سيد قطب
شبهات حول حكم الإسلام
حكم المشايخ و الدراويش
هنالك آخرون يتصورون أن حكم
الإسلام , معناه حكم المشايخ و الدراويش ! من أين جاءوا بهذا التصور ؟! من الثقافة
السطحية الناقصة , ومن ملابسات الواقع في هذا الجيل .. فأما الإسلام الحقيقي الصحيح
, فلا يعرف هذا الوضع , لا في أصوله النظرية , ولا في واقعه التاريخي .
حتى تلك الأزياء الخاصة للمشايخ
و الدراويش .. إنها ليست شيئا في الدين , فليس هناك زي إسلامي و زي غير إسلامي ,
والإسلام لم يعين للناس لباسا , فاللباس مسألة إقليمية , ومجرد عادة تاريخية .
ومحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لم يلبس جبة و قفطانا , أو قفطانا و "
كاكولة " وإنما لبس ثيابه العربية التي كان يلبسها قومه وجيله . كذلك لبس
المسلمون في فارس ثيابهم الفارسية , و المسلمون في مصر ثيابهم المصرية .
وعلام يتميز بعض المسلمين من بعض
بلباس ؟ وليس في الإسلام رجال دين , و لا هيئة "إكليروس" ولا تقام
الطقوس الدينية إلا بواسطتها . و التفقه في الدين اجتهاد كالتفقه في الطب و
الهندسة و التجارة وسائر المعارف
الإنسانية الأخرى .
نعم قد توجد مناصب رسمية كمناصب
القضاء , و لكن الإسلام لا يعرف أن هناك قاضيا للأحوال الشخصية يحكم بالقانون
الإسلامي , وقاضيا للعقوبات و المدنيات
يحكم بقانون غيره . الإسلام لا يعرف إلا شريعة واحدة تنظم العقوبات و الشئون
المدنية , كما تنظم أحوال الزواج و الطلاق و الميراث , وتخضع الجميع لفكرة كلية
واحدة تصدر عنها هذه التفريعات في شتى نواحي النشاط الإنساني . و الذي يتولى
القضاء في هذه النواحي جميعا أو في ناحية واحدة منها ـــ حسب تخصيص الدولة له ـــ
إنما يتولاه باسم تفقهه في الشريعة كلها أو بعضها . كما يتولى الطبيب عمله لتعلمه
الطب العام أو التخصيص في فرع منه .. و القاضي ليس رجل دين في الإسلام . إنما هو
مسلم حذق فرعا من فروع المعرفة , فأسند إليه العمل الذي يحسنه . ولكل أمريء ما
يحسنه في الحياة .
و الخدمة الدينية ــ كمجرد إمامة
الصلاة ــ ليست عملا يأجر الإسلام من يقوم به من بيت مال المسلمين ! ما لم تكن
لهذا الإمام وظيفة أخرى يؤديها . كإلقاء دروس في المسجد , أو القيام بإدارته من
الناحية النظامية لا التعبدية . فإمامة المصليين ليست وقفا على شخص من المصليين . إنما
يؤمهم أفضل الموجودين , وتصح صلاتهم جماعة
أو فرادى إلا صلاة الجمعة خاصة , ومن هذا البيان يتضح أن ليس في الإسلام
"رجال دين" يخشى أن يتولوا الحكم إذا صار الحكم إلى الإسلام .
ذلك من الوجهة النظرية , فأما من
وجهة الواقع التاريخي في الإسلام فإن حذق الفقه الإسلامي لم يكن بذاته مرشحا للحكم
, وتولى الأعمال في القيادة والإدارة وما إليها , حتى في أزهى عصور الحكم الإسلامي
الكامل . إنما كان الحذق في كل حرفة هو المؤهل لها دون نظر إلى درجة الفقه الديني
لصاحبها , ولا حتى الميزة الكبرى التي يعتبرها الإسلام أساسا للتفاضل بين الناس ,
وهي التقوى .
كتب أبو بكر أعرف أصحاب رسول
الله بروح الإسلام , إلى أبي عبيدة بن الجراح , الذي كان يلقبه رسول الله "
أمين الأمة" يقول :
"بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله بن أبي قحافة إلى عبيدة بن
الجراح . سلام الله عليك . أما بعد , فقد وليت خالدا قتال العدو في الشام , فلا
تخالفه واسمع له وأطع , فإني وليته عليك وأنا أعلم أنك خير منه و أفضل دينا . ولكن
ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك . أراد الله بنا وبك سبيل الرشاد ".
فالذين يخشون ــ لو حكم الإسلام ــ
أن يبصروا فيروا على رأس الجيش مثلا في المعركة , أو في مصلحة الكيمياء أو الطب
الشرعي , أو في وزارة الأشغال أو المالية , شيخا مطمطما , أو درويشا معمما لمجرد
أنه قرأ كتب الفقه و السنة , أو حفظ المتون و الحواشي والشروح , أو أتقن التراتيل
الدينية ودلائل الخيرات ..
أولئك فليطمئنوا . فواقع الإسلام التاريخي , كأصوله النظرية , لا يعترف إلا
بالكفاية الخاصة في العمل الخاص . ولكل وجهة هو موليها .
إن حكم الإسلام لا يتحقق لأن في
الحكم طائفة دينية ــ وليس في الإسلام كما ترى طائفة دينية ــ إنما يتحقق لأن
القانون الإسلامي ينفذ , ولأن فكرة الإسلام تحكم , ولأن مبادئه ونظمه تحدد نوع
الحكومة , وشكل المجتمع . وهذا كل ما هناك .
فأما نوع الحكم الذي يحتمه
الإسلام فهو الحكم الشوري . و القرآن ينص على هذا نصا: "وَشَاوِرْهُمْ فِي
الْأَمْرِ " و النبي صلى الله عليه و سلم يقول : "لو كنت مؤمراً
أحد دون مشورة المؤمنين لأمرت ابن أم عبد " فيقرر مبدأ الشورى في
الحكم و الإدارة تقريرا صريحا . لأنه وهو النبي لا يملك أن يؤمر أحدا دون مشورة
المؤمنين .
فأما طريقة الشورى فلم يحددها
الإسلام تحديدا معينا , لأنها مسألة نظامية ترجع إلى حاجات كل عصر , و وسائله وإمكانياته
في تحقيق المبدأ , في كل مكان وفي كل زمان .
فحين كان أهل الرأي الذي يمثل الشعب كله مجتمعين في المدينة حول النبي ــ وهم
الصحابة ــ كان النبي يستشيرهم فيما لا وحي فيه ولا نص بطبيعة الحال ـ ويترك لهم
حرية القول و التصرف في شؤونهم الدنيوية ,
لأنهم أخبر بها . ومعنى دنيوية هنا أنها لا تتعلق بحكم شرعي أو اجتماعي , وإنما تمثل
الخبرات العملية , كفنون القتال , وزراعة الأرض , و حماية الثمار , و ما إليها . و
هي ما نستطيع أن نسميه في عصرنا الحاضر الشؤون العلمية البحتة و الشؤون العملية
التطبيقية .
فأما الشؤون التشريعية الخاصة
بالإنسان : روحه و عقله , و علاقاته بالناس و علاقات الناس به , و الحدود بين حقه
و واجبه .. الخ , فتلك مسائل يرجع فيها إلى النصوص و القياس , أي إلى القوانين
الإسلامية المحددة , أو المبادئ العامة و الفكرة الكلية . وما يتفق معها فهو منها
.
وقد ظلت الشورى مقصورة على
المدينة , ما ظلت المدينة تمثل أهل الرأي , فلما تغير الوضع شيئا توسع الخليفة
الأول أبو بكر فاستشار أهل مكة في حرب الشام . إذ كانت المسألة عملية حربية خارج
الحدود العربية كلها , تعود آثارها على من في مكة كما تعود على من في المدينة .
فإذا انتهينا في هذا العصر إلى أن
يصبح رأي الجماهير لا يمثله من يقيمون في القاهرة
وحدها , ولا الإسكندرية , ولا أية مدينة من المدن , فالطريقة أذن أن نستشير
الجميع بالطريقة التي تكفل الحصول على آراء الجميع .. وهي مسألة نظامية تتعلق
بالتنفيذ . وأما المبدأ فهو مقرر في الإسلام تقريرا أصيلا واضحا . كل ما يحتمه
الإسلام هو إزالة القيود التي تجعل الانتخابات غير ممثل لحقيقة الرأي في الأمة .
فلا يكون الناخب تحت رحمة صاحب الأرض أو صاحب العمل أو صاحب السلطان , كما هو واقع
الآن .
والحاكم في الإسلام يتلقى الحكم
من مصدر واحد هو إرادة المحكومين . فالبيعة الاختيارية هي الطريق الوحيد لتلقي
الحكم . والواقع التاريخي قام على هذا المبدأ . فخلافة أبي بكر وعمر و عثمان و علي
قامت على أساس الاختيار المطلق . ولا يتعارض هذا مع وصية عمر أن تكون في واحد من
ستة فقد كانت هذه نصيحة للمسلمين , و لم تكن أمرا واجب الطاعة .. ولو اختار
المسلمون واحدا من غير الستة لاختاروا . و لكن هؤلاء كانوا بالإجماع أصلح الجميع ,
فاختاروا واحد منهم برضاهم وإذنهم , لا بأمر عمر ووصايته .
ولما عدل بنو أمية عن هذه القاعدة
الإسلامية الأساسية في الحكم , رده إليها الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز
. رده إلى الأمة التي يجب أن تختار حكامها حرة طائعة مختارة .
صعد المنبر فقال :
" أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه , ولا
طلبة له , ولا مشورة من المسلمين . وإني
قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي . فاختاروا لأنفسكم ".
فقال الناس : قد اخترناك يا أمير المؤمنين , و رضيناك . فل الأمر باليمن و
البركة .
وبذلك رد الأمر إلى نصابه في
ولاية الأمر . فلا ولاية بغير شورى ورضى و قبول.
والحاكم الإسلامي يتلقى طاعته بعد
توليته من قيامه على تنفيذ الشريعة الإسلامية , لا من أي اعتبار آخر . وذلك عهده
مع المحكومين . فإذا لم ينفذ الشريعة فقد سقطت طاعته عليهم . ويقول صاحب هذا الدين
: "اسمعوا
وأطيعوا , وإن استعمل عليكم عبدا حبشي كأن رأسه زبيبة ـ ما أقام فيكم كتاب الله
تعالى " و واضح من الحديث توقيت السمع و الطاعة بإقامة كتاب الله
تعالى , فليست هي الطاعة المطلقة لإرادة الحاكم , وليست هي الطاعة الدائمة ولو ترك
شريعة الله ورسوله .
بهذا وحده يقوم الحكم الإسلامي ,
لا بوجود طائفة معينة في الحكم من المشايخ و الدراويش كما يتصور الكثيرون .
ذلك
كذلك من ناحية الأسس الدينية .. ثم أحب
بعدها أن أطمأن الخائفين من حكم الإسلام أن يجيئهم بالمهابيل و الدراويش في
الدواوين أحب أن أطمئنهم إلى أن نوعا من أنواع الحكم لن يطارد هؤلاء كما يطاردهم
الإسلام !
إن حكم الإسلام يعد هذه الطوائف ــ
في أوضاعها الحالية ــ متبطلة متعطلة , لا تنتج شيئا وهي قادرة على الإنتاج .
فسيجند هذه الجموع للعمل المنتج , لتأتي للأمة بشيء يعينها على الحياة .
إن حكم الإسلام لن يدع الدراويش يتدروشون
, ولا مشايخ الطرق يعيشون على النذور .. إن الإسلام يطلب إلى كل فرد أن يعمل عملا
ليأجره عليه أجرا . فلا أجر بلا جهد , ولا جزاء بلا عمل . و الصلوات و الدعوات
عبادة شخصية وليست عملا اجتماعيا , أما إقامة الأذكار وتلاوة الأوراد , فتلك أشياء
تعرفها عصور التبطل , ولا تعرفها عصور الحياة والنشاط .
إن العهود الإقطاعية هي التي
ترزق المشايخ المتبطلين , و الدراويش المهبولين , وتخلع عليهم وتعترف بوجودهم . .
لأن هذه كلها أجهزة لتخدير الجماهير عما هي فيه من حرمان وشقاء . فأما حكم الإسلام
الذي يكافح الإقطاع , ويرد عن الناس الاستغلال , فليس في حاجة إلى هذه الأجهزة .
فسيوجه هذه الجموع المتعطلة المتبطلة لتعمل , وسيهيئ لها مرافق العمل , لأنه سيعمل
للجميع , وسيأخذ من القادر للعاجز , وسيجمع من الضرائب وغير الضرائب ما يحتاج إليه
المجتمع بلا تحرج من مس الأغنياء إلا بقفاز الحرير , وسينفق ما يجمعه لمصلحة
المجتمع كله لا لحساب المحظوظين دون المنبوذين .
وعندئذ لن يكون المشايخ
المتعطلون , و الدراويش المتبطلون , هم سادة عهده , بل سيكونون طريديه , إن لم
يغيروا ما بأنفسهم ويبدلوا وسائل كسبهم , ويعملوا مع العاملين في حقل الإنتاج
المثمر , حقل الحياة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
"
نحو مجتمع إسلامي " بحث يتضمن صورة شاملة للمقومات الأصلية لهذا المجتمع .
أرجو أن ينشر قريبا بعون الله .
سيد قطب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق