سيد قطب
عداوات حول حكم الإسلام
لقد تحدثنا منذ لحظة إلى الأبرياء , الذين
تغيم الشبهات في نفوسهم حول حكم الإسلام , فيتخوفون منه ويقلقون , لا لأنهم
يكرهونه , ولكن لأنهم يجهلونه , ولقد كان من حقهم علينا أن نجلو لهم هذه الشبهات ,
وأن نرفع عن عيونهم هذه الغشاوات , وأن نجادلهم بالتي هي أحسن , بوصفهم مجنيا
عليهم بجهل هذا الدين لا جناة !
إن هؤلاء إل فريسة فريق آخر أو فرق أخرى ,
ليست في مقل براءتهم , وليست في مثل غفلتهم ! إنما تكيد للإسلام كيدا عن وعي ومن
قصد , وتصوره للأبرياء الجاهلين هذا التصوير البشع المخيف لغاية و لغرض . ومن حق
أولئك الأبرياء الغافلين أن نكشف لهم هؤلاء الخبثاء الماكرين , وأن نطلعهم على ما
خلف الستار من المكر السيئ و الغرض الدفين .
إن لحكم الإسلام أعداء كثيرين في الخارج وفي
الداخل , وفيهم الدهاة الأقوياء , وفيهم المهازيل المهابيل , غير أنهم يلتقون عند
مصالح مشتركة في إقصاء الإسلام عن الحكم في الحياة , وهم يعارضون في رد الحكم إلى
الإسلام بحجج شتى , وبمنطق مختلف , وبنبرات ولحون متباينة يتألف منها جميعا دوي
يخيل لمن يسمعه , وهو لا يعرف مصادره أن هناك شيئا , وأن وراءه حقا ! فلننظر إذن
في شأن تلك العداوات .
عداوات الصليبيين
لقد انتهت المسيحية في أوربا وأمريكا إلى إن
تصبح راية قومية تتجمع تحتها جموعهم , لا عقيدة دينية ــ كما هي طبيعة المسيحية ــ
وهم إذ يتنادون اليوم باسم حماية الحضارة المسيحية من هجوم الشيوعية عليها كما
كانوا يتنادون أيام الفاشية و النازية , لا يقصدون العقيدة المسيحية كديانة , بل
يقصدون الأمم المسيحية كأوطان وقوميات . و المسيحية ليست إلا ستارا يتخذونه
لاستجاشة حمية البلاد المسيحية جميعا , وهذا ما يفسر الانحلال الخلقي والاجتماعي
الذي يتزايد في محيط البلاد المسيحية ــ منافيا لكل تعاليم المسيحية ــ في الوقت
الذي ترتفع الدعوة باسم الحضارة المسيحية !
وبهذا الوضع للمسألة لا تبدو هنالك غرابة في
الجمع بين التحلل من روح المسيحية في أوربا وأمريكا , و الخصومة و العداء لغير
المسلمين في البلاد الأخرى ! أنه لا غرابة ولا لغز يحير الأفهام , ولكنها اللعبة
الماهرة مع المغفلين والسذج من أهل الديانات الأخرى , وبخاصة أهل الإسلام .. وأن
الغرب يوحي لهؤلاء المغفلين , أن الدين عامل ثانوي لا قيمة له في حياتهم ,
مستشهدين بتحللهم من قيوده في مجتمعاتهم , فينعق أصحابنا بهذه الدعوة , ويسيرون
عليها , ويخربون بيوتهم بأيديهم لا بأيدي أعدائهم الدهاة . ذلك بينما العالم
الغربي كله ينصب للإسلام , ويكن له العداوة و البغضاء !
إن الحروب الصليبية لم تضع أوزارها إلا في
نفوس المسلمين وفي عالم المسلمين , فأما في العالم المسيحي فهي مشبوبة الأوار ,
وهي تشغل أذهان القوم وسياستهم مكانا بارزا يبدو في شتى مناحي الحياة . ونحن بغفلة
منقطعة النظير نقدم لهم العون و المساعدة في هذه الحرب المشبوبة الأوار .
إن الصليبيين الأحياء لم ينسوا يوما أن بيت
المقدس هو البقعة التي ثارت من أجلها الحروب الصليبية , وحينما دخل الماريشال
"أللنبي " بيت المقدس في الحرب العظمى الماضية تحرك لسان الصليبية
الكامنة في دمه وفي دم كل صليبي . تحرك لينفث أوار الصليبية الكامن : "الآن
انتهت الحروب الصليبية" !
وحين قضت السياسة الاستعمارية و الواقع
المادي أن تكون فلسطين للعرب ــ أهلها وسكانها ــ تحركت هذه الصليبية مرة أخرى
بفكرة الوطن القومي لليهود , ثم انتهت إلى المأساة الأخيرة على عين انجلترا
وأمريكا وبصرهما , وبأسلحتهما وأموالهما ــ تشترك معهما الشيوعية التي تطرد الدين
من حسابها , إلا أن يكون هذا الدين هو الإسلام , فهي تحاربه باسمها لا باسم
الصليبية , تحاربه لحسابها الخاص ولمصلحتها الخاصة ــ كما سيأتي ــ وقال المغفلون
هنا : إن الدسائس الاستعمارية و المصالح الشخصية وحدها هي التي تحرك انجلترا
وأمريكا . ذلك أنهم لا يفطنون إلى أن روح الصليبية كامن وراء السياسة الاستعمارية
كذلك , يذكي العوامل الظاهرة ويقويها .
وقد بقى بيت المقدس القديم وحده في أيد عربية ــ
هي على حال مسلمة !ــ وهنا يجيء دور هيئة الأمم , لترد هذه البقعة إلى حكم
الصليبيين مرة أخرى ! لا باسم الصليبية سافرا , ولكن باسم "التدويل"
وتجد من صراع الأقزام الدائر بين الدويلات العربية , بل بين البيوت المالكة وحدها
في هذه الدويلات , ومشجعا وناصرا . وتجد من ساسة الأقزام في هذه الدويلات البائسة
, من يعد ذلك سياسة قومية مرسومة !
إن الصليبيين يعرفون ويقول الصرحاء منهم ــ
وقد سمعته في أمريكا بأذني ــ أن الإسلام هو الدين الوحيد الخطر عليهم . فهم لا
يخشون البوذية ولا الهندوكية ولا اليهودية , إذ أنها جميعا ديانات قومية لا تريد
الامتداد خارج أقوامها وأهليها , وهي في الوقت ذاته أقل من المسيحية رقيا . فأما
الإسلام فهو ــ كما يسمونه ــ دين متحرك زاحف . وهو يمتد بنفسه وبلا أية قوة
مساعدة . وهذا هو وجه الخطر فيه في نظرهم جميعا . ولهذا يجب أن يحترسوا منه , وأن
يقاوموه ويكافحوه .
ونحن الغافلين في الشرق لا ندرك ضخامة الجهود
التبشيرية التي تبذلها أوربا وأمريكا لنشر المسيحية في أرجاء العالم كله , في
مجاهله و معموره سواء , لا ندرك أن الكنيسة الكاثوليكية وحدها نحو أربعة آلاف بعثة
تبشيرية , تنتشر في أنحاء الأرض , وتذهب إلى مجاهل الكونغو و التبت ووراءها
الأموال الضخمة التي لا تنفد .
وهذه الجهود لا يقوم بها المبعوثون وحدهم ,
بل تعتمد كل الاعتماد على الوطنيين في البلاد الأخرى , وتتخذ لها طرقا وعنوانات
شتى , و تتزيا بأزياء كثيرة ليس الزي الديني إلا واحد منها . ففي مصر مثلا يعد رجل
كجورجي زيدان منشئ دار الهلال , ورجل كسلامة موسى الكاتب الصحفي , رسولين مهمين
للتبشير , يجدان في غفلة المصريين و الشرقيين ــ بما في ذلك أصحاب الصحف و القراء
ــ مجالا طيبا للعمل , الذي لا تنهض به جمعيات تبشيرية كاملة , باسم الثقافة
والأدب و الصحافة !
و الحكومات تشجع هذه البعثات وتؤيدها , لأنها
ترمي من وراء المسيحية إلى أهداف سياسية واقتصادية , وتعد المسيحية علما قوميا
ينتشر ظله في هذه الأصقاع كما أسلفنا .
والدين الوحيد الذي يقف في وجه هذه الجهود ,
هو الإسلام وحده كما تقول تقريراتهم , وكما يفصح أحيانا بعض الصرحاء منهم !
وهؤلاء الصليبيون يعرفون أن الإسلام ليس شيئا
آخر غير حكم الإسلام , فهو لا يستطيع أن يتحقق كاملا وقويا في هذه الأرض بغير هذا
الحكم , الذي يحوّل العقيدة شريعة , ثم يقف ليحميها ويدفع عنها .
لذلك يحاربون رجعة الحكم إلى الإسلام محاربة
قوية لا هوادة فيها . يحاربونها بنفوذهم وبقوتهم , كما يحاربونها بوساطة المغفلين
منا , وذوي المصالح الذين يخشون حكم الإسلام عليها .
وعلى حين تنكر أوربا وأمريكا على الإسلام أن
يحكم في أية بقعة من بقاع الأرض وأن تقوم على أساسه دولة تحمل لواءه , وتعمل
بفكرته , و تنفذ قوانينه . وعلى حين ينعق الناعقون هنا و هنالك في الأقطار
الإسلامية ممن استعمرت أوربا وأمريكا أرواحهم .. بأن الزمن قد مضى فلم يعد يحتمل
قيام دولة على أساس الدين ..
على حين هذا و ذاك تنبت كالشوكة دولة إسرائيل
! ترتكز على الدين ــ وعلى الدين و حده ــ فاليهودية ليست جنسية بل ديانة . تضم
الروسي والألماني و البولندي والأمريكي و المصري و اليمني . . . وكل من هب و دب
على وجه هذه الأرض من الأجناس . وعلى اليهودية وحدها ترتكز إسرائيل بتشجيع إنجلترا
وتمويل أمريكا . فأما روسيا الشيوعية فلنضع حديثها في هذه المأساة على جنب ! فإن
نكيرها على الدين أشد , وإنكارها لقيام دولة على الدين أعنف . ولكن هذا كله يتبخر
وتتبخر معه مبادئ الشيوعية الأساسية , عندما يطل وجه المصلحة الشخصية !
وما يلقاه الحكم الإسلامي من عنت الصليبية في
مصر تجد منه "الباكستان" اليوم ما تجد في قضية كشمير مع الهند .
المغفلون هنا لا يفطنون إلى أنها روح الصليبية التي تملي على هذه الدول المسيحية
سياستها , فيحاولون أن يردوها إلى أسباب أخرى !
إن أجهزة الدعاية الأمريكية في الشرق هي التي تتولى
الدعاية للهند ، بأموال أمريكية يظهر صداها في صحافة الشرق واضحا ! لماذا ؟ لأن
الهند ليست مسلمة ، ولأن بينها وبين أول دولة مسلمة في الشرق نزاعا . والكثرة من
الحاكمين في الدولة الأمريكية تخرجوا في المعاهد التبشيرية . وهي حقيقة أفضى إلى
بها أحد الأساتذة الإنجليز الذين التقيت بهم في أمريكا ، وعدّ لي عشرات من الأسماء
البارزة في وزارة الخارجية الأمريكية وفي السلك السياسي ــ ولم يكن يفضي إليّ بهذه
الحقيقة بريئا لوجه الله ! وإنما هو ــ كما عرفت فيما بعد ــ أحد رجال قلم
المخابرات البريطاني الذين يهمهم ألا يثق الشرقيون كثيرا في نيات أمريكا ! مما
دعاني إلى التشكك في بياناته لي فتحققتها بوسائل أخرى
.
إن
الإسلام لا يجوز أن يحكم .. هذه رغبة العالم الصليبي . وعلينا نحن أن نذعن . وأن
نصدق ما يوحى إلينا به الصليبيون في الشرق و الغرب , في سذاجة و غفلة , باسم
التحرر و الثقافة ! ألا مَن للأقزام , بمن يقنعهم أنهم ليسوا بعد إلا الأقزام ؟!
عداوات حول حكم الإسلام
عداوات المستعمرين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق