الأربعاء، 6 فبراير 2013

هيمنة الإسلام على الحياة كلها


هيمنة الإسلام على الحياة كلها

كتبهامصطفى الكومي ، في 27 سبتمبر 2012 الساعة: 13:01 م

دستور الوحدة الإسلامية                                                
محمد الغزالي 
هيمنة الإسلام على الحياة كلها
   جهود كثيرة تبذل لترضية المسلمين بإسلام آخر غير الذى تلقوه عن نبيهم ، وعرفوه من كتابهم. إسلام منقوص الحقيقة والأطراف ، منقوص العرى والوشائج ، ينكر عليه المنكرون أن يتدخل فى شئون التشريع ، أو يبت فى قضايا المجتمع ، أو يقدم الولاء له على الولاء للعنصر أو التراب ، أو يضع قواعد التربية مقرونة بشعائره وعبادته ، أو يحذف من السلوك العام ما يخدش قيمه ويمس مثله الرفيعة ، أو يلزم الأفراد بفرائضه اليومية و السنوية..الخ. إنه إسلام اسمى يستبقى شبحه إلى حين ، ولعله يستبقى بضرورات لا تلبث أن تزول.. وأغلب الأقطار الإسلامية تتمسك بنسب متفاوتة من الإسلام الحق المعروف فى كتاب الله وسنة رسوله ، وقد تقل هذه النسب كما وكيفا ، وقد تزيد ، ولكنا لم نرها إلى الآن مكتملة الصورة والحقيقة على نحو صحيح علميا وعمليا ، فى أى بلد إسلامى. بل إن المسلمين الهنود لما أسسوا لهم دولة باسم "باكستان " قامت الدولة المنشودة على أساس هذا الإسلام "الشبح "، فلم يعرف للإسلام وجود فى عالم القانون أو الاقتصاد ، بل إنه فى عالم العقيدة والعبادة سمح للقاديانية أن تسهم فى قيادة الدولة الجديدة (!) فلا عجب إذا دها باكستان ما دهاها، ولا عجب إذا أصابتها محن قصمت ظهرها.. ولا تزال الجهود المريبة فى أرجاء العالم الإسلامى لخلق أجيال تقبل هذا الإسلام المشوه وترتضى ما قام فى كنفه من تحليل الحرام ، وقطع ما أمر الله به أن يوصل ، ودفع الأمور كلها بعيدا من هدايات السماء.. ولا ريب أن الاستعمار العالمى وراء هذه الجهود المنكورة ، فهو منذ احتل البلاد الإسلامية حرص على تعطيل الأحكام الشرعية ، وطمس شارات الإسلام فى كل أفق ، وتسميم الكيان الإسلامى كله ببطء وذكاء حتى يلقى حتفه بعد أمد غير بعيد. ولم يترك الاستعمار بلدا ما يسحب عساكره منه إلا بعد أن يضع مقاليد هذا البلد فى أيد تعمل له , وتضرب بسيفه ، وتفكر بعقله. بل لعل الذين خلفوه كانوا أشد منه ضراوة وجراءة ، فى الإجهاز على ما بقى من مراسم الإسلام ، وشن حرب استئصال وحشية على الجماعات التى ظلت موالية له متمسكة به. وكانت النتيجة بعد تلك الغارة الحقود على رسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن قبل العيش فى ظل إسلام مفتعل ، ما فيه من عبث الناس أضعاف ما فيه من وحى الله!! وكاد جمهور كبير من أتباع محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يألف استقرار الربا والزنا ، وإهمال الصلاة والصيام ، ومداهنة الملحدين والفسقة ، ثم مطاردة أهل اليقين والجلادة والوفاء لهذا الدين العظيم.. وليس من الحق تحميل الاستعمار الأجنبى أوزار تخلفنا المادى والأدبى. نعم إنه يستديم ضعفنا ولكنه ليس سبب هذا الضعف! إننا نحن المسلمين الذين فرطنا فى ديننا وأسأنا إليه طورا بالإهمال الشنيع وطورا بالتأويل الفاسد وطورا بالتطبيق الغبى. ومن أعصار مديدة والشقة بيننا وبين الحق تتسع ، بل إن العلاقة بين الإسلام وأمته ظلت تهن وترق حتى انقطعت فى أماكن كثيرة.. وانتهينا فى هذا القرن إلى أوضاع يجب أن نكشف سوءها ونفشى خبرها. فأجهزة الدعوة الإسلامية ميتة أو مشلولة فى أيام تبرجت فيها الدعوات وافتنت فى عرض نفسها. وأجهزة الشورى المصاحبة لنظم الحكم ميتة أو مشلولة فى أيام دللت فيها الجماهير وتوطدت الحريات السياسية. وأجهزة الاقتصاد القومى تحيا على هامش الدنيا ، وليس للاقتصاد الإسلامى تفوق حضارى أو صناعى ينظمه بين الدول العشر الأولى أو الثانية ، بل جمهور المسلمين ينتسبون إلى العالم الثالث ، العالم المتخلف الباحث عن الحياة على استحياء أو استخذاء..
   إن ذلك المصير الكالح لأمة كانت طليعة عالمية قرابة ألف عام له أسبابه الجديرة بالدراسة.. وما نشك فى أن المسلمين أماتوا أجزاء من دينهم قبل المد الاستعمارى الحديث ـ لا تقل خطرا عن الأجزاء التى أماتها الاستعمار من دينهم بعد ما تمكن منهم واحتل أرضهم وفكرهم.. يقول الله تعالى : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء فهل نظرنا؟ وما طرق النظر التى سلكناها؟ ولماذا أخذت هذه الطرق عند غيرنا فعرف الكثير عن أسرار الكون وقوانينه ولم نفد نحن شيئا؟ ويقول تعالى فى وصف المفلحين من أهل الإيمان : والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون. فماذا صنعنا لنبنى هذه الأخلاق ونؤسس مجتمعا يغالى بالعهود ويصون الأمانات ، ويضبط أقواله وأعماله كلها وراء سياج من هذه الفضائل. إننا ظننا الأخلاق تنبت وحدها كما تنبت فى الحقول بعض الحشائش الطفيلية ، فلم نبذل المعاناة الواجبة لإنشاء أجيال ذات وفاء لمسئولياتها الخاصة والعامة. ونقرأ قوله تعالى : وشاورهم في الأمر فإذا مفسرون يتطوعون لخدمة الاستبداد السياسى يقولون دون وعى ، شاور ثم امض على ما رأيت فالشورى غير ملزمة!! لحساب من هذا التفسير؟ وهب مفسرا قديما سقط فيه ، فلحساب من يروج له الرجال الجدد وهم يعلمون المعاطب الهائلة التى أصابت أمتنا من استبداد حكامها عبر تاريخ أغبر؟ ويجىء آخرون فيحشدون جملة من الآثار الصحيحة والواهية ، ثم بعد شرح قاصر معتل يخرجون بهذه القاعدة " الفقير الصابر أفضل من الغنى الشاكر". ولو أنهم قالوها عزاء لفرد مصاب ، أو عصابة من الناس منكوبة لهان الأمر ، ولكنهم أطلقوها كلمة عامة حمقاء ، وحاكموا إليها أغنياء الصحابة فجعلوهم يدخلون الجنة زحفا أو بعد لأى !! لماذا؟ لأن الثراء طعن فى التقوى!! فكيف يقوم كيان أمة على هذا العجز و التسول؟! كيف يؤخر عن الجنة من جهز جيش العسرة وأعلى راية الإيمان وهد ركن الطغيان ، ليقدم عليه بائس أقعده العدم؟
ويقول الله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة) فماذا فعل العرب لتذويب الفوارق بينهم وبين الترك والعجم والهنود والزنوج وغيرهم من الأجناس التى دخلت فى الإسلام؟ هل اجتهدوا فى تعليمهم اللغة العربية كما اجتهد الإنكليز فى نشر لغتهم بين الأجناس التى خضعت لهم؟ إن السلف الأول بذل فى هذا المضمار جهدا مقدورا ، لكن الذين جاءوا من بعدهم لم يصنعوا شيئا يذكر.. وجل الأمثلة التى ضربناها يقوم على فساد معنى التدين أو فتور عاطفته ، ولكن ينضم إلى ذلك فى أحيان كثيرة خروج غريب على أمر الله ومعالم دينه. فى عالم الأسرة يتم الزواج وفق مراسم الرياء وتقاليد الكبرياء الاجتماعية المقررة ، وإلى أن تتيسر هذه المراسم لا حرج من اضطراب الغريزة وانسيابها بلا ضوابط من إيمان! لماذا يحاط الزواج بكل هاتيك الصعوبات ، ولماذا الإغضاء عما يقع؟ وفى المنازعات العائلية لا نستطيع القول بأن نسبة طلاق السنة إلى طلاق البدعة تبلغ واحدا فى المائة.. ولا نستطيع كذلك أن نقول إن واحدا فى الألف من المطلقين يمتعون نسوتهم السابقات. ذلك فى العلاقات الاجتماعية ، أما فى عالم السياسة فقد افتخر حاكم معاصر بأنه اعتقل ثمانية عشر ألف مسلم فى ليلة واحدة ، وهذا جبروت لا تعرفه الدنيا الآن ولا فى البلاد التى تعبد البقر.. الحق أن المسلمين ابتعدوا عن دينهم مسافات شاسعة ، وأن المكانة الهون التى انحدروا إليها نتيجة لازمة لما فعلوا بأنفسهم ورسالتهم. ولابد من عودة صادقة إلى الإسلام كله إذا أردنا أن نحيا ونرشد ، عودة علمية وعملية ، نظرية وتطبيقية ، لا نفرط فى ذرة من ديننا ، لا نتنازل عن شعبة من شعب الإيمان ولا عن كلمة من كلم القرآن.. إن الأديان القديمة اضمحلت وتلاشت بسبب هذا التفريط العارض ، ولعله بدأ يسيرا ثم تفاحش مع الزمن حتى أتى على هذه الأديان من القواعد. ولن نسمح أبدا أن يرِد ديننا هذا المصير ، يترك هذا شيئا وذاك شيئا ، ويتعلل هذا بالتطور ، وذاك بالمصلحة ، ولا تزال الأعذار تتوالى ، والتعاليم تتهاوى حتى يصير الإسلام أثرا بعد عين .
   لن نقبل أبدا أن يتعرض الإسلام لهذا المسلك الكفور فى الأخذ والرد ، فأجزاء الدين كعناصر الدواء لا يتم الشفاء إلا بها كلها ، ومن ثم فلا تنازل عن شيء منها. إن تحريف الكلم عن مواضعه آفة تصيب الأديان على امتداد الزمان . ولهذا التحريف مظاهر ثلاثة :
1ـ التدخل فى الوحى الإلهى بالحذف والزيادة ، اتباعا للهوى أو غلوا فى الدين.
2ـ التأويلات الفاسدة والتفاسير الباطلة لما ورد من نصوص .
3ـ تعطيل العمل بطائفة من الأوامر والنواهى ، وتوارث هذا العطل من جيل إلى جيل حتى نشأ خلوف قاصرة تظن ما أهمل قد نسخ وباد. ومن حسن حظنا ـ نحن المسلمين. كتابنا محفوظ بعناية الله ، فالأصل الذى نحتكم إليه قائم دائم ، ومن حسن حظنا أن الإجماع منعقد على أركان الإسلام والأجهزة الرئيسة التى تتفرع عنها بشعبه وقوانينه هنا وهناك. وإنه لسهل على المصلحين بعد ذلك أن يقاوموا المعطلين لحدود الله والمنحرفين عن صراطه المستقيم ، وأن يستمسكوا بالدين كله علما وتطبيقا ، دراسة وسلوكا ، نهج حياة خاصة أو عامة. وإلى هذا الشمول والترابط فى تعاليم الإسلام وجه الأستاذ حسن البنا إخوانه بقوله :
" الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا ، فهو دولة ووطن ، أو حكومة وأمة ، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة ، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء وهو مادة وثروة أو كسب وغنى ، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء الكتاب والسُّنَّة معًا"
   لا يعرف التاريخ إلا قرآنا واحدا منشور النسخ بين جماهير المسلمين من ليلة القدر الأولى إلى يوم الناس هذا. ولم يحدث خلاف على هذه الحقيقة خلال أربعة عشر قرنا مضت ، فكتاب المسلمين واحد. وقد حاول بعض المستشرقين الصغار أن يختلق ريبة حول ذلك فزعم أن عند الشيعة مصحفا آخر ، وهو زعم ساقط كان أقل من أن نثبته هنا ولكنا ترخصنا فى ذكره ليعلم من يجهل أن القرآن الذى يحفظه جميع المسلمين ويحتفظون بنسخه فى بيوتهم واحد واحد.
ولم يؤثر عن شيعى أو سنى أو خارجى أو صوفى أن لديه قرآنا آخر غير هذا الكتاب الفذ. إن المصحف يطبع فى القاهرة فيقتنيه مسلمو إيران والهند من الشيعة دون أى تردد عالمين بأن هذا هو الوحى الذى نزل على نبيهم.
وظاهر أن الأقدار ضاعفت أسباب الصيانة لهذا الكتاب حتى انفرد بهذه المكانة التى لم يظفر بها كتاب سماوى آخر.
ومع كثافة الأسانيد المتواترة التى دفعت بهذا الكتاب إلينا ، فإن هناك نظرا آخر جديرا بالاحترام كله. إن حديث القرآن عن الله ولقائه ومطالبه من عباده يعلو كثيرا جدا عن نظيره فى الكتب الأخرى.
فتالى القرآن يشعر بأن الله واحد واسع، عظيم، أعلى، جدير بالحمد كله، والمجد كله، يستحيل أن ينسب إليه نقص أو يكون فوق كماله كمال.
وتالى العهد القديم يشعر بأن الله يذكر وينسى ، ويخطىء ويصيب ، ويفعل ويندم ، ويأكل مع الناس ، ويلاكمهم أحيانا..!
وتالى العهد الجديد يشعر بأن الله تجسد وقتل فى سياق غامض حافل بالتناقضات. وفى التوراة كما سجلها العهد القديم ، لا توجد كلمة عن لقاء الله ، ولا يوجد ذكر ليوم القيامة. الحديث كله عن الشعب المختار ، وحقوقه فى هذه الدنيا وواجباته تجاه رب إسرائيل! فأى تدين هذا؟!
والحديث عن يوم القيامة فى العهد الجديد إما أن يؤخذ عن طريق الرؤى فى المنام ، أو الإشارات الروحية ليوم الدينونة.. والبون بعيد بين هذا الأسلوب الخافت وبين الهدير الذى يسمع دويه فى الوعد والوعيد ، ومشاهد القيامة وصور الحساب والثواب والعقاب كما تكاثرت فى سور القرآن. والجانب الإنسانى الحر ظاهر فى القرآن الكريم. فأنت وحدك صانع مستقبلك ، ومصور ملامحك. إن أحسنت لم يستطع أحد أن يعترض طريقك إلى الجنة. وإن أسأت لم يستطع أحد أن ينقذك من النار؟ من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد. فلا وسطاء ولا شفعاء ، ولا قرابين على نحو ما تصور الوثنية أو على نحو ما تصور الأديان السماوية التى انحرفت. والقرآن ـ بهذا الواقع المشرق ـ جدير بأن يكون الصوت الفذ المنبعث من السماء ، فلو لم تدعمه أسانيد التواتر الغنية السخية لقال العقل: ما يصح عن الله إلا هذا. ومن هنا فنحن نوقن بأن القارات الخمس لا تحوى سجلا للوحى الأعلى إلا فى هذا الكتاب العزيز.. ومن هنا أيضا جاء خلود الرسالة التى بقى مصدرها الأولى خالدا: لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد وقد اتفق المسلمون على أن القرآن هو المصدر الأول لتعاليم الإسلام ، والمعجزة الباقية أبد الدهر لنبيه عليه الصلاة والسلام ، كما اتفقوا على أن السنة المطهرة هى مصدره الثانى. ونقف وقفة قصيرة أمام هذا المصدر. هجوم على السنة: تواجه السنة النبوية هجوما شديدا فى هذه الأيام ، وهو هجوم خال من العلم ومن الإنصاف. وقد تألفت بعض جماعات شاذة تدعى الاكتفاء بالقرآن وحده. ولو تم لهذه الجماعات ما تريد لأضاعت القرآن والسنة جميعا ، فإن القضاء على السنة ذريعة للقضاء على الدين كله..
   إن محاربة السنة لو قامت على أسس علمية لوجب ألا يدرس التاريخ فى بلد ما. لماذا يقبل التاريخ ـ على أنه علم ـ وتهتم كل أمة به ، مع أن طرق الإثبات فيه مساوية أو أقل من طرق الإثبات فى الحديث النبوى؟ وأمر آخر نحب أن نثيره: لماذا تدرس سير العظماء وكلماتهم وتعرض للتأسى والإعجاب ، ويحرم من ذلك الحق رسل الله وفى صدارتهم سيد أولئك الرسل مروءة وشرفا ، وبيانا وأدبا، وجهادا وإخلاصاً؟! إن بعض البله يتصور الأنبياء أبواقا لأمين الوحى ، يرددون ما يلقيه إليهم ، فإذا انصرف عنهم هبطوا إلى مستوى الدهماء ، وخبا نورهم. أى غفلة صغيرة فى هذا التصور؟! إن الأنبياء رجال أكابر؟ أكارم مصطفون من بين الألوف المؤلفة لصفاء فطرتهم ، وزكاة أفئدتهم ، ونفاسة معادنهم. والوحى الذى يمر بنفوسهم يتألق فى جوانبهم ويتأنق فى سيرهم ويضوع شذاه فى إيمانهم وصلاحهم ، فإذا لم يكن هؤلاء قدوة فمن القدوة؟ الأدباء القوالون وحسب؟ الساسة الماكرون وحسب؟ القادة السفاحون وحسب؟ ما أغرب أحكام البشر!! إن الله فى كتابه أحصى أسماء ثمانية عشر نبيا من الهداة الأوائل ، ثم قال للهادى الخاتم: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين) . فإذا برز للإنسانية إنسان كامل التقت فى سيرته شمائل النبوات كلها ، وتفجرت الحكمة على لسانه كلمات جوامع ، واستطاع ـ وهو الفرد المستوحش ـ أن يحشد من القوة ما يقمع كبرياء الجبابرة ، ويكسر قيود الشعوب ، ويوطىء الأكناف للحق المطارد.. إذا يسر الله للإنسانية هذا الإنسان العابد المجاهد الناصح المربى ، جاء غر يقول : لا نأخذ منه ولا نسمع له. ثم يستطرد مخفيا غشه: حسبنا كتاب الله! وهل السنة إلا امتداد لسناه ، وتفسير لمعناه، وتحقيق لأهدافه ووصاياه؟..
عتاب وتصحيح للمفاهيم:
   على أننا نعتب على جماعات كثيرة تنتسب للسنة وتظهر التمسك بها ، إذ إن مسلكها قد يكون من وراء انصراف بعض الناس عن السنن وشكهم فى جدواها. ونأخذ على هذه الجماعات أمرين: أولهما: أنها تخلط الصحيح بالسقيم ، ولا تدرى بدقة ما يقبل ويرد من المرويات. وقد لاحظت عند تحديد الوضع الاجتماعى للمرأة أنه ما يجىء حديثان فى قضية تتصل بها إلا أخر الصحيح وقدم الضعيف! فزيارة المرأة للقبور ترويها أحاديث صحيحة ، ولكن بعض أهل العلم يقدمون عليها حديثا ضعيفا يلعن زائرات القبور.. ورؤية المرأة للرجال ـ مع غض البصر ـ ترويها أحاديث صحيحة ، ولكن بعض أهل العلم يطوون ما صح وينشرون آثارا واهية أن المرأة لا ترى رجلا ولا يراها رجل!! وقد وضعت تفاسير وذكرت مرويات لتقرير أن وجه المرأة عورة ، وأن الإسفار عنه جريمة ، وليس وراء هذا الزعم سنة صحيحة ، ولا فقه قائم.. ولعل هذا القصور العلمى وراء الانهيار الاجتماعى أمام زحف المدنية الحديثة: خذ مثلا هذه القضية الاجتماعية الحساسة ، قضية المهور، فإن الأحاديث الصحيحة وردت برفض المغالاة فيها. روى مسلم عن أبى هريرة قال: ( جاء رجل إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : إنى تزوجت امرأة من الأنصار، فقال له النبى: على كم تزوجتها؟ فقال: على أربع أواق من فضة ، فقال له النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ: على أربع أواق!! كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل!! ). وظاهر من تعليق الرسول أنه استكثر المهر. والأصل فى المهور التيسير، وسنته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى نسائه وفى بناته التيسير ، والأحاديث فى ذلك كثيرة.. ولكن هذه الأحاديث الكثيرة طويت طيا وانهزمت أمام رواية جاءت أن امرأة جادلت عمر بن الخطاب فى زيادة المهور وهزمته مستشهدة بقوله تعالى: (و آتيتم إحداهن قنطارا). وهذه الرواية لم تأت بسند صحيح ، بل فى رجالها انقطاع وضعف ، ولو تجاوزنا ذلك ـ وما يجوز تجاوزه ـ فإن موضوع الآية ومعناها ليس محل الاستشهاد ، إذ الآية فى شخص يريد تبديل زوجة بأخرى ويريد أن يسترد من الزوجة المتروكة ما أعطاه إياها مهرا فرفض القرآن هذا المسلك الصغير ، وبين أنه ما يجوز أخذ شىء من المرأة المهجورة ولو أمهرها قنطارا.. والعبارة تفيد المبالغة ، ولو لم تفدها فالأمر يتصل بقضية أخرى غير إنشاء البيوت ، وإعفاف الرجل والنساء ، وإغلاق أبواب الحرام ، وتفتيح أبواب الحلال ، وحماية الأمة من التسول الجنسى ومقاذر الانحراف. وقد لاحظت أن هناك أحاديث ضعيفة تحكم المجتمعات الإسلامية وتهزم الأحاديث الصحيحة بل المتواترة. خذ مثلا رفض صلاة النساء فى المساجد ، فقد فهم من أحاديث لم يروها رجال الصحيح ومع ذلك فقد أقر الرفض عمليا ، وطويت الأحاديث المتواترة والصحيحة فى هذه القضية المتصلة بأهم عبادات الإسلام. والتصرف فى السنة بهذا الأسلوب لا يمكن أن يكون دينا قويا ولا صراطا مستقيما.
 أما الأمر الثانى الذى يؤخذ على المشتغلين بالسنن عموما، فهو:
    قصورهم الفقهى ، وليست لهم قدم راسخة فى فقه الكتاب الكريم! ـ مع أنه الأصل ـ كما أنهم يأخذون الأحاديث مقطوعة عن ملابساتها ، ولا يضمون إليها ما ورد فى موضوعها من مرويات أخرى قد تؤيدها وقد تردها. خذ هذين المثلين مما عرض لى فى القاهرة وأنا مهموم بقضايا الدعوة:
 أولا: وقف خطيب يدعى السلفية يروى للناس أن والد الرسول فى النار ، وكان ذلك لمناسبة احتفال المسلمين بالمولد النبوى!! وقلت للناس: هذا الحديث يخالف قوله تعالى: (و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا). وقد ثبت أن جيل الرسول الكريم وصحابته كلهم لم يبعث أحد إلى آبائهم: (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون). (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون). ومعنى هذا أن عبد الله وأمثاله لا يعذبون ، ولا يدخلون النار. ويكفى هذا الخلاف لنقض الحديث فهو علة تقدح فى صحته. وعلماء المصطلح يردون المتن إذا خالف ما هو أصح وأوثق. وليس بعد حكم القرآن الكريم حكم. ولعل الراوى فهم أن تعذيب المشركين جميعا هو الأساس ، وأن استثناء أهل الفترة رحمة فوق العدل ، فساق الحديث لتوكيد المعنى الأول!.. وعلى أية حال فإن رواية هذا الحديث فى خطبة جامعة وفى مناسبة الاحتفال بالمولد النبوى جلافة وجهالة غليظتان..
 ثانيا: قال خطيب آخر يدعى التصوف: إن الله ليلة المعراج نزل لمحمد وأوحى إليه. وقلت للناس: ما روى فى ذلك كان رؤيا منام ، ومع ذلك فقد رفضه الحفاظ وردوه ردا شديدا وعدوه من العثرات القليلة التى أخذت على راويه. وقد لاحظت أن المطابع وضعت فى أيدى الجماهير نسخا كثيرة من الموطأ ومن الصحيحين ، وكثيرا ما يقرأ العامة أحاديث فوق مستواهم ، والحديث إن لم يقدمه عالم فقيه ، أو إذا لم يصحب بشرح يلقى ضوءا كاشفا على معناه ، ربما كان مثار فتنة ولغط. وكم من أنصاف متعلمين أساءوا إلى السنة بضعف الفقه وقصور البصر… والخلاصة أن طاعة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من طاعة الله تبارك وتعالى: (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا).
 حقائق محترمة:
وإن من زعم أن الرسول يجوز عصيانه فيما أمر به ونهى عنه ، فهو كافر باتفاق المسلمين.. وقد بذلت جهود لم تبذل مثلها فى الوقوف على تراث بشر كى يعرف ماذا قال الرسول حقا.. وانتهت هذه الجهود بجملة حقائق محترمة.
1ـ أن فى السنة ما هو متواتر لفظا أو معنى ، وهذا النوع من السنن يشبه القرآن الكريم فيما أتى به من أحكام ، ولا يمكن رده ، وهو كثير فى التراث النبوى وعليه تقوم الكثرة الكاثرة من الأحكام المقررة. وليس بصحيح أن المتواتر فى السنة ضيق النطاق ، ربما كان ذلك فيما تواتر لفظه ، أما ما تواتر معناه فهو أساس مقررات فقهية كثيرة. والواقع أن أخبار الآحاد من الناحية العملية لا تشكل مساحة كبيرة من السلوك الإسلامى المهم ، فإن ما لا بد منه تكفلت به نصوص ثابتة بيقين..
 2ـ جمهور الأمة يقبل سننالآحاد ويعدها دليلا على الحكم الشرعى الذى نتعبد الله بإقامته. ومن الناس من عد هذه السنن مفيدة لليقين الذى يفيده التواترـ مادامت صحيحة ـ ولكن جمهور العلماء يقبل سنن الآحاد فى الأحكام العملية والفروع الفقهية ، ولا ينقلها إلى ميدان العقيدة الذى يقوم الأمر فيه على القطع. ومعنى ذلك أن سنن الآحاد تفيد الظن العلمى وحسب..
3ـ مع اتفاق الفقهاء على أن سنن الآحاد قرينة مقبولة فى إفادة الحكم الشرعى ، فإن عددا من الأئمة يتجاوز هذه السنن إذا كانت هناك قرينة منها فى إفادة حكم الله. (فمالك) مثلا يرى عمل أهل المدينة أدل على السنة النبوية من حديث الآحاد مهما كانت صحته، (والأحناف) يرون أن حديث الآحاد لا ينهض على إثبات الفرضية وحده ، ولا ينهض كذلك على إثبات الحرمة ، ولكنه يثبت أحكاما أقل رتبة. وغالى بعضهم فجعل القياس القطعى أرجح من سنن الآحاد. ودراسة السنة علم له رجاله الخبراء ، ولا يقبل فى هذا الميدان ما يرسله السفهاء من أحكام طائشة تجعل التطويح بالسنة الشريفة أمرا جائزا أو تجعل تكذيب حديث ما هوى مطاعا. إنه لا فقه بغير سنة ولا سنة بغير فقه ، وقوام الإسلام بركنيه كليهما من كتاب وسنة. وفى ذلك يقول الأستاذ الإمام حسن البنا: (القرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم فى تعرف أحكام الإسلام ، ويفهم القرآن طبقا لقواعد اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف، ويرجع فى فهم السنة إلى رجال الحديث الثقات) .
* * *
محمد الغزالي

ليست هناك تعليقات: