سيد قطب
في الإسلام خلاص
فساد العمل و ضعف الإنتاج
أحب
أن ألفت النظر بشدة إلى أن هناك خطرا حقيقيا مصلتا على رقابنا , وعلى وجودنا ذاته
كاملة : خطر الفساد الشامل لكل جهاز العمل في الدولة وفي المجتمع , ذلك الفساد
الذي يؤدي إلى ضعف الإنتاج العام , بل إلى الشلل في بعض الأحيان .
ولقد تحدثت عن هذا الشلل في مقدمات الكتاب ,
ولكني أحب ألا أكتفي بما قلت هناك : أننا على حافة الهاوية والخراب بسبب تناقص
الغلة وضعف الإنتاج , وأن الفقر والبؤس و الهوان لا تحيق إلا بنا لمجرد سوء
التوزيع وحده , بل لأن مجموع الثروة القومية في ذاته ضئيل , لأن الإنتاج العام دون
ما ينبغي أن يكون عليه بكثير .
هذا الشلل وذلك الفساد كلاهما وليد أمراض
اجتماعية شتى : وليد سوء توزيع الملكيات و الثروات , ووليد فساد نظام الجور , وعدم
تكافؤ الجهد و الجزاء , ووليد انعدام تكافؤ الفرص و القضاء بذلك على القوى و
الكفايات التي لم توهب نعمة الولادة في بيت مرموق , أو الاحتماء ببيت من بيوت
الثراء . . . ثم من بعد ذلك كله وليد الانحلال الخلقي , الذي ينشأ من تلك العوامل
جميعا , وينشأ من خواء الضمير من عقيدة دافعة , توقظ شعور الفرد بالواجب , وتدفع
المجتمع كله إلى الخلق و التقدم والاستعلاء .
ولقد أسلفنا رأي الإسلام في المشكلات الثلاث
الكبيرة , التي تنشئ بدورها ــ أو تشارك في إنشاء ــ هذه المشكلة الضخمة الرابعة .
فالآن ننظر كيف يعالج الإسلام هذه المشكلة أيضا .
أنه يعالجها بإزالة مسبباتها المادية الأولى ,
ثم يعالجها بامتلاء النفس بالعقيدة الدافعة , العقيدة التي تملأ فراغ النفس
وخواءها , وترفعها إلى الله , وتجعل الفرد هدفا أكبر من ذاته , هو ذلك المجتمع
الذي يعيش فيه , وتلك الإنسانية التي هو منها .
ولقد يظن المصابون بضحالة الروح , وقزامة
الذات , وخواء الضمير أن هذا الذي نقوله هنا كلام وعظي لا رصيد له في واقع الحياة
!
ونحن لا نكتب لهؤلاء
.. فهؤلاء ميئوس منهم في كل زمان , وضمير الإنسانية لم ينضب على الرغم من
إيحاءاتهم له في كل مكان .
إن الفرد بلا عقيدة كلية تربطه بالأرض و
السماء , ضائع ولقي مهمل , والعقيدة ضرورية
له حتى في عالم الشيوعية الذي يسخر بالعوامل الروحية في الحياة ! فلولا حرارة
العقيدة ما تلقى الألوف منافي سيبيريا وسجون القيصرية بمثل هذا الحماس الذي مكن
للحكم الشيوعي في نهاية المطاف !
ولقد انتهت بنا الأوضاع الاجتماعية المريضة
إلى فساد في الذمم و الضمائر , واستهتار بالعمل و الواجب , لا يقتصر أثرهما على
مجال دون مجال . وجريمة الاستثناءات في دواوين الحكومة انتهت بالمحظوظين و
المنسيين سواء إلى الاستهتار بالعمل , أو لأنه لا يؤدي إلى ثمرة , ولا يترتب عليه
ثواب ولا عقاب . وجريمة الحرمان من عدالة الأجر و الضمانات الاجتماعية في دائرة
العمل انتهت بالعمال إلى الاستهتار , ولأن الفوضى أيسر من النظام , في محيط لا
عدالة فيه ولا وزن للجهد ولا جزاء . وجريمة انعدام تكافؤ الفرصة أهدرت وبددت ثروات
بشرية هائلة وحولتها إلى فتات وحطام . وجريمة تكتيل الثروة كلها في أيد قليلة
واحتكارها في حيازة عدد محدود انتهت إلى تعطل الملايين , وتمضية أوقات فراغهم على
المقاهي في المدن , وبجوار الأجران في القرى , وبذلك أصبحت هذه الملايين المتعطلة
مستهلكة لا منتجة , لأنها لا تجد ما تعمل , و الدولة لا تجد المال للمشروعات
الإنشائية , لأنها لا تحصل إلا على ميزانية هزيلة من ضرائب هزيلة , إشفاقا على
رؤوس الأموال أن تضار .
ثم أضيف إلى هذا البلاء كله خواء روح الشعب من
العقيدة الدافعة على العمل , وحساسية الضمير التي تشيعها العقيدة الدافعة على
العمل وحساسية الضمير التي تشيعها العقيدة . فتمت تلك الحلقة المفرغة الأليمة التي
لا يحطمها إلا الإسلام ليحارب روح البطالة بكل روحه , ويكافح أسبابها بالوسائل
التي أسلفنا . فيعالجها في عالم الضمير و الشعور , وفي دنيا العمل و الواقع .
فالبطالة هي أعدى أعدائه على أي لون وفي أي وضع , وفي جميع الصور و الأشكال .
الإسلام عدو التبطل الناشئ عن تكدس الثراء ,
فلا جزاء إلا على الجهد , ولا أجر إلا على العمل . فأما القاعدون الذين لا يعملون ,
فثراؤهم حرام , و أموالهم حرام , و على الدولة أن تنتفع بذلك الثراء لحساب المجتمع
, و ألا تدعه لذلك المتبطل الكسلان .
والإسلام عدو التبطل الناشئ عن الكسل , وحب
الدعة , والاسترزاق من أيسر السبل كالاستجداء . وهو ينذر الذين يتسولون وهم قادرون
: أن يأتوا يوم القيامة وليس في وجهوهم مزعة لحم !
والإسلام عدو التبطل باسم العبادة و التدين !
فالعبادة ليست وظيفة حياة , وليس إلا وقتها المعلوم " فَإِذَا قُضِيَتِ
الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ "
وتمضية الوقت في التراتيل و الدعوات بلا عمل منتج ينمي الحياة , أمر لا يصرفه
الإسلام , ولا يقر عليه تلك الألوف المؤلفة في مصر التي لا عمل لها إلا إقامة
الصلوات في المساجد أو تلاوة الأدعية والأذكار في الموالد !
ولو كان الأمر للإسلام لجند الجميع للعمل ,
فإن لم يجدوا فالدولة حاضرة , وحق العمل كحق الطعام , فالعمل زكاة للأرواح و
الأجسام , وعبادة من عبادات الإسلام , التي يجب أن تقيمها الدولة وتهيئ لها السبل
. و البطالة مفسدة , وعلى الدولة أن تقي المجتمع عواقبها , وتأخذ الطريق على
أسبابها , فمن أتاها بعد ذلك طوعا , فعلى الدولة أن تصده عنها , وأن تجنده للعمل
ما استطاع .
* * *
سيد قطب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق