الاثنين، 4 مارس 2013

في مفارق الطريق


معركة الإسلام و الرأسمالية
سيد قطب
في مفارق الطريق
    هذه الأوضاع الاجتماعية القائمة غير قابلة للبقاء والاستمرار . هذا ما يحسه لا الذين يعارضونها وحدهم , بل الذين يحاولون أن يقيموا لها الأسناد , فإنه ينبغي أن نشهد أنهم ليسوا من الغباء بحيث يطمئنون إلى أن مثل هذه الأوضاع يمكن أن تمتد بذاتها كثيرا أو قليلا . لذلك هم يحاولون أن يقيموا لها الأسناد الزائفة لتعيش فترة طويلة أو قصيرة .. هم يضيفون بين آن و آن وآخر مواد جديدة إلى قانون العقوبات تشمل ما لم تكن تشمله المواد السابقة من الأحوال , أو تضيف عقوبات لم تكن في المواد السابقة تتضمنها . رجاء إرهاب المكافحين في سبيل العدالة الاجتماعية , بأية طريق ,  وبأي عنوان !
   وهم يزيدون الأموال المرصودة للدعاية لهذه الأوضاع , فتتحرك أقلام وتنشأ صحف , وتتم في الظلام مؤامرات على التشكيلات النقابية وعلى الهيئات المكافحة , قوامها المال , وقوامها الترهيب والترغيب , وفي يدها سيف المعز وذهبه : هذا لمن شاء وذلك لمن أراد !
   وهم يتحدثون بين الحين و الحين عن .. العدالة الاجتماعية ! أي والله عن العدالة الاجتماعية . وعن الطبقات المحرومة , وعن ضرورة تحسين الأحوال . وكثير هم "الباشوات"  الذين يطلقون للعدالة الاجتماعية البخور في هذه الأيام , إذ كان ألطف مخدر للجماهير الكادحة , يهدي أعصابها , و يسيل لعابها , ويمنيها بالعدل الاجتماعي الذي لا تكافح من أجله وحدها . بل يكافح له معها "الباشوات" العظام ! فما عليها إلا أن تستريح , وتستبشر , وتنام!
   ولكن شيئا من ذلك كله لن يجدي فتيلا , فالطبيعة و الحياة والدين و الحضارة الإنسانية والاقتصاد والعقل ضدها جميعا . إنما هي تعلات فارغة , ذاهبة مع الريح في الهواء .
***
     ونحن اليوم في مفارق الطريق . كلنا قد انتهينا إلى أن الأوضاع القائمة لن تدوم . كلنا متفقون على هذه الحقيقة , حتى أولئك الذين يقيمون من حولها الأسناد . إنما تختلف الآراء حول الوضع الجديد الذي ينبغي أن يخلف هذه الأوضاع . و التفكير في هذا واجب , فلا بد من وضع اجتماعي معين يحل محل هذا الوضع الذي يدق بيده أو بأيدي المتشبثين به ,كل يوم مسمارا في نعشه , والمسمار الأخير قريب  قريب !
منا فريق يهتف بالاشتراكية . ومنا فريق يحلم بالشيوعية , ومنا فريق يدعو إلى الإسلام .
   والأوضاع القائمة تجاهد الجميع , لأن واحدا من هذه الحلول كلها لن يدعها في سلام !
هي طبعا تكافح الشيوعية بادئ ذي بدء جهارا نهارا بلا تقية ولا مداراة . وهي تكافح الإسلام فتداوره تارة , وتنكل به تارة , حسبما ترى من القوة التي تسنده إن كانت خطرا حقيقيا واقعا , أو كانت خطبا ومواعظ يطفئها الكلام . وهي تدع اسم الاشتراكية يمر , حين لا تحسها خطرا حقيقيا قائما , فأما حين تحسها قوة حقيقية فهي تكافح كفاح الشيوعية وكفاح الإسلام . 
   لن تسلم الأوضاع الاجتماعية المستغلة لواحد من الثلاثة إذن , ولا بد من كفاح منظم رتيب , طويل الأجل . كفاح قلم وكفاح بحث . وكفاح تنظيم . وكفاح تكتل إلى جانب فكرة من هذه الفكر , لإنقاذ هذا الوطن المشرف على الانهيار .
***
    هذا في الداخل . فأما في الخارج , فهنالك كتلتان ضخمتان : كتلة الشيوعية في الشرق , وكتلة الرأسمالية في الغرب . وكلتاهما تبث دعاية ماكرة في جنبات الأرض , قوامها :أن ليس في العالم إلا كتلتان ووجهتان : الشيوعية و الرأسمالية . وأن ليس للأمم الباقية مفر من أن تكون إلى جانب هذه الكتلة أو تلك , فليس هنالك من سبيل إلا هذا أو ذاك !
   إن الشيوعية تخاطب الشعوب المُستغَلة , و الجماهير الكادحة , فمن مصلحتها أن تدع الجماهير تفهم أنها إن لا تكن في صف الشيوعية , فستكون في صف الرأسمالية ! والجماهير حين تخير على هذا النحو , خيرتها واضحة , وطريقها مرسومة , وقد ذاقت من الرأسمالية الويل , فالشيوعية وحدها طريق الخلاص !
    و الرأسمالية ــ أو الديمقراطية ــ تخاطب الهيئات الحاكمة , والطبقات المُستغِلة , فمن مصلحتها أن تدع هذا الفريق يفهم أنه إن لا يكن في صف الرأسمالية , فسيكون في صف الشيوعية ! والأسياد المستغلون حين يخيرون على هذا النحو , خيرتهم معروفة , وطريقهم مرسومة . وهم يفرقون من الشيوعية فرق الهمجي من الجن و الغيلان !
   ولما كانت الكتلة الغربية كالكتلة الشرقية , إنما تتنازعان رقعة العالم , وتديران المعركة لحسابها الخاص , على حساب الشعوب والأمم التي تدور في فلك هذه أو تلك , فإن دعايتهما على هذا النحو مفهومة , وهما منطقيتان مع أنفسهما ومع أهدافهما بلا جدال !
    فأما نحن فما شأننا في الصراع ؟
   نحن جربنا في فلسطين قريبا أنه لا الكتلة الشرقية ولا الكتلة الغربية تقيم وزنا للمبادئ التي تنادي بها , أو تقيم وزنا لنا نحن أنفسنا , حين يجد الجد , وتنكشف النيات , وتنطق المصالح و الشهوات .
  نحن إذن لا راحم لنا عند هؤلاء ولا عند هؤلاء . ونحن إذن غرباء مستضعفون في صف هؤلاء أو في صف هؤلاء . ونحن إذن أذناب في القافلة سلكنا هذا الطريق أو ذاك .
   وأنا أفهم جيدا أن نهون عند الآخرين ، فأما أن نهون على أنفسنا فذلك أمر فهمه علي عسير ، لأنه لا يخالف طبيعة الرجل الكريم فحسب ، بل يخالف طبيعة الإنسان ! 
   إنني أعرف أن في هذه البشرية من يستطعمون طعم الذل والمهانة ، ويستلذون الأذى في الجسم والكرامة . ذلك أنهم مرضى يعرفهم علم النفس ، ويضعهم في قوائم المرضى تحت عنوان خاص .
   ولكنني لا أعرف أن أمة كاملة يمكن أن تكون مصابة بهذا المرض النفسي المعروف ، ولا أن جيلا كاملا يستلذ الأذى والمهانة بحال من الأحوال .
   ترى أحالتنا الأوضاع الاجتماعية القائمة أمة من العبيد , لا للسادة فيها فحسب , ولكن لأية سيادة تلوح لها من جانب الأفق الغربي أو الشرقي على ألوف الأميال !
   إنني أعيذ الأمة الإسلامية أن يكتب عليها كلها هذا الهوان . فلقد وقف واحد منها وسط " الكونجرس" الأمريكي يفهم الأمريكان أن الغرور وحده هو الذي يصور لهم وللروس , أن ليس في العالم كله كتلتان : كتلة الشيوعية وكتلة الشيوعية و كتلة الديمقراطية .. أن هنالك كتلة أخرى ثالثة .. كتلة الإسلام .
  ارتفع هذا الصوت في قلب أمريكا , منبعثا من فم المرحوم : "السيد لياقت علي خان" رئيس وزراء الباكستان , بل من قلبه وضميره , بل من كرامته وكرامة شعبه , وكرامة الشرق المسلم , الذي يربأ بنفسه عن المهانة , ويرى لنفسه وجودا وكيانا , ويأبى أن يقف في ذيل القافلة وقفة الذليل الخانع الجبان , تلك الوقفة التي يدعونا إليها مع الأسف شباب من هذا الجيل بلا تحرج ولا إباء .
   في هذا العالم رقعة فسيحة متصلة الحدود , من شواطئ الأطلنطي إلى جوانب الباسيفيكي , تضم أكثر من ثلاثمائة مليون من الناس , يشتركون في عقيدة واحدة , ونظام معيشي واحد , وتقاليد متقاربة , ولغة إن لا تكن واحدة فهي في طريقها لأن تصبح لغة التفاهم للجميع . ودع عنك عشرات الملايين المتفرقة في أوربا وآسيا وأفريقية , ممن يدينون بهذه العقيدة , وبذلك النظام الذي تحمله العقيدة .
   فأي عقل يمكن أن يغفل هذه الكتلة الضخمة المتصلة الحدود من الحساب؟ إن الكتلتين الشرقية و الغربية لا تغفلان هذه الكتلة الثالثة من حسابهما إغفالا حقيقا , كما يبدو في دعايتهما الماهرة الماكرة , إنما هما تتنازعانها تنازع الأشياء و المتاع ! ولكل الكتلتين عذرها , فما عذرنا نحن أن نرضى بأن نكون كالأشياء و المتاع ؟!
    عذرنا أن الأوضاع الاجتماعية القائمة التي نعانيها في الداخل , لا تدع لنا أن نفكر في روية , ولا أن نحس في كرامة , ولا أن ندرك ما وراء الدعايات من أهداف !
   هذا صحيح ! ولكن هذا العذر يصلح لفرد أو أفراد . أما الشعوب والأمم فما هي بمعذورة أن تدع نفسها كالشيء التافه أو سقط المتاع , متى كان لها مخرج يحفظ عليها كرامتها , ويرد إليها اعتبارها , ولا يدعها في ذيل القافلة , وفي مركز التابع الذي لا يؤبه لرأيه ولا يستشار !
   ولو لم يكن لها هذا المخرج لأوجبت عليها الكرامة الإنسانية , والاعتبارات القومية , أن تبحث عن مخرج , وأن تخلقه خلقا , وتنشئه إنشاء . فكيف وهذا المخرج في يدها , وفي متناولها , وفي رصيدها الحاضر الذي لا يعز على التناول ؟ إلا تكن ذلة العبيد , فأنه نوع من التفكير عجيب !
* * *
      واعتبار آخر ...
      لقد جربنا ــ حتى شبعنا ــ تلك القوالب الجاهزة التي استجديناها كالشحاذين من هنا ومن هنا ومن هناك . جربناها في كل جانب من جوانب حياتنا الفكرية والاجتماعية والتشريعية , حتى انتهينا بها إلى" كرنفال" مضحك من المظاهر والأزياء . أزياء الفكر وأزياء الجسم سواء !
   ولنأخذ مثالا ذلك التشريع الذي استوردناه أولا من فرنسا ,ثم ما نزال نستورده من شتى بقاع الأرض , كلما احتجنا أن نشرع لهذه الحياة .
    أن هناك تصادما دائما بين روح التشريع الذي نستمده وروح الشعب الذي نسن له هذا التشريع . أن الشعب يسم بالبطولة كل خارج على القانون , ويبذل له التشجيع و العون و المساعدة , بقدر ما ينفر من السلطات القائمة على القانون , ويضن عليها بثقته , أو مساعدته على جمع الأدلة و القرائن و الشهادات .
   لماذا ؟ يقولون : إن الشعب جاهل ! كلا . فليس هذا هو السبب الأصيل , فالمتعلمون كذلك لا يستجيبون لدعوة القانون . إن السبب الحقيقي كامن في التنافر بين روح الشعب وروح التشريع المستعار , لأن هذا التشريع لم يستمد من ظروفه الاجتماعية , وملابساته التاريخية , ومشاعره وعقائده , وتقاليده وعاداته . إنما استمد من وسط أجنبي عن روحه جميعا , وسط له تاريخه الخاص , وله ديانته الخاصة , وله حاجاته الاجتماعية وظروفه الخاصة , فلن تخلص له ولن تنقاد !
   نحن لا ندعو إلى عزلة فكرية أو اجتماعية عن ركب الإنسانية المندفع . فنحن شركاء في القافلة , شركاء في الحضارة البشرية .
    بل نحن أدينا لهذه الحضارة الكثير , وقمنا فيها بدور إيجابي ضخم , قد لا نفطن إليه اليوم ولا نحترمه , إلا إذا تخلصت نفوسنا من مشاعر العبيد !
   ولكننا ننعي هذا التسول الدائم الذي نزاوله , وهذا الاستجداء المزري الذي نحن عاكفون عليه , وهذه الاستعارة التي لا نردها , ولا نؤدي ما يقابلها . وما دمنا نستجدي دائما ولا نعطي شيئا , فنحن على مائدة الإنسانية في موضع الشحاذ المتسول , ولا موضع الواهب الكريم .
   وقد يتسول المعدم ويستجدي المسكين . فأما أن يكون لك رصيد ضخم ثم تلبس أسمال الشحاذة , وتمد يد الاستجداء باسم المشاركة في الحضارة , فتلك مشاركة لا يعرفها إلا الشحاذون وحدهم , ولا يطمئن إليها إلا العبيد !
   هنالك معنيان للحضارة : فأما الأول فهو أن يكون لنا نصيبنا المتميز البارز في بناء هذه الحضارة , وزينا الذاتي المستمد في أصوله مما عندنا , المنتفع من تفريعاته وتطبيقاته بكل ما أفادته الإنسانية من التجارب . وأما الثاني فهو أن نأخذ القوالب الجاهزة , والسمات الظاهرة , وأن ننقل نقلا كل ما نراه بلا روية ولا تفكير ولا تعقيب  .
   المعنى الأول يفهمه الآدميون , والمعنى الثاني تفهمه القرود , وأخشى ما أخشاه أن لا نكون قد فهمنا إلا هذا المعنى الأخير !
* * *
    وبعد فإن الجبهة الغربية المؤلفة من أمريكا وانجلترا وفرنسا تستعبدنا وتستذلنا , ولا مكان لنا فيها إلا مكان الذيول و العبيد , وكل تفكير في الانضمام إليها غنما ينشأ من المصلحة المشتركة بين الرأسمالية المستغلة , والاستعمار الذي يحميها , وكل ستار آخر إنما هو ستار خادع , للتعمية على الجماهير , التي أصبحت لحسن الحظ لا تنخدع بهذا الستار .
   لقد منحنا أرضنا وسماءنا . وأقواتنا وأرزاقنا , ومصالحنا وأرواحنا , إلى هذه الجبهة مرتين في خلال ربع قرن , ثم اُبنا منها بصفعة كف أو ركلة قدم في نهاية المطاف . فأما هذه المرة الثالثة فإننا لن نؤوب بذلك المصير السليم الذي قد يجمده العبيد , ويسجدون للسادة شكرا على السلامة و العافية . بل سنؤوب بالتدمير المطلق الشامل لحياتنا كلها إلى عدة أجيال . 
    إن الدفاع المشترك في أية صورة من صوره . أو الانضمام إلى معسكر معين بأي وضع من أوضاعه , معناه تعريض هذا البلد الأعزل للخراب والدمار . هذا البلد المكشوف الذي ما تزال حياته تتوقف عل خزان أسوان , وقنبلة موقوته واحدة تكفي لتحطيم هذا الخزان ! أي تحطيم مصر كلها أجيالا بعد أجيال !
   إنها جريمة وطنية أن نربط أنفسنا إلى عجلة معينة في صراع الجبابرة القادم , فوق أنها جريمة في حق الكرامة و الشرف و الضمير . الكرامة التي داستها الديمقراطيات الغربية مرتين , وما تزال تدوسها في تبجح , ولا يقيم لهذا الشعب وزنا , لأنه يرتكن إلى المصلحة المشتركة بينه وبين عهود الإقطاع .
    إن هذا العالم العربي الممزق في براثن الاستعمار الغربي , ليستحق اللعنة والاحتقار , إذا مد يده الذليلة ليسند الغرب الفاجر في بأسائه مرة أخرى . و الشرق لا يمد يده , وإنما يمتطي ظهره للعرب ليضع أقدامه , ويعبر الهاوية , ثم يركل الحمار الذليل الذي امتطاه !
    إن الغرب الرأسمالي والاشتراكي سواء , يناصبنا العداء كله كتلة واحدة . وفي فلسطين شاهد من ذلك العداء الناصب قريب . وهو في الوقت ذاته يسومنا الذل و الخسف في تبجح ظاهر , ولا يخفض من نبرة الاستعلاء الفاجر إلا في أبان الهزيمة و الانكسار . ونحن لم ننس بعد استهانة جنود الحليفة في الحرب الأخيرة بأرواح المصريين , الذين كانت عرباتهم تدوسهم باستهانة كما تداس الكلاب , وتدوس كرامتهم و أعراضهم كما تداس الرقيق والعبيد . وما تزال هذه الحوادث تجري في الشقة العريضة التي يحتلونها على ضفة القنال (1) .
   نحن لا ننسى نظرات الازدراء التي كانت تطل من عيون شذاذ الآفاق الذين حشدتهم الحليفة في أرضنا , وهم يتوجهون بها إلى الجماهير في غدوهم ورواحهم , بل يتوجهون بها إلى ضباط البوليس وعساكره في أية مرة حضر هؤلاء للتفرج على حادثة من حوادث المجندين . فما كان للبوليس المصري إلا أن يتفرج , والحلفاء يدوسون المصريين بسياراتهم , أو يركلون بأقدامهم , أو يبتزون منهم النقود في الطرقات .
   لقد شبعنا من منظر السكارى المعربدين من مجنديهم , والمائعات المستهترات من مجنداتهم , ومن تلك القذارات الآدمية التي جلبوها معهم , أو التي خلفوها لنا , مئات وألوفا من الأعراض المثلومة , والكرامات المهدرة , والعار الذي تأنف منه الرجال . . . والنساء !
    لقد استكفينا جوعا لنطعم شذاذ الأفاق من جنود الحلفاء , وعُريا لتشتغل مصانعنا لكسوتهم , بالتآمر مع رؤوس الأموال وممثليها في عالم الصناعة وفي كراسي الحكم سواء .
   لسنا مستعدين مرة أخرى أن تخطف بناتنا من الطرقات والبيوت ليهدر عفافهن في المعسكرات والسيارات , ولا أن تخطف أقواتنا وطعامنا من المزارع والأسواق , لنصاب نحن بالسل والجوع , ولا أن تخطف أموالنا وأرصدتنا من البنوك , لنواجه الأزمات والكساد . ثم يقف بعد ذلك مستعمر متبجح مثل مستر تشرشل , ليمن علينا بنعمة الحماية ,  ويطالبنا , لا بالتنازل عن ديننا على بلاده , بل بدفع تعويض عن تضحيات جنوده .. جنوده السكارى المعربدين الأوباش !
    فأما فرنسا فصفحتها في تونس والجزائر ومراكش , وفي مصر ذاتها أقذر من صفحة الإنجليز .. ففرنسا التي وقفت في مؤتمر (مونتريه) حجر عثرة في طريق إلغاء الامتيازات , ولو أن الإنجليز ــ لمصلحة خاصةــ كانوا يريدون قصقصة جناحها في الشرق العربي شيئا فشيئا لظلت حجر عثرة في طريقنا الآن . فأما فظائعها في تونس والجزائر ومراكش , فهي البربرية المتوحشة في القرون الوسطى ما تزال . 
   وفرنسا أمة انتهت , وهي في دور الانحلال الأخير , على الرغم من كل دعاتها في الشرق العربي , ولكنها ماضية في وحشية البرابرة وتعصب الصليبيين تقتل وتحرق , وتعذب وتشوه وتسرق و تسلب , وترتكب في المغرب العربي ما ارتكبه المغول والصليبيين من آثام .
    ولقد كان عبيد فرنسا هنا في الشرق يردون علينا دائما حين نحدثهم عن "أمهم الحنون" بأنه لا يجوز الحكم على فرنسا بتصرفات السياسيين , فالسياسة لا قلب لها ولا ضمير . فها هي ذي كبيرة صحفيات فرنسا "مدام تابوي" تصفع العبيد هنا بتصريحاتها العجيبة . ففي زيارتها الأخيرة لمصر تلقت مندوب أحدى صحفنا غاضبة , لا لشيء إلا أن رئيس الحكومة المصرية رد على رسالة زعيم من زعماء المغرب , يؤيد فيها حق الحرية . حتى لقد قالت لذلك المندوب : كنت قد أعددت مقالا عن بلادكم ولكني لن أنشره . فماذا كسبتم من تدخلكم في شؤوننا بالشمال الأفريقي ؟!
    وبلع العبيد في مصر هذه الصفعة , وعادوا يسبحون بحمد فرنسا أمهم الحنون !
    فأما أمريكا فالذين لم يعيشوا فيها ولم يروها ، قد لا يذكرون لها إلا خيانتها لنا في قضيتنا بمجلس الأمن ، وفى حرب فلسطين ، ولكن الذين عاشوا فيها ، ورأوا  كيف ولغت صحافتها ومحطات إذاعتها وشركات أفلامها في كرامتنا وفى سمعتنا ، وكيف نشرت ذلك بعداء واضح واحتقار مقصود ، أو أحسوا ذلك العداء العنيف لكل ما هو إسلامي وشرقي بوجه عام , أو عرفوا كيف ينظر الأمريكان للملونين عامة ومدى ما يكنون لهم من احتقار . وهؤلاء يعرفون ما هي أمريكا , ويعرفون كيف يجب أن يردوا لها الجميل وذاك ! 
   ولقد لقي الآلاي التركي الذي ذهب إلى كورية جزاءه الحق من الأمريكان , وعرف نصيبه أي جيش شرقي يذهب لمعاونة هؤلاء المتغطرسين على الشرقيين . لقد تركوه يحمي هزيمتهم , فلما قام بدوره تركوه بلا حماية من الطيارات , وبلا معونة من السيارات , بل بدون ذخيرة ودون طعام !
    وإنه لمثل بسيط لما ينتظر جيوش العبيد في أي حلف مشترك فالأتراك في نظر الأمريكان هم أرقى الشرقيين لسبب تافه بسيط أنهم بيض البشرة ! ومع ذلك فتلك معاملتهم لهم في الميدان .. معاملة السيد الخائن الجبان !
    تلك قصة الكتلة الغربية معنا ــ بما فيها من رأسمالية واشتراكية ــ فما هي قصة الجبهة الشرقية !
   لقد كشفت لنا الشيوعية عن قيمة مبادئها التي تبشر بها يوم وقفت تسلح إسرائيل . وإسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تقوم على عنصر الدين وحده في الأرض . وعنصر الدين هو أول ما تنكر الشيوعية أن تقوم عليه الدول , وآخر ما تفكر في احتضانه و الدفاع عنه . ولكن الشيوعية لا تقيم وزنا إلا لمصلحتها الخاصة , وتحت أقدامها المبادئ التي تزخر بها الدعايات .
   والشيوعية قد تمنحنا الخبز , وتعفي نفوسنا من مرارة النظر إلى الثراء الفاحش الفاجر الذي تنفر من رؤيته البشعة فطرة الإنسان ! ولكنها تمنحنا الخبز لتسلبنا مقدساتنا كلها في الحياة , لا مقدساتنا الدينية , ولكن مقدساتنا الإنسانية جميعا , لتحبس نفوسنا في إطار الخبز و الكساء .
      وقد يبدو الحديث عن المقدسات الإنسانية ترفا في مصر , أو حديثا عن أوهام وخيالات لا وجود لها في حقيقة الواقع الاجتماعي . 
   وهذا صحيح .. فما يمكن أن نعيش هذه المقدسات في أوضاع اجتماعية كأوضاعنا القائمة . إن الحطام الآدمي الذي يعد بالملايين في مصر , لا يتسنى له الشعور بتلك المقدسات , لأنه مشغول بشعور الجوع والحرمان .
   ولكن ما القول : إذا كان هناك نظام آخر يمنحنا الخبز الذي تمنحه لنا الشيوعية ,  ويعفينا من بشاعة الثراء الفاحش وفوارق الطبقات , ويحقق لنا مجتمعا متوازنا لا حرمان فيه ولا افتراء .. ثم يمنحنا في الوقت ذاته غذاء الروح , وحرية الفكر , والشعور الإنساني الأرقى بالإنسان , والحياة ؟
   ما القول إذا كان هناك نظام لا يدعنا ذيلا في القافلة : قافلة الشيوعية أو قافلة الرأسمالية .. إنما يمنحنا مع العدالة الاجتماعية المطلقة في الداخل , وكرامة دولية عزيزة في الخارج , ويرد إلينا اعتبارنا في المجتمع الدولي , وقد يعفينا من ويلات الحرب , ويعفي الإنسانية معنا من هذا البلاء ؟
   ما القول إذا لا يدعنا نقف أبدا من المائدة الإنسانية وقفة المستجدي الذليل , بل وقفة المساهم في هذه المائدة , المعطي ما عنده , وما عنده ليس بالقليل ؟
   إنني لأعجب كيف يمكن للإنسان أن ينأى بنفسه عن موقف الكرامة إلى موقف الذلة , وعن دور المعطي إلى دور المستجدي , وعن مركز القيادة إلى موقف التبعية . وهو قادر على الاختيار , لو قاوم في ضميره شعور الاضطرار!
    إن لدينا ما نعطيه , ولسنا من الإفلاس بحيث يتصور الكثيرون , أو بحيث تصورنا لأنفسنا كتلة الغرب وكتلة الشرق سواء , إنما تصوراتنا هكذا لغاية في نفس يعقوب ! ليحل التخاذل في نفوسنا محل الثقة , واليأس محل التطلع , ولنسقط فرائس ذليلة مستغفلة في هذا الفخ أو ذاك.
   إن لدينا ما نعطيه , ولكننا في حاجة لأن نؤمن بأنفسنا , ففي هذا الإيمان حياة , وفي هذا الإيمان نجاة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)جاء هذا الكلام في الطبعة الأولى قبل خمسة عشر عاما .  

ليست هناك تعليقات: