الجمعة، 15 مارس 2013

لابد للإسلام أن يحكم


سيد قطب
لابد للإسلام أن يحكم
   إذا أريد للإسلام أن يعمل , فلابد للإسلام أن يحكم . فما جاء هذا الدين لينزوي في الصوامع والمعابد , أو يستكين في القلوب والضمائر , إنما جاء ليحكم الحياة , لا بالوعظ والإرشاد , بل كذلك بالتشريع و التنظيم . جاء ليترجم مبادئه ونظرياته , نظاما وحياة ويجعل أوامره ونواهيه مجتمعا حيا وناسا من اللحم و الدم , يدبون على هذه الأرض , ويمثلون بسلوكهم ونظام حياتهم , وعلاقات مجتمعهم , وشكل حكمهم . . . مبادئ هذا الدين وأفكاره وقوانينه وتشريعاته .
   ومما سبق عرضه من مشكلات اجتماعية وقومية , وطريقة علاج الإسلام لها , يتبين بما لا لبس فيه ضرورة الحكم للإسلام . وإلا فكيف يواجه هذه المشكلات وسواها , وكيف يعالجها ويجد لها حلول ؟
   أنه لا يملك توزيع الثروة طبقا لحاجات المجتمع , أو تحقيق العدالة بين الجهد و الجزاء , أو منح الجميع فرصا متكافئة في الحياة , أو تجنيد القوى المعطلة للعمل والإنتاج , أو دفع الدولة إلى اتخاذ موقف معين في المجتمع الدولي , أو تجنيد الجيوش وإعداد القوى . . . أو . . . أو . . . مما يمثل مبادئه الأساسية التي يقوم عليها كيانه ذاته في فكرته التي جاء ليصوغ منها الحياة . . . أنه لا يملك شيئا من هذا كله وهو عقيدة مستترة في الضمير , أو صلاة خاشعة في المسجد , أو مناجاة بين العبد ومولاه .
   والذين يتحدثون عن الإسلام وانتفاء حاجته إلى الحكم , أو عن إمكان تحققه في الحياة دون تحكيمه في الحياة .. إنما يلقون حديثا فيه من التفاهة والقزامة ما لا يرتفع إلى شرف المناقشة واحترام الجدل ! إنهم لا يدلون بهذا على جهلهم لطبيعة هذا الدين من أساسها , ولا بعدهم عن الإلمام بحقائقه البسيطة التي لا يلام على جهلها المبتدئون , بل يدلون على جهل بكل مقومات الطبيعة البشرية , وكل العوامل المؤثرة في تكوين المجتمعات , وكل الثقافات الضرورية لاستقبال الحياة , بل الحكم على الحياة !
   ولكن القزامة والتفاهة الفاشية عند الكثيرين في هذا الجيل , وسطحية التفكير وضحالة الثقافة , تقبل هذا الكلام أحيانا , حتى ليردده وزراء في الحكم , لا يخجلون أن يطلع الناس في مصر وفي غير مصر على مدى ما يتمتعون به من سذاجة وغفلة , ومن سطحية وبعد عن الثقافة ـ وهم الذين يدعون لأنفسهم أو يدعوهم الناس "مثقفين"!
في العالم المسيحي الغربي يدخل الفرد إلى الكنيسة فيستمع إلى المواعظ والتراتيل , وقد يخشع قلبه , وهو ينصت إلى صوت الواعظ المؤثر , وإلى الموسيقى المنبعثة من الجوقة , والتراتيل الخاشعة , والأبخرة الأريجة العطرة ...
   ولكنه حين يغادر الكنيسة يجد قانونا آخر يحكم الحياة الواقعة ويصرفها , ويجد مجتمعا يقوم على أساس هذا القانون , الذي لا علاقة بين روحه و روح المسيحية .
   وكثيرًا ما ذهبت إلى هذه الكنائس ، واستمعت إلى الواعظ في الكنيسة , وإلى الموسيقى والتراتيل والأدعية , وكثيرا ما استمعت إلى إذاعة الآباء في محطات الإذاعة في الأعياد المسيحية .. دائما يحاول الآباء أن يعقدوا الصلة بين قلب الفرد و بين الله ، ولكن واحدًا منهم لم أسمعه يقول : كيف يمكن أن تكون مسيحيا في واقع الحياة اليومية ، ذلك أن المسيحية إنما هي مجرد دعوة للتطهر الروحي ، ولم تتضمن تشريعا للحياة الواقعية بل تركت ذلك لقيصر .
   وكان من أثر هذا كله في العالم المسيحي أن أصبحت المسيحية في جانب و الحياة الواقعة في جانب , وعلى توالي الأزمان أصبحت المسيحية محصورة داخل الكنيسة , والحياة من حولها أبعد ما تكون عن روحها السمحة المتطهرة . فلما نشطت الكنيسة في السنوات الأخيرة للاتصال بالمجتمع من جديد , لم يكن همها أن ترفع الناس إليها , بل كانت طريقها أن تهبط هي إلى الناس . وإذا قلت تهبط , فلست أعني أنها تتبسط وتواجه الحياة بحلول عملية , إنما أعني تملق شهواتهم و رغباتهم , وتتغاضى عن لذائذهم  الهابطة ونزواتهم الجامحة , لتضمن ألا يعيد المجتمع نبذها , كما نبذها في مطلع النهضة و الإحياء .
   نحن ببلاهة غبية , وسطحية تافهة قد حاولنا بالإسلام هذه المحاولة , لا لأن الإسلام لم يتضمن التشريعات التي تحكم الحياة وتصرفها , بل لأننا بشعور العبيد و على طريقة القرود , قد أردنا أن نجعل مصر قطعة من أوربا , ولما كانت أوربا تحكمها القوانين المدنية لا الدينية , فقد فعلناها نحن أيضا ! دون فطنة إلى أن أوربا لم يكن لها مفر من ذلك , لأنها لم تجد في المسيحية تشريعا للحياة , وإنما وجدتها مجرد عقيدة روحية وصلاة !
   لقد فطن الإسلام إلى أن العقيدة لا يمكن أن تتحقق بذاتها في واقع الحياة ما لم تتمثل في نظام اجتماعي معين , وتتحول إلى تشريعات تحكم الحياة , وتكيف علاقاتها الواقعية المتجددة . ولكننا نحن بحماقة غبية لم نفطن إلى هذا الذي فطن إليه الإسلام , وصاغ نفسه على أساسه : عقيدة تتمثل في شريعة , وشريعة هي تفسير وتحقيق لهذه العقيدة , و وحدة شعورية تشريعية , تتألف منها حياة واقعة , ممثلة في العقيدة و السلوك , وفي العبادات و المعاملات , وفي السرائر و الجوارح , وفي الأفراد و الجماعات .
   لقد سمعنا الأوربيين يقولون : أن الدين علاقة ما بين الفرد و ربه , وليس له أن يتدخل في الحياة المدنية .. فرددنا كالببغاوات الفارغة الدماغ هذا الذي سمعناه !
   نعم ! الدين علاقة ما بين الفرد وربه في المسيحية , ولأوروبا عذرها في هذا , لأن دينها لم يبين لها كيف يتدخل في الحياة المدنية , وحين تدخل آباء الكنيسة في تلك الحياة تدخلوا لصالح أنفسهم , وبوحي من المصالح , لا بوحي من المسيحية التي لم تتضمن شيئا عن الحياة المدنية , فلما ثقلت وطأة الكنيسة ورجالها على الناس , وتحولت إلى سلطة ديكتاتورية , وتتخذ من الدين ستارا لمطامعها الدنيوية .. نفض الناس هذا السلطان عن رقابهم , و وقفوا الكنيسة و رجالها عند حدهم الذي جعلته لهم الديانة ذاتها , أي عند أعتاب الكنيسة .
   فأما الإسلام فقد أنشأ مجتمعا محكوما بشرائعه , التي يمكن الرجوع إليها هي ذاتها لوقف كل طغيان لمن قد يسمون أنفسهم "رجال الدين" حين يتشبهون برجال الكنيسة , ويحاولون اكتساب سلطة دينية !
   ومع وضوح هذه الحقائق , وبساطتها , نجد في جيل الأقزام الذي نعيش فيه من يحاول أن يبدو للناس مثقفا جدا ! فينعق بفصل الدولة عن الدين ! لأن الدين يجب أن يتدبر شؤون الروح , ويدع الحياة للقوانين الأرضية !
   وفي فترات الانحطاط تبدو في الشعوب العريقة قزامة عجيبة وضآلة . وينفش البغاث الصغير ريشه و يختال . ولكن عهد الأقزام في مصر قصير الأجل مشرف على الزوال !
***
   إنني مؤمن كل الإيمان بأن لا نجاة لهذه الأمة ولا حياة إلا أن تعود إلى عقيدة ضخمة , تنفض عنها قزامة الجيل وتفاهته , وتملأ حياتها حركة و حيوية واقتحاما .
    وهذه العقيدة الضخمة اليوم ليست شيئا بالقياس إلى مصر إلا الإسلام .    
   إن العقيدة الوطنية وحدها لم تعد تكفي , بدليل أنها لا تستطيع أن تقاوم العقيدة الشيوعية في كثير من أقطار الأرض . ذلك أن فكرة العدالة الاجتماعية بين الأفراد في حياة المجتمع , أخذت تطغى بقوة على النعرة الوطنية في أوطان تقسم أهلها إلى عبيد وأسياد .
   والإسلام وحده القادر على تحقيق الفكرتين جميعا , بلا تعارض ولا تصادم ولا مغالاة : فكرة تحقيق الوطن الإسلامي الكبير حيثما مد الإسلام ظله . وفكرة العدالة الاجتماعية الكاملة في هذا الوطن الكبير .
   والإسلام لا يحقق هذه العدالة الاجتماعية الكاملة في ذلك الوطن الكبير للمسلمين من أهله وحدهم بل يحققها كذلك لجميع سكانه على اختلاف الأديان والأجناس واللغات والألوان .. وتلك مزيته الإنسانية الكبرى التي لا تحققها عقيدة أخرى .
   ولكن ينبغي أن نكرر دائما أن هذا كله لا يتحقق بمجرد أن يذهب الناس إلى المساجد , ويحتفلوا بالمولد النبوي الشريف , ويلقوا الخطب في مدح سيد المرسلين ! ولا بأن تعج الأرض بالمجاذيب و الدراويش , يتلون الأدعية , ويقيمون الأذكار , ويحملون المسابح , ويتمتمون أو يهدرون !
   ولا يتحقق بأن تكون لنا "هيئة كبار علماء" تصدر قرارات الحرمان , ثم تعود فتصدر صكوك الغفران , لتغير الظروف و الملابسات , أو تصدر الفتاوى في تخطئة أبي ذر لأنه طالب بالعدالة الاجتماعية للفقراء , أو لترفع العرائض الإنشائية , تتضمن الوعظ الشريف , و رثاء الأخلاق التي انحلت في هذا الزمان !
    إن شيئا من هذا كله لن يجدي شيئا , إنما الذي يجدي وحده أن يَحكم الإسلام الحياة ويصرفها . أن تُحكم الدولة حُكما إسلاميا . أن تستمد القوانين التي تنظم علاقات الناس بعضهم ببعض , وعلاقاتهم بالحكومة وعلاقات الحكومة بهم من الشريعة الإسلامية وليس قانون الأحوال الشخصية وحده بل قانون العقوبات و القانون المدني و التجاري و سائر القوانين و التشريعات التي تُكيف صورة المجتمع وتمنحه شكله ونظامه الخاص .
   إن دستور الدولة الحاضر ينص على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام . وليس لهذا من معنى إلا أن تستمد القوانين كلها من الشريعة الإسلامية , والشريعة الإسلامية قادرة على تلبية الحياة العصرية , ونموها وتجددها . مع الانتفاع بتجاربنا نحن وبتجارب الإنسانية كلها فيما يتفق مع فكرة الإسلام الكلية ومبادئه العليا عن الحياة .
   لست أزعم أن الفقه الإسلامي الحاضر قادر اللحظة على الإحاطة بكل مطالب الحياة العصرية الجزئية , فقد وقف نمو هذا الفقه حقبة من الدهر طويلة . ولكن أصول الشريعة الإسلامية بما فيها من مرونة وشمول قادرة على أن تلبي حاجات الحياة ـ على النحو الذي أوضحته في مشكلاتنا الكبرى ـ وتبقى صياغة المواد القانونية , المستمدة من الأصول العامة , حسب الحاجات المتجددة أبدا (2)
   و لقد يخطر لبعضهم أن يقول : وعلام هذا العناء ؟ وما لنا لا ندع هذه الشريعة جملة ونستمد تشريعاتنا من تلك التجارب الجاهزة التي انتهت إليها البشرية أخيرا ؟
   وهي قولة من استمرأ الاستعارة الجاهزة حتى فقد كل شعوره بشخصيته و بقوميته , وبتاريخه الحي الذي يعيش في كيانه . وقوله السطحي الذي لا يدرك كيف تتم الاستجابات بين الفرد والبيئة , وأخيرا فهي قولة الذي لا يعرف من أين تستمد الأمم عناصر البقاء و المقاومة في معترك الحياة .
   إن الطريق الذي ندعو إليه نحن هو الطريق الذي يضمن لروح هذه الأمة أن تستشرف , وتتطلع إلى حياة كريمة عزيزة , والذي يمكنها أن تتحقق للكتلة الإسلامية البروز  و التميز بين الكتلتين الشرقية و الغربية , البروز بمجتمع خاص له سماته الواضحة , وله شخصيته المستقلة . و ذو الرصيد الأصيل إنما يزيد رصيده وينمو بما يقع له من زيادات وعلاوات . فأما المفلس المستجدي فلن يكون يوما ذا رصيد قائم , وإن ظل حياته يسأل و يستجدي !
***
    لابد للإسلام أن يحكم ليحقق وجوده , وليحقق ذلك المجتمع الكامل العادل الذي رسمنا الكثير من خطوطه . وما كان شيء من ذلك ليتحقق والإسلام بعيد عن الحكم في الحياة .
   لا بد للإسلام أن يحكم ليقدم للإنسانية مجتمعا من طراز آخر , قد تجد فيه الإنسانية حلمها الذي تحاوله الشيوعية , ولكنها تطمسه بوقوفها عند حدود الطعام و الشراب , وتحاوله الاشتراكية ولكن طبيعتها المادية تحرمه الروح و الطلاقة , و الذي حاولته المسيحية ولكنها لن تنظم له الشرائع ولم تضع له القوانين .
   لا بد للإسلام أن يحكم لأنه العقيدة  الوحيدة الإيجابية الإنشائية التي تصوغ من المسيحية و الشيوعية معا مزيجا كاملا , يتضمن أهدافها جميعا , ويزيد عليها التوازن و التناسق والاعتدال .
   و العالم لا يستغني عن عقيدة إيجابية . و المسيحية قد أدت دورها و ولم تعد عاملا إيجابيا في واقع البشرية , فلقد أصبحت الجماهير تقود الكنيسة , و الكنيسة تتبعها بلا توقف ولا تحرج ولا مدافعة حتى عن أقدس أقداسها وأشرف أهدافها في القلب و الضمير !
   وأخيرا يجب أن يحكم الإسلام , لأن الإسلام كان أعرف بطبيعته وطبيعة الحياة وهو يقرر : أن لا إسلام بلا حكم , و لا مسلمين بلا إسلام : " وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" صدق الله العظيم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يراجع موضوع الملكية الفردية بتوسع في كتاب " العدالة الاجتماعية في الإسلام " فصل " سياسة المال" .
(2) قام الأستاذ عبد القادر عودة بجهد ضخم رائع في ها المجال في كتابه : " التشريع الجنائي ا"سلامي" في مجلدين نشر احدهما والثاني في الطريق



ليست هناك تعليقات: