الأربعاء، 6 فبراير 2013

الحقائق لا الأوهام أساس الإسلام


الحقائق لا الأوهام أساس الإسلام

كتبهامصطفى الكومي ، في 27 سبتمبر 2012 الساعة: 12:54 م

 دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين                                  
محمد الغزالي  
الحقائق لا الأوهام أساس الإسلام
   لبعض المتصوفين شطحات تحسب عليهم ويحذر المسلمون منها ، قد تكون شطحات فكرية مثل ما روى عن محيى الدين بن عربى من توبة فرعون! فقد زعم أن فرعون رجع إلى الله صادقا ومات طاهرا!! ذلك أنه لما أدركه الغرق (قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين). قال ابن عربى: قبل الله إيمانه وتوفاه مسلما!! وهذا كلام موغل فى الخطأ ، بل موغل فى السخف. وقد أجمع فقهاء الأمة سلفا وخلفا على أن فرعون وأمثاله من أركان جهنم ، وأن توبته عند الغرق لا تساوى شيئا.. وفى آيات كثيرة ما يحدد مصيره. (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود * وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود). وابن عربى رجل يصيب ويخطىء، والمخوف منه ومن غيره أن يفكر بالطريقة التى تحلو له ، ثم يلتمس إلى تقوية فكره العليل فيقول جاءنى الرسول فى الرؤيا ، واعتمد مؤلفاتى ، وقال لى: انشرها على الناس..! ورؤيا ابن عربى لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا تصوب له خطأ ولا ترجح له ظنا ، ونحن ننقد أقواله دون أى نظر إلى هذه الرؤى.. وأذكر أن مؤذنا بالريف المصرى كان يضم كلمة "سيدنا" إلى " أشهد أن محمدا رسول الله "، فلما جودل فى ذلك زعم أن الرسول أقره عليها فى المنام! وقلت للرجل: إن دين الله اكتمل فى اليقظة جهارا نهارا ، وليس بانتظار رجل يثقل فى الطعام ثم يهرف فى المنام! المسلم رجل جيد العقل يلتمس الحق من مصادره وحدها ، فإذا عرفه التزمه واحترمه واستقام على طريقه حتى يتوفاه الله ، وليست للتخامين والأوهام مكانة فى فؤاده لأنه ـ كما أمره الله ـ لا يقفو ما ليس له به علم .
   ومع لزوم التقوى وإدامة العبادة يتكون من ضمير المؤمن حس ذكى ينفر من الشر والقبح ، وينجذب إلى الخير والجمال ، ويحب أقواما ويكره آخرين ، وينصر قضايا ويهزم أخرى… وهذا الحس يخبو ويصفو مع قوة الإيمان وضعفه ، وشدة السير إلى الله أو وهنه. وقد وردت بذلك آيات جعلت الإيمان حياة من موت ، وضياء من ظلمة ، وفرقانا من لبس ، ورحمة من عناء! (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ). على أن المؤمن فى صباحه ومساءه ما يستغنى عن الأدلة الموجهة حسية كانت أو معنوية ، إحساسه الخاص لا يقوم بإزاء القرائن الظاهرة والشواهد القاهرة.. ولقد جاء فى الأثر أن المؤمن ينظر بنور الله ، وكثيرا ما تصدق هذه الفراسة. ولكن هل هذه الفراسة تصل إلى مجالس القضاء وتثبت بها قضايا ويدان بها خصوم؟ كلا ، إنها حجة قاصرة ، لا ، بل هى حديث نفس تخطئ وتصيب ، ومهما بلغت قوتها فلن تعدو روع صاحبها.. إنه ارتقاء عظيم أن تتجاوب نفس مع حقائق الكون ، وقد شعرت بأقدار المؤمنين العارفين عندما رأيت رب العالمين يقرنهم بذاته وملائكته ، ويكشف عن شهودهم لله الواحد ، وإذعانهم لعدله المطلق: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم). هما ابنان لآدم ، أحدهما لا يعرف إلا نفسه وهواه ومتقلبه فوق هذا التراب. والآخر طوى الملكوت كله فى فؤاده ، وعرف نور السموات والأرض وارتبط به ، واستعد للقائه ، وادخر الكثير عنده.. ما أبعد الشقة بين الابن العاق والابن البار ، ما أبعد الشقة بين المؤمنين والكفار!!. وبعد الشقة يجئ من الفرق بين رؤية محدودة محجوبة ، ورؤية تنظم الآفاق وتخترق الأسوار وتشهد الواقع كما هو لا كما يرسمه الخيال.. لقد عرفوا الصدق بأنه مطابقة الخبر للواقع ، ومن ثم فالإيمان الصادق ليس وجهة نظر لصاحبه وإنما هو إدراك الحق بلا مغالاة ولا تفريط ، إدراك الحق كما هو.
الإسلام يحترم العلم وحقائقه:
   ونحن نحترم العلم وحقائقه وننزل على حكمه ، ونرفض كل تدين أو تقوى بينهما وبين المنطق العقلى جفوة.. قال لى أحد الشيوخ الكبار: كنت فى الهند ، ووقفت عند راهب فى صومعته منصرف عن الدنيا ، واستمعت إليه ينفخ فى الناى فسرق قلبى ، وكان معى أمين الجامعة العربية فرنا إليه كما فعلت. كان سمته المستعلى على الحياة ، ولحنه المنبعث من الأعماق يهزنا هزا ، وما ملكنا أعيننا من أن تذرف الدمع ، ولا أفئدتنا من أن تغزوها الرهبة. ولم أستغرب الواقعة المروية ، ولا أثر الموسيقا فى صبغ النفوس بشتى المشاعر ، وذكرت بيتا من قصيدة للعقاد يصف ذلك.
تهزين أعطاف البخيل فيكرم  . . . ويصغى إليك المشمخر فيرحم
 بيد أنى تساءلت: ما خطب هذا الراهب المتحنث فى صومعته؟ من يعبد؟ أيعبد الله الأحد الذى لا إله إلا هو؟ أم يعبد إلها مثلثا له ثلاثة رءوس وثلاث زوايا وإن كان مثلثا واحدا؟ أم يعبد مظاهر الوجود فى الجرثومة الزاحفة والنجمة السارية؟ ترى ما الذى يملأ قلبه بالشجن؟ أيبكى مصيبة نزلت به خاصة؟ أم يبكى مآسى البشرية التى تزحم القارات؟ إننى لا أعرف دخيلة هذا الراهب ، ورأيت أن أبدى ما عندى للشيخ الكبير فقلت له: مع أنى حاد العاطفة إلا أن الدليل العقلى أرجح عندى من صوت المزمر الحنون! وأنا أرفض قبول عقيدة خرافية تنساب مع صوت شجى. إن الهيام الروحى وراء وهم خادع كالهيام الجنسى وراء عشيقة محرمة؟ لابد من احترام صوت العقل أولا وآخرا ، هذا ما تعلمناه من كتابنا العظيم. ألقيت محاضرة مطولة عن "أولى الألباب " فى القرآن الكريم. إن هذه الكلمة تكررت نحو خمس عشرة مرة. وفى كل موضع كان السياق يضم مجموعة من الشمائل ، أو يشير إلى خلة من الخلال التى يعلو بها قدر الإنسان فكرا وخلقا معا. أولو الألباب هم أهل الخطاب وموضع الثقة وعليهم المعول فى قيادة الدنيا بالدين. وقد رأيت ناسا طيبين ، شديدى الثقة بطيبتهم ، يستمدون منها حكمهم على الأشخاص والأشياء ، وربما صدرت لهم أحكام بالطيبة والخبث أو الحل والحرمة أو التقديم والتأخير لا مصدر لها إلا ذوقهم ومزاجهم!! وهذا مسلك قد يصل بذويه إلى الزيغ أو الدجل. وعندما أتدبر أزمة الإيمان فى عالمنا المعاصر أو أزمة التدين خلال تاريخ الإنسانية الغابر ، أشعر بأن أصل البلاء نجم عن أقوام يظنون حكمهم على الأمور هو حكم الله ، ووصايا المرسلين.. وينبغى التوكيد باستمرار على أن الحكم الشرعى هو "خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين " ـ كما يعبر علماء الأصول ـ وأن استفادة هذا الحكم هى من الله ورسوله ، أى من الكتاب والسنة ، وأن الوسائل العلمية المحترمة هى الطريق الفذ لهذه الاستفادة. فليس لأحد أن يقول: نفث فى روعى كذا! أو ألهمت كذا ، أو رأيت فى منامى كذا ، أو روى قلبى عن ربى كذا!! فذلك كله فوضى مردودة.
 المحكم من القرآن أساس الاعتقاد والتشريع:
   والإيمان بالغيب ليس ثغرة ينفذ منها الخرافيون وعشاق الأوهام كى ينفثوا سمومهم ، فدائرة هذا الإيمان محددة. وإذا كان فى الدين محكم ومتشابه فإن المحكم أم الكتاب وأساس الاعتقاد والتشريع ، ودعامة النشاط الإنسانى أعظم أقطاره وأهمها! وإثبات المتشابه ليس إلا تتمة للمعارف التى ينبغى للعقل أن يلم بها وإن لم يعلم كنهها. والواقع أن الاشتغال بالمتشابه مرض نفسى ووظيفة سمجة للبطالين وهواة الجدل. كذلك توسيع دائرة المغيبات ومحاولة جعل الدين طلاسم فوق العقل ، أو معميات ينكرها المنطق ، إن ذلك كله ضرب من الكهانة يتقنه بعض الناس القاصرين وذوى النزعات الأسطورية ، وما أكثرهم فى ميدان التدين. وقبل أن نسوق بعض الأمثلة نستلفت النظر إلى القاعدة العقلية "عدم العلم بشىء ليس علما بعدمه "، وأختها "ما يحكم العقل باستحالته غير ما يعجز عن دركه "!! إننى أعرف رحابة الكون الذى نعيش ـ نحن البشر ـ فى نقطة صغيرة منه ، أو فوق هباءة اسمها الأرض. هل أعقل أن هذا الكون الضخم تزأر فيه رياح الخراب علوا وسفلا ، فليس فيه من يعقل ويكلف إلا البشر وحدهم؟ لا أستسيغ هذا الزعم! فإذا حدثنى القرآن عن عالم آخر اسمه الملائكة ، أو عالم آخر اسمه الجن ، أو عوالم أخرى للأرواح الآيبة إلى ربها بعد رحلة الحياة الأرضية ، فإننى ـ من ناحية المبدأ ـ أقبل. ولما كنت على ثقة مطلقة من صدق البلاغ الذى جاءنى وعصمة المبلغ الذى نقل إلى ، فإنى أومن بالملائكة والروح. وما أشبه ذلك من مغيبات. صحيح أنى لا أعرف كنه هذه الخلائق ، لكن هل عدم معرفتى يحكم بالإعدام عليها؟ إن علماء المادة الآن يحارون فى كنهها ، ويقفون دهشين أمام أسرارها وقوانينها ، وهذا العجز عن المعرفة لم يسوغ إنكار الوجود. من أجل ذلك أومن بالغيب ، وأضعه فى الدائرة المحكمة التى لا يعدوها. وهناك سؤال: هل الله غيب؟ يرى بعض المفسرين والفقهاء أنه من الغيب. وأشعر بغضاضة من ذلك ، ورغبة فى توضيح الأمر. إن العالم أجمع يقوم بالله ، ويستمد منه وجوده ، فهل ما ترتكز عليه المحسوسات يسمى غيبا؟ نحن ندرك أن نبض قلوبنا ، وتلاحق أنفاسنا ، وحركات أمعائنا ليست طوع إرادتنا ، ولا هى من طاقة داخلية نشرف عليها نحن ونلحظ سيرها. وعندما ننام ، وتتلاشى شخصيتنا تبقى هذه الأعمال متواصلة بأمر الحى القيوم ، فكيف يكون مصدر الإيجاد والإمداد غيبا؟! ربما كان ملحظ القوم أن حقيقة الذات فوق الفكر والحس ، وهذا حق. وأيا ما كان الأمر فنحن نؤمن بالله وملائكته وبأشياء فى عالم الغيب والشهادة لا نعرف بدقة كنهها. ولكننا نسارع إلى توكيد أمر مهم ، هو أن ما حكم العقل باستحالته ليس من قبيل الغيبيات التى يجب اعتقادها ، مثل كون الواحد ثلاثة أو الثلاثة واحدا ، فإن ما يحكم العقل باستحالته يدخل فى نطاق المعدوم الذى لا يمكن أن يقع ، فكيف يخال حقا؟!
   إن دائرة الغيبيات لابد أن يبرز محيطها بجلاء حتى لا تستغل عاطفة التدين فى إشاعة الباطل ، وترويج الخرافات. وقد لخص الأستاذ الإمام حسن البنا ما قلناه بشأن تعرف الأحكام الشرعية ، ثم بشأن دائرة المغيبات فقال: للإيمان الصادق ، والعبادة الصحيحة والمجاهدة ، نور وحلاوة يقذفها الله فى قلب من يشاء من عباده ، ولكن الإلهام والخواطر والكشف والرؤى ، ليست من أدلة الأحكام الشرعية.. ولا تعتبر إلا بشرط عدم اصطدامها بأحكام الدين ونصوصه .
وقال: التمائم والرقى والودع والرمل والمعرفة والكهانة وادعاء معرفة الغيب ـ المستقبل ـ وكل ما كان من هذا الباب منكر تجب محاربته.. إلا ما كان آية من قرآن ، أو رقية مأثورة .
   نقول : دعاء المريض لنفسه أو دعاء من معه له مطلوب ، والجؤار بالدعاء لا يمنع من تلمس الدواء ، والاستعانة بالأطباء ، فإن ذلك أيضا مشروع. وقد وردت فى السنة المطهرة أدعية شتى ، كما وردت فى القرآن الكريم سور يتحصن المصاب بتلاوتها ، وهذه وتلك تسميان رقى ، ولا يزال المؤمنون يسترقون من البلاء ، ويدفعون العلل النازلة بما أودع الله فى كلماتها من خير وقبول.. وجاء فى بعض الآثار أن أحد الصحابة كان إذا رأى أولاده صغارا لا يقدرون على ترديد الدعاء كتبه فى ورقة وعلقه بأبدانهم.. ترى ما قيمة هذا التصرف؟ أغلب الظن أنه مسلك عاطفى دفع إليه فيض الحب للأولاد! والمسالك العاطفية الخاصة لا تؤخذ منها قدوة ، ولا تعد من باب التشريع.. والغريب أن ذلك الأثر ـ على ضعفه ـ فتح باب المعلقات ، وأغرى جماهير من السذج أن يتشبثوا بها طلبا للنجاة حتى كاد الأمر يتحول إلى شرك ، وجاهلية. والمحفوظ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "من تعلق تميمة فلا أتم الله له ، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له " . إن الإنسان يضعف كثيرا أمام الرغبة فى الشفاء أو فى استشفاف المستقبل ، وقد رأيت مثقفين ينظرون فى طوالع النجوم وفى خطوط الأكف يريدون أن يعرفوا ما كتب لهم فى الغد القريب أو البعيد ، وذلك كله نوع من البله ، ودليل على نقص الإيمان.. وعلى المؤمنين أن يصونوا سيرتهم من هذا العوج ، وأن يردوا عن الإسلام تهما كثيرة تتجه إلى الأديان كلها فى هذا العصر.
   بين النص والمصلحة جرت على الألسنة عبارة غامضة ، أن عمر بن الخطاب ألغى بعض النصوص ، أو أوقف العمل بها على نحو ما ، لأنه رأى المصلحة فى ذلك! وهذا كلام خطير ، معناه أن النص السماوى قد يخالف المصلحة العامة ، وأن البشر لهم ـ والحالة هذه ـ أن يخرجوا عليه ، ويعدموه. وكلا المعنيين كاذب مرفوض ، فلا يوجد نص إلهى ضد المصلحة ، ولا يوجد بشر يملك إلغاء النص..!! ولننظر إلى ما نسب لعمر فى هذا الشأن. قالوا: منع سهم الزكاة أن يُصرف للمؤلفة قلوبهم بحجة أن الإسلام استغنى عن تألفهم.. وفهم صنيع عمر على أنه تعطيل للنص خطأ بالغ ، فعمر حرم قوما من الزكاة لأن النص لا يتناولهم لا لأن النص انتهى أمده! هب أن اعتمادا ماليا فى إحدى الجامعات خصص للطلبة المتفوقين ، فتخلف فى المضمار بعض من كانوا يصرفون بالأمس مكافآتهم ، فهل يعد حرمانهم إلغاء للاعتماد؟ إنه باق يصرف منه من استكملوا شروط الصرف. وقد رفض عمر إعطاء بعض شيوخ البدو ما كانوا ينالونه من قبل تألفا لقلوبهم أو تجنبا لشرورهم بعدما استطاع الإسلام أن يهزم الدولتين الكبريين فى العالم ، فهل يظل على قلقه من أولئك البدو أمثال عباس بن مرداس والأقرع بن حابس؟ أبعد هزيمة كسرى وقيصر يبقى الإسلام يتألف حفنة من رجال القبائل؟ ليذهبوا إلى الجحيم إن رفضوا الحياة كغيرهم من سائر المسلمين..! إن مصرف المؤلفة قلوبهم باق إلى قيام الساعة يأخذ منه من يحتاج الإسلام إلى تألفهم ، ويذاد عنه من لا حاجة للإسلام فيه. وعمر وغيره من الخلفاء والحكام أعجز من أن يعطلوا نصا ، وأتقى من أن يتقدموا بين يدى الله ورسوله ، ويجب أن تفهم التصرفات بدقة ، ولا تساق التهم جزافا..
عمر لم يعطل حد السرقة:
وقالوا: إن عمر عطل حد السرقة عام المجاعة.. ونقول: إن الجائع الذى يسرق ليأكل أو ليأكل أولاده لا قطع عليه عند جميع الفقهاء ، فما الذى عطله عمر؟.. إن قطع السارق المعتدى الظلوم هو حكم الله إلى آخر الدهر ، ولا يقدر عمر ولا غير عمر على وقف حكم الله. ولإقامة الحد شروط مقررة ، فمن سرق دون نصاب ، أو سرق من غير حرز لم تقطع يده ، ولا يقال: عُطل الحد ، بل يقال : لم يجب الحد! والذى حدث أيام عمر أن المدينة وما حولها تعرضت لقحط عام ، وفى عصرنا هذا نسمع بمجاعات فى آسيا وإفريقية يهلك فيها الألوف ، وليس بمستغرب أن يخرج الناس من بيوتهم يطلبون القوت من أى وجه ، وقد يحملهم ذلك على الخطف أو السرقة ، فهل تعالج تلك الأحوال بالسيف؟ إن عمر درأ الحد بالشبهة ـ كما أمرت السنة الشريفة ـ ولا يعاب إذا توسع فى هذا الدرء ، وقدر آلام الجياع فى تلك المحن المجتاحة.. ذاك تفسير ما روى عنه : إنا لا نقطع فى عام جدب. وقد نقلنا فى مكان آخر رفضه لقطع أيدى الغلمان الذين سرقوا ناقة لابن حاطب بن أبى بلتعة. وظاهر أن مسلكه إجراء استثنائى تجاه ظرف استثنائى ، وأنه نفذ الحد عندما وجب ، ودرأه بالشبهة عندما لم يقم.. عمر لم يحرم الزواج بالكتابيات: وقالوا: إن عمر حرم الزواج بالكتابيات معطلا بذلك قوله تعالى (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين). ونقول: إن الزواج باليهوديات والنصرانيات مباح على الصفة التى ذكر الكتاب العزيز ، من شاء فعل ، ومن شاء ترك ، وفق رغبته ، وقد تقوم حوافز على الفعل أو على الترك لا تغير الحكم الأصلى. فإذا رأى شخص أن ذلك الزواج وسيلة هداية إلى الحق فعل ، وإذا رأى أحد أن ذلك يجعل سوق المؤمنات كاسدة ترك ، ونصح غيره بالترك ، وهذا ما فعله عمر. قال ابن جرير بعد ما حكى الإجماع على إباحة تزويج الكتابيات: وإنما كره عمر ذلك لئلا يزهد الناس فى المسلمات أو لمعنى آخر. ثم قال: تزوج حذيفة يهودية فكتب إليه عمر خل سبيلها! فكتب إليه حذيفة أتزعم أنها حرام فأخلى سبيلها؟ فقال عمر: لا أزعم أنها حرام ، ولكنى أخاف على المؤمنات أن تزهدوا فيهن وتقبلوا عليهن ، أو كما قال. ونظرة عمر موضع تقدير ، وهى لا تلغى نصا كما رأيت ولكنها تستلفت النظر إلى مصلحة اجتماعية تجعل تناولنا للمباحات أدق وأرشد.. وللفقهاء بحوث فى جواز تقييد المباح ، وفى عصرنا تجنح حكومات كثيرة إلى حظر الزواج من الأجنبيات على رجال السلكين السياسى والعسكرى ، وإنما تفعل ذلك حفاظا على أسرارها وأمانها.. ويرى الشاطبى أن تقييد المباح لا شئ فيه إذا كان من دائرة "العفو" أى مما سكت الشارع عنه ، أما إذا كان هناك نص بالإباحة فلا مكان لقيد ما ، حتى لا نحرم ما أحل الله.. وهذا نظر دقيق. وفى قضية الزواج باليهودية التى كرهها عمر نراه أكد أصل الحل والحرمة ، ولكنه كره من رجل كبير مثل حذيفة بن اليمان أن يسئ إلى المؤمنات بما قد يضيرهن.. إن المصلحة لابد من رعايتها ، ومعنى النص الشرعى أن المصلحة قد ارتبطت به أبدا ، فهو دليلها وضمانها ، وأى تعطيل له فهو خدش للمصلحة أو تطويح لها. ونحن نلحظ فى العقوبات الشرعية المنصوص عليها أنها تناولت عددا معينا من الجرائم ، فالحدود المقررة تعد على الأصابع.. ويستطيع الحاكم فى جرائم لا تحصى أن يضمن المصالح بما شاء من عقوبات. هناك جرائم الربا والغصب والفرار من القتال والغش والخيانة وأكل مال اليتيم وكل أنواع المال والعرض والدم التى لا تتناولها الحدود أو ضروب القصاص ، وهذه سيئات كثيرة ، ودائرة التعزير تسعها ، والقضاء يقدر على إرصاد ما يرى من عقوبات تحفظ مصالح الأمة وتقر الأمن هنا وهناك.
 إمضاء أمر الله نماء وبركة:
إن المصلحة لا يمكن أن يحفظها تعطيل نص ، فإن إمضاء أمر الله نماء وبركة. وفى الحديث أن أبا هريرة قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " حد يعمل فى الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا ثلاثين صباحا " . وعندما يشكل المجتمع بالوعد والوعيد والرغبة والرهبة وفق أوامر الله سبحانه ، فإن الرخاء يعم والشؤم يستخفى ، والمخاوف كلهن أمان.. والفقه الصحيح أن نتعرف على المصلحة حيث لا نص ، وأن نجتهد فى تفهمها ثم فى تحقيقها ناشدين إرضاء الله وخير الأمة.. الإسلام مثلا لم يضع رسما محددا لأسلوب الحكم ، وإنما وضع له أخلاقا ترعى وقيما تصان ، فكيف نولى حاكما؟ وكيف نعزله؟ أو كيف نحاسبه ونراقبه؟ ما هى أجهزة الشورى؟ وكيف نستوثق من التقاء الآراء الناضجة فيها؟ وكيف تمضى فى مجراها دون إرهاب أو إغراء؟ للأمم فى هذه الميادين أن تجتهد فى وضع النظام الذى يحقق مصلحتها دون ما قيد. وأذكر أن أحد الناس سألنى ـ ورئيس الجمهورية يختار لبضع سنين ـ فقال: أليست هذه بدعة..؟! قلت: ما البدعة؟ قال: توقيت مدة الرياسة.. فإن الأصل اختيار الحاكم مدى الحياة! قلت له: التوقيت والإطلاق سواء من الناحية الفقهية ، وتتواضع الأمم على ما تراه أكفل لحقوقها ، فإذا آثرت أن يكون اختيار الحاكم لأمد معلوم فلها ذلك.. قال: كان اختيار الخليفة الأول مدى الحياة.. قلت: آثر الصحابة أحد الوجوه ، ولا تحريم للوجه الآخر.. قال: ألا يكون سنة؟ قلت، لا.. لا سنة إلا بنص، ولا نص هنا. إن فعل النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد يكون دليل إباحة ، وقد يكون دليل أفضلية ، ولا وجوب أو ندب إلا بدليل ، أو بنص. وفى مجال المصالح المرسلة يستطيع الساسة المسلمون أن يصنعوا الكثير لأمتهم ، على ألا يصطدموا بنص قائم ، فإن هذه النصوص معاقد المصلحة العامة وإن عميت عن ذلك أنظار. وتتصل النصوص بنوعين من السلوك يغاير أحدهما الآخر ، وذلك التغاير يرجع بدءا إلى الطبيعة البشرية. فهناك أعمال محتومة يباشرها الناس دون انتظار وحى ملهم كالزواج مثلا ، فإن البشر من بدء الخليفة اتجهوا إليه إجابة لغرائزهم وبقاء لنوعهم وتجميلا لمعايشهم.. فلما جاء الدين كان إرشاده لهذا النوع من السلوك: رفض الزواج بالمحارم ، وبناء الأسرة على الاختيار لا على الإكراه ، وتشريع آداب كثيرة فى العلاقات الجنسية وما ينشأ عنها. وقد تبايع الناس قبل مجىء الوحى  ، فلما بعث الله رسله هذب المعاملات التجارية وصانها من الغش والربا والاحتكار وغير ذلك من تطلعات الأثرة والجشع. فالتشريع فى ميدان المعاملات ـ كما قال فقهاؤنا ـ يقوم على رعاية المصلحة وضبطها ، ثم إشراب هذه المعاملات رقابة الله وانتظار ثوابه. لكن هناك تشريعات أخرى تتصل بعبادة الله سبحانه. إننا قد نعرف ربنا بفطرتنا السليمة ، بيد أن الأسلوب الذى نترجم به عن حبنا له وعن خضوعنا وإخلاصنا ليس من وضعنا نحن.. إنه من حق الله وحده ، فهو الذى يعرفنا بأسمائه الحسنى وهو الذى يعلمنا كيف نصلى له ، وكيف نصوم ، وكيف نحج بيته العتيق! إن نصوص العبادات والمعاملات سواء فى ضرورة الاحترام والإنفاذ ، ومن حسن الفقه أن نعرف المحور الذى تدور عليه التعليمات الدينية فى كلا المجالين. وفى ذلك يقول الإمام الشهيد "ورأى الإمام ونائبه فيما لا نص فيه ، وفيما يحتمل وجوها عدة ، وفى المصالح المرسلة ، معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية ، وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات ، والأصل فى العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعانى ، وفى العادات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد" .
الخلاف شؤم والفرقة عذاب:
    الخلاف شؤم والفرقة عذاب! ولم أر مصداق ذلك فى شىء كما رأيته فى تاريخ الأمة الإسلامية. إن المطارق التى هوت على أم رأسها ، وجعلتها تجثو بين أيدى أعدائها ، كانت من الداخل لا من الخارج! حدث ذلك فى تاريخها القريب والبعيد ، وجنت الأمة من وراء انقساماتها الصاب والعلقم..! فكان لزاما على أولى الألباب أن يدرسوا هاتيك الأوضاع ويكشفوا عللها ويجنبوا المستقبل ما وقع فى الماضى. وفى تجوالى بأرجاء العالم الإسلامى رأيت اختلاف الفقهاء من ألف عام ويزيد ، يقسم المسلمين طوائف متباعدة ، ويغرى الرجل أن ينظر إلى أخيه شزرا فى قضية علمية خفيفة الوزن! وربما رفض الصلاة خلفه! ثم تنضم إلى الخلاف الفقهى قضايا شخصية ومنفعية تخص هذا أو ذاك ، فإذا الإخاء الإسلامى يذوب والخصومات الخبيثة تضرى وينشغل المسلمون بعضهم ببعض. والكاسب الأول من هذا الخلاف المشئوم هو الشيطان وأحزابه ، والخسار حظ المسلمين كلهم لا محالة.. الائمة الأربعة رجال لا لنظير لهم: درست سير الأئمة الأربعة فوجدت نفسى أمام رجال ليس لهم فى التاريخ الإنسانى نظائر. كبر غريب على الدنيا، ورغبة فى الله عميقة ، وصلابة تنحسر دونها عوامل الرغبة ، والرهبة. كانوا على تجردهم ملوكا ، وقد هابهم أصحاب السلطان ، وضاقوا بالتفاف الجماهير حولهم ، وحاولت السلطات أن تستغل لمصلحتها جاههم الدينى.. وهيهات. ومع تقواهم لله ، فإن توقد ذكائهم ، وسعة علمهم ، واستنارة آفاقهم كان نعتم العون لهم على خدمة الكتاب والستة. إن الشهرة التى رزقها هؤلاء الأئمة لم تأتهم حظوظا عمياء ، كلا. إنها أتتهم عن جدارة ، وما يقدر منصف على انتقاص المكانة التى هيأها الله لأولئك الفقهاء الأكابر.
 لماذا انقادت الأمة لهؤلاء الأئمة الأعلام؟ : ويظهر لى أن العالم الإسلامى أعطى مقادته لأئمة الفقه ـ إلى عصرنا ـ ولم يعطها رجال الحديث لسببين: أولهما: أن الفقه المذهبى يعتمد على السنة كما يعتمد على القرآن الكريم مع بصر أحد بالمعانى والغايات.
والثانى: أن المحدثين ـ إلا قليلا ـ اهتموا بالأسانيد أكثر من المتون ، وشغلتهم العنعنة عن الفقه الرحب ، فلم يحسنوا تقرير الأحكام والمصالح.. والواقع أن الفقه بلا سنة كالسنة بلا فقه جهد باطل.. وبديه أن يكون للأئمة الكبار أتباع مخلصون ، يدورون فى فلكهم. وبديه أيضا أن يكون هناك من لا يدور فى فلكهم ومن لا يراهم أولى منه بالصواب.. إلا أن الفقه المذهبى مر بأدوار بعدت به آخر الأمر عن منابعه الأولى. فقادة المذاهب كانوا يشرحون الكتاب والسنة ، ويعدون شروحهم اجتهادا مقنعا لهم ولمن معهم.. ولكنهم ما رأوا قط أن الصواب حكر عليهم ، ولا عادوا غيرهم فيما فهموه هم.. ثم جاء الأتباع أخيرا فأخذوا أقوال أئمتهم على أنها الأصل الذى يشرح ، ونظروا إليها كأنها الدين الذى يتبع. ونشأ عن هذه جفوة بين مقلدى المذاهب المختلفة ، كما نشأت جفوة بين كتب الحديث وكتب الفقه!! وهذا العوج الثقافى أضر كثيرا بأمتنا.. إننا نعلم أن لكل إمام نزعته العقلية ومنهجه الخاص فى الاستدلال ، بيد أن أحدا منهم لم ير الآخرين دونه ، كما أن شرف أى إمام فى ارتباطه بالكتاب والسنة معا. وقد ظهر أقوام من المشتغلين بالحديث يطعنون فى الأئمة كلا أو بعضا! وهذا حمق ، ولو أنهم عابوا مقلدى المذاهب فى جمودهم وضيق باعهم لكان ذلك أرشد. وقد تتبعت نفرا من هؤلاء فوجدتهم بلاء على السنة.. قال أحدهم. إن أبا حنيفة ترك السنة الصريحة وخالف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . قلت: فيم؟ قال: يقتل المؤمن بالكافر! قلت: نعم يقول أبو حنيفة إن المسلم إذا قتل رجلا من أهل الذمة قتل فيه ، ودليله على ذلك من القرآن (أن النفس بالنفس)، فلا فارق بين حر وعبد ولا مؤمن وكافر ، وقد جعل الحديث فى المحاربين ومن لا عهد لهم. قال: هذا خطأ! قلت: خطأ أو صواب ، كيف استسغت أن تتهم إماما بمخاصمة رسول الله وهو يستند إلى أساس دينه ، إلى القرآن نفسه؟! قال: ترك الحديث الثابت! قلت: تركُ الحديث الثابت إلى حديث آخر ثابت مقبول ، وتركه إلى القرآن مرفوض؟! قال: كيف؟ قلت: صح فى السنة أن الفخذ عورة.. وصح كذلك أنها ليست بعورة ، فهل الآخذ بأحد الأثرين تارك للسنة لأنه أهمل الآخر؟ إن ترجيح دليل ليس هجرا للسنة ولا تركا للدين ، ولكن التطاول والجهل هما مظهر الخروج على السنة! وفى عصرنا هذا انتشر التعصب المذهبى كما انتشر الغباء فى فهم السنة ، ومن ثم احتاج الأمر إلى إسهاب فى عرض الموضوع كله.
* * * *
دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين
محمد الغزالي

ليست هناك تعليقات: