الاثنين، 4 مارس 2013

إني أتهم


معركة الإسلام و الرأسمالية
سيد قطب
إني أتهم
   أتهم هذه الأوضاع الاجتماعية الحاضرة بأنها تشل قوى الأمة عن العمل والإنتاج , وتشيع فيها البطالة والتعطل , وتقعدها عن استخدام مواردها الطبيعية و البشرية , وتؤدي بها إلى الضعف عن مواجهة الأخطار الداخلية والأخطار الخارجية , التي تتزايد وتبرز على مر الأيام .
   إن أرضنا تملك أن تنتج أضعاف ما تنتج من غلات . ولكن لماذا لا يتم هذا ؟ لأن هذه الأرض لا تزال موزعة كما كانت موزعة في أظلم عهود الإقطاع , فهي محتكرة في أيد قليلة لا تستغلها استغلالا كاملا , ولا تدعها للقادرين على استغلالها ممن يملكون شيئا .. دع هذه الأرض تخرج من هذا الاحتكار و تتداولها الأيدي المتعطلة التي لا تجد ما تعمل :: حينئذ تتبدل الحال غير الحال . 
   إن الأرض الصالحة للزراعة ليمكن أن تتضاعف . ولكن لماذا لا يتم هذا لأن مشروعات الري والصرف الكبرى معطلة لا تنفذ ! لماذا لأنها تحتاج إلى المال , والمال في أيدي الرأسماليين, والدولة تشفق أن تحمل رؤوس الأموال نصيبها الواجب من الأعباء لماذا ؟ لأن الدولة لا تمثل لا تمثل الجماهير المحتاجة , وإنما تمثل رؤوس الأموال . دع مقاليد الحكم للشعب حقا . حينئذ سيجد الشعب في خزائنه من حصيلة الضريبة العادلة , ما يصلح به الأراضي البور , في فترة من الزمان .
   وإن هذه الأرض لتحوي كنوزا من الخامات والقوى المُعطَلة التي لا تُستغل , لماذا ؟ لأن الدولة فقيرة وعاجزة وغير جادة ومشغولة .. فقيرة لا تجد المال , لأن ميزانيتها تعتمد على دخول الجمارك التي يؤديها الفقراء قبل الأغنياء ! وعاجزة لأن أداتها الإدارية فاسدة . أفسدتها الاستثناءات والمحسوبيات , وسوء النظام , وبلادة "الروتين" , كما أفسدتها الرشوة , وفساد الذمة , وتعفن الضمير . وغير جادة , لأنها لا تحس حافزا يدفعها إلى زيادة الثروة القومية العامة , ما دام الأثرياء الذين تمثلهم يحسون بالتخمة , ويعجزون عن تصريف ما في أيديهم من ثروات . ومشغولة . مشغولة بذلك الصراع الحزبي في حلبة الأقزام , التي أقامها الاستعمار منذ ربع قرن باسم الدستور ! ووقف يتفرج ويتسلى , كما كان الأشراف في القرون الوسطى يتسلون بصراع العبيد والأقزام . ثم هي مشغولة بحماية تلك الأوضاع الاجتماعية الشاذة المناقضة لطبيعة الأشياء , والتي تحتاج إلى جهد ضخم من الثروات البشرية والقوى الإنسانية ما لا يقل عما فيها من الخدمات والقوى . ولكن أحدا لا يستغلها ولا يلتفت إليها . لماذا ؟ لأن المصلحة العاجلة للسادة الرأسماليين الذين تمثلهم الدولة , لا تقتضي استغلال هذه القوى ولا استنقاذها من التبطل والضياع . فهي تدعها للجهل والمرض والفقر تأكلها أكلا , ثم تدعها للتبطل بحيلها مخلوقات تافهة : إما مشردة في الطرقات , إما جالسة على المقاهي والحانات , وإما عاملة كمتعطلة لا تنتج إلا التافه اليسير مما تملك أن تنتج , لأن النظام الذي تعمل في ظله نظام فاسد , ولأن الأجور التي تتناولها لا تحفز إلى الإخلاص , ولأن المستقبل الذي ينتظرها ظلام في ظلام .. والدولة لا تحاول أن تعمل شيئا جديا لاستنقاذ هذه الثروة القومية من القوى البشرية يكلف رؤوس الأموال بعض التكاليف . ودون هذا وتقف الدولة متحرجة واجمة خاشعة !
   وهكذا يدور دولاب العمل في الدولة وفي الشعب , لا ليسد حاجة سكانها جميعا , وعلى الاستهلاك . ولا تعمل الدولة ولا الأمة لرعاية المصالح الضخمة للعشرين مليونا من السكان , بل لرعاية المصالح المحدودة لفئة منها معدودة .
   ثم يتزايد السكان وتتناقص الغلة , لا لعجز في طبيعة الأمة عن العمل , ولا لنقص في كفايتها واستعداداتها الفطرية , ولكن تبعا لهذا الاختلال في توزيع الثروة القومية , وفي توزيع المغانم والمغارم , ومن ثم نتخلف والدنيا تركض , ونضعف وخصومنا على الأبواب تتزايد قدرتهم على الاعتداء , وتهبط كرامتنا الدولية يوما بعد يوم , ونحن نتحلق ونتصايح : يحيا يسقط , حول الصراع الحزبي التافه في حلبة الأقزام !
***
إني اتهم  .. أتهم الأوضاع الاجتماعية القائمة بأنها تهدر الكرامة الإنسانية , وتقضي على كل حقوق الإنسان   .
   ومن ذا الذي يجرؤ على القول بأن هؤلاء الملايين من الفلاحين الجياع العراة الحفاة , الذين تأكل الديدان أحشاءهم , وينهش الذباب مآقيهم , وتمتص الحشرات دماءهم .. ناس . يتمتعون بكرامة الإنسان وحقوق الإنسان ؟
   ومن ذا الذي يجرؤ على القول بأن هؤلاء الصبية الذين يُجمعون من القرى و الكفور للعمل في "التراحيل" لتنقية المزارع في الدوائر والتفاتيش من الآفات , وجسومهم تنغل بالآفات , وينقلون عشرات الأميال ومئاتها بعيدا عن أهلهم ــ حيث يعودون أو لا يعودون ــ لا متطوعون ولا مختارين , ولكن قسرا وغصبا , في مقابل القروش و الملاليم التي يؤكل نصفها قبل أن تصل إلى أيديهم الهزيلة النحيلة .
   من ذا الذي يقول بأن هؤلاء ناس لهم كرامة الإنسان وحقوق الإنسان ؟!
   من ذا الذي يجرؤ على القول بأن الملايين من "الأنفار" في دوائر الإقطاع ناس , والسيد المالك يملك أن يحيي ويميت , وأن يمنع ويمنح , وأن يرزق ويرزأ, والعبيد لا يملكون شيئا , حتى ولا حق البقاء في الدائرة , ولا التعويض الضئيل عند الطرد من الرحمة . فإذا غضب السيد ـ بل عامله ـ فقد طرد " النفر" مع زوجه و أولاده , وقد سلبت منه جاموسته , وقد عاد كوخه إلى السيد المالك الذي أنعم به عليه , وخرج هو شريدا طريدا من رحمة الأرض جميعا !
   من ذا الذي يجرؤ على القول بأن مئات الألوف من العجزة المتسولين الباحثين عن الفتات في صناديق القمامة , العراة الجسد , الحفاة القدم , المعفري الوجوه , الزائغي النظرات .. ناس لهم كرامة الإنسان وحقوق الإنسان ؟ وهم لا يجدون ما تجده كلاب السادة في بيوت السراة !
   من ذا الذي يجرؤ على القول بأن هؤلاء الألوف من الخدم في البيوت , و "الخدمة السائرة" في الدواوين , الذين يحرمهم القانون حتى حق تكوين النقابات , لأن السادة يأبون عليهم هذا الحق , كي لا يتجرأ العبيد على الأسياد , وكي لا تكون لهم حقوق ــ ولو نظرية ــ يرفعون بها جباههم في وجوه الأسياد ....
   من ذا الذي يجرؤ على القول بأن هؤلاء ناس , لهم حقوق الإنسان وكرامة الإنسان ؟!
   ودعك بعد ذلك من تلك الخرافة التي تتحدث عن "الأمة مصدر السلطات" وعن حق الانتخاب وحرية الاختبار .. أنها خرافة لا تستحق المناقشة , فهذه الأمة مصدر السلطات هي هذه الملايين الجائعة الهزيلة , الجاهلة المستغفلة . هذه الملايين المشغولة نهارها وليلها بالبحث عن اللقمة . الملايين التي لا تملك أن تفيق لحظة لتفكر في ذلك الترف الذي يسمونه حق الانتخاب وحرية الاختيار . والملايين التي يشير لها السادة فتنتخب , ويشير لها السادة فتمتنع , لأن هؤلاء السادة هم خزنة أرزاقها وأقواتها وملاك الإقطاع الذين يؤوي هؤلاء الجياع ! 
   إنها خرافة أن تتحدث في عهود الإقطاع عن الدساتير والبرلمانات . ونحن نعيش في عهود الإقطاع بكل مقوماتها , لا ينقص منها شيء إلا تبعات السيد تجاه رقيق الأرض , فقد سقط عنه هذه التبعات في عصر الدستور ! أجل فلقد كان السيد فيما مضى مسئولا عن رقيقه , يزوج بناتهم ويمنحهن , ويعالجهم إذا مرضوا , ويؤدي عنهم نفقات الجنائز والأعياد .. فأسقط عهد الدستور كل هذه التكاليف عن كاهله , وأبقى له الرقيق , يأكل من أبدانهم ما يشاء كيف شاء!
   إن الحديث عن الدساتير والبرلمانات يصلح مادة فكاهة , يتسلى بها الفارغون . ولكنه لا يصلح حديث أمة تريد الجد , وتنظر إلى الواقع بعين الاعتبار !
***
إني اتهم .. أتهم الأوضاع الاجتماعية القائمة بأنها تفسد الخلق والضمير , وتشيع الفساد في المجتمع والدولة , وتؤدي إلى الانحلال الفردي و القومي .
  إن تضخم الثراء في جانب , وبروز الحرمان في جانب , من شأنه أن يخلق طبقة من الأثرياء الفارغين المتبطلين , الذين يجدون لديهم وفرة من المال , ووفرة في الوقت من الطاقة الجسدية التي لابد بها من متصرف .
   والطاقة التي لا تصرف في العمل , والتي لا تشغلها فكرة أعلى من الذات , لابد أن تجد لها طريقا آخر : طريق المتاع الجسدي الغليظ , والرفاهية المترفة الناعمة , والموائد الخضر والسباق , والسكر والعربدة والاستهتار ... 
   وماذا يصنع أولئك الفتيان المرد ، وأولئك الشيوخ المترهلون ، الذين تجبى إليهم ثمرات الكد والعرق والدماء ، من جهود الألوف الجياع الحفاة العراة ...ماذا يصنع أولئك وهؤلاء بتلك الألوف والملايين التي تصل إليهم وهم قاعدون ؟ ماذا يصنعون وهم قاعدون ؟ ماذا يصنعون ولم يطهر العمل قلوبهم وأيديهم , ولم يشغل العمل أفكارهم ومشاعرهم ؟ وماذا يصنعون إلا أن يفكروا في لذائذ الحس ، وشهوات الجسد ، والترف الناعم الرخيص ؟ .......
وهم يملكون قوة الإغراء .. المال .. وعلى الضفة الأخرى أولئك المحرومون التاعسون ، ضعفاء أمام ذلك الإغراء ، طلاب حياة وطلاب متاع كذلك ، فلا يجدون إليهما سبيلا من وجه شريف ... فالشرف آخر حرفة في مصر تدر على أصحابها الكفاف ! 
عندئذ ينقسم المحرومون والمحرومات فريقين : فريق السماسرة وفريق الضحايا . فريق القوادين وفريق الرقيق ـ ولا عبرة بالفريق الثالث : فريق الشرفاء الذي يأبي أن يخضع للإغراء العنيف . إنه فريق الذين لا يريدون الحياة ولا يريدون المتاع ! أو فريق الأبطال والقديسين . وما  كل الناس ولا كثرتهم أبطال ولا قديسون ! 
   ولا بد من حاشية وأذيال , لأولئك الفتيان المرد , وأولئك الشيوخ المترهلين . لا بد من حاشية تملق كبرياءهم , وتؤمن على سخافاتهم وحماقاتهم . وهم واجدون هذه الحاشية في ذلك الحطام الآدمي التافه , الذي أحالته الأوضاع الاجتماعية الفاسدة ديدانا طفيلية وإمعات !
   وهكذا تتكون حلقة مفرغة , من الشباب الفارغ والشيخوخة الآسنة , ومن الرق الأبيض والنخاسة القذرة , ومن الملق الحقير وفناء الشخصية والانحلال .
   وندع هذه الحلقة الآسنة , لتقع العين على حلقة أخرى نشيطة متحركة عاملة . ولكن للشيطان وفي حقل الشيطان , حقل الرشوة و الارتشاء . حقل السرقة والاختلاس وفساد الضمير .
   إنه العوز في جانب والإغراء في جانب . إنه الموظف ذو العيال الذي يلهب الغلاء ظهره بسياطه الكاوية , ويمتص عصارة قلبه ودمه , ليسلمها إلى السادة الممولين , الذين تحميهم الدولة بتشريعاتها , وتعمل لحسابها وحدهم لا لحساب الجماهير . إنه ذلك المخلوق الضعيف وأمامه إغراء المال الحرام . المال الذي يريد أن يتضاعف بالغش والسرقة والتهريب والاحتكار .   وقد لا يقف الفقر هكذا أمام الثراء . إنما يقف المال أمام المال . تقف المصلحة المشتركة بين الغنى الفاحش والفنى الفاحش . تقف المؤامرة على الجماهير ومصالح الجماهير . الجماهير الضعيفة التي لا تملك شيئا تزود به عن نفسها في المعركة , حتى ولا قوة اليقظة والانتباه !
   وهذه قضايا الذخيرة الفاسدة في الجيش , وتهريب التموين إلى إسرائيل , والاختلاسات في الأموال العامة ... هذه هي تقشعر لقذارتها وبشاعتها النفوس . ولكنها في صميمها ليست منفصلة عن الأوضاع الاجتماعية القائمة , فهي ثمرتها الطبيعية التي لا تثمر سواها , وما يمكن أن تختل موازين العدالة الاجتماعية هذا الاختلال , ثم تبقى للمجتمع قواه الخلقية ومبادئه ومثله . وإنما هي الحمأة الآسنة يصب فيها الوحل والقذى , وتنمو على حوافها الحشرات , وتنسل في جوفها الديدان , ثم تتسع وتتسع حتى تحيل المجتمع كله بركة من الوحل المنتن العفن , تغوص فيها الضمائر والأخلاق , وتغرق فيها القوميات والأوطان .
   وهنا ينبعث السادة الأجلاء من هيئة كبار العلماء ، من سباتهم الطويل العميق ، ينعون الأخلاق الضائعة والفواحش الشائعة ، ولا يدعون ثبورا واحدا بل يدعون ثبورا كثيرا ! فلننصرف إلى السادة الأجلاء نسمع منهم الوعظ الشريف ، ترويحا للنفس عن ذلك الجد الكريه الذي نعانيه ! 
  هذه بعض عريضتهم إلى رئيس الحكومة في يوم من الأيام :
   " وإن الناظر في حال أمتنا العزيزة , وما آل إليه أمر الدين و الخلق فيها , ليهوله ما يرى , ويأخذه كثير من الحزن على حاضرها الذي صارت إليه , ويخالجه كثير من الإشفاق على مستقبلها الذي هي مقبلة عليه . فقد استهان الناس بأوامر الدين ونواهيه , وجنحوا إلى ما يخالف تقاليد الإسلام , ودخل على كثير منهم ما لم يكن يعهد من أخلاق الإباحية والتحلل , جريا وراء المدنية الزائفة , واغترار ببريقها الخادع , وكثرت عوامل الإفساد والإغراء في البلاد , ولا سيما أمام ناشئيها وفتيانها , المرجوين للنهوض بها , والأخذ بيدها في حاضرها ومستقبلها , فمن حفلات ماجنة خليعة , يختلط فيها النساء بالرجال على صورة متهتكة جريئة , تشرب فيها الخمر , ويرتكب فيها ما ينافي المروءة و الخلق الكريم , إلى أندية يباح فيه القمار , ويسكب على موائدها الذهب , وتبتز فيها الأموال , وتزلزل بسببها البيوت والكرامات , إلى ملاعب السباق والمراهنات تنطوي على ألوان من الفساد وإضاعة المال , إلى مسابقات للجمال إنما هي معارض للفسوق والإثم , يرتكب فيها ما يندى له جبين الدين والخلق و المروءة , ويباح فيها من المحرمات أكبرها وأخطرها , إلى شواطئ في الصيف  يخلع فيها العذار , ويطغى فيها الأشرار , إلى أخبار ذلك تذكر وتنشر , وتوصف وتصور , ليستثار بها كوامن الشهوات والغرائز , في غير تورع ولا حياء , إلى كثير من ألوان المنكرات وفنون الموبقات .."   



    وي ! وي ! أو هذا هكذا أيها العلماء الأجلاء ؟ ! يا سبحان الله ! ولا حول ولا قوة إلا بالله ! حقا إنه لأمر جلل يوجب النقمة ويستوجب اللعنة ... 
ولكن ! وقد قدر لشفاهكم الشريفة أن تنفرج عن كلام في المجتمع ، أفما كانت هناك كلمة واحدة تقال عن المظالم الاجتماعية الفاشية ، وعن رأي الإسلام في الحكم ، ورأيه في المال ، ورأيه في الفوارق الاجتماعية التي لا تطاق ؟ 
وما الذي كنتم تنتظرونه أيها السادة الأجلاء من أوضاعنا الاجتماعية القائمة إلا هذا الفساد ، التي تناولت خطبتكم الشريفة ظواهره ، وتجنبت خوافيه ؟ أوضاعنا الاجتماعية التي تجد منكم السند والنصير ، والتي يصيبكم البكم فلا تشيرون إليها عارضة من قريب أو من بعيد ، لأن السكوت عنها من ذهب : ذهب إبريز !
***
   إني أتهم .. أتهم الأوضاع الاجتماعية القائمة بأنها تحيل تكافؤ الفرص خرافة , والعدالة بين الجهد والجزاء أسطورة . وبذلك تشيع القلق والاضطراب في نفوس الأفراد والجماعات .
   أنه يكفي في مصر أن يحسن الطفل اختيار أبويه , كيما تتاح له الفرص جميعا , ويتخطى عقبات الطريق وثبا ! فلئن فاته أن يحسن اختيار أبويه , فلا أقل من أن يختار له زوجة قد أحسنت اختيار أبويها , فولدت في بيت وزير أو كبير , كي تحمله على جناحيها وتطير ! فألا تكن قد أحسنت اختيار أبويها فلا أقل من أن تكون قد أحسنت اختيار تقاطيعها وملامحها . وهذه تعويذة تفك العقد , ويدخل بها على الحكام ويخرج . كما كانت كتب السحر تصف بعض التعاويذ في قديم الزمان وسالف العصر والأوان !
  والدعابة التي أطلقها الشاعر الملهم "محمود أبو الوفا" في : "أنفاس محترقة" : 
أخي قل لي ولا تخجل ..... بماذا قد ترقيتا
وما أنت بذي جاه ..... وعمرك ما تزوجتا

لم تكن دعابة عابرة ، إنما هي إيماضة الحقيقة في ضمير هذا الواقع الاجتماعي المريض ، انطلقت على لسان شاعر صادق الحس موهوب . 
     إن تكافؤ الفرص في مثل هذه الأوضاع خرافة لا تقل عن خرافة المساواة أمام القانون ! وإلا فأي تكافؤ بين كتلة اللحم يدفع بها رحم في الكوخ , فتتلقاها الأرض ,  أو حجر أقذر من الأرض , يسلمها إلى الميكروب والمرض , ثم يكلها إلى الجوع والشظف , حتى إذا غالبت ذلك كله , دفع بها إلى الحرمان والإهمال . وبين أخت لها وليدة على يدي طبيب , وفي حضن ممرضة , موكولة إلى العناية والرعاية , فإلى المناغاة و التدليل , فإلى روضة الأطفال فالجامعة , فإلى كرسي الديوان أو وسط الثراء في الشركات والدوائر والتفاتيش ؟!
  أي تكافؤ بين ذلك الذي أحسن اختيار أبويه وخاب في الدراسة , وذلك الذي لم يوهب حسن الاختيار ولو كان من أوائل المتخرجين ؟ 
     أي تكافؤ في عالم الوظيفة أو في العالم الذي يسمونه "حرا" وذلك المحظوظ المرموق يخطو والأسرة والجاه يفتحان له مغاليق الحياة . وهذا النكد التاعس تتلقاه الصدمات والعقبات في كل شبر من طريقه البطيء الطويل ؟ !
     و إذا كان تكافؤ الفرص خرافة , فالعدالة بين الجهد و الجزاء أسطورة ! وإلا فمن ذا الذي يقول : أن هذه الملايين الجائعة إنما تجوع لأنها ملايين الكسالى , الذين لا يريدون العمل والتعب ؟ يقال هذا عن فرد , أو عشرة أو عن مئة , أو عن ألف , أو عن عشرة آلاف .. أما أن يقال عن الملايين , فدون هذا و يمج الحديث , وتسخف العبارة , وتعجز المرائر عن الاحتمال .
   إن الذين يعملون في هذا البلد هم من يجوعون . أعني الذين يعملون أعمالا شريفة , لا تدخل في قائمة السرقة و الاختلاس , والغش و التدليس , والارتشاء واستغلال النفوذ , وتجارة الرقيق الأبيض , و الخيانة الوطنية ... إلى آخر ما يملك به الرجل أو المرأة في مصر أن يصبح بين يوم و ليلة من الوجهاء والأثرياء !
   نحن لا ننكر التفاوت في الاستعدادات الفردية و المقدرات الذاتية . ولكن أي تفاوت يمكن أن يبرر الفوارق بين ملايين عبود و فرغلي و أمين يحي , و البدراوي ... وأمثالهم . وبين الملاليم التي ينالها عمالهم وعبيدهم وفلاحيهم ؟
   وأي تفاوت يمكن أن يبرر الفوارق بين المرتب و الوزير و وكيل الوزارة و المدير العام . ومرتبات الكتبة و السعاة و الفراشين في الدواوين و هي تبلغ خمسين ضعفا في بعض الأحايين ؟ 
   إن أية مغالطة عن تفاوت المقدرات الفردية لتقف حسيرة خجلى أمام الواقع الصارخ , الذي يعجز المدافعون عن تبريره وتفسيره , عجزه هو ذاته عن الاستمرار و البقاء , بحكم مناقضته لطبائع الأشياء .
   إن مجتمعا هذه سماته ليشيع القلق في نفوس أفراده وجماعاته . القلق الناشئ من أن الجهد لا يلقى جزاءه , و الجد لا يثاب عليه , و الوسائل الملتوية تبلغ بصاحبها ما لا تبلغه الوسائل المستقيمة , و الولادة في بيت وزير أو كبير تجدي ما لا يجدي الذكاء و الموهبة و الخلق و العمل جميعا !
  لقد مضى على مصر أكثر من ربع قرن منذ تسلمت مقاليدها , وتوالت على حكمها الوزارات والأحزاب . وما من عهد من هذه العهود خلا من الاستثناء البغيض . تارة بالآحاد و العشرات , وتارة بالمئات والألوف . حتى شاع في الدواوين وعلى ألسنة الناس أن الواسطة هي الطريق الوحيد القصير , و وقر في ضمائرهم أن لا شيء يعدل أن تكون ذا جاه , أو محسوبا , أو أن تسلك على أية حال طريقا غير مستقيم !
   ومتى فقد النفوس الثقة في الخير و الواجب ,  والأمانة والضمير , فقد فسد كل شيء , وسرى القلق و التوجس , وعم الإهمال والاستهتار . وقد انتهينا إلى هذا . وانتهينا معه إلى ما هو أدهى : انتهينا إلى الشك المطلق في صلاحية الإدارة المصرية , وإلى الترحم على أيام الاحتلال . وهذه كارثة . فليس أخطر من أن يكفر المواطن بوطنه و بشعبه و بنفسه .
   إن الجريمة التي ارتكبتها سياسة الاستثناء هي هذه الجريمة . جريمة تزعزع ثقة المواطن في الحكم الوطني .  جريمة انهيار الشعور الداخلي بقيمة الاستقلال , وضرورة الاستقلال ! 
***
   إني أتهم .. أتهم الأوضاع الاجتماعية القائمة بأنها تدفع بالناس دفعا إلى أحضان الشيوعية ، وبخاصة ذلك الجيل الناشئ من الشبان الأبرياء .
حين يقال للملايين الكادحين الذين لا يجدون ما ينفقون : إن الشيوعية تضمن لكم كفايتكم ، وتمنع الترف الفاجر الذي يزاوله أثرياؤكم .. يكون لها فعل السحر في نفوس الجماهير . 
وحين يقال لهم : إن الشيوعية تحرمكم حرية العمل ، وحرية القول وحرية التفكير ، فإنهم لا يحسون أنها تسلبهم شيئا حقيقيا يملكونه .
إن الشيوعية لا تحوي سحرا ولا سرا . ولكن الجماهير معها على رأي المثل العامي الذي يقول : " ضربوا الأعور على عينه قال : خسرانة خسرانة ! " أو المثل الآخر الذي يقول : " قالوا للقرد ربنا حيسخطك . قال حيعملني غزال ؟! " فالعور و القرود ـ أي الذين لا يملكون شيئا يخسرونه , واليائسون من أن تكون هناك حال أسوأ من حالهم ـ هم الذين تسحرهم الشيوعية . أما الذي يملكون شيئا . الذين يملكون حرية القول و حرية الفكر . يملكون قبلها حرية الرغيف , و لا تصطدمهم تلك الفوارق الاجتماعية السحيقة .. فهم أعداء الشيوعية الطبيعيون . 
  لهذا لم تجد الشيوعية لها إلى اليوم تربة صالحة في السويد أو النرويج أو الدنمارك  , لا لأن أهلها لهم أهداف روحية أو عقيدة إنسانية . بل لأنهم يملكون أكثر مما تمنحه الشيوعية , ويفقدون بالشيوعية أشياء حقيقة يملكونها .
     حين يقال للعامل في تلك البلاد : إن الشيوعية ستوفر لك كفايتك وضمانات حياتك . قد يسخر ! فكفاياته كلها مضمونة , بل رفاهيته كذلك . وحين يقال له : إن الشيوعية ستضمن لك عملا دائما , وتحميك من نتائج التعطل قد يسخر ! لأنه يجد ضمانات حياته عاملا ومتعطلا , ولا يحس قلقا في حياته من هذا الجانب أو ذاك .
   ولكن حين يقال له : أن الشيوعية ستجندك للعمل بلا حرية و لا اختيار , أو ستقضي على حريتك النقابية , أو ستضغط على حرية القول و الكتابة و التفكير .. فإن ذلك يفزعه ويزعجه . ذلك أنه يملك تلك الحريات فعلا . يملكها حقيقة واقعة في حياته اليومية , لا في الكتب و الدساتير المكتوبة . . عندما تعجز الشيوعية أن تغزو قلبه لأنها لا تمنحه شيئا ينقصه , وعلى العكس تسلبه مزايا حقيقية يملكها .
   كذلك الحال في أمريكا .. أن العامل الأمريكي يعرف أنه حينما قرر عمال المناجم الإضراب , وصرح الرئيس ترومان بأنه يفكر في اتخاذ تدبير شديد لإنهاء هذا الإضراب , هتف العمال : "دع ترومان يأتي هنا ويحفر الأرض معنا "  .
  ونشر هذا الهتاف في الصحف على أعمدة بحروف بارزة , فلم يتحرك شرطي واحد ليقبض على عامل , فضلا على أن يضربه ويسجنه ويعذبه .
   وحينما كتب صحفي طويل اللسان عن ابنة ترومان كتابة بذيئة , لم يزد رئيس الدولة التي تحكم نصف العالم عن أن يكتب له رسالة شخصية " بأنه سيضربه بنفسه عندما يقابله " ولم يتحرك "الجستابو" ليدق عنق ها الصحفي , أو يقتله سرا , ويرمي بجسده في جب!
   والعامل الأمريكي يعلم أن روسيا لا يملك أن يهتف ضد ستالين , ولا أن يكتب حرفا واحدا عن أسرته .. ولهذا يفزع من الشيوعية !
   أما هنا فعبود باشا يملك أن يحطم نقابات عماله التي ترتكب جريمة مطالبته بتنفيذ قانون من قوانين الدولة , يزيد لقيمات في نصيب العامل باسم إعانة الغلاء . والدولة واقفة تتفرج وتشجع سعادته وهو يسحق هذه النقابات سحقا . و الجمعية الزراعية تشرد موظفا خدمها سبعة عشر عاما , وخدمها أبوه قبله لأنه طالب بإعانة الغلاء !
   للسان أن يتطاول على ذاته الكريمة ! .
   أما حرية القول وحرية الفكر , فيسأل عنها القلم السياسي . وتسأل عنها المعتقلات و السجون , وتسأل عنها حوادث التعذيب في كل قضية سياسية في تاريخ مصر الحديث !
  إن الشيوعية في ذاتها فكرة صغيرة لا تستحق الاحترام عند من يفكرون تفكيرا إنسانيا أعلى من الطعام و الشراب ، وعند من يعرفون أفكارا أخرى عرفتها الإنسانية قبل الشيوعية ، وهي أعدل وأرقى . ولكن الأوضاع الاجتماعية القائمة تضفي على الشيوعية سحرا وجاذبية , وإذا كنا نعتقد أن الشيوعية فكرة تعسفية وضيقة , وفيها من سوء الظن بالبشرية , ومن الأحقاد المسمومة ما فيها .. فإننا نعتبر الأوضاع القائمة مجرمة ، ترتكب في كل يوم جريمة تحبيب الشيوعية للجماهير المحرومة ، وتزينها في نفوسهم ، وتدفعهم إليها دفعا ، للخلاص من ذل الإقطاع ولذع الحرمان وظلم الأوضاع المناقضة لطبائع الأشياء . 
   وأخيرا فأنا أتهم الأوضاع الاجتماعية القائمة بأنها مناقضة في جملتها وتفصيلها لروح الدين كله . الدين منذ أن عرفت البشرية أديانها السماوية , وهي أكثر مناقضة للإسلام بكل تأويل من تأويلاته . وكل ما يدعيه المحترفون من رجال الدين ليسندوا به هذه الأوضاع , إنما هو افتراء على الدين , لا يجد له سندا من حقائقه ومبادئه :" فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ".
   إن الإسلام ليصرخ في وجه الظلم الاجتماعي , والاسترقاق الإقطاعي وسوء الجزاء , وأنه ليمد المكافحين لهذه الأوضاع بقوة ضخمة للكفاح والصراع .
   وما من وضع اجتماعي هو أبعد عن روح الإسلام من أوضاعنا القائمة , وما من إثم أكبر من الذين يدينون بالإسلام , ثم يقبلون مثل هذه الأوضاع, أو يبررونها باسم الإسلام , والإسلام منها براء .
   إن هذه الأوضاع غير قابلة للبقاء والاستمرار . وذلك أنها مخالفة لروح الحضارة الإنسانية بكل معانيها . مخالفة لروح الدين بكل تأويل من تأويلاته . مخالفة لروح العصر الحاضر بكل مقتضى من مقتضياته .. ومن ثم فهي لا تحمل عنصرا واحدا من عناصر البقاء , يملي لها في الأجل , ويمنحها فرصة البقاء .
معركة الإسلام و الرأسمالية
سيد قطب




                                  

ليست هناك تعليقات: