معركة الإسلام و الرأسمالية
سيد قطب
شبهات حول حكم الإسلام
التعصب ضد الأقليات
بقيت شبهة أخيرة , أنا أكره
الحديث فيها , ولكن بعضهم يشير إليها تصريحا أو تلميحا , وبعضهم يتخذها تكأة وسببا
لإرضاء غايات صغيرة , وتحقيق منافع يسيرة .. تلك هي مسألة الأقليات في حكم الإسلام
, وقومية الحكم في ظل إسلامية التشريع .
إنني أحسب مجرد التخوف من حكم
الإسلام على الأقليات القومية في بلاده نوعا من التجني الذي لا يليق , فما من دين
في العالم وما من حكم في الدنيا , ضمن لهذه الأقليات حرياتها وكرامتها وحقوقها
القومية , كما صنع الإسلام في تاريخه الطويل . بل ما من حكم دلل الأقليات فيه كما
دلل الإسلام من تقلهم أرضه من أقليات . لا الأقليات القومية التي تشارك شعوبه في
الجنس و اللغة و الوطن , بل الأقليات الأجنبية عنه وعن قومه .
وما كان جزاء الإسلام على عدله
وحسن رعايته , إلا اضطهاد أتباعه في بلاد الأديان الأخرى , وفي ظل جميع أنواع الحكم
ما عداه في القديم وفي الحديث سواء مما يجعل الحديث عن قومية الحكم لا إسلاميته ,
حديثا بغيضا , لا سند له من الحق ولا من الواقع ولا من التاريخ , ولا من روح
الإنصاف التي يجب أن يتحلى بها المواطنون في كل بلاد الإسلام .
وسأختار هنا عهدا من عهود
الإسلام كان ينتظر أن يكون أشد العهود تعصبا وقسوة و فظاظة . إذ أنه كان في العهود
المظلمة , وكان القائمون عليها هم الأتراك . وسأدع كاتبا مسيحيا أوربيا يتحدث عنه
في معاملته للأقليات غير المسلمة و للبلاد المفتوحة . وسأكتفي بهذا المثال دون
سواه , لأنه يبلغ فصل الخطاب في هذا المقام .
قال "سير ت. و . أرنولد
" في كتابه " الدعوة إلى الإسلام " ترجمة حسن إبراهيم حسن وعبد
المجيد عابدين , وإسماعيل النحراوي ص 138 ـ 139
" إن المعاملة التي أظهرها
الأباطرة العثمانيون للرعايا المسيحيين ــ على الأقل بعد أن غزوا بلاد اليونان بقرنين
ــ لتدل على تسامح لم يكن مثله حتى ذلك الوقت معروفا في سائر أوربا : وإن أصحاب
كلفن في المجر وترنسلفانيا , وأصحاب مذهب التوحيد من المسيحيين الذين كانوا في
ترنسلفانيا , طالما آثروا الخضوع للأتراك على الوقوع في أيدي أسرة هابسبورج
المتعصبة , ونظر البروتستانت في سيليزيا إلى تركيا بعيون الرغبة , وتمنوا بسرور أن
يشتروا الحرية الدينية بالخضوع للحكم الإسلامي . وحدث أن هرب اليهود الإسبانيون
المضطهدون في جموع هائلة , فلم يلجأوا إلا إلى تركيا . كذلك نرى القوزاق الذين
ينتمون إلى فرقة المؤمنين القدماء الذين اضطهدتهم كنيسة الدولة الروسية , قد وجدوا
من التسامح في ممالك السلطان ما أنكره عليهم إخوانهم في المسيحية . وربما يحق
لمقاريوس بطريق أنطاكية في القرن السابع عشر أن يهنئ نفسه حين رأى أعمال القسوة
الفظيعة التي أوقعها البولنديين من الكاثوليك على روسيي الكنيسة الشرقية
الأرثوذكسية , قال مقاريوس : " أننا جميعا قد ذرفنا دمعا غزيرا على آلاف
الشهداء الذين قتلوا في هذه الأعوام الأربعين أو الخمسين على يد أولئك الأشقياء
الزنادقة أعداء الدين . ربما كان عدد القتلى سبعين ألفا أو ثمانين ألفا . فيا أيها
الخونة ! يا مردة الرجس ! يا أيتها القلوب المتحجرة ! ماذا صنع الراهبات و النساء
؟ وما ذنب هؤلاء الفتيات والصبية والأطفال الصغار حتى تقتلوهم ؟ ولماذا أسميهم
البولنديين الملعونين ؟ لأنهم اظهروا أنفسهم أشد انحطاطا وأكثر شراسة من عباد
الأصنام المفسدين , وذلك بما أظهروه من قسوة في معاملة المسيحيين , وهم يظنون بذلك
أنهم يمحون اسم الأرثوذكس . أدام الله بقاء دولة الترك خالدة إلى الأبد ."
فماذا لقي المسلمون في مثل ذلك
الزمان , بل ماذا يلقون حتى الآن ؟ إن الجرائم الوحشية ترتكب ضدهم في الحبشة
جارتنا . وفي الملايو تحت الحكم الإنجليزي (1) وفي روسيا ويوغوسلافيا وسائر البلاد الشيوعية التي يزعم المروجون لها هنا , و
المستغفلون من إخواننا أن لا علاقة لها بالأديان , ولا عصبية فيها ضد الإسلام .
وفي الهند التي هددنا سفيرها في مصر , لأن سفيرنا بالباكستان قد نسبت إليه كلمة حق
عن كشمير . لا بل أن هذه الجرائم الوحشية لترتكب ضدهم في عقر دارهم , في الشمال
الأفريقي على يد فرنسا , وفي جنوب السودان على يد انجلترا , وفي كل مكان يضع فيه
الاستعمار قدمه حتى الآن !
إن كل ما يذكرونه ضد حكم الإسلام
هو أصداء لبعض المذابح الأرمنية على أيدي الترك المتأخرين . ولكن هذه المذابح لم
تكن وليدة تعصب ديني , بل كانت ذات طابع سياسي . فهذه العناصر كانت شوكة تستخدم
دائما لوخز الدولة العثمانية في أبان ضعفها وتحركها روسيا أو أوربا لأسباب سياسية
, ناشئة عن روح صليبية , على ما وقع للأرمن المسيحيين وقع مثله للعرب المسلمين في
سورية , وفي ظروف سياسية مشابهة . وقد قامت بهذه وتلك أرذل العناصر في الدولة
العثمانية , تلك العناصر التي هي بطبيعتها شغوفة بالدماء و القسوة والإجرام ,
واستوي المسلمون وغير المسلمين في تلقي ويلاتها وآثامها في طول البلاد . وما كان
هؤلاء فهمة للإسلام و لغير الإسلام !
إن الحكم حين يصير إلى الإسلام ,
سيسير على مبادئه السمحة الكريمة , التي لا يملك إنكارها أحد . ولن يتغير على
الأقليات شيء في أوضاعها ولا حقوقها التي تتمتع بها الآن . وعلى الذين يتحدثون في
هذا الموضوع أن يذكروا أن الولايات المتحدة الأمريكية التسع و الأربعين , ليس فيها
حاكم كاثوليكي واحد , لمجرد أن الأغلبية هناك من البروتستانت . وكلاهما مسيحي , لا
يختلف عن صاحبه إلا في المذهب .
وعليهم أن يذكروا أن اضطهاد المسلمين
في الحبشة قد بلغ إلى حد استرقاق المدين المسلم الذي لا يوفي بدينه للمسيحي .
لمجرد أن الحكم للمسيحيين . ولو أن الأغلبية العددية هناك للمسلمين !
ما الذي يمكن أن يفتح به فمه
إنسان عن حكم الإسلام من ناحية الأقليات ؟ إن الحياء وحده لا يكفي , وإنني لأكره
الحديث في هذا الموضوع , فكل حديث فيه هو نوع من التجني القبيح لا يليق !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
أقرب الحوادث إلى الأذهان حادث الفتاة الهولندية التي
التقطتها سيدة مسلمة وهي طفلة شاردة فرعتها وربتها فنشأت مسلمة وتزوجت من مسلم ,
وإذ بالدولة الإنجليزية تجند جيشها لرد هذه الفتاة إلى المسيحية , وضرب مسلمي
سنغافورة بالمدافع الرشاشة ! إنها تدل على التسامح الديني الكامل ! التسامح
الإنجليزي و الهولندي بطبيعة الحال !
عداوات حول حكم الإسلام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق