الأربعاء، 27 مارس 2013

طرق تنمية الملكية


العدالة الاجتماعية في الإسلام
الشهيد سيد قطب
سياسة المال في الإسلام
طرق تنمية الملكية

وتمشياً مع نظرية الإسلام كذلك في ملكية المال , يتدخل في طريقة تنميته والتعامل به , فلا يدع الحرية مطلقة لصاحب المال أن يتصرف به في هذا السبيل كيف شاء . فإن وراء مصلحة الفرد مصلحة الجماعة التي يتعامل معها .
لكل فرد إذن الحرية في تنمية أمواله , ولكن في الحدود المشروعة . فله أن يفلح الأرض ,وأن يحول المادة الخامة إلى مصنوعات , وله أن يتجر ... الخ . ولكن ليس له أن يغش , أو يحتكر ضروريات الناس , أو أن يعطي أمواله بالربا , أو أن يظلم في أجور العمال , ليزيد في أرباحه , فذلك كله حرام . إنما هي الوسائل النظيفة وحدها التي يبيحها الإسلام لتنمية المال . والوسائل النظيفة عادة لا تضخم رؤوس الأموال إلى الحد الذي يباعد الفوارق بين الطبقات . إنما تتضخم رؤوس الأموال ذلك التضخم الفاحش الذي نراه في النظام الرأسمالي , بالغش والربا واكل الأجور والاحتكار واستغلال الحاجة والابتزاز والنهب والسلب والاغتصاب ... إلى آخر الجرائم الكامنة وراء طرق الاستغلال المعاصرة . وهذا ما لا يسمح به الإسلام ... فلنأخذ الآن في بيان حكم الإسلام وحكمته في وسائل تنمية المال .
*    *    *
(أ) يحرم الإسلام الغش في المعاملة : " من غش فليس مني"(1).." البيعان بالخيار ما لم يتفرقا , فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما , وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما " (2) فلك أن تبيع وأن تشتري , على ألا تغش في السلعة ولا في العملة فإن كان بها عيب فعليك بيانه , وإلا فأنت غاش وربحك عليك حرام , لن ينجيك من المؤاخذة أن تتصدق بهذا الربح الحرام , فالصدقة لا تحسب لك إلا من مالك الحلال : عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يكسب عبد مالاً حراماً فيتصدق منه , فيقبل منه , ولا ينفق منه فيبارك له فيه , ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار . إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ , ولكن يمحو السيئ بالحسن . إن الخبيث لا يمحو الخبيث "(3) . وقال : " إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به "(4) .
والإسلام في هذا يسير على قواعده الخلقية , كما يسير على مبادئه في منع الضرر وتحقيق التعاون بين الناس فالغش قذارة ضمير , وإضرار بالآخرين , ورفع للثقة من صدور الناس . ولا تعاون في الجماعة من غير ثقة . فضلاً على ثمرة الغش هي للحصول على كسب بلا جهد مشروع . وقاعدة الإسلام العامة هي أن لا كسب بلا جهد , كما أنه لا جهد بلا جزاء .
(ب‌)     واحتكار ضروريات الناس : لا يعترف به الإسلام وسيلة من وسائل الكسب وتنمية المال : "من احتكر فهو خاطيء"(5) . ذلك أن الاحتكار إهدار لحرية التجارة والصناعة , فالمحتكر لا يسمح لسواه أن يجتلب ما يجتلبه , أو يصنع ما يصنعه ؛ وبذلك يتحكم في السوق , ويفرض على الناس ما يشاء من أسعار , فيكلفهم عنتاً, ويحملهم مشقة , و يضارهم في حياتهم وضرورياتهم , فوق أنه يقفل باب الفرص أمام الآخرين ليرتزقوا كما ارتزق , وليجودوا فوق ما جوَّد ؛ وقد يقع أحياناً أن يسد المحتكر الموارد وأن يتلف البضاعة الفائضة , حتى يتمكن من فرض سعر إجباري ؛ وفي ذلك إعدام أو نقص في الأرزاق والأقوات العامة التي أتاحها الله للإنسان في الأرض .
ولقد بلغ حرص الإسلام على منع هذه الوسيلة من وسائل تنمية المال , أن جعل الاحتكار مبعداً للمحتكر من دائرة الدين : " من احتكر طعاماً أربعين يوماً فقد بريء من الله وبريء الله منه "(6) . فما هو بمسلم ذلك الذي يضار الجماعة هذه المضارة , ويشيع فيها الخوف , والحاجة إلى الضروري ؛ ليحصل منها على كسب حرام يزيد به ماله الخاص على حساب الصالح العام .
(ت‌)     والربا وسيلة محرمة يكرهها الإسلام كراهية واضحة , ويبشعها تبشيعاً شديداً وينذر أصحابها بأشنع مصير :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ "(آل عمران 130).. وليس النهي هنا عن الأضعاف المضاعفة فتحل النسب الصغيرة , وإنما هذا تقرير للواقع , ووصف لما هو كائن . أما النهي فمنصب على أصل الربا ومبدئه المجرد , يتضح ذلك في الآيات الأخرى:" الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " (البقرة 275) .. " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ " (279 البقرة) .
ويجري الإسلام في هذا على مبادئه في المال والأخلاق ومصالح الجماعة . فالمال وديعة في يد صاحبه وهو موظف فيه لخير الجماعة جميعاً . فليس له أن يقلب الوظيفة إضراراً بالناس وابتزازاً , يتحين ساعة احتياجهم , ويستغل ضعف موقفهم , فيأخذ منهم أكثر مما أعطاهم ؛ وقد تكون الحاجة هي حاجة الطعام للحياة , وحاجة الدواء للعلاج , وحاجة النفقة للعلم ولغير العلم ؛ فإما أن يتعطل هذا كله , وإما أن يتحكم صاحب المال في المحتاج إلى المال فيمنحه القليل , ويسترد منه الكثير ؛ ويظلمه بذلك جهده فيكد ويعمل ليؤدي للمرابي رباه , أو يتضاعف الدين عاماً بعد عام .
هذا الجزء الفائض يستمتع به صاحب المال , وهو لم يعمل شيئاً سوى أنه صاحب مال ! إنه العرق والدم يلغ فيهما بشراهة , ويمتصها في نهم وهو قاعد . والإسلام الذي يقدس العمل , ويجعله السبب الأساسي للملك والربح , لا يسيغ أن يفيد المال قاعد , ولا أن يلد المالُ المالَ . إنما يلد المالً الجهدُ , وإلا فهو حرام !
ويلحظ الإسلام طهارة خلق الفرد كما يلحظ المودة بين الجماعة : فما يأكل الربا فرد له خلق وضمير , وما يشيع الربا في الجماعة وتبقى فيها مودة وتعارف . والذي يمنحني الدينار ليسترده مني دينارين هو عدوي , فما أطيب له نفساً , وما أحمل له وداً . والتعاون أصل من أصول المجتمع الإسلامي , يهدمه الربا ويوهن أساسه . لذلك يكرهه الإسلام .
وثمة حكمة أخرى تبرز لنا في هذا العصر الحديث لتحريم الربا , ربما لم تكن بارزة حينذاك : ذلك أن الربا وسيلة لتضخيم رؤوس الأموال تضخيماً شديداً . لا يقوم على الجهد ؛ ولا ينشأ من العمل ؛ مما يجعل طائفة من القاعدين يعتمدون على هذه الوسيلة وحدها عفي تنمية أموالها وتضخيمها و فيشيع بينهم الترهل والبطالة والترف على حساب الكادحين الذين يحتاجون للمال فيأخذونه بالربا في ساعة العسرة . وينشأ عن ذلك مرضان اجتماعيان خطران : تضخيم الثروات إلى غير حد , وتفريق الطبقات علواً وسفلاً بغير قيد ؛ ثم وجود طبقة متعطلة مترهلة مترفة لا تعمل شيئاً , وتحصل على شيء , وكأنما المال الذي في يديها فخاخ لصيد المال , دون أن تتكلف حتى الطعم لهذه الفخاخ ؛إنما يقع فيها المحتاجون عفواً , ويساقون إليها بأقدامهم تدفعهم الضرورات ! ذلك أن أكل الربا يخالف القاعدة الأساسية للتصور الإسلامي وهي أن المال لله , جعل الناس فيه خلفاء , وفق شروط المستخلف ـ وهو الله سبحانه ـ لا كما يشاء الناس .
" إنه يقوم ابتداء على أساس أن لا علاقة بين إرادة الله سبحانه وحياة البشر . فالإنسان هو سيد هذه الأرض ابتداء ؛ وهو غير مقيد بعهد من الله ؛ وغير ملزم باتباع أوامر الله . ثم أن الفرد حر في وسائل حصوله على المال , وفي طرق تنميته , كما هو حر في التمتع به . غير ملتزم في شيء من هذا بعهد من الله أو شرط , وغير مقيد كذلك بمصلحة الآخرين . ومن ثم فلا اعتبار لأن يتأذى الملايين إذا هو أضاف إلى خزانته ورصيده ما يستطيع إضافته وقد تتدخل القوانين الوضعية أحياناً في الحد من حريته هذه ـ جزئياً ـ في تحديد سعر الفائدة مثلاً وفي منع أنواع من الإحتيال والنصب والغصب والنهب والغش والضرر .
ولكن هذا التدخل يعود إلى ما يتواضع عليه الناس أنفسهم , وما تقودهم إليه أهواؤهم ؛ لا إلى مبدأ ثابت مفروض من سلطة إلهية !
" كذلك يقوم على أساس تصور خاطئ فاسد : هو أن غاية الغايات للوجود الإنساني هي تحصيله للمال ـ بأية وسيلة ـ واستمتاعه به على النحو الذي يهوى ! ومن ثم يتكالب على جمع المال وعلى المتاع به , ويدوس في الطريق كل مبدأ وكل صالح للآخرين ! " ثم ينشئ في النهاية نظاماً يسحق البشرية سحقاً , ويشقيها في حياتها أفراداً وجماعات ودولاً وشعوباً , لمصلحة حفنة من المرابين ؛ ويحطها أخلاقياً ونفسياً وعصبياً ؛ ويحدث الخلل في دورة المال ونمو الاقتصاد البشري نمواً سريعاً .. وينتهي ـ كما انتهى العصر الحديث ـ إلى تركيز السلطة الحقيقية والنفوذ العلمي على البشرية كلها في أيدي زمرة من أحط خلق وأشدهم شراً ؛ وشرذمة ممن لا يرعون في البشرية إلاٍّ ولا ذمة , ولا يرقبون فيها عهداً ولا حرمة ..
" وهؤلاء هم الذين يداينون الناس أفراداً , كما يداينون الحكومات والشعوب ـ في داخل بلادهم وفي خارجها ـ وترجع الحصيلة الحقيقية لجهد البشرية كلها , وكد الآدميين وعرقهم ودمائهم , في صورة فوائد ربوية لم يبذلوا هم جهدا فيها ! وهم لا يملكون المال وحده ..إنما يملكون النفوذ الهائل الذي يملكونه في إنشاء الأوضاع والأفكار والمشروعات التي تمكنهم من زيادة الاستغلال , ولا تقف في طريق جشعهم وخسة أهدافهم . وأقرب الوسائل هي تحطيم أخلاق البشرية وإسقاطها في مستنقع آسن  من اللذائذ والشهوات , التي يدفع فيها الكثيرون آخر فلس يملكونه , حيث تسقط الفلوس في المصائد والشباك المنصوبة ! وذلك مع التحكم في جريان الاقتصاد العالمي وفق مصالحهم المحدودة , مهما أدى هذا إلى الأزمات الدورية المعروفة في عالم الاقتصاد ؛ وإلى انحراف الإنتاج الصناعي والاقتصادي كله عما في مصلحة المجموعة البشرية إلى مصلحة الممولين المرابين الذين تتجمع في أيديهم خيوط الثروة العالمية !
"والكارثة التي تمت في العصر الحديث ـ ولم تكن بهذه الصورة البشعة في الجاهلية ـ هي أن هؤلاء المرابين ـ الذين يتمثلون في الزمن الماضي في صورة أفراد أو بيوت مالية كما يتمثلون الآن في صورة مؤسسي المصارف العصرية ـ قد استطاعوا بما لديهم من سلطة هائلة مخيفة داخل أجهزة الحكم العالمية وخارجها . وبما يملكون من وسائل التوجيه والإعلام في الأرض كلها .. سواء في ذلك الصحف والكتب والجماعات والأساتذة ومحطات الإرسال ودور السينما وغيرها .. أن ينشئوا عقلية عامة بين جماهير البشر المساكين الذين يأكل أولئك المرابين عظامهم ولحومهم , ويشربون عرقهم ودمائهم في ظل النظام الربوي .. هذه العقلية العامة خاضعة للإيحاء الخبيث المسموم بأن الربا هو النظام الطبيعي المعقول . والأساس الصحيح الذي لا أساس غيره للنمو الاقتصادي وأنه من بركات هذا النظام وحسناته كان هذا التقدم الحضاري في الغرب . وأن الذين يريدون إبطاله جماعة من الخياليين ـ غير العمليين ـ وأنهم إنما يعتمدون في نظرتهم هذه على مجرد نظريات أخلاقية ومثل خيالية لا رصيد لها من الواقع ؛ وهي كفيلة بإفساد النظام الاقتصادي كله لو سمح لها أن تتدخل فيه ! حتى ليتعرض الذين ينتقدون النظام الربوي من هذا الجانب للسخرية من البشر الذين هم في حقيقة الأمر ضحايا بائسة لهذا النظام ذاته !ضحايا شأنهم شأن الاقتصاد العالمي نفسه , الذي تضطره عصابات المرابين العالمية لأن يجري جريانا غير طبيعي لا سوي , ويتعرض للهزات الدورية المنظمة ! وينحرف عن أن يكون نافعاً للبشرية كلها إلى أن يكون وقفاً على حفنة من الذئاب قليلة !
" إن النظام الربوي نظام معيب من الوجهة الاقتصادية البحتة ـ وقد بلغ من سوئه أن تنبه لعيوبه بعض أساتذة الاقتصاد الغربيين أنفسهم ؛ وهم قد نشأوا في ظله , وأشربت عقولهم وثقافتهم تلك السموم التي تبثها عصابات المال في كل فروع الثقافة والتصور والأخلاق . وفي مقدمة هؤلاء الأساتذة الذين يعيبون هذا النظام من الناحية الاقتصادية البحتة " دكتور شاخت " الألماني ومدير بنك الرايخ الألماني سابقاً وقد كان مما قاله في محاضرة له بدمشق عام 1953 إنه بعملية رياضية (غير متناهية) يتضح أن جميع المال في الأرض صائر إلى عدد من قليل جداً من المرابين . ذلك أن الدائن المرابي يربح دائماً في كل عملية ؛ بينما المدين معرض للربح والخسارة . ومن ثم فإن المال كله في النهاية لا بد ـ بالحساب الرياضي ـ أن يصير إلى الذي يربح دائماً ! وأن هذه النظرية في طريقها للتحقق الكامل . فإن معظم مال الأرض الآن يملكه ـ ملكاً حقيقياً ـ بضعة ألوف ! أما جميع الملاك وأصحاب المصانع الذين يستدينون من البنوك والعمال , وغيرهم , فهم ليسوا سوى أجراء يعملون لحساب المال , ويجني ثمرة كدهم أولئك الألوف!
" وليس هذا وحده هو كل ما للربا من جريرة فإن قيام النظام الاقتصادي على الأساس الربوي يجعل العلاقة بين أصحاب الأموال وبين العاملين في التجارة والصناعة علاقة مقامرة ومشاكسة مستمرة . فإن المرابي يجتهد للحصول على أكبر فائدة . ومن ثم يمسك المال حتى يزيد اضطرار التجارة والصناعة إليه فيرتفع سعر الفائدة ؛ ويظل يرفع السعر حتى يجد العاملون في التجارة والصناعة أنه لا فائدة لهم من استخدام هذا المال , لأنه لا يدر عليهم ما يوفون به الفائدة ويفضل لهم منه شيء .. عندئذ ينكمش حجم المال المستخدم في هذه المجالات التي تشتغل فيها الملايين ؛ وتضيق المصانع دائرة إنتاجها , وتعطل العمال , فتقل القدرة على الشراء . وعندما يصل الأمر إلى هذا الحد . ويجد المرابون أن الطلب على المال قد نقص أو توقف , يعودون إلى خفض سعر الفائدة اضطراراً . فيقبل عليه العاملون في الصناعة والتجارة من جديد . وتعود دورة الحياة إلى الرخاء .. وهكذا دواليك تقع الأزمات الاقتصادية الدورية العالمية . ويظل البشر هكذا يدورون فيها كالسائمة !
" ثم إن جميع المستهلكين يؤدون ضريبة غير مباشرة للمرابين . فإن أصحاب الصناعات والتجار لا يدفعون فائدة الأموال التي يقترضونها بالربا إلا من جيوب المستهلكين ,فهم يزيدونها في أثمان السلع الاستهلاكية فيتوزع عبؤها على أهل الأرض لتدخل في جيوب المرابين في النهاية . أما الديون التي تقترضها الحكومة من بيوت المال لتقوم بالإصلاحات والمشروعات العمرانية فإن رعاياها هم الذين يؤدون فائدتها للبيوت الربوية وفوائدها . وبذلك يشترك كل فرد في دفع الاستعمار هو نهاية الديون .. ثم تكون الحروب بسبب الاستعمار!(8) وإنه ليستوي أن يكون الدين للاستهلاك أو الإنتاج في عرف الإسلام ؛ فإنه إن كان للاستهلاك أي لينفقه المستدين على حاجاته الضرورية , فإنه لا يجوز أن يرهق برد فائض عن دينه , فحسبه أن يرد أصل الدين عند الميسرة ؛ وإن كان للإنتاج , فالأصل أن الجهد الذي يبذله هو الذي ينال عليه الربح , لا المال الذي يستدينه ـ إلا عن طريق المشاركة ـ القائم على احتمال الربح والخسارة . لذلك يحرم الربا في جميع الأحوال , ويحتم إقراض المستقرض لضروراته في جميع الأحوال .
فإن اقترض المقترض وأعسر " فنظرة إلى ميسرة " (9) وأنا أرى أن الصيغة للأمر لا الندب , وبجوارها التحبيب في التيسير والسماحة كقول الرسول : "رحم الله رجلاً سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى"(10) .. فالسماحة في الإقتضاء تحفظ للمدين كرامته , وتغرس المودة في نفسه لدائنه , على الجهد في الأداء قدر طاقته . وقال : " من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه "(11) وقال : " من انظر معسراً أو وضع له , أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله " (12) .
ويفرض الإسلام في مقابل هذا الدين أن يجتهد في رد دينه , إبراء لذمته ورداً لفضل الإقراض بفضل الوفاء , تمكيناً للثقة في المعاملات بين الأفراد :" من اخذ أموال الناس يريد أدائها أدى الله عنه , ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله " (13) . فمن أخذها يريد أدائها جد وكد ليكسب ويسترزق , وغالباً ما يكسب المجد الصادق العزيمة ؛ ومن أخذها يريد إتلافها استمرأ أن يعيش بأموال الناس , وقعد عن العمل والجهد , فاسترخى وسقطت همته وآض إلى تلف وبوار . وقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ :" مطل الغني ظلم"(14) وقال رجل : يا رسول الله : أرأيت إن قتلت في سبيل الله . يكفر الله عني خطاياي ؟ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " نعم ، إن قتلت وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر " .. ثم قال : كيف قلت ؟ فأعاد عليه , فقال : " نعم إلا الدَّين , فإن جبريل أخبرني بذلك " (15) . وهكذا لا يجزي عن المدين القادر على الداء أن يقاتل فيقتل في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر, لأن الدين يتعلق بحق الآخرين في عنقه لا حق الله وحده , ما دام قادراً على أدائه . فأما العاجز فله من الزكاة نصيب : " إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ ... وَالْغَارِمِينَ .." (التوبة 60) وعليه تجوز الصدقة ليوفي دينه . عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أنه قال :أصيب رجل في عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ثمار ابتاعها فكثر دينه , فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " تصدقوا عليه " فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك دينه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ لغرمائه : " خذوا ما وجدتم , وليس لكم إلا ذلك " (16) .
ولقد خطا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خطوة أخرى عندما تهيأت له الأموال بعد الفتوح , فكان يقضي دين المدينين بعد وفاتهم من المال العام . عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال :" كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يؤتي بالرجل المتوفي عليه الدين فيسأل : هل ترك لدينه قضاء " ؟ فإن حُدِّث أنه ترك وفاء صلى عليه , و إلا قال للمسلمين صلوا على صاحبكم " . فلما فتح الله عليه الفتوح قام فقال :"أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم , فمن مات عليه دين ولم يترك وفاء فعلينا قضاؤه , ومن ترك مالا فلورثته "( 17) .

  
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)أصحاب السنن
(2) الشيخان
(3) ذكره صاحب مصابيح السنة مرويا عن ابن مسعود وقال : من الصحاح
(4)أخرجه الترمذي والنسائي
(5)مسلم وأبو داود والترمذي
(6)حديث رقم 4880مسند أحمد وشرح الأستاذ أحمد شاكر
(7) رواه مسلم
(8) مقتطف من ظلال القرآن " الجزء الثالث
(9) البخاري والترمذي
(10) مسلم
(11) الترمذي
(12)البخاري
(13)رواه الخمسة
(14) مالك ومسلم والترمذي والنسائي
(15)الترمذي بسند صحيح
(16) الشيخان والترمذي والنسائي.

سياسة المال في الإسلام
العدالة الاجتماعية في الإسلام
الشهيد سيد قطب
طرق الإنفاق

ليست هناك تعليقات: