الأربعاء، 6 فبراير 2013

المستوى الثقافى للأمة الإسلامية


محمد الغزالي
المستوى الثقافى للأمة الإسلامية
    من خصائص الإسلام الأولى أنه دين يقوم على العقل ، ويحترم منطقه ، ويبنى الإيمان على التفكير الصائب والنظر العميق.. والتوافق بين صريح المعقول وصحيح المنقول أمر مقرر فى ثقافتنا التقليدية على اختلاف مدارسها. وكما يقول العقاد: التفكير فريضة إسلامية… ودعوة القرآن الكريم إلى النظر مطلقة لا يحدها حد ما دام ذلك النظر ممكنا ، وما دام يؤدى إلى نتيجة صحيحة: (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء).. إن دائرة النظر رحبة تستوعب كل شىء ولا قيد عليها إلا ما ينفى الخطأ ويضمن اليقين.. كان يستلفتنى ـ وأنا أتدبر القرآن ـ هذا التعانق بين الفكر والشعور أو بين العقل والعاطفة أو بين الإيمان والسلوك! خذ مثلا هذه الآية الكريمة : (ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور). هذه سفن تشق عباب الموج حاملة أثقالا من السلع والمعادن والمؤن ينتظرها الناس من شاطىء لشاطىء ، ألا يحتفى بهذا الفضل؟ ألا يشكر سائق هذه النعماء؟ ألا يورث ذلك إيمانا حسنا يلقى السراء بالشكر والضراء بالصبر؟ إن سير السفن فى الماء ، أو فى الهواء ، حافلة بالقناطير المقنطرة من الخيرات التى كرم الله بها بنى آدم ، شىء يدل على القدرة العليا أولا ، وعلى الفضل الأعلى أخيرا ، فلم لا يكترث الناس لذلك ويعرفون صاحبه ويستكينون لحكمه ويحسنون الإيمان به؟ وقد أحصيت فى القرآن الكريم "أولى الألباب " فوجدتها تكررت خمس عشرة مرة. وأولو الألباب هم أصحاب العقول ، كأن العقل هو لب المرء وما عداه قشر.. ولسنا هنا بصدد شرح الكلمة فى المواطن التى جاءت فيها ، ولكننا ننبه إلى أمر خطير: أن العقل مناط التكليف ، وأن الذكاء أساس الوعى ، وأن الدين لا يكمل مع القصور فى العقل والقلة فى الذكاء ، وأنه لابد من ملكات إنسانية رفيعة لكى تعرف الله وهديه ، وتفقه توجيهه ووحيه. وأن الهمل قد يسقطون دون مستوى الخطاب ، وأن الشعوب البلهاء قد تشد الدين نفسه إلى أسفل ، بدل أن يصعد بها إلى أعلى! وهنا الطامة. العقل أثمن ما وهبه الله لعباده وهو لا يولد تاما ناضجا ، وإنما يتم وينضج بوسائل شتى تعالج بها معادن الرجال والنساء ، فإذا لم تتوافر تلك الوسائل كان التخلف والقصور ، واختفى أو ندر أولو الألباب الذين يقدرون على الإفادة من الدين.. نعم ، إن الإزراء على الدين كثيرا ما يقع لسوء الحكم ـ أعنى الاستنتاج ـ أو لعوج الفهم ، وذاك ما جعل أبا العلاء يتشاءم ويغرق عندما يقول: اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا دين وآخر دين لا عقل له ويحزننى أن أذكر هنا أن أعدادا كثيفة من المنتمين إلى الدين فقيرة إلى سعة الإدراك والنفاذ إلى الأعماق ، وعمل هؤلاء فى ميادين الدعوة يضر أكثر مما ينفع.. وقد أجمعت الأمم على أن تصحيح العقل وترشيد حكمه لابد فيه من مراحل تعليمية ابتدائية ومتوسطة وعالية قد تستغرق بضعة عشر عاما.. ثم إن المعارف المستفادة صنوف شتى ، فهناك علوم الكون والحياة ، وأسرة العلوم الرياضية ، وأسرة العلوم الإنسانية.. والمسلم إنسان يضم إلى معرفة كل نافع من شئون الدنيا معرفة أخرى جليلة القدر غزيرة الأجر: كتاب ربه وهدى نبيه.. وهذا النوع من الثقافة الدينية يصور فلسفته فى الحياة ومنهجه الفذ بين المناهج التى اختطتها جماهير الناس.. وعندى أن علماء الإسلام يجب أن تكون لهم أقدام راسخة فى كل مجالات المعرفة ، وأن تكون إحاطتهم بالمذاهب الجائرة أكثر من إحاطة أهلها.. ومنزلة علوم الكون والحياة فى إنجاح الجهاد الإسلامى لا ريب فيها ، ومن أجل ذلك فإن التفوق فيها أولى من معرفة فروع شتى فى فقه العبادات والمعاملات! إن صيانة الأصل أرجح و أهم..
   وهناك أنواع من العلم ليس أحد أولى بها من أحد ، لماذا نتركها لغيرنا ولا نجود نحن فيها أو ننقلها إلى ربوعنا؟ إنه لا حرج على المسلمين لو ساحوا فى أرجاء القارات ، واطلعوا على أحوال الخلائق وراقبوا أحوال الشعوب والحكومات ، ثم انتقوا مما يرون الأساليب الإدارية والنظم الحضارية التى تخدم مثلهم وتحقق أهدافهم… وأرى أن ذلك أوجب بعدما تعفنت الأوضاع السياسية والاقتصادية لدينا فى عصور الجمود والتخلف. تلك العصور التى غلبت على تاريخنا وأوهنت كياننا ثم أسقطت خلافتنا ومزقتنا كل ممزق. مصارحة: وأجدنى قد بلغت فى الحديث مرحلة توجب المصارحة ، فإن النفاق فى محاسبة النفس لا يحدث توبة للفرد ولا نهضة للجماعة! لقد سلخ الإسلام من عمره المديد أربعة عشر قرنا ، وبلغ مرحلة فى يومه هذا توجب على أولى الألباب أن يتوقفوا ويتساءلوا: ماذا عرانا؟ وكيف الخلاص؟ أجل ، ما الأحوال داخل دار الإسلام ، ووراء حدودها المترامية بعد هذه الرحلة الشاقة؟ إننا نوقن أننا على الحق! الله واحد لا شريك له! أين هذا الشريك إن وجد؟ محمد حق! إنه على قمم البشرية طيبة نفس ، وإشراق عبادة ، وسناء خلق ، ونزاهة جهاد! وإذا لم يكن محمد رسولا يجيد تعريف الناس بربهم واقتيادهم إليه بالأسوة الحسنة فمن ـ من الأولين والآخرين ـ يصلح لاصطفاء السماء وإمامة الخلائق؟! إن المغفلين الذين خدعتهم أجهزة الزور يحسبون أننا نتبع محمدا عن تقليد ساذج! إن بقاءنا على الإسلام هو تقديرنا للحقيقة مهما أحاط بها من ملابسات رديئة… والآن بعد هذا التوكيد لصلتنا بديننا أسأل نفسى وقومى: أكنا أوفياء لهذا الدين خلال الأعصار الماضية؟ أكنا عند أمره ونهيه عندما جاءت القرون الأخيرة فإذا قوى الشر تجتاح الحدود وتستبيح البيضة وتقتحم عقر الدار..؟ لقد كان النظام الإسلامى أشبه بسكران يترنح ذات اليمين وذات اليسار ، يسقط حينا ثم يقوم من الوحل معفرا بالأقذار فلا يتقدم خطوة إلا تراجع خطوات ، مثيرا للضحك حينا وللاشمئزاز أحيانا..! ما عملنا بديننا فى الداخل ، ولا شرفنا سمعته أو دعونا إليه فى الخارج! ويجئ سؤال آخر: ماذا كانت عليه أحوال غيرنا؟ لقد انطلق وراء عقله يشق الطريق ببأس شديد ، ويحطم الخرافات الدينية التى آدته دهرا ، وثابر على أعباء الرقى حتى بلغ فى خمسة قرون مكانة غزا فيها الفضاء بعدما كاد يملك ناصية الأرض! وجاءته النصرانية معتذرة عن موقفها منه وعرضت عليه خدماتها ، فقبل العذر ، وصالحها على خدمة هواه. وواجهنا نحن موقفا شديد التعقيد ، كنا فى السفح وهو فى القمة ، كانت طاعتنا لله تتمثل فى عبادات مبتدعة ما أنزل الله بها من سلطان ، أو فى عبادات تافهة كبرناها ألف مرة عن حجمها الحقيقى لتملأ الفراغ النفسى والاجتماعى الناشئ عن غيبة الدين الحق..!! فلما تلاقى الجمعان صرنا هباء وصرنا سدى!! إننا ـ نحن المسلمين والعرب ـ خنا ديننا خيانة فاحشة ، فلم نحسن النظر فى شىء مع صراخ الوحى حولنا ( أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء) وكانت النتيجة أن جاء من وراء الحدود ـ حدود دار الإسلام ـ من استخرج النفط من أرضنا ، ومن أقام الجسور على أنهارنا ، ومن صنع لنا حتى الإبرة التى نخيط بها ملابسنا… ما كنا نحسن من شئون الدنيا شيئا نسديه لأنفسنا أو ندعم به إيماننا! ولنترك ذلك ، فإن أحدا لا يكابر فى هذا التخلف ، ولا فى ضرورة الإفادة العملية ممن سبقونا فى آفاق الحضارة المنتصرة. ولننتقل إلى ميدان آخر.. لقد جأرت بالشكوى فى هذا الكتاب وفى كتب أخرى من تخلفنا الفقهى والعملى فى الشئون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، ومن انحسار الفقه الإسلامى داخل حدود ضيقة إن تجاوزت بيوت الماء ، فإلى ساحة المسجد ، وقد تتدخل فى شئون الحارة أو القرية.. أما دواوين السلطة ، ومشكلات المال ، ومفاصل الحياة الحقيقية للمجتمع والدولة ، فإن الفقه لا علاقة له بها.. ونتج عن ذلك أن الاستبداد السياسى عربد دون حذر ، وأن الخلل الاقتصادى شاع دون علاج. وأن الأعصاب التى تشد الكيان الإسلامى استرخت ثم انقطعت ، وتاه المسلمون بعضهم عن بعض. وأن الشخصية المعنوية للأمة الإسلامية ولرسالتها الكبرى تلاشت فى طول الدنيا وعرضها. الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها: ثم ازداد قتام المأساة الهائلة بوجود فقهاء ـ أعنى ناسا منسوبين إلى الفقه ـ يذرفون الدمع لأن التصوير الشمسى انتشر ، أو لأن التلفزيون دخل كل بيت ، وتقاسموا بالله لا يظهرون أبدا فى هذا الجهاز! فإذا حدثت هؤلاء أو حدثت من هو أنظف فكرا عن الدساتير التى تقيد الحاكمين والقوانين التى تطمئن العاملين ، نظر إليك بغباوة هائلة ، وأشعرك أنك تتحدث معه فى غير الإسلام. وتسمع بغاما بين هذه القطعان المنسوبة إلى الإسلام ، أن الموسيقا حرام ، وأن صوت المرأة عورة ، وأن هذه القضايا هى مشكلات الساعة ، بل هى ـ مع سدل اليدين أو قبضهما فى الصلاة ـ مشكلات الأزل والأبد!! وقد تجاوزنا هذا الهراء كله لنضع أمتنا على طريق النهوض الصحيح ، واحتاج ذلك بداهة إلى دعم مؤسسات الشورى ونزع أنياب الاستبداد ، وفرض رقابة صارمة على تداول المال بين الأيدى.. ولم يكن بد من الانتفاع من تجارب غيرنا لأن فقهنا المجمد من قرون لا يلبى الحاجات الطارئة.. وهنا وجد من يقول: لا نأخذ فكرا من أحدا! قلت: لا نستورد العقائد ولا الأخلاق ، ولكن الخطط التى تخدم أهدافا مشتركة لا معنى لنبذها إذا كانت تفيدنا.. قالوا: ما تعنى؟ قلت: الظلم قبيح عند الناس كلهم ، فإذا تحصنت أمة منه بطريقة حسنة فإن دينى لا يمنع نقل هذه الطريقة!! قالوا: وضح مقصدك فهو غامض. قلت : لقد رأيت فى أوربا وأمريكا دولا شتى تشرع قوانين دقيقة لضبط سياسة المال والحكم ، وذلك لأنها تعرضت لنزوات الجور والأثرة والطغيان وكما قال الشاعر: والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم فإذا وجدنا مجتمعات بشرية حصنت نفسها من هذه المآسى ، فلماذا لا نقتدى بها أو نقتبس منها؟ فى تلك الطرائق المجربة خير نحن بحاجة إليه..!! قال لى البعض: هذا ما نخافه منك ، إنك تستورد الإصلاح من منابع بعيدة عن ديننا وتراثنا ، ونحن أغنياء عن مقترحاتك تلك..! قلت: تمنيت لو كانت غيرتك هذه فى موضعها. إننى معتز بدينى ولله الحمد ، ولكن ليس من الاعتزاز بالدين أن أرفض الجهاد بالصواريخ والأقمار الصناعية لأنها بدعة. إن التفتح العقلى ضرورة ملحة لكل من يتحدث فى الفقه الإسلامى. إننا فى صمت نقلنا تسجيل كل مولود فى دفاتر خاصة ، واستعنا بذلك على تحصينه من الأمراض ، وإلحاقه بمراحل التعليم ، واقتياده للجيش لكى يتم تدريبه وإعداده للقتال ، وذاك إجراء نقلناه من دول أخرى دون حرج ، فلماذا يمنع الفقيه المسلم من قبول كل وسيلة أصيلة أو مستوردة لتحقيق الغايات التى قررها دينه؟ إن النقل والاقتباس فى شئون الدنيا ، وفى المصالح المرسلة ، وفى الوسائل الحسنة ، ليس مباح فقط ، بل قد يرتفع الآن إلى مستوى الواجب.. لقد رحبت بالصيحات التى تعلو بالإسلام وحده فما لنا غيره من دين ، وانضممت بفؤادى وجوارحى إلى الذين يعادون الغزو الثقافى ويعترضون مساربه الجلية والخفية. ولعلى من أوائل الذين تصدوا لهذا الاستعمار الخبيث ، وفضحوا خباياه. بيد أنى شعرت بجزع عندما رأيت بعض الناس يصف "الديمقراطية" بالكفر ، فلما بحثت عما معه لكفالة الجماهير وكبح الاستبداد الفردى وجدت عبارات رجراجة يمكن إلقاؤها من منبر للوعظ! ورفضت هذه التهويمات ، فقال لى أحد الأذكياء: لقد وضع الشيخ النبهانى دستورا على النحو الذى تريد! فقلت له على عجل: لقد قرأته ، والفرق بينه وبين الدستور المدنى الذى حكم مصر من سنة 1923 إلى سنة 1953 بعيد بعيد. إن هذا الدستور الموصوف بالإسلام يحقق من مبادئ الشورى وإحقاق الحق وإبطال الباطل وضمان الحريات والمصالح العامة 100 فى المائة.. أما الدستور المستورد المبادئ فهو يحقق 90 فى المائة من الأهداف الإسلامية. إنه لمما يثير الآلام أن عددا من المتدينين لم يزل يستقى ثقافته من كتابات ظهرت وشاعت أيام الاضمحلال الفكرى فى تاريخنا ، أو أيام الموالاة للظلمة ، أو على أحسن وصف أيام البعد عنهم والخروج بالصمت عن لا ونعم إننى عندما أدافع عن الحق لا أفضل العصا الوطنية على المدفع الأجنبى ، فإن التعصب للجهل والقصور بلاهة وسخف وأعلن أن هواى أبدا مع كتاب الله وسنة رسوله. أما فكر الرجال بعد ذلك فلا قداسة لأحد. من أجل ذلك ، شعرت بشىء من التوقف لما قال الأستاذ محمد قطب فى الجزء الثانى من كتاب التربية الإسلامية : " وكل الدعوات الزائفة التى تلتهم الناس فى الجاهلية ـ والشباب بصفة خاصة ـ لا اعتبار لها ولا وزن عند المسلم الذى يتربى على منهج التربية الإسلامية ، لأنه يزنها بميزان الله ـ أعنى الإسلام ـ فلا يجدها ذات وزن! وحتى حين تتلبس هذه الدعوات بالإسلام فإنها لا تخدع المسلم الحق ـ أو لا ينبغى أن تخدعه ـ لأن كتاب الله يحمل إليه توعية كاملة فى هذا الشأن.. شأنه فى كل أمر من أمور الحياة الأساسية: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون * أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) والذين يقولون فى دعاواهم: نأخذ من الإسلام كذا ، ومن الديمقراطية كذا ، ومن الاشتراكية كذا.. ونظل مسلمين ، يقول الله فى أمثالهم: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم لقيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون). وهكذا تنضبط مشاعر المسلم وعواطفه ، وتنضبط حركته كذلك فى خضم التيارات ".
إننى مع احترامى الكبير للأخ الداعية المخلص محمد قطب ، أرى أن هذا الكلام يحتاج إلى ضوابط. الديمقراطية مثلا ليست دينا يوضع فى صف الإسلام. إنها تنظيم للعلاقة بين الحاكم والمحكوم ننظر إليه لنطالع كيف توافرت الكرامة الفردية للمؤيد والمعارض على سواء ، وكيف شيدت أسوارا قانونية لمنع الفرد أن يطغى ، ولتشجيع المخالف أن يقول بملء فمه: لا.. لا يخشى سجنا ولا اعتقالا.. إنها تنظيم سياسى لا يجعل إعلان الحروب مسلاة حاكم متفرعن يطلب المجد لشخصه ، أو إنفاق المال العام هواية متلاف يطيع هواه ، ولا يخشى حسابا.. إن ديننا يقول: "لا تقدس أمة لا يقضى فيها بالحق ، ولا يأخذ الضعيف فيها حقه من القوى غير متعتع "، فكيف يتحول هذا الكلام النبيل إلى نصوص قانونية ملزمة تجعل رجل الشارع يقاضى ساكن البيت الأبيض؟ إن الاستبداد كان الغول الذى أكل ديننا ودنيانا ، فهل يحرم على ناشدى الخير للمسلمين أن يقتبسوا بعض الإجراءات التى فعلتها الأمم الأخرى لما بليت بمثل ما ابتلينا به! إن الوسائل التى نخدم بها عقائدنا وفضائلنا هى جزء من الفكر الإنسانى العام لا علاقة له بالغاية المنشودة ، وقد رأينا أصحاب الفلسفات المتناقضة يتناقلون الكثير فى هذا المجال دون حرج.. الحرج كله أن ندع ديننا ، وأن نزهد فى أصوله وقيمه ، إيثارا لوجهة أخرى مجلوبة من الشرق أو الغرب ، ولذلك قلت فى كتابى "حصاد الغرور" ناعيا على المفتونين بالمذاهب الأخرى: هب أن ثورة قامت فى جنوب اليمن تجعل الحياة الصينية أو الروسية مثلها الأعلى ، أتكون هذه الثورة نهضة إسلامية؟ أم تكون نجاحا للفكر الشيوعى العالمى؟! إنها انسلخت عن الإسلام وارتدت غيره يقينا ، ووجودها نصر للشيوعية وهزيمة للإسلام. إن الشعوب الإسلامية لا تبدأ نهضة صحيحة ، تكون امتدادا لتاريخها ، وإبرازا لشخصيتها أو نماء لأصلها وتثبيتا لملامحها. إلا إذا جعلت الإسلام هدفها وسياجها.. ومن الغلط تصور أنى أحرم الاستفادة من تجارب الآخرين ومعارفهم!! كيف وهؤلاء الآخرون ما تقدموا إلا بما نقلوه عن أسلافنا من فكر وخلق ووعى وتجربة..؟! إن دولة الخلافة الراشدة اقتبست فى بناء النظام الإسلامى من مواريث الروم والفرس دون غضاضة.. وعندما آكل أطعمة أجنبية أنا بحاجة إليها فالجسم الذى نما هو جسمى، والقوى التى انسابت فى أوصاله هى قواى!! المهم عندى أن أبقى أنا بمشخصاتى ومقوماتى!! المهم أن أبقى وتبقى فى كيانى جميع المبادئ التى أمثلها والتى ترتبط بى وأرتبط بها ، لأنها رسالتى فى الحياة ، ووظيفتى فى الأرض. هذا هو مقياس النهضة ، وآية صدقها أو زيفها ، فهل فى العالم الإسلامى نهضات جادة تجعل الإسلام الحنيف وجهتها والرسول الكريم أسوتها؟ نعم ، توجد جماعات تسعى لذلك ، ندعمها بكل ما أوتينا من قوة. إننا هنا شديدو الحرص على جعل البناء الجديد ينهض على هاتيك الدعائم.. وإذا كنا نستورد من الخارج ثمرات التقدم الصناعى ، وننتفع من خبرات غيرنا فى آفاق الحياة العامة ، فليكن ذلك فى إطار صلب من شرائعنا وشعائرنا..
العقل ومكانته:
   والعقل المستنير هو وحده الذى يبصر أدوات النجاح ويقربها ، ويؤسفنى أنه عنصر نادر بين نفر من المشتغلين بالقضايا الإسلامية.. إنه ليس من العقل أن نغمض العين على مقابح الحكم الفردى عندنا وننظر بازدراء إلى الضمانات التى توافرت لصلاح الحكم فى بلاد أخرى. إنه ليس من العقل أن نجمد الجهاز الفقهى عندنا قرونا طويلة ، ثم ننعى على الذين اجتهدوا وتصبب عرقهم وهم يضبطون سياسة الحكم والمال فى بلادهم.. إننا مكلفون أمام الله أن نخترع الوسائل التى نعلى بها شعائرنا ، سواء هدى إليها غيرنا أم لم يهتد ، فإذا فرطنا ، وتقدم غيرنا فمن العجز أن ندع هذه الوسائل لأننا وصلنا إليها مسبوقين!! وهذه الوسائل المجلوبة ـ قلت أو كثرت ـ لا تخدم إلا مجموعة محدودة من شعب الإيمان السبعين ، فلنشمر عن ساعد الجد ونخدم بقية الشعب بحماس مضاعف!! بيد أننا لا نحسن هذه الخدمة بالقصور العقلى ولا بالضحالة العلمية.. إن الإيمان بالله ـ وهو أصل الأصول ـ يقوم على يقظة الفكر لا خموله ، وعلى رحابة الأفق لا ضيقه.. والرجال والنساء فى أقطارنا مازالوا أكثر العالم الثالث..!!
   فى قيمة العقل وأثره، يقول الإمام الشهيد : " الإسلام يحرر العقل ، ويحث على النظر فى الكون ، ويرفع قدر العلم والعلماء ، ويرحب بالصالح والنافع من كل شىء "والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها " . درست القرآن الكريم فعرفت ربى معرفة حسنة وأحببته وأعززته ، ثم نظرت إلى الحياة والأحياء ـ بعد هذه الدراسة ـ نظرة تصل المخلوق بالخالق ، والعالم أجمع بمدبره الأوحد ، حتى لأتخيل الطاقة التى تدير الآلات وترفع الطائرات بعض آثار القدرة التى تدير الكون كله من عرشه إلى فرشه. وماذا يرجو الناس من كتاب دين أكثر من ذلك؟ حسب القرآن أن عرفنى بالله الواحد ، وأعدنى للقائه ، وأفهمنى أنه بالصلاح والاستقامة ـ وحدها ـ أصنع مستقبلى عنده!! بيد أن لفيفا من الباحثين استلفته من إعجاز القرآن شىء آخر. إن كلمات القرآن فى وصف الكون دقيقة مثيرة ، فهى تومئ بلباقة إلى أسرار علمية وسنن فطرية لم يعرفها الناس إلا فى هذا العصر.. وتبين بالموازنة المنصفة أن حديث القرآن عن بناء الكون وقوانينه ووظائفه ينسجم مع الحقائق العلمية انسجاما لم يعرف له شبيه فى كتاب آخر.. الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم: وبدأت أكترث للإعجاز العلمى فى القرآن الكريم ، فنقلت عن العلامة الدكتور محمد أحمد الغمراوى فصلا عن عجائب الوحى فى وصف السحب والأمطار والرعد و البرق.. وشعرت وأنا أقرأ كلام الأستاذ الكبير أن البحث لا غلو فيه ولا افتعال ، وأن العقل المؤمن يطل من وراء العبارات الرصينة. ثم جاء العلامة الدكتور "موريس بيكاى"، فأبرز جوانب من الإعجاز العلمى تفرد بها القرآن العربى لم تعرف فى كتاب ينتسب إلى السماء ، بل إن كتبا أخرى للأديان تطرق إلى كلامها عن خلق العالم قدر كبير من العوج والوهم. وكتاب الدكتور "موريس بيكاى" ـ وهو طبيب مستشرق ـ ترجم من الفرنسية ويشيع الآن بين القراء. ثم قرأت كتابا عن " خلق الإنسان بين الطب والقرآن " للدكتور الذكى التقى العلامة محمد على البار ، فبهرنى ما وجدت من تطابق بين حقائق العلم التى قررها بالصور الدقيقة وبين آيات الكتاب العزيز ، وزدت إيمانا على إيمان. والحق أن الكتاب يترك فى نفس القارئ إعجابا عميقا بالقرآن ، وتصديقا مطلقا للنبى الخاتم صلوات الله وسلامه عليه. وقد دعا ذلك صديقنا الأستاذ عبد المجيد الزندانى إلى إعداد ندوات "تليفزيونية" لإبراز ما فى الكتاب من كشوف وحقائق. والأستاذ الزندانى من المشغولين أو المشغوفين بالإعجاز العلمى للقرآن الكريم! وهو يكافح لنصرة الإسلام وإنجاح دعوته فى جنوب الجزيرة العربية ، ولا أدرى أيغلب العقبات الهائلة التى تعترضه أم تغلبه؟! وقد كتب ثمانى صفحات من الأسئلة التى أجاب عنها الدكتور محمد على البار فى مؤلفه القيم أذكر قليلا منها..
1ـ لقد أوضح الطب الحديث أن "المنى" الماء الدافق الذى يخرج من الإنسان إنما تفرزه الخصية.. ومع أن الخصية بعد الولادة تكون خارج الجسم إلا أن تكونها فى الجنين فى منطقة بين الصلب والترائب.. كما أن تغذيتها بالدماء والأعصاب واللمف فى "الأوعية البلغمية" يستمر حتى عند البالغين من بين الصلب والترائب! وكذلك فإن عملية تدفق هذا الماء إنما تتم بواسطة أعصاب تأتى من بين الصلب والترائب وبالذات من الأعصاب السمبتاوية! وهذه الاكتشافات العلمية قد تمت فى القرن العشرين للميلاد.. فهل هناك فى كتاب الله ما يشير إلى ذلك؟
 2ـ عرف الطب الحديث مكونات المنى ، وعرف أن الإنسان لا يخلق من المنى كله بل يخلق من الحيوانات المنوية فقط "من حيوان منوى واحد فقط بعد التقائه ببويضة المرأة"، فهل ترى ذكرا لهذه الحقيقة فى القرآن الكريم وفى السنة المطهرة؟
3ـ لقد اكتشف الطب فى القرن العشرين أن الحيوانات المنوية زوجان ، فمنها ما يحمل شارة الذكورة ومنها ما يحمل شارة الأنوثة.. وأنه إذا لقح حيوان منوى يحمل شارة الذكورة بويضة المرأة كان الجنين ذكرا بإذن الله.. وإذا لقح البويضة حيوان منوى يحمل شارة الأنوثة كان الجنين أنثى بإذن الله.. وعليه فإن تحديد الذكورة والأنوثة إنما هو من الرجل وليس للمرأة دخل فى ذلك. فهل هناك نص فى كتاب الله أو فى سنة رسوله ذكر هذه الحقيقة قبل أن تعرف بألف وأربعمائة عام؟ ص ـ
3ـ كان الأطباء إلى القرن السابع عشر الميلادى يعتقدون أن المرأة ليس لها دور مطلقا فى تكوين الجنين ما عدا التغذية والتدفئة، وشبهوها بالأرض ، وأما البذرة فمن الرجل.. وما بذره ينمو فى هذا المهاد. ثم ظهرت بعد ذلك نظرية أخرى مناقضة للأولى تقول إنه ليس لمنى الرجل من دور فى تكوين الجنين سوى تنشيط ما هو موجود فى رحم المرأة. ثم فى القرن التاسع عشر وبداية العشرين تأكد بما لا يقبل الشك… أن الجنين الإنسانى يتكون مناصفة بين الأب والأم.. وإن كان للأم… دور آخر فى التغذية والرعاية والتدفئة والتنمية فهل يا ترى سبق القرآن الكريم والسنة المطهرة إلى هذه الحقيقة؟ نرجو توضيح ذلك.
 5 ـ ظل العلماء والأطباء إلى أوائل القرن التاسع يظنون أن الجنين الإنسانى يكون مصغرا فى المنى وأنه لا يتقلب فى أدوار وأطوار مختلفة وإنما ينمو فقط فى الرحم.. ثم قدم "دولن " نظريته بأن البويضة الملقحة تتكاثر وتنقسم لتكون الجنين الإنسانى طورا بعد طور ومرحلة بعد مرحلة.. ولكن هذه النظرية أهملت حتى قام شيلدن وشوال باكتشاف الخلية الحية وأنها أساس بناء الكائن الحى.. ومنذ ذلك الحين تقدمت الأبحاث وأكدت بما لا يدع مجالا للشك أن النطفة الأمشاج "وهى خلية واحدة من اجتماع نطفة الذكر ونطفة المرأة" تنقسم انقسامات عديدة وتمر بمراحل مختلفة وأطوار متباينة حتى تصبح فى شكل إنسان.
فهل هناك ذكر فى القرآن الكريم والسنة المطهرة لهذه الحقائق العلمية التى لم تكتشف إلا فى القرن التاسع عشر، ولم تتأكد إلا فى أوائل القرن العشرين؟
 6ـ كشفت العلوم الطبية الاختلاف الهائل والبون الشاسع ما بين كل خلية من خلايا الرجل وكل خلية من خلايا المرأة " ويبلغ عدد الخلايا 55 مليونا فى جسم الإنسان ". فالبويضة مثلا مستديرة كالقمر وعليها هالة أو تاج مشع ، بينما الحيوان المنوى مثل الصاروخ وله رأس مدبب وقلنسوة غليظة وله ذيل يستطيع به الحركة السريعة.. وبينما البويضة ساكنة لا تكاد تتحرك… إذا بالحيوان المنوى ينطلق كالصاروخ دون غايته أو يهلك. حتى الحيوانات المنوية التى تحمل شارة الذكورة أكثر إقداما وعزما وأشد عرامة وحركة من أخواتها الحيوانات المنوية التى تحمل شارة الأنوثة. فهل هناك فى كتاب الله شىء يشير إلى ذلك؟.. ويشير إلى دور المرأة ودور الرجل كما تمثله البويضة والحيوان المنوى؟ هذه أسئلة تتعلق بالنطفة وحدها.. وهناك عشرات الأسئلة التى تتعلق بأطوار الجنين حتى يولد… وكلها أجاب عنها الدكتور محمد على البار بأسلوبه العلمى الإسلامى. ولى كلام أحب أن أؤكده هنا بإزاء الإعجاز العلمى للقرآن الكريم.. أحيانا أجد مع الجهاز الذى اشتريه كتيبا يصف طريقة استخدامه وصيانته ، ويشرح لى أنواع القوى والمفاتيح التى تعيننى على الانتفاع بهذا الجهاز على خير وجه.. إننى لا أشك فى أن الذى أشرف على كتابة هذه السطور هو الذى أشرف على صنع الجهاز نفسه.. هذا الشعور يتملكنى وأنا أقرأ القرآن الكريم ، وأستمع إلى حديثه عن الأرض والسماء وما بينهما ، إننى أستيقن أن صانع هذا العالم هو منزل ذلك الوحى. إن القرابة قائمة بين الحياة ، وبين الكتاب الذى يوجهها ويشرف على مبتدئها ومنتهاها ، نعم ربهما واحد، الذى خلق هو الذى قال..! هل أسدى العلم الحديث يدا فى هذا المجال؟ نعم! كنت أقرأ الآية الكريمة!وأنه ( وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى * من نطفة إذا تمنى)، فأظن التعبير على المجاز ، وأن علاقة الرجل بزوجته هى التى سوغت الإسناد ، وأن الأنثى مسئولة أو شريكة فى تحديد نوع المولود.. ثم تبين أن الإسناد حقيقى ، وأن الأم لا صلة لها بولادة البنات أو البنين ، وأن نطفة الرجل وحدها هى التى تقوم بذلك ، فإن الحيوانات المنوية هى التى تحدث التذكير أو التأنيث!! إن سبق القرآن فى إثبات ذلك إعجاز لا يسوغ جحده ولا تهوين نتائجه. ومع ذلك فإنى أحب التصريح بأن القرآن ليس كتاب كيمياء ولا فيزياء ولا طب ولا فلك ، وأن بعض الذين اشتغلوا بالإعجاز العلمى أساءوا إلى القرآن بأوهام تبعوها وتكلفات قرروها ومبالغات أقرب إلى الجهل منها إلى العلم. والقرآن كتاب عقائد وأخلاق وعبادات ومعاملات ، وحديثه عن الأحياء وتاريخهم هو قبل كل شىء للإيقاظ والهداية ، وحديثه عن الكون وآياته هو لدعم الإيمان وأخذ العبرة وترشيد السلوك: (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين * هدى وبشرى للمؤمنين * الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون). ويمكن القول: إنه يستحيل وقوع تفاوت بين الإسلام والعلم ، أى أن الحقائق المقطوع بها فى ميدان الدين يستحيل أن يوجد ما يكذبها فى ميدان العلم. وكذلك يستحيل أن توجد حقيقة علمية يقال إن فى الإسلام ما يناقضها. وإذا بدا شىء من ذلك للنظر السطحى فلا بد أن يكون هناك تزوير فيما نسب للدين أو فيما نسب للعلم.. إن الدين الحق والعلم الحق يتصادقان ولا يتكاذبان!! إن الخلاف قد يقع بين ظن علمى وظن دينى ، أو بتعبير آخر بين نظرية دينية ونظرية علمية. وقبل أن نضرب الأمثال لذلك نوضح هذه المصطلحات التى سقناها. يقصد بالظن الدينى المعنى الذى يحتمله نص قد يحتمل أيضا معنى آخر ، وللناظر أن يرجح بالقرائن ما يتبادر له. ووقوع الخلاف هنا ممكن ، وهو فى حقيقته بين أفهام البشر.. لنفرض أن فرويد يرى الغريزة الجنسية أساس السلوك ، فإن غيره يرى الأكل هو الباعث الأول على الحركة ، وغريزة الأكل أهم عنده من غريزة الجنس. وهناك من يرى الشعور الإيجابى بالنفس أعتى من الغريزتين السابقتين! ما الذى يلزمنا ـ دينا أو علما ـ بواحد من الآراء؟ توجد شائعات علمية تدرس على أنها حقائق مسلمة.. فقصة أن المادة لا تفنى ولا تستحدث باتت قصة سخيفة ، وإن ظلت تدرس لطلابنا حتى اليوم! ولو فرضنا جدلا أن الفناء الظاهرى هو تحول المادة إلى طاقة ، فإن هذا التحول لون من العدم يكفى فى تفسير الآية (كل من عليها فان) (كل شيء هالك إلا وجهه). ومن الذى قطع بأن الطاقة لا تتلاشى؟ أو قطع بأن البشر يقدرون على إعادتها سيرتها الأولى ، مادة محسوسة؟ لكى يقال: هذه حقيقة علمية لا بد من أمرين: إقامة دليل دامغ على صحتها ، ثم إقامة دليل آخر على استحالة غيرها.. وأين هذه الأدلة؟ ومن الشائعات العلمية نظرية دارون فى أصل الأحياء ، ومع أن جمهورا من العلماء عد كلام "دارون " مقترحات مرفوضة فى تفسير بدء الخلق ، فإن الكتب الدراسية عندنا لا تزال تقدم النظرية للطلاب على أنها حقيقة علمية لا ريب فيها..
***
إن علماء الكون والحياة يحترمون أنفسهم ، وقلما يوجد بينهم من يغالى بوجهة نظره ليجعل منها نظرية مسلمة. بيد أن المآرب الصغيرة قد تتدخل لنشر الفوضى الفكرية باسم العلم والعلم براء. ويحدث مثل ذلك فى ميدان الدين! سمع أحد المتعالمين طالبا يقرأ فى كتابه أن المطر ينزل من السحب؟ فهاج وماج ، واعترض ما سمع. وأراد اغتصاب الكتاب!! قال له رجل قريب: ما أغضبك؟ قال: القرآن يقول: إن المطر من السماء!!
قال له: هاك ثلاث آيات من القرآن الكريم تخطئك: (ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله) ـ (أفرأيتم الماء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون) ـ (وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا). دع الكتاب للطالب! وتوبوا أنتم من هذا الجهل!! وألف أحدهم كتابا زعم أن فيه أربعين دليلا من الدين على أن الأرض لا تدور ، ولو كانت فى كتابه أربعون شبهة لساغ الرد عليها ، ولكن ما قيل ليس شبهات عاقل بل خيالات حشاش! وقصة عدم دوران الأرض دفعتها قوة مالية حتى وصلت إلى عواصمنا فى طباعة أنيقة! واعتقادى أن هناك أصابع تبشيرية وراء هذا النشاط الجهول.. إن ديننا ـ نحن المسلمين ـ صلب القواعد ، دقيق التعاليم.. وقد قام علم أصول الفقه ليكون ضابطا قانونيا صارما فى تبيان حكم الله.. ويرى مفكرون كثيرون من بينهم الشيخ مصطفى عبد الرازق أن هذا العلم مفخرة الحضارة الإسلامية التشريعية.. وقد قرر علماؤنا أن الحكم القاطع لابد فيه من أمرين: أن يكون السند متواترا ، وأن يكون المتن نصا.. فالآية الكريمة: (قل هو الله أحد) تفيد حكما قطعيا ، لأنها رويت بطريق التواتر ـ فهى قرآن ـ ولأن المعنى لا يحتمل إلا وجها واحدا ، هو وحدانية الله لسبحانه.. وهتاف المؤذن "الله أكبر" حكم قاطع لأن المعنى واحد لا غير ، ولأن حديث الأذان متواتر.. وفى السنة الشريفة أحكام تواترت معنويا ، وإن لم تتواتر لفظيا ، لها صفة القطع إذا كانت نصا لا يتطرق إليه الاحتمال..
وقد يكون الكلام متواترا لا شك فى ثبوته ، ولكنه لا يفيد القطع لأنه يحتمل معانى عدة فقوله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم) من قبيل الدلالات الظنية وإن كان قطعى الثبوت.. وأحاديث الآحاد فى جملتها ظنية الثبوت حتى يعززها التواتر اللفظى أو المعنوى.. وهذا مبحث فنى له مراجعه التى يسهل الاطلاع عليها.. والمهم هو أن نعرف موقفنا إذا تعارض نظرى فى الدين مع نظرى فى العلم ، أعنى إذا تعارض ظنى هنا وهناك. والجواب أن ولاءنا لما لدينا من كتاب وسنة ، أى أننا نرجح ما عندنا حتى يبت الزمن فى النظرية العلمية: فإما ثبت بطلانها ، وإما تحولت إلى حقيقة راسخة وعندئذ قدمناها على الظنى الذى لدينا ولا حرج بتة من هذا التقديم. قال الإمام الشهيد: "وقد يتناول كل من النظر الشرعى والنظر العقلى ما يدخل فى دائرة الآخر، ولكنهما لن يختلفا فى القطعى ، فلن تصطدم حقيقة صحيحة بقاعدة شرعية ثابتة ، ويؤول الظنى منهما ليتفق مع القطعى ، فإن كانا ظنيين فالنظر الشرعى أولى بالاتباع حتى يثبت العقلى أو ينهار" .
***

ليست هناك تعليقات: