الجمعة، 15 مارس 2013

شبهات حول حكم الإسلام


سيد قطب
شبهات حول حكم الإسلام
حكم المشايخ و الدراويش
   هنالك آخرون يتصورون أن حكم الإسلام , معناه حكم المشايخ و الدراويش ! من أين جاءوا بهذا التصور ؟! من الثقافة السطحية الناقصة , ومن ملابسات الواقع في هذا الجيل .. فأما الإسلام الحقيقي الصحيح , فلا يعرف هذا الوضع , لا في أصوله النظرية , ولا في واقعه التاريخي .
   حتى تلك الأزياء الخاصة للمشايخ و الدراويش .. إنها ليست شيئا في الدين , فليس هناك زي إسلامي و زي غير إسلامي , والإسلام لم يعين للناس لباسا , فاللباس مسألة إقليمية , ومجرد عادة تاريخية . ومحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لم يلبس جبة و قفطانا , أو قفطانا و " كاكولة " وإنما لبس ثيابه العربية التي كان يلبسها قومه وجيله . كذلك لبس المسلمون في فارس ثيابهم الفارسية , و المسلمون في مصر ثيابهم المصرية .
   وعلام يتميز بعض المسلمين من بعض بلباس ؟ وليس في الإسلام رجال دين , و لا هيئة "إكليروس" ولا تقام الطقوس الدينية إلا بواسطتها . و التفقه في الدين اجتهاد كالتفقه في الطب و الهندسة  و التجارة وسائر المعارف الإنسانية الأخرى .
   نعم قد توجد مناصب رسمية كمناصب القضاء , و لكن الإسلام لا يعرف أن هناك قاضيا للأحوال الشخصية يحكم بالقانون الإسلامي  , وقاضيا للعقوبات و المدنيات يحكم بقانون غيره . الإسلام لا يعرف إلا شريعة واحدة تنظم العقوبات و الشئون المدنية , كما تنظم أحوال الزواج و الطلاق و الميراث , وتخضع الجميع لفكرة كلية واحدة تصدر عنها هذه التفريعات في شتى نواحي النشاط الإنساني . و الذي يتولى القضاء في هذه النواحي جميعا أو في ناحية واحدة منها ـــ حسب تخصيص الدولة له ـــ إنما يتولاه باسم تفقهه في الشريعة كلها أو بعضها . كما يتولى الطبيب عمله لتعلمه الطب العام أو التخصيص في فرع منه .. و القاضي ليس رجل دين في الإسلام . إنما هو مسلم حذق فرعا من فروع المعرفة , فأسند إليه العمل الذي يحسنه . ولكل أمريء ما يحسنه في الحياة .
   و الخدمة الدينية ــ كمجرد إمامة الصلاة ــ ليست عملا يأجر الإسلام من يقوم به من بيت مال المسلمين ! ما لم تكن لهذا الإمام وظيفة أخرى يؤديها . كإلقاء دروس في المسجد , أو القيام بإدارته من الناحية النظامية لا التعبدية . فإمامة المصليين ليست وقفا على شخص من المصليين . إنما يؤمهم أفضل الموجودين , وتصح صلاتهم  جماعة أو فرادى إلا صلاة الجمعة خاصة , ومن هذا البيان يتضح أن ليس في الإسلام "رجال دين" يخشى أن يتولوا الحكم إذا صار الحكم إلى الإسلام .
   ذلك من الوجهة النظرية , فأما من وجهة الواقع التاريخي في الإسلام فإن حذق الفقه الإسلامي لم يكن بذاته مرشحا للحكم , وتولى الأعمال في القيادة والإدارة وما إليها , حتى في أزهى عصور الحكم الإسلامي الكامل . إنما كان الحذق في كل حرفة هو المؤهل لها دون نظر إلى درجة الفقه الديني لصاحبها , ولا حتى الميزة الكبرى التي يعتبرها الإسلام أساسا للتفاضل بين الناس , وهي التقوى .
   كتب أبو بكر أعرف أصحاب رسول الله بروح الإسلام , إلى أبي عبيدة بن الجراح , الذي كان يلقبه رسول الله " أمين الأمة" يقول :
"بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله بن أبي قحافة إلى عبيدة بن الجراح . سلام الله عليك . أما بعد , فقد وليت خالدا قتال العدو في الشام , فلا تخالفه واسمع له وأطع , فإني وليته عليك وأنا أعلم أنك خير منه و أفضل دينا . ولكن ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك . أراد الله بنا وبك سبيل الرشاد ".
   فالذين يخشون ــ لو حكم الإسلام ــ أن يبصروا فيروا على رأس الجيش مثلا في المعركة , أو في مصلحة الكيمياء أو الطب الشرعي , أو في وزارة الأشغال أو المالية , شيخا مطمطما , أو درويشا معمما لمجرد أنه قرأ كتب الفقه و السنة , أو حفظ المتون و الحواشي والشروح , أو أتقن التراتيل الدينية ودلائل الخيرات ..
أولئك فليطمئنوا . فواقع الإسلام التاريخي , كأصوله النظرية , لا يعترف إلا بالكفاية الخاصة في العمل الخاص . ولكل وجهة هو موليها .
   إن حكم الإسلام لا يتحقق لأن في الحكم طائفة دينية ــ وليس في الإسلام كما ترى طائفة دينية ــ إنما يتحقق لأن القانون الإسلامي ينفذ , ولأن فكرة الإسلام تحكم , ولأن مبادئه ونظمه تحدد نوع الحكومة , وشكل المجتمع . وهذا كل ما هناك .
   فأما نوع الحكم الذي يحتمه الإسلام فهو الحكم الشوري . و القرآن ينص على هذا نصا: "وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ " و النبي صلى الله عليه و سلم يقول : "لو كنت مؤمراً أحد دون مشورة المؤمنين لأمرت ابن أم عبد " فيقرر مبدأ الشورى في الحكم و الإدارة تقريرا صريحا . لأنه وهو النبي لا يملك أن يؤمر أحدا دون مشورة المؤمنين .
    فأما طريقة الشورى فلم يحددها الإسلام تحديدا معينا , لأنها مسألة نظامية ترجع إلى حاجات كل عصر , و وسائله وإمكانياته في تحقيق المبدأ , في كل مكان وفي كل زمان .
   فحين كان أهل الرأي الذي يمثل  الشعب كله مجتمعين في المدينة حول النبي ــ وهم الصحابة ــ كان النبي يستشيرهم فيما لا وحي فيه ولا نص بطبيعة الحال ـ ويترك لهم حرية القول و التصرف في شؤونهم  الدنيوية , لأنهم أخبر بها . ومعنى دنيوية هنا أنها لا تتعلق بحكم شرعي أو اجتماعي , وإنما تمثل الخبرات العملية , كفنون القتال , وزراعة الأرض , و حماية الثمار , و ما إليها . و هي ما نستطيع أن نسميه في عصرنا الحاضر الشؤون العلمية البحتة و الشؤون العملية التطبيقية .
   فأما الشؤون التشريعية الخاصة بالإنسان : روحه و عقله , و علاقاته بالناس و علاقات الناس به , و الحدود بين حقه و واجبه .. الخ , فتلك مسائل يرجع فيها إلى النصوص و القياس , أي إلى القوانين الإسلامية المحددة , أو المبادئ العامة و الفكرة الكلية . وما يتفق معها فهو منها .
   وقد ظلت الشورى مقصورة على المدينة , ما ظلت المدينة تمثل أهل الرأي , فلما تغير الوضع شيئا توسع الخليفة الأول أبو بكر فاستشار أهل مكة في حرب الشام . إذ كانت المسألة عملية حربية خارج الحدود العربية كلها , تعود آثارها على من في مكة كما تعود على من في المدينة .
  فإذا انتهينا في هذا العصر إلى أن يصبح رأي الجماهير لا يمثله من يقيمون في القاهرة  وحدها , ولا الإسكندرية , ولا أية مدينة من المدن , فالطريقة أذن أن نستشير الجميع بالطريقة التي تكفل الحصول على آراء الجميع .. وهي مسألة نظامية تتعلق بالتنفيذ . وأما المبدأ فهو مقرر في الإسلام تقريرا أصيلا واضحا . كل ما يحتمه الإسلام هو إزالة القيود التي تجعل الانتخابات غير ممثل لحقيقة الرأي في الأمة . فلا يكون الناخب تحت رحمة صاحب الأرض أو صاحب العمل أو صاحب السلطان , كما هو واقع الآن .
   والحاكم في الإسلام يتلقى الحكم من مصدر واحد هو إرادة المحكومين . فالبيعة الاختيارية هي الطريق الوحيد لتلقي الحكم . والواقع التاريخي قام على هذا المبدأ . فخلافة أبي بكر وعمر و عثمان و علي قامت على أساس الاختيار المطلق . ولا يتعارض هذا مع وصية عمر أن تكون في واحد من ستة فقد كانت هذه نصيحة للمسلمين , و لم تكن أمرا واجب الطاعة .. ولو اختار المسلمون واحدا من غير الستة لاختاروا . و لكن هؤلاء كانوا بالإجماع أصلح الجميع , فاختاروا واحد منهم برضاهم وإذنهم , لا بأمر عمر ووصايته .
    ولما عدل بنو أمية عن هذه القاعدة الإسلامية الأساسية في الحكم , رده إليها الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز . رده إلى الأمة التي يجب أن تختار حكامها حرة طائعة مختارة .
صعد المنبر فقال :
" أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه , ولا طلبة له , ولا مشورة من المسلمين  . وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي . فاختاروا لأنفسكم ".
فقال الناس : قد اخترناك يا أمير المؤمنين , و رضيناك . فل الأمر باليمن و البركة .
   وبذلك رد الأمر إلى نصابه في ولاية الأمر . فلا ولاية بغير شورى ورضى و قبول.
   والحاكم الإسلامي يتلقى طاعته بعد توليته من قيامه على تنفيذ الشريعة الإسلامية , لا من أي اعتبار آخر . وذلك عهده مع المحكومين . فإذا لم ينفذ الشريعة فقد سقطت طاعته عليهم . ويقول صاحب هذا الدين : "اسمعوا وأطيعوا , وإن استعمل عليكم عبدا حبشي كأن رأسه زبيبة ـ ما أقام فيكم كتاب الله تعالى " و واضح من الحديث توقيت السمع و الطاعة بإقامة كتاب الله تعالى , فليست هي الطاعة المطلقة لإرادة الحاكم , وليست هي الطاعة الدائمة ولو ترك شريعة الله ورسوله .
   بهذا وحده يقوم الحكم الإسلامي , لا بوجود طائفة معينة في الحكم من المشايخ و الدراويش كما يتصور الكثيرون .
    ذلك كذلك من ناحية الأسس الدينية  .. ثم أحب بعدها أن أطمأن الخائفين من حكم الإسلام أن يجيئهم بالمهابيل و الدراويش في الدواوين أحب أن أطمئنهم إلى أن نوعا من أنواع الحكم لن يطارد هؤلاء كما يطاردهم الإسلام !
   إن حكم الإسلام يعد هذه الطوائف ــ في أوضاعها الحالية ــ متبطلة متعطلة , لا تنتج شيئا وهي قادرة على الإنتاج . فسيجند هذه الجموع للعمل المنتج , لتأتي للأمة بشيء يعينها على الحياة .
   إن حكم الإسلام لن يدع الدراويش يتدروشون , ولا مشايخ الطرق يعيشون على النذور .. إن الإسلام يطلب إلى كل فرد أن يعمل عملا ليأجره عليه أجرا . فلا أجر بلا جهد , ولا جزاء بلا عمل . و الصلوات و الدعوات عبادة شخصية وليست عملا اجتماعيا , أما إقامة الأذكار وتلاوة الأوراد , فتلك أشياء تعرفها عصور التبطل , ولا تعرفها عصور الحياة والنشاط .
   إن العهود الإقطاعية هي التي ترزق المشايخ المتبطلين , و الدراويش المهبولين , وتخلع عليهم وتعترف بوجودهم . . لأن هذه كلها أجهزة لتخدير الجماهير عما هي فيه من حرمان وشقاء . فأما حكم الإسلام الذي يكافح الإقطاع , ويرد عن الناس الاستغلال , فليس في حاجة إلى هذه الأجهزة . فسيوجه هذه الجموع المتعطلة المتبطلة لتعمل , وسيهيئ لها مرافق العمل , لأنه سيعمل للجميع , وسيأخذ من القادر للعاجز , وسيجمع من الضرائب وغير الضرائب ما يحتاج إليه المجتمع بلا تحرج من مس الأغنياء إلا بقفاز الحرير , وسينفق ما يجمعه لمصلحة المجتمع كله لا لحساب المحظوظين دون المنبوذين .
   وعندئذ لن يكون المشايخ المتعطلون , و الدراويش المتبطلون , هم سادة عهده , بل سيكونون طريديه , إن لم يغيروا ما بأنفسهم ويبدلوا وسائل كسبهم , ويعملوا مع العاملين في حقل الإنتاج المثمر , حقل الحياة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) " نحو مجتمع إسلامي " بحث يتضمن صورة شاملة للمقومات الأصلية لهذا المجتمع . أرجو أن ينشر قريبا بعون الله .




ليست هناك تعليقات: