الأربعاء، 27 مارس 2013

المساواة الإنسانية


العدالة الاجتماعية في الإسلام
الشهيد سيد قطب
اسس العدالة الاجتماعية في الإسلام
المساواة الإنسانية
وإذا استشعر الضمير كل هذا التحرر الوجداني ؛ فخَلُص من كل ظل للعبودية إلا لله , وأمن الموت والأذى والفقر والذل إلا بإذن الله ؛ وانفلت من ضغط القيم الاجتماعية والمالية ؛ ونجا من ذل الحاجة والمسألة ؛ وتسامى على شهواته ومطامعه ؛ وتوجه إلى الخالق الواحد الأحد الذي يتوجه له الجميع بلا استثناء ولا استعلاء ؛ ووجد بعد ذلك كله كفايته من ضرورات الحياة مكفولة بحكم التشريع والنظام . .
إذا استشعر الضمير البشري هذا كله ووجد من الضمانات الواقعية والقانونية ما يؤكد في نفسه هذا الشعور , فلن يكون في حاجة لمن يهتف بالمساواة لفظاً وقد استشعرها في أعماقه معنى , ووجدها في حياته واقعاً؛ بل لن يصبر على التفاوت القائم على تلك القيم إطلاقاً . سيطلب حقه في المساواة ؛ وسيجاهد لتقرير هذا الحق , وسيحتفظ به حين يناله ؛ ولن يقبل منه بديلاً ؛ وسيصبر على تكاليف الاحتفاظ به , والذياد عنه , ومهما بذل في ذلك من جهد وتضحية .
ولن يكون الفقير والضعيف وحدهما الحريصين على مبدأ المساواة النابع من الضمير , المصون بالتشريع , المكفول بالاكتفاء وحرية النشاط والارتزاق ؛ بل إن الغني والقوي سينزلان عنده بحكم استشعار ضميرهما تلك المعاني , التي حرص الإسلام على تقريرها وتثبيتها فيما أسلفنا . . وذلك ما وقع بالفعل في المجتمع الإسلامي الأول قبل أربعة عشر قرناً , مما سيأتي في موضعه في هذا الكتاب .
ولكن الإسلام مع ذلك لم يكتف بالمفهومات الضمنية المستفادة من التحرر الوجداني , فقرر مبدأ المساواة باللفظ والنص , وليكون كل شيء واضحاً مقرراً منطوقاً . وفي الوقت الذي كان البعض يَدَّعي و يُصدق أنه من نسل الآلهة , وبعضهم يدعي ويصدق أن الدماء التي تجري في عروقه ليست من نوع دماء العامة , وإنما هو الدم الأزرق الملوكي النبيل ! وفي الوقت الذي كانت بعض الملل والنحل تفرق الشعوب إلى طبقات خلق بعضها من رأس الإله فهي مقدسة , وخلق بعضها من قدميه فهي منبوذة ! وفي الوقت الذي كان الجدل حول المرأة : أهي ذات روح أم لا روح فيها ! وفي الوقت الذي كان يباح فيه للسيد أن يقتل عبيده ويعذبهم . لأنهم من نوع آخر غير نوع السادة . . .
في هذا الوقت جاء الإسلام ليقرر وحدة الجنس البشري في المنشأ والمصير , في المحيا والممات , في الحقوق والواجبات , أمام القانون وأمام الله , في الدنيا وفي الآخرة , لا فضل إلا للعمل الصالح , ولا كرامة إلا للأتقى .
لقد كانت وثبة بالإنسانية لم يعرف التاريخ لها نظيرً ؛ ولا تزال إلى هذه اللحظة قمة لم يرتفع إليها البشر أبداً . بل لقد كانت نشأة أخرى للبشرية يولد فيها "الإنسان"الأسمى! الأمر الذي تراجعت عنه البشرية , ولم تبلغ إليه أبداً إلا في ظل هذا المنهج الرباني .
كلا لم ينسل الإله أحداً : " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ"(الإخلاص).." وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)"(مريم).
ثم كلا ! ليس هناك من دم أزرق ودم عادي ؛ وما خلق أحد من رأس وخلق آخر من قدم : " أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ"(23المرسلات).." فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ"(7الطلاق) .."وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ" (11فاطر) .." وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ"(14المؤمنون) .
ويمضي القرآن يكرر هذا المعنى في مواضع كثيرة ليُقر في خلد الإنسان وحدة أصله ونشأته : الجنس كله من تراب , والفرد ـ كل فرد ـ من ماء مهين , ويكرر النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في أحاديثه : "أنتم بنو آدم , وآدم من تراب"(مسلم وأبو داود) كيما يزيد استقراراً في المشاعر والأخلاد .
فإذا انتفى أن يكون فرد أفضل بطبيعته من فرد ؛ فليس هناك من جنس وليس هنالك من , هو بنشأته وعنصره أفضل ـ كما لا يزال بعض الأجناس إلى هذه اللحظة يتشدق ـ كلا " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً "(1النساء) .. فهي نفس واحدة وزوجها منها ,ومنهما انبث الرجال والنساء . فهم من أصل واحد , وهم أخوة في النسب , وهم متساوون في الأصل والنشأة :" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ "(13الحجرات) . . فليست هذه الشعوب والقبائل لتتفاخر أو تتناكر , بل لتتعارف وتتآلف . وكلها عند الله سواء , ولا تتفاضل إلا بالتقوى . وتلك مسألة أخرى لا علاقة لها بالأصل والنشأة , ذلك أن الناس كلهم سواء لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى .. وأول التقوى الإسلام لله وحده . وإلا فلا تقوى ولا صلاح أصلاً .
ولقد برئ الإسلام من العصبية القبلية والعنصرية ـ إلى جانب براءته من عصبية النسب والأسرة . فبلغ بذلك مستوى لم تصل إليه " الحضارة" الغربية إلى يومنا هذا . الحضارة التي تبيح للضمير الأمريكي إفناء عنصر الهنود الحمر إفناء منظمً تحت سمع الدول وبصرها , كما تبيح تلك التفرقة النكدة بين البيض والسود , وتلك الوحشية البشعة . والتي تبيح لحكومة جنوب أفريقيا أن تجهر بالقوانين العنصرية ضد الملونين , وتبيح لحكومات روسيا والصين والهند والحبشة ويوغسلافيا وغيرها إفناء المسلمين بالجملة . !
*    *    *
وتعقب الإسلام مظان التفاوت والتفاضل ـ إلا بالتقوى والعمل الصالح ـ في كل صورها وملابساتها وأسبابها , ليقضي عليها جميعا . فهذا النبي محمد , ما يفتأ القرآن يذكر الناس أنه بشر كسائر البشر , وما فتأ محمد ذاته يكرر هذا المعنى , أن كان نبياً محبوباً من قومه مبجلاً ,فخيف أن ينقلب ذلك الحب وهذا التبجيل إلى تأليه أو قدسية لا تكون إلا لله . فها هو ذا يقول لقومه : "لا تطروني كما أطرت النصارى بن مريم , فإنما أنا عبد , فقولوا عبد الله ورسوله"(البخاري) . ويقول وقد خرج على جماعة فوقفوا له تبجيلاً " من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار "(أبو داود والترمذي) .
ولما كان أهل محمد مظنة أن يقدسوا نبههم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أنه لا يملك لهم من الله شيئاً :" يا معشر قريش لا أغني عنكم من الله شيئاً . يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً. يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً . يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً . . . "(متفق عليه).
وحين أصابت محمداً الإنسان لحظة حرص بشري , فانصرف عن الرجل الفقير ابن أم مكتوم إلى الوليد بن المغيرة سيد قومه , عاجله العتاب الشديد الذي يشبه التأنيب , ليرد للمساواة المطلقة معاييرها الكاملة .
وحين كان بعض ذوي الثراء والأنساب يأنف أن يتزوج من الفقراء والفقيرات جاء أمر الله :" وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ "(32النور)..
*    *    *
فأما بين الجنسين فقد كفل للمرأة مساواة تامة مع الرجل من حيث الجنس والحقوق الإنسانية ؛ ولم يقرر التفاضل إلا في بعض الملابسات المتعلقة بالاستعداد أو الدربة أو التبعة , مما لا يؤثر على حقيقة الوضع الإنساني للجنسين ؛ فحيثما تساوى الاستعداد والدربة والتبعة تساويا , وحيثما اختلف شيء من ذلك كان التفاوت بحسبه .
ففي الناحية الدينية والروحية يتساويان : " وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا "(124النساء).. " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ "(97النحل) . . " فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ .."(195آل عمران) .
وفي ناحية الأهلية للملك والتصرف الاقتصادي يتساويان : " لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ "(7النساء) .." لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ"(34النساء).
فأما إيثار الرجل بضعف نصيب المرأة في الميراث , فمردُّهُ إلى التبعة التي يضطلع بها الرجل في الحياة ؛ فهو يتزوج امرأة يكلف إعالتها , وإعالة أبنائهما , وبناء الأسرة كله هو مكلف به وعليه وحده تبعة الديات والتعويضات . فمن حقه أن يكون له حظ الأنثيين لهذا السبب وحده . بينما هي مكفولة الرزق , إذا تزوجت , بما يعولها الرجل , ومكفولة الرزق إن عنست أو ترملت , بما ورثت من مال , أو بكفالة قرابتها من الرجال . فالمسألة هنا مسألة تفاوت في التبعة اقتضى تفاوت في الإرث .
وأما أن الرجل قوام عليها : " الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ "(34النساء) فوجه التفضيل هو الاستعداد والدربة والمرانة فيما يختص بالقوامة . فالرجل بحكم تخلصه من تكاليف الأمومة يواجه أمور المجتمع فترة أطول , ويتهيأ لها بقواه الفكرية جميعاً , بينما تحتجز هذه التكاليف المرأة معظم أيامها ؛ فوق أن تكاليف الأمومة تنمي في المرأة جانب العواطف والانفعالات , بقدر ما ينمو في الرجل جانب التأمل والتفكير , فإذا جعلت له القوامة على المرأة فبحكم الاستعداد والدربة لهذه الوظيفة , فوق أنه المكلف بالإنفاق ؛ وللناحية المالية صلة قوية بالقوامة ؛ فهو حق مقابل تكليف , وينتهي في حقيقته بالمساواة بين الحقوق والتكاليف في محيط الجنسين ومحيط الحياة .
فأما حين يرد الأمر إلى الدائرة الإنسانية المجردة من ملابسات الوظائف العملية , فللمرأة من حق الرعاية أكثر مما للرجل . وهو الحق الذي يقابل حق القوامة . وجاء رجل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال :"يا رسول الله , من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال: أمك قال ثم من ؟ قال : أمك . قال ثم من ؟ قال : أمك .قال ثم من ؟ قال: أبوك "(الشيخان) .
ولقد يبدو أن هناك تفضيلاً آخر في مسألة الشهادة : " وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى "(282البقرة) .. وفي الآية نفسها بيان العلة . فالمرأة بطبيعة وظائف الأمومة ينمو في نفسها جانب العواطف والانفعالات بقدر ما ينمو في الرجل جانب التأمل والتفكير كما أسلفنا . فإذا نسيت أو جرفها انفعال , كانت الثانية مذكرة لها . فالمسألة ملابسة عملية في الحياة , لا مسألة إيثار جنس لذاته على جنس وعدم مساواة .
وحسب الإسلام ما كفل للمرأة من مساواة دينية , ومن مساواة في التملك والكسب ؛ وما حقق لها من ضمانات في الزواج بإذنها ورضاها , دون إكراه ولا إهمال : "لا تنكح الثيب حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن وإذنها الصموت "(الشيخان) . وفي مهرها : " فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً "(24النساء) . . وفي سائر حقوقها الزوجية , زوجة أو مطلقة : " وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا "(231البقرة).. "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ"(19النساء).
ويجب أن نذكر أن الإسلام ضمن للمرأة هذه الحقوق , ووفر لها كل هذه الضمانات بروح تكريمية خالصة , ليست مشوبة بضغط الاقتصاديات والماديات . فلقد حارب فكرة أن المرأة عالة يحسن التخلص منها وهي وليدة , فحارب عادة الوأد التي كانت معروفة في حياة بعض القبائل العربية حرباً لا هوادة فيها , وعالج هذه العادة بنفس الروح التكريمية الخالصة التي ينظر بها إلى البشر . فنهى نهي تحريم عن القتل عامة ولم يستثن : "وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ"(151الأنعام).. ونهى بالتخصيص عن قتل الأولاد ـ وما كان يقتل من الأولاد سوى الإناث :" وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ"(31الإسراء).. وقدم رزق الأولاد في هذه الآية لأنهم سبب الخشية من الإملاق , ليملأ صدور الآباء ثقة برزق الله وكفالته للأولاد قبل الآباء ! ثم استجاش وجدان العدل والرحمة وهو يقول عن يوم القيامة : " وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ(8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ"(9التكوير).. فجعل هذا موضع سؤال استنكاري بارز ظاهر في ذلك اليوم الرهيب .
فالإسلام إذن حين منح المرأة حقوقها الروحية والمادية كان ينظر إلي صفتها الإنسانية , ويسير مع نظرته إلى وحدة الإنسان:" خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا "(189الأعراف).. وكان يريد رفعها إلى حيث يجب أن يكون شطر " النفس"الواحدة .
ويجب أن نذكر هذا للإسلام , أن نذكر بجانبه أن الحرية التي منحها الغرب المادي للمرأة لم تفض من النبع الكريم ولم تكن دوافعها هي دوافع الإسلام البريئة .
ويحسن ألا ننسى التاريخ ؛ وألا نفتن بالقشور الخادعة التي تعاصرنا اليوم. يحسن أن نذكر أن الغرب أخرج المرأة من البيت تعمل لأن الرجل هناك نكل عن كفالتها وإعالتها , إلا أن يقتضيها الثمن من عفتها وكرامتها !
عندئذ فقط اضطرت المرأة أن تعمل !
ويحسن أن نذكر أنها حين خرجت للعمل انتهز الغرب المادي حاجتها ؛ واستغل فرصة زيادة العرض ليرخص أجرها ؛ واستغنى أصحاب الأعمال بالمرأة الرخيصة الأجر عن العامل الذي بدأ يرفع رأسه ويطالب بأجر كريم !
وحين طالبت المرأة هناك بالمساواة , كانت تعني أولاً وبالذات المساواة في الأجور لتأكل وتعيش ! فلما لم تستطع هذه المساواة طالبت بحق الانتخاب ليكون لها صوت يحسب حسابه ؛ ثم طالبت بدخول البرلمانات ليكون لها صوت إيجابي في تقرير تلك المساواة! لأن القوانين التي تحكم المجتمع يسنها الرجل وحده ؛ وليست ـ كما في الإسلام ـ من شرع الله , الذي يعدل بين عباده رجالاً ونساءً .
ويحسن ألا ننسى أن فرنسا ظلت إلى عهد الجمهورية الرابعة بعد الحرب الأخيرة لا تمنح المرأة حق التصرف في مالها ـ كما يمنحها الإسلام ذلك ـ إلا بإذن وليها , على حين منحتها حق الدعارة كاملاً بصفة علنية أو سرية ! وهذا الحق الأخير هو الحق الوحيد الذي حرمه الإسلام للمرأة ! لأنه حرمه للرجل كذلك , رعاية لكرامة الإنسان وشعوره , ورفعا لمستوى العلاقات الجنسية لأن تكون علاقة أجساد لا تربطها رابطة من بيت ولا أسرة .
ويجب حين نرى الغرب المادي يقدم المرأة اليوم في بعض الأعمال على الرجل , وبخاصة في المتاجر والسفارات والقنصليات وفي بعض الأعمال الإخبارية كالصحافة ونحوها ..
يجب ألا نغفل عن المعنى الكريه الخبيث في هذا التقديم . إنه النخاسة والرقيق في جو من دخان العنبر والأفيون! إنه استغلال للحاسة الجنسية في نفوس "الزبائن" .فصاحب المتجر , كالدولة التي تعين النساء في السفارات والقنصليات , وكشركة السياحة التي تعين مضيفات , كصاحب الجريدة الذي يدفع بالمرأة إلى التقاط الأحاديث والأخبار , كل منهم يدرك فيما يستخدم المرأة , ويعرف كيف تحصل المرأة على النجاح في هذه الميادين ؛ ويعلم ماذا تبذل للحصول على هذا النجاح !فإن لم تبذل هي شيئاً ـ وهو فرض بعيد ـ فهو يدرك أن شهوات جائعة , وعيون خائنة , ترف حول جسدها وحول حديثها ؛ وهو يستغل ذلك الجوع للكسب المادي والنجاح الصغير! لأن المعاني الإنسانية الكريمة منه بعيد بعيد !
فأما الشيوعية فذات دعوى عرضة في مساواة المرأة بالرجل , تحطيم الأغلال التي تقيد المرأة! والمساواة هي المساواة في العمل والأجر , فقد تحررت المرأة وأصبح لها حق الإباحية كما هو حق للرجل ! لأن المسألة في عرف الشيوعية لا تعدو الاقتصاد . فكل الدوافع البشرية وكل المعاني الإنسانية , كامنة في هذا العنصر وحده من عناصر الحياة !
والحقيقة في صميمها هي نكول الرجل عن إعالة المرأة , واضطرارها أن تعمل مثله وفي دائرته لتعيش , فالشيوعية ـ بهذا ـ هي التكملة الطبيعية لروح الغرب المادية , والفاقدة للمعاني الروحية في حياة البشرية .
يجب أن نذكر هذا كله قبل أن يخدع أبصارنا الوهج الزائف .فالإسلام قد منح المرأة من الحقوق منذ أربعة عشر قرناً ما لم تمنحه إياها "الحضارة"الغربية حتى اليوم. وهو قد منحها ـ عند الحاجة ـ حق العمل وحق الكسب ؛ ولكنه أبقى لها حق الرعاية في الأسرة , لأن الحياة عنده أكبر من المال والجسد , وأهدافها أعلى من مجرد الطعام والشراب ؛ ولأنه ينظر إلى الحياة من جوانبها المتعددة , ويرى لأفرادها وظائف مختلفة , ولكنها متكافلة متناسقة . وبهذه النظرة يرى وظيفة الرجل ووظيفة المرأة ؛ فيوجب على كل منهما أن يؤدي وظيفته أولاً لتنمية الحياة ودفعها للأمام ؛ ويفرض لكل منهما الحقوق الضامنة لتحقيق هذا الهدف الإنساني العام .
*    *    *
وأخيراً فإن للجنس البشري كله كرامته , التي لا يجوز أن تستذل :" وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا"(70الإسراء) . . كرمناهم بجنسهم , لا بأشخاصهم ولا بعناصرهم ولا بقبائلهم . فالكرامة للجميع على سبيل المساواة المطلقة , فكلهم لآدم . وإذا كان آدم من تراب ,وإذا كان آدم قد كرم , فأبناؤه جميعا سواء في هذا و في ذاك !
وللناس جميعاً ـ في المجتمع المسلم ـ كرامتهم التي لا يجوز أن تلمز , ولا أن يسخر منها أحد : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ"(11الحجرات) .. والتعبير العميق الجميل : " وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ". ذو دلالة عجيبة , فلمز المؤمن للمؤمن هو لمزه لنفسه , لأنهم كلهم من نفس واحدة !
وللناس جميعا في المجتمع المسلم حرماتهم : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ "(27ـ28النور) .." وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا"(12الحجرات)..
وقيمة هذا الإجراء هو إشعار كل فرد بأن له حرمة لا يجوز أن ينتهكها عليه الآخرون ؛ ولا تقل حرمة أحد عن حرمة أحد ؛ فهم فيها سواء , وهم جميعا مؤمنون , وفي المجتمع المسلم الذي يقوم على منهج الله وشرعه . فيكفل للناس فيه هذه الكرامة , ويصون منهم هذه الحرمات .
*    *    *
وهكذا يتتبع الإسلام كل ناحية من حياة الناس الوجدانية والاجتماعية , ليؤكد فيها معنى المساواة توكيداً . وما كان في حاجة كما قلنا لأن يتحدث عن المساواة لفظاً وصورة , بعد ما حققها معنى وروحاً , بالتحرر الوجداني الكامل من جميع القيم , وجميع الملابسات , وجميع الضرورات , وكفل لها في عالم الواقع كل الضمانات . ولكنه يحرص على المساواة حرصا شديداً , ويردها إنسانية كاملة غير محدودة بعنصر ولا قبيلة ولا بيت ولا مركز ؛ كما يريدها أبعد مدى من دائرة الاقتصاديات وحدها , مما وقفت عنده المذاهب المادية "العلمية" !


ليست هناك تعليقات: