الجمعة، 15 مارس 2013

فساد العمل و ضعف الإنتاج


سيد قطب
في الإسلام خلاص
فساد العمل و ضعف الإنتاج
    أحب أن ألفت النظر بشدة إلى أن هناك خطرا حقيقيا مصلتا على رقابنا , وعلى وجودنا ذاته كاملة : خطر الفساد الشامل لكل جهاز العمل في الدولة وفي المجتمع , ذلك الفساد الذي يؤدي إلى ضعف الإنتاج العام , بل إلى الشلل في بعض الأحيان .
    ولقد تحدثت عن هذا الشلل في مقدمات الكتاب , ولكني أحب ألا أكتفي بما قلت هناك : أننا على حافة الهاوية والخراب بسبب تناقص الغلة وضعف الإنتاج , وأن الفقر والبؤس و الهوان لا تحيق إلا بنا لمجرد سوء التوزيع وحده , بل لأن مجموع الثروة القومية في ذاته ضئيل , لأن الإنتاج العام دون ما ينبغي أن يكون عليه بكثير  .
    هذا الشلل وذلك الفساد كلاهما وليد أمراض اجتماعية شتى : وليد سوء توزيع الملكيات و الثروات , ووليد فساد نظام الجور , وعدم تكافؤ الجهد و الجزاء , ووليد انعدام تكافؤ الفرص و القضاء بذلك على القوى و الكفايات التي لم توهب نعمة الولادة في بيت مرموق , أو الاحتماء ببيت من بيوت الثراء . . . ثم من بعد ذلك كله وليد الانحلال الخلقي , الذي ينشأ من تلك العوامل جميعا , وينشأ من خواء الضمير من عقيدة دافعة , توقظ شعور الفرد بالواجب , وتدفع المجتمع كله إلى الخلق و التقدم والاستعلاء .
   ولقد أسلفنا رأي الإسلام في المشكلات الثلاث الكبيرة , التي تنشئ بدورها ــ أو تشارك في إنشاء ــ هذه المشكلة الضخمة الرابعة . فالآن ننظر كيف يعالج الإسلام هذه المشكلة أيضا .
   أنه يعالجها بإزالة مسبباتها المادية الأولى , ثم يعالجها بامتلاء النفس بالعقيدة الدافعة , العقيدة التي تملأ فراغ النفس وخواءها , وترفعها إلى الله , وتجعل الفرد هدفا أكبر من ذاته , هو ذلك المجتمع الذي يعيش فيه , وتلك الإنسانية التي هو منها .
   ولقد يظن المصابون بضحالة الروح , وقزامة الذات , وخواء الضمير أن هذا الذي نقوله هنا كلام وعظي لا رصيد له في واقع الحياة !
ونحن لا نكتب لهؤلاء .. فهؤلاء ميئوس منهم في كل زمان , وضمير الإنسانية لم ينضب على الرغم من إيحاءاتهم له في كل مكان .
   إن الفرد بلا عقيدة كلية تربطه بالأرض و السماء , ضائع ولقي مهمل , والعقيدة ضرورية له حتى في عالم الشيوعية الذي يسخر بالعوامل الروحية في الحياة ! فلولا حرارة العقيدة ما تلقى الألوف منافي سيبيريا وسجون القيصرية بمثل هذا الحماس الذي مكن للحكم الشيوعي في نهاية المطاف !
   ولقد انتهت بنا الأوضاع الاجتماعية المريضة إلى فساد في الذمم و الضمائر , واستهتار بالعمل و الواجب , لا يقتصر أثرهما على مجال دون مجال . وجريمة الاستثناءات في دواوين الحكومة انتهت بالمحظوظين و المنسيين سواء إلى الاستهتار بالعمل , أو لأنه لا يؤدي إلى ثمرة , ولا يترتب عليه ثواب ولا عقاب . وجريمة الحرمان من عدالة الأجر و الضمانات الاجتماعية في دائرة العمل انتهت بالعمال إلى الاستهتار , ولأن الفوضى أيسر من النظام , في محيط لا عدالة فيه ولا وزن للجهد ولا جزاء . وجريمة انعدام تكافؤ الفرصة أهدرت وبددت ثروات بشرية هائلة وحولتها إلى فتات وحطام . وجريمة تكتيل الثروة كلها في أيد قليلة واحتكارها في حيازة عدد محدود انتهت إلى تعطل الملايين , وتمضية أوقات فراغهم على المقاهي في المدن , وبجوار الأجران في القرى , وبذلك أصبحت هذه الملايين المتعطلة مستهلكة لا منتجة , لأنها لا تجد ما تعمل , و الدولة لا تجد المال للمشروعات الإنشائية , لأنها لا تحصل إلا على ميزانية هزيلة من ضرائب هزيلة , إشفاقا على رؤوس الأموال أن تضار .
   ثم أضيف إلى هذا البلاء كله خواء روح الشعب من العقيدة الدافعة على العمل , وحساسية الضمير التي تشيعها العقيدة الدافعة على العمل وحساسية الضمير التي تشيعها العقيدة . فتمت تلك الحلقة المفرغة الأليمة التي لا يحطمها إلا الإسلام ليحارب روح البطالة بكل روحه , ويكافح أسبابها بالوسائل التي أسلفنا . فيعالجها في عالم الضمير و الشعور , وفي دنيا العمل و الواقع . فالبطالة هي أعدى أعدائه على أي لون وفي أي وضع , وفي جميع الصور و الأشكال .
   الإسلام عدو التبطل الناشئ عن تكدس الثراء , فلا جزاء إلا على الجهد , ولا أجر إلا على العمل . فأما القاعدون الذين لا يعملون , فثراؤهم حرام , و أموالهم حرام , و على الدولة أن تنتفع بذلك الثراء لحساب المجتمع , و ألا تدعه لذلك المتبطل الكسلان .
   والإسلام عدو التبطل الناشئ عن الكسل , وحب الدعة , والاسترزاق من أيسر السبل كالاستجداء . وهو ينذر الذين يتسولون وهم قادرون : أن يأتوا يوم القيامة وليس في وجهوهم مزعة لحم !
   والإسلام عدو التبطل باسم العبادة و التدين ! فالعبادة ليست وظيفة حياة , وليس إلا وقتها المعلوم " فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ " وتمضية الوقت في التراتيل و الدعوات بلا عمل منتج ينمي الحياة , أمر لا يصرفه الإسلام , ولا يقر عليه تلك الألوف المؤلفة في مصر التي لا عمل لها إلا إقامة الصلوات في المساجد أو تلاوة الأدعية والأذكار في الموالد !
   ولو كان الأمر للإسلام لجند الجميع للعمل , فإن لم يجدوا فالدولة حاضرة , وحق العمل كحق الطعام , فالعمل زكاة للأرواح و الأجسام , وعبادة من عبادات الإسلام , التي يجب أن تقيمها الدولة وتهيئ لها السبل . و البطالة مفسدة , وعلى الدولة أن تقي المجتمع عواقبها , وتأخذ الطريق على أسبابها , فمن أتاها بعد ذلك طوعا , فعلى الدولة أن تصده عنها , وأن تجنده للعمل ما استطاع .
* * *

ليست هناك تعليقات: