الجمعة، 15 مارس 2013

عداوات المستعمرين


سيد قطب
عداوات حول حكم الإسلام
عداوات المستعمرين
   يصعب الفصل بين عداء الصليبية للإسلام وعداء الاستعمار . فكلاهما يغذي الآخر ويسنده ويبرره . والإسلام عقيدة استعلاء تكافح الاستعمار حين تستيقظ في نفوس أصحابها ، ورجعة الحكم إلى الإسلام توقظ هذه الروح بشدة ، فتفسد على الاستعمار خطة الاستغلال والاستذلال .
   إن الإسلام يحرم على أتباعه أن يخضعوا لأي حكم أجنبي ، بل لأي تشريع لا يتفق مع شريعة الإسلام . وتلك عقبة في طريق الاستعمار كؤود . والمستعمرون ليسوا في غفلة مثقفينا الفضلاء ، ولا في بلاهة حكامنا النابغين ! إنهم يقيمون استعمارهم على دراسات كاملة متشعبة لكل مقومات الشعوب التي يستعمرونها ، كي يقتلوا بذور المقاومة ، أو يتفادوها أو يداروها . وقد قام الاستشراق على هذا الأساس . قام ليساعد الاستعمار من الوجهة العلمية ، وليمد جذوره في التربة العقلية كذلك . ولكننا نحن هنا نعبد المستشرقين ببلاهة ، ونعتقد في سذاجة أنهم رهبان العلم والمعرفة ، وأنهم بعدوا عن نشأتهم الأولى ، وقطعوا صلتهم بالعلة التي نشأوا منها ! وبخاصة إذا مَوَّه علينا بعضهم بكلمة طيبة تقال عن ديننا وعن نبينا ، كي تكون هي الطعم لتستنيم أفكارنا إلى الإيحاء في ناحية أخرى !
   وإن الإنسان ليضحك أحيانا ــ ولو أنه ضحك مر ــ و "المثقفون!" فينا يتعالمون بالحديث عن "الإخلاص العلمي" للمستشرقين . فإذا خطر لك أن تتشكك في براءة هؤلاء القديسين , فأنت غير مثقف ! أو متعصب تحشر الدين في كل مجال !
   ومرة أخرى تسأل : ألا مَن للأقزام بمن يقنعهم أنهم ليسوا بعد إلا أقزام ؟!
   ولقد كان الإنجليز يعرفون أن جيوش الاحتلال ستترك مصر يوما ما , وإن قريبا وإن بعيدا . فلم يكن لهم بد من أسناد للاستعمار غير جيوش الاحتلال . فأقاموا هذه الأسناد في الميدان الاقتصادي لاحتلال الأسواق المصرية ومحاولة إغلاق الأسواق العالمية الأخرى في وجه الحاصلات المصرية , وأقاموها في دنيا المال بتبعية نقدنا لنقدهم أو لخزانتهم ...إلخ .
   ولكن هذه الأسناد كلها لم تكن لتقوى على البقاء , لولا الاستعمار الروحي و الفكري الذي عنى به الاستعمار في خلال القرن الماضي , وما يزال يُوَلّيه أكبر عناية في هذه الأيام . لقد ذهب الانجليز البيض من الدواوين ليحل محلهم " الانجليز السمر " من المصريين المقربين ، المستعمرة أرواحهم وأفكارهم ، المصنوعين على عين الاستعمار ، لأداء أغراض الاستعمار .. وكانت عناية الانجليز البيض شديدة بوزارة المعارف بوصفها المشرفة على تكوين الأجيال ، حتى إذا ما تركوها اليوم للانجليز السمر تركوها مطمئنين ، فما تزال النظم والبرامج والكتب وطرائق التدريس كلها تعمل للاستعمار الروحي والفكري في نفوس الأجيال . وكلها إيحاءات بنبذ العنصر الديني ! وبإقصاء الإسلام لا عن الحكم وحده بل عن الحياة جميعا .
   لقد ربى الاحتلال أجيالا متعاقبة , ما تزال تتكاثر بحكم العقلية المشرفة على وزارة المعارف , تنظر إلى الإسلام على أنه بقية من بقايا التأخر والانحطاط , وتعد التجرد منه تجردا من تهمة الجمود و الجهل , ودليلا على "الثقافة!" و التحرر .
   وبرامج التاريخ في المدرسة المصرية وكتبه على وجه خاص من أمكر ما يستطيع الاستعمار أن يصنع , ومن أفتك ما يقتل الروح القومية و الروح الدينية سواء , فالطالب الثانوي ــ بل الجامعي ــ يخرج من دراسة التاريخ ــ بما في ذلك التاريخ الإسلامي ــ لا يعرف شيئا عن فكرة الإسلام الاجتماعية , ونظرته الإنسانية , وكل ما يدرسه غزوات وحروب , ووقائع وأحداث , ينتهي منها إلى أن الإسلام كان معركة حربية , ولم يكن يوما ما معركة فكرية ولا اجتماعية ولا إنسانية !
   وساعد الاستعمار على تشويه الفكرة الإسلامية كلها عامل آخر . عامل لم يكن الاستعمار ليجد أفتك منه ولا أفعل في تشويه الإسلام . أولئك الذين اصطلح الناس على أن يسموهم رجال دين , من الأشياخ و الدراويش , يمثلون جمود الفكر , وضيق الأفق , أو يمثلون الخرافة و الجهالة , ثم يصبغون ذلك كله بصبغة الدين , فيظهرونه بشعا شائها منفرا , فيذهبون بكرامة الدين وجديته واحترامه , وبخاصة حين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا , فيناصرون الاستغلال و الطغيان , باسم الإسلام , وباسم القرآن !
   وبذلك تعاون التعليم الاستعماري القائم في وزارة المعارف بإشراف مصنوعات الاحتلال المشرفة على البرامج و النظم و المناهج و الكتب , مع رجال الدين المزعومين , على أن يبلغ الاحتلال غايته , وأن يبلغ الاستعمار الروحي و الفكري ذروته , حتى بعد ذهاب الاحتلال !
    وفي عناية الانجليز بوزارة المعارف تضرب مقالا قريبا حاضرا قد لا يلتفت إليه الكثيرون .
   لقد كان الإنجليز يعرفون أن في مصر رجلا اسمه الدكتور طه حسين . وكان الدكتور طه هو الدكتور طه الكاتب الأديب الأستاذ الجامعي كما هو . لم يزد عليه إلا أن أصبح يوما وزيرا للمعارف .
    وكان الإنجليز يعرفون أن ميول الرجل ــ حسب ثقافته ــ ميول فرنسية . فلما أن صارت إليه وزارة المعارف , أدركوا أن هنالك خطرا على الثقافة الإنجليزية قد يصيبها مع وجود هذا الوزير.
   وهنا فقط تذكروا أن طه حسين أديب كبير , يستحق الدعوة إلى إنجلترا , و الضيافة على الحكومة البريطانية , و المعهد البريطاني , و التكريم بالألقاب الجامعية من جامعات الانجليز . فقط عندما صار وزيرا للمعارف .
   إنه الاستعمار يخشى على حبائله في وزارة المعارف أن تنكشف أو أن تتزعزع !
    والاستعمار يقوم في وجه الحكم الإسلامي , لغرض معلوم مفهوم , وهو منطقي مع نفسه , فما يعقل وهو يحارب الإسلام عقيدة مستكنة , أن يدع هذه العقيدة تستحيل شريعة , ويدع قوتها الروحية تستحيل قوة مادية . و المستعمرون لا يجهلون جهالتنا , ولا يغفلون غفلتنا عن دعوة القرآن القوية : " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ " ولا يغيب عن أذهانهم أن الحكم الإسلامي سيرد جهاز الدولة كله إسلاميا : جهازها الاقتصادي و الحربي و التعليمي , كما سيصوغ المجتمع صياغة إسلامية , وليس أخطر من ذلك كله على الاستعمار الظاهر و الخفي سواء .
   كذلك يدرك الاستعمار أن قيام حكم إسلامي سيرد الدولة إلى عدالة في الحكم و عدالة في المال . فيلقم أظفار دكتاتورية الحكم واستبداد المال . والاستعمار يهمه دائما أن لا تحكم الشعوب نفسها , لأنه يعز عليه حينئذ إخضاعها , فلا بد من طبقة دكتاتورية حاكمة , تملك سلطات استبدادية , وتملك ثروة قوية , هذه الطبقة هي التي يستطيع الاستعمار أن يتعامل معها , لأنها أولا قليلة العدد , ولأنها ثانيا تستعين به على البقاء , وتحتاج إليه ليسندها في وجه الجماهير . وهذه الطبقة تتولى إخضاع الجماهير وسياستها , ويتوارى خلفها الاستعمار ودكتاتورية الحكم و المال , كلاهما يعتمد على الآخر , ويتبادل معه المصلحة . وكل ما يتمتع به المستعمرون في بلادهم من حرية و عدالة اجتماعية , لا يسمحون بأن تستمتع به المستعمرات ومناطق النفوذ . لأن هذه المستعمرات ستواجههم وجها لوجه يوم تتخلص من مظالمها الاجتماعية . وكذلك المستغلون في الداخل لا يسمحون بإنهاء مشكلات الاستعمار , لأن
الجماهير ستواجههم وجها لوجه يوم تتخلص من الاستعمار !
   ولما كان الحكم الإسلامي الصحيح , مظنة أن يحقق للشعوب عدالة مطلقة في الحكم و في المال , فإن الاستعمار يحاربه حربا شعواء . يحاربه سافرا بنفسه , ويحاربه متسترا وراء الأستار: أستار الطغاة المستغلين , وأستار "المتحررين المثقفين!" وأستار المشرفين على التعليم من حيث يشعرون أو لا يشعرون !
   قد يسمح الاستعمار بقيام حكم إسلامي زائف , في بقاع جاهلة من الأرض متأخرة , وفي ظل دكتاتوريات ظالمة مستغلة , كي يكون نموذجا سيئا منفرا من حكم الإسلام , بل من ذات الإسلام !                                
   هنا ينعق الناعقون من المغفلين و المغرضين , والأقزام الذين يريدون أن يبدوا شيئا مذكورا . أنظروا ها هو ذا حكم الإسلام ! أفما ترونه مستبدا ظالما غاشما , مستهترا شهوانيا فاجرا , متأخرا منحطا جامدا .. هذا هو النموذج الحي لحكم الإسلام , وهو النموذج الدائم لكل حكم ديني على ظهر الأرض كائنا ما كان !
   ويفرك الأقزام أيديهم من الفرح , و الجماهير البلهاء تتحلق حولهم بسذاجة , و المستغلون يضحكون من الأقزام و الجماهير , ويطمئنون إلى أن حكم الإسلام عنهم بعيد . و المستعمرون يضحكون من هؤلاء و هؤلاء جميعا . وهم يتصايحون كلهم داخل المصيدة , ويتصارعون كما تتصارع الفئران الهزيلة البائسة في مصيدة الفئران !



سيد قطب

عداوات حول حكم الإسلام
عداوات المستغلين و الطغاة

ليست هناك تعليقات: