سيد قطب
عداوات حول حكم الإسلام
عداوات المستعمرين
يصعب الفصل بين عداء الصليبية للإسلام وعداء الاستعمار .
فكلاهما يغذي الآخر ويسنده ويبرره . والإسلام عقيدة استعلاء تكافح الاستعمار حين
تستيقظ في نفوس أصحابها ، ورجعة الحكم إلى الإسلام توقظ هذه الروح بشدة ، فتفسد
على الاستعمار خطة الاستغلال والاستذلال .
إن الإسلام يحرم على أتباعه أن
يخضعوا لأي حكم أجنبي ، بل لأي تشريع لا يتفق مع شريعة الإسلام . وتلك عقبة في
طريق الاستعمار كؤود . والمستعمرون ليسوا في غفلة مثقفينا الفضلاء ، ولا في بلاهة
حكامنا النابغين ! إنهم يقيمون استعمارهم على دراسات كاملة متشعبة لكل مقومات
الشعوب التي يستعمرونها ، كي يقتلوا بذور المقاومة ، أو يتفادوها أو يداروها . وقد
قام الاستشراق على هذا الأساس . قام ليساعد الاستعمار من الوجهة العلمية ، وليمد
جذوره في التربة العقلية كذلك . ولكننا نحن هنا نعبد المستشرقين ببلاهة ، ونعتقد
في سذاجة أنهم رهبان العلم والمعرفة ، وأنهم بعدوا عن نشأتهم الأولى ، وقطعوا
صلتهم بالعلة التي نشأوا منها ! وبخاصة إذا مَوَّه علينا بعضهم بكلمة طيبة تقال عن
ديننا وعن نبينا ، كي تكون هي الطعم لتستنيم أفكارنا إلى الإيحاء في ناحية أخرى !
وإن الإنسان ليضحك أحيانا ــ ولو
أنه ضحك مر ــ و "المثقفون!" فينا يتعالمون بالحديث عن "الإخلاص
العلمي" للمستشرقين . فإذا خطر لك أن تتشكك في براءة هؤلاء القديسين , فأنت
غير مثقف ! أو متعصب تحشر الدين في كل مجال !
ومرة أخرى تسأل : ألا مَن
للأقزام بمن يقنعهم أنهم ليسوا بعد إلا أقزام ؟!
ولقد كان الإنجليز يعرفون أن
جيوش الاحتلال ستترك مصر يوما ما , وإن قريبا وإن بعيدا . فلم يكن لهم بد من أسناد
للاستعمار غير جيوش الاحتلال . فأقاموا هذه الأسناد في الميدان الاقتصادي لاحتلال
الأسواق المصرية ومحاولة إغلاق الأسواق العالمية الأخرى في وجه الحاصلات المصرية ,
وأقاموها في دنيا المال بتبعية نقدنا لنقدهم أو لخزانتهم ...إلخ .
ولكن هذه الأسناد كلها لم تكن
لتقوى على البقاء , لولا الاستعمار الروحي و الفكري الذي عنى به الاستعمار في خلال
القرن الماضي , وما يزال يُوَلّيه أكبر عناية في هذه الأيام . لقد ذهب الانجليز
البيض من الدواوين ليحل محلهم " الانجليز السمر " من المصريين المقربين
، المستعمرة أرواحهم وأفكارهم ، المصنوعين على عين الاستعمار ، لأداء أغراض
الاستعمار .. وكانت عناية الانجليز البيض شديدة بوزارة المعارف بوصفها المشرفة على
تكوين الأجيال ، حتى إذا ما تركوها اليوم للانجليز السمر تركوها مطمئنين ، فما
تزال النظم والبرامج والكتب وطرائق التدريس كلها تعمل للاستعمار الروحي والفكري في
نفوس الأجيال . وكلها إيحاءات بنبذ العنصر الديني ! وبإقصاء الإسلام لا عن الحكم
وحده بل عن الحياة جميعا .
لقد ربى الاحتلال أجيالا متعاقبة
, ما تزال تتكاثر بحكم العقلية المشرفة على وزارة المعارف , تنظر إلى الإسلام على
أنه بقية من بقايا التأخر والانحطاط , وتعد التجرد منه تجردا من تهمة الجمود و
الجهل , ودليلا على "الثقافة!" و التحرر .
وبرامج التاريخ في المدرسة
المصرية وكتبه على وجه خاص من أمكر ما يستطيع الاستعمار أن يصنع , ومن أفتك ما
يقتل الروح القومية و الروح الدينية سواء , فالطالب الثانوي ــ بل الجامعي ــ يخرج
من دراسة التاريخ ــ بما في ذلك التاريخ الإسلامي ــ لا يعرف شيئا عن فكرة الإسلام
الاجتماعية , ونظرته الإنسانية , وكل ما يدرسه غزوات وحروب , ووقائع وأحداث ,
ينتهي منها إلى أن الإسلام كان معركة حربية , ولم يكن يوما ما معركة فكرية ولا
اجتماعية ولا إنسانية !
وساعد الاستعمار على تشويه
الفكرة الإسلامية كلها عامل آخر . عامل لم يكن الاستعمار ليجد أفتك منه ولا أفعل
في تشويه الإسلام . أولئك الذين اصطلح الناس على أن يسموهم رجال دين , من الأشياخ
و الدراويش , يمثلون جمود الفكر , وضيق الأفق , أو يمثلون الخرافة و الجهالة , ثم
يصبغون ذلك كله بصبغة الدين , فيظهرونه بشعا شائها منفرا , فيذهبون بكرامة الدين
وجديته واحترامه , وبخاصة حين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا , فيناصرون الاستغلال
و الطغيان , باسم الإسلام , وباسم القرآن !
وبذلك تعاون التعليم الاستعماري
القائم في وزارة المعارف بإشراف مصنوعات الاحتلال المشرفة على البرامج و النظم و
المناهج و الكتب , مع رجال الدين المزعومين , على أن يبلغ الاحتلال غايته , وأن
يبلغ الاستعمار الروحي و الفكري ذروته , حتى بعد ذهاب الاحتلال !
وفي عناية الانجليز بوزارة
المعارف تضرب مقالا قريبا حاضرا قد لا يلتفت إليه الكثيرون .
لقد كان الإنجليز يعرفون أن في
مصر رجلا اسمه الدكتور طه حسين . وكان الدكتور طه هو الدكتور طه الكاتب الأديب
الأستاذ الجامعي كما هو . لم يزد عليه إلا أن أصبح يوما وزيرا للمعارف .
وكان الإنجليز يعرفون أن ميول
الرجل ــ حسب ثقافته ــ ميول فرنسية . فلما أن صارت إليه وزارة المعارف , أدركوا
أن هنالك خطرا على الثقافة الإنجليزية قد يصيبها مع وجود هذا الوزير.
وهنا فقط تذكروا أن طه حسين أديب
كبير , يستحق الدعوة إلى إنجلترا , و الضيافة على الحكومة البريطانية , و المعهد
البريطاني , و التكريم بالألقاب الجامعية من جامعات الانجليز . فقط عندما صار
وزيرا للمعارف .
إنه الاستعمار يخشى على حبائله
في وزارة المعارف أن تنكشف أو أن تتزعزع !
والاستعمار يقوم في وجه الحكم
الإسلامي , لغرض معلوم مفهوم , وهو منطقي مع نفسه , فما يعقل وهو يحارب الإسلام
عقيدة مستكنة , أن يدع هذه العقيدة تستحيل شريعة , ويدع قوتها الروحية تستحيل قوة
مادية . و المستعمرون لا يجهلون جهالتنا , ولا يغفلون غفلتنا عن دعوة القرآن
القوية : " وَأَعِدُّوا
لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ
عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ " ولا يغيب عن أذهانهم أن الحكم الإسلامي سيرد
جهاز الدولة كله إسلاميا : جهازها الاقتصادي و الحربي و التعليمي , كما سيصوغ
المجتمع صياغة إسلامية , وليس أخطر من ذلك كله على الاستعمار الظاهر و الخفي سواء
.
كذلك يدرك الاستعمار أن قيام حكم إسلامي سيرد
الدولة إلى عدالة في الحكم و عدالة في المال . فيلقم أظفار دكتاتورية الحكم
واستبداد المال . والاستعمار يهمه دائما أن لا تحكم الشعوب نفسها , لأنه يعز عليه
حينئذ إخضاعها , فلا بد من طبقة دكتاتورية حاكمة , تملك سلطات استبدادية , وتملك
ثروة قوية , هذه الطبقة هي التي يستطيع الاستعمار أن يتعامل معها , لأنها أولا
قليلة العدد , ولأنها ثانيا تستعين به على البقاء , وتحتاج إليه ليسندها في وجه
الجماهير . وهذه الطبقة تتولى إخضاع الجماهير وسياستها , ويتوارى خلفها الاستعمار
ودكتاتورية الحكم و المال , كلاهما يعتمد على الآخر , ويتبادل معه المصلحة . وكل
ما يتمتع به المستعمرون في بلادهم من حرية و عدالة اجتماعية , لا يسمحون بأن
تستمتع به المستعمرات ومناطق النفوذ . لأن هذه المستعمرات ستواجههم وجها لوجه يوم
تتخلص من مظالمها الاجتماعية . وكذلك المستغلون في الداخل لا يسمحون بإنهاء مشكلات
الاستعمار , لأن
الجماهير ستواجههم
وجها لوجه يوم تتخلص من الاستعمار !
ولما كان الحكم الإسلامي الصحيح , مظنة أن
يحقق للشعوب عدالة مطلقة في الحكم و في المال , فإن الاستعمار يحاربه حربا شعواء .
يحاربه سافرا بنفسه , ويحاربه متسترا وراء الأستار: أستار الطغاة المستغلين ,
وأستار "المتحررين المثقفين!" وأستار المشرفين على التعليم من حيث
يشعرون أو لا يشعرون !
قد يسمح الاستعمار بقيام حكم إسلامي زائف , في
بقاع جاهلة من الأرض متأخرة , وفي ظل دكتاتوريات ظالمة مستغلة , كي يكون نموذجا
سيئا منفرا من حكم الإسلام , بل من ذات الإسلام !
هنا ينعق الناعقون من المغفلين و المغرضين ,
والأقزام الذين يريدون أن يبدوا شيئا مذكورا . أنظروا ها هو ذا حكم الإسلام ! أفما
ترونه مستبدا ظالما غاشما , مستهترا شهوانيا فاجرا , متأخرا منحطا جامدا .. هذا هو
النموذج الحي لحكم الإسلام , وهو النموذج الدائم لكل حكم ديني على ظهر الأرض كائنا
ما كان !
ويفرك الأقزام أيديهم من الفرح , و الجماهير
البلهاء تتحلق حولهم بسذاجة , و المستغلون يضحكون من الأقزام و الجماهير ,
ويطمئنون إلى أن حكم الإسلام عنهم بعيد . و المستعمرون يضحكون من هؤلاء و هؤلاء
جميعا . وهم يتصايحون كلهم داخل المصيدة , ويتصارعون كما تتصارع الفئران الهزيلة
البائسة في مصيدة الفئران !
سيد قطب
عداوات حول حكم الإسلام
عداوات المستغلين و الطغاة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق