد حسب ولا نشأة , ولا أصل ولا جنس , ولا قيد واحد من القيود التي تغل الجهود . وبإدخال القيم الأصلية الأخرى في الحساب . وبتحرير الوجدان البشري تحريرا كاملاً من ضغط القيم الاقتصادية البحتة ؛ ووضع هذه القيم في مكانها الحقيقي المعقول ؛ وعدم إعطائها قيمة معنوية ضخمة كالتي تعطاها في المجتمعات البشرية التي تفقد الإحساس بالقيم الإيمانية , أو تصغر من أهميتها , وتجعل للمال وحده القيمة الأساسية الكبرى .
وإن الإسلام ليرفض أن يجعل للمال كل هذه القيمة ؛ ويأنف أن تستحيل الحياة لقمة خبز , وشهوة جسد ,ودراهم معدودات ... ولكنه في الوقت ذاته يحتم الكفاية لكل فرد وأحياناً ما فوق الكفاية , ويفضل أن تكون الكفاية عن طريق الملكية الفردية , أو العمل المنتج بأنواعه , ليرفع عنه ضغط العوز من ناحية وضغط الجهة التي تملك موارد الرزق من ناحية أخرى .. ويحرم الترف الذي يطلق العنان للمتاع والشهوات , وينشيء الفوارق في مستويات الحياة . ويرتب في الأموال حقوقاً للفقراء بقدر حاجتهم , وبقدر ما يصلح المجتمع , ويضمن له التكافؤ والتعادل والنماء . وبذلك لا يغفل جانباً واحداً من جوانب الحياة المادية والشعورية , الدينية والدنيوية .. دون مراعاته ؛ لتنصهر هذه الجوانب كلها , وتستحيل وحدة متماسكة , يصعب إهمال عنصر من عناصرها الممتزجة المتناسقة ؛ ولتتسق وحدتها مع وحدة الكون الكبير , ووحدة الحياة والإنسان .

الشهيد سيد قطب




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)صدر القسم الأول منه وهو يعرض " خصائص التصور الإسلامي. والقسم الثاني مقومات التصور الإسلامي. (2)يس82 (3)الرعد 2 (4)الحج 65 (5)يس40 (6)الملك1 (7)الفرقان2 (8)القمر49 (9)الملك3ـ9 (10) فصلت10 (11)الروم48 (12) فصلت10
(13)النحل15 (14)الرحمن10 (15) الملك15  (16) البقرة29   (17) فصلت 12
(18)النبأ6ـ16 (19)فاطر41  (20)هود6  (21)ق16  (22)غافر60  (23)الأنعام151
(24)الحجرات13  (25)المائدة33  (26)الحجرات9  (27)البقرة251  (28)يراجع فصل القصة في القرآن من كتاب التصوير الفني في القرآن للمؤلف  (29) الأنبياء 92  (30)العاديات8  (31)النساء128  (32)الإسراء100  (33)الحجرات13  (34)المجادلة11  (35)الكهف46

العدالة الاجتماعية في الإسلام
الشهيد سيد قطب
اسس العدالة الاجتماعية في الإسلام

ليست هناك تعليقات: