الأربعاء، 6 فبراير 2013

المذاهب الفقهية وسلطات الدولة


محمد الغزالي
المذاهب الفقهية وسلطات الدولة
   لو كان الفقه مقصورا على شئون العبادات لمضى فى طريقه مقطوع العلاقات بالدولة ورجالها ، إذ إن المصلى حر فى أن يسر بالبسملة أو يجهر بها وفق ما يؤثر من مذهب ، حر فى أن يسر بالتأمين أو يجهر به ، إلى غير ذلك من عبادات خاصة آثر فيها وجهة ما.. لكن الأمر قد يتصل بالأموال والأعراض والدماء ، ولا يمكن أن تبقى الحكومات بمعزل عن خلاف الفقهاء فى هذه الميادين ، فلا بد أن تتبنى مذهبا معينا ، وتهمل غيره. هل تستقل المرأة بعقد زواجها ويجىء أمر الولى فى المرتبة الثانية ، أم يحظر مباشرة المرأة لعقد الزواج؟ هل تقبل توبة السارق قبل إقامة الحد ، أم لا يجوز قبولها؟ وما النصاب الذى يجوز فيه القطع؟ هل يقام الحد فى شراب لم يسكر ـ غير الخمر ـ أم لا؟ بل إن الحكومة قد تتدخل فى أمور لها فيها مندوحة ، كضرب النقاب على وجه المرأة مع ضعف الإسناد الفقهى له. وبدهى أن يتنافس أتباع المذاهب المختلفة فى جعل الدولة إلى جانبهم. وقد حكى التاريخ أشياء مثيرة عن حماسة الأتباع ومسالك ذوى السلطان ربما زاغت عن النهج وخدشت قيم علماء أكابر. وقد يحتاج علاجها الآن إلى حكمة وتؤدة حتى تتحرر الحقائق العلمية وتؤمن المصالح العامة. إن المذاهب المنتشرة الآن هى الأربعة المعروفة ، مذهب أبى حنيفة ومالك والشافعى وابن حنبل ، وقد نمت وامتدت على أنقاض مذاهب أخرى ليست ـ من الناحية العلمية ـ أقل منها قيمة كمذهب الليث بن سعد ، وسفيان الثورى ، والأوزاعى، وابن جرير الطبرى ، وأبى ثور ، وداود الظاهرى ، وآخرين. والواقع أن الأربعة الذين رزقوا الشهرة نماذج جليلة للتقوى والعلم ، وليس خلودهم مصادفة ارتفع بها ناس مغمورون ، كلا كلا ، فإن التأمل فى سير أولئك الأئمة يملأ الأفئدة مهابة وإعزازا ، ويعلل لماذا التقت الجماهير حولهم وارتضت الأخذ عنهم..؟ وقد تضخمت هذه المذاهب على مر الزمان وكثرت التآليف فيها. ولا نستطيع القول بأن هؤلاء الأئمة الأعلام مسئولون عن كل ما صنعه المتأخرون تأثرا بهم أو بناء على ما تمهد من قواعدهم.. كما نرفض حصر الفقه الإسلامى فى اجتهاد أولئك الأربعة الكبار أو إغلاق أبوابه بعدهم. فإن فضل الله لم يحتكره نفر من العلماء مهما علت منازلهم ، ومصالح الشعوب تتجدد على اختلاف الزمان والمكان ، وتحدث لها فتاوى وأقضية ينهض بها المستأخرون كما نهض بأمثالها المستقدمون. ثم إن أحدا من الأئمة الكبار لم يزعم لنفسه العصمة فيما روى أو فيما رأى. فإذا كشفت الأدلة المقنعة أن فيما ذهب إليه خطأ ما فإن التنبيه إلى هذا الخطأ يصبح مطلوبا. وغنى عن الذكر أن ذلك لا يحتاج للأدعياء والأغمار، وإنما يهدى إليه الراسخون الأتقياء. الاجتهاد الفقهى إذن مطلوب إلى قيام الساعة وله رجاله ومواطنه. بيد أن رفع الخلاف لابد منه كى تمضى الحياة فى طريقها ، وكذلك منع الفوضى ، عندما تشتجر الآراء ، وتكثر وجهات النظر ، وهنا تتدخل الدولة. فإذا رأى أبو حنيفة أن المسلم يقتل فى الذمى ، ورأى غيره أن المسلم يعزر وحسب ، فلن تبقى القضية معلقة إلى الأبد. إن حكم القاضى أو رأى الوالى يحسم الأمر. وكذلك إذا رأى ابن تيمية أن الطلاق البدعى لغو ، ورأى غيره إمضاءه ، فإن الدولة لن تترك هذا الخلاف نظريا إلى الأبد ، فإن الأمر يتعلق ببقاء الأسرة ، وصحة النسب ، واستئناف العشرة ، ولها أن ترفع هذا الخلاف ، وأن تقر هذا الطلاق فى سجلاتها أو تمحوه وينتهى الأمر. إن هذا التدخل كان الحل الممكن ، ولكنه فى نظرنا لم يكن الحل الأمثل. وسير تاريخنا العلمى والتشريعى فى هذا المجرى سببه الانفصال المبكر بين العلم والحكم فى تاريخنا السياسى ، فلم يكن الخلفاء ولا نوابهم مجتهدين ولا راسخى القدم فى الثقافة الإسلامية ، ونشأت عن هذا أمور تستحق التأمل. توزعت المذاهب الشهيرة أقطار المسلمين ضربة لازب ، فأصبح هذا القطر حنفيا والآخر مالكيا.. الخ ، وحسب الدهماء أن ذلك النسب دين ، وهذا وهم كبير.. هذا الارتباط بين قطر ما ، وفقه ما ، حرم المسلمين فيه من أحكام قد تكون أرفق ، أو أرشد مما ألفت.. اقتراح بتأليف لجنة للنظر فى التراث الفقهى: والواجب أن يكون الفقه ـ من منابعه الأولى ـ بين يدى الدولة ، وأن تكون المذاهب السابقة تجارب محترمة لأهل الذكر ، وللدولة أن تختار رأيا وتؤخر غيره ، وأن ترجح تجربة على تجربة. وقرأت كلاما حسنا للشيخ محمد عيد عباس اقترح فيه تأليف لجنة علمية تدير النظر فى تراثنا الفقهى كله على أساس:
أ ـ تقرير الأحكام المتفق عليها بين فقهاء الإسلام ، أى التى لم يثر حولها الخلاف.
ب ـ فى المسائل المختلف عليها اختلاف تنوع ، يؤخذ بجميع الآراء ما دامت ثابتة فى الشريعة ، ولا معنى للاقتصار على واحد منها ، ومخاصمة غيره.
ج ـ فى المسائل المختلف عليها اختلاف تضاد ، ينظر فى دليل كل مذهب ، ويؤخذ بأقوى الآراء وأرجحها دون تعصب لمذهب. د ـ فى المسائل التى يصعب ترجيح رأى من الآراء فيها ، وتتساوى أدلتها فى القوة ، يجوز الأخذ بأى رأى منها ، ويحسن تقديم ما يحقق مصلحة عامة للمسلمين.
هـ ـ يترك من الآراء ما ظهر بطلانه أو ضعفه. ويسمى هذا المذهب مذهب الكتاب والسنة وجميع الأئمة. إن هذا الكلام فى جملته حسن ، وهو يتسم بالإنصاف والإخلاص ، وكان المفترض أن يشتغل بهذا مجمع البحوث الإسلامية فى القاهرة ، وغيره من المجامع الدينية فى العواصم الكبرى. إلا أننا نرى ـ مع هذا ـ أن الحصيلة النهائية لا تلزم مجتهدا بينه وبين ربه ، فإن الحقائق العلمية لا تصح أو تبطل بكثرة الأصوات. والمصلحة قد تتغير على امتداد الزمان والمكان ، والطبيعة النفسية للمجتهد لا يمكن تغييرها. ما الحكم إذا تزوج رجل امرأة فى أثناء العدة؟ العقد باطل ، ويفرق بينهما فورا. فإذا انتهت العدة ، فما الرأى؟ الفقهاء على أنه يعود خاطبا مع الخطاب. ويرى عمر أنها تحرم عليه أبدا لأنه تعجل ما لا يحل له!! طبيعة الصرامة فى نفس الرجل جعلته يحمى حدود الله بهذا التحريم!! هو رأيه. إننا ما نزال نرى أن الخلاف المذهبى لا بد منه ، ولكن التعصب للمذهب والارتباط به على أنه هو الدين شىء لا معنى له ، ولا تسليم به. وننظر الآن إلى واقع المسلمين وصلتهم بشتى المذاهب. يعد المذهب الحنبلى أقل المذاهب أتباعا فى العالم الإسلامى ، ربما لم تزد نسبة معتنقيه على نصف فى المائة ، وقد اعتذر شاعرهم عن ذلك بأبيات رقيقة. يقولون لى: قد قل مذهب أحمد و كل قليل فى الأنام ضئيل فقلت لهم: مهلا غلطتم بزعمكم ألم تعلموا أن الكرام قليل؟! وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز ، وجار الأكثرين ذليل وأغلب الحنابله الآن فى نجد والحجاز ، وقد كانوا فى القرن الرابع يكثرون فى بغداد. قال ابن الأثير: " استفحل أمرهم بها سنة 323 وقويت شوكتهم ، وصاروا يكبسون دور القواد والعامة ، وإن وجدوا نبيذا أراقوه ، وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلات الغناء ، واعترضوا ـ ما لا يقرون ـ من أنواع البيع والشراء كما اعترضوا مشى الرجال مع النساء والصبيان. وإذا رابهم شىء من أحد سألوا عن الذى معه: ما هو؟ فأخبرهم وإلا ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة وشهدوا عليه بالفاحشة". قال ابن الأثير: "… وزاد شرهم وفتنتهم ، واستظهروا بالعميان الذين كانوا يأوون إلى المساجد ، فكان إذا مر بهم شافعى المذهب أغروا به أولئك العميان فيضربونه بعصيهم حتى كاد يموت ". قال أحمد تيمور باشا ـ وعنه هذا النقل ـ : ولا ريب أن إثارة هذه الفتن لم تكن إلا من عصبية عامتهم وغوغائهم. وهذا صحيح ، فإن أحمد رضى الله عنه كان تلميذا للشافعى رضى الله عنه ، وعندما علم أحمد بوفاة أستاذه حزن أشد الحزن وقال عنه: كان كالشمس للدنيا والعافية
للبدن. وتنتشر المذاهب الثلاثة الباقية بنسب متقاربة بين جماهير المسلمين ، ويغلب المذهب المالكى على شمالى إفريقيا وغربيها ووسطها، ويغلب المذهب الشافعى على جنوبى آسيا من إندونيسيا حتى اليمن، ويغلب المذهب الحنفى على أقطار آسيا الوسطى حتى تركيا، وللمذاهب الثلاثة أتباع كثر فى مصر والشام وغيرهما.
السياسة والمذاهب الفقهية:
   وقد احتكر الأحناف أعصارا طويلة القضاء فى ظل الدولتين العباسية والعثمانية. وحدث أن القادر بالله أحد الخلفاء العباسيين نقل القضاء إلى فقيه شافعى فوقعت الفتن فى بغداد ، واضطربت فيها الأمور، واستغرب الناس عدول أمير المؤمنين عما كان عليه أسلافه من إيثار الحنفية وتقليدهم ـ أى المناصب ـ واستعمالهم ـ أى إسناد الأعمال إليهم ـ واضطر الخليفة إلى جمع الأشراف والقضاة ، وأعلن عزل القاضى الشافعى. وأعاد الأمر إلى حقه وأجراه على قديم رسمه ـ هكذا يقول المقريزى ـ وحمل الحنفية على ما كانوا عليه من العناية والكرامة والحرمة والإعزاز. والغريب فى هذه القصة أن الحنفية عاملوا من تسبب فى نقل القضاء عنهم معاملة شاذة ، لم يقضوا له حقه ولم يردوا عليه سلاما. وهذا عمل محقور وخلق منكور! ترى هل الحنفية بهذا الحرص على القضاء يتأسون بإمامهم الذى مات فى السجن كارها أن يتولى القضاء لنظام سياسى ينحرف عنه ويضيق برجاله؟! أم هى الدنيا وزخرفتها؟ أم هو التعصب لنوع من الفكر أو نهج من الحياة يراد تغليبه على أية حال؟ إن الأحزاب السياسية قد تفرح لتوليتها الحكم ، وفرض مبادئها على المجتمع ، غير أن ذلك لا يعنى إحراج المعارضة وانتقاص حقها ، وكف السلام عنها. فى كثير من الأحيان ألحظ أن التعصب يوحى بتصرفات عشوائية ، وقد رأيت عشاق الأندية الرياضية يبتهجون أو يكتئبون لنتائج مبارياتهم ، فأبحث عن علة عقلية وراء هذه المشاعر فلا أجد. هل تنتقل البلاهة من عالم كرة القدم إلى عالم الفقه والتشريع؟ الذى أراه أن التعصب المذهبى مرض نفسى أو أنانية خاصة أكثر مما هو حماسة دينية ومصلحة عامة. فى القرن الخامس تولى إمارة المؤمنين بالمغرب والأندلس على بن يوسف بن تاشفين، وكان الرجل تقيا متحمسا ، اشتد إيثاره لأهل الفقه والتقوى ، فكان لا يقطع دونهم أمرا ، وبسط نفوذهم فى دولته ، فجعل مشاورة الفقهاء طابعا عاما. وألزم القضاة ألا يبتوا حكما فى صغير الأمور وكبيرها إلا بمحضر أربعة من الفقهاء. ولم يكن يقرب منه ويحظى عنده إلا من علم مذهب مالك ، فنفقت فى زمنه كتب المذهب ، وعمل بمقتضاها ، ونبذ ما سواها. قال المراكشى فى كتابه المعجب: "كثر ذلك حتى نسى النظر فى كتاب الله وسنة رسوله فلم يكن أحد يعتنى بهما كل الاعتناء". وهذا أيضا من المناكير البالغة! وأول ما نسأل عنه: هل يتبع أولئك مالكا رضى الله عنه الذى أبى حمل الناس على كتابه الموطأ ، احتراما لما قد يكون بين يديهم من علم عن أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يبلغه فى المدينة. ما معنى نسيان النظر فى الكتاب والسنة وإدمان النظر فى آراء الرجال؟ إن تاريخنا العلمى كان فى القاع عندما وصل إلى هذه المرحلة. فشرف الفقه هو فى انتمائه إلى كلام الله ورسوله. وإذا وهت صلة الفقه بالكتاب والسنة فإن أحكامه ستكون سوادا فى بياض. إنها ستكون كورق النقد الذى لا رصيد له. والواقع أن عددا كبيرا من الفقهاء المتأخرين حشوا مؤلفاتهم بنظرات غير سديدة وأقوال غير مفيدة بل تصور بعضهم أمورا مستحيلة ووضع لها باسم الله أحكاما ، وهى لا تزيد فى قيمتها المعنوية عن خيالات ألف ليلة وليلة. ومن المستيقن أن أئمة المذاهب أبرياء من هذا اللغو ، بل إن الرجال المعتد بهم فى كل المذاهب يستعلون على هذه الهنات. ومهما تجاوزنا ما ورد فى بعض المؤلفات المتأخرة فسيبقى البون واضحا بين الفقهاء الأوائل والمتأخرين. ولما كانت هناك حركة لإحياء الفقه الإسلامى ، وجب استلفات الأنظار إلى أن الاستمداد والتأسى يكونان من رجالنا الأولين لا من أصحاب المتون والشروح أيام الجمود والاضمحلال. أخشى أن يكون ما ألمعت إليه من صور التعصب الكريه سببا فى أن يقول قائل: هذه ثمرات الاجتهاد الفقهى والتشعب المذهبى. فلنلغ هذه المذاهب كلها ، ولنسترح من الانتماء إليها.  
الاجتهاد ضرورة إسلامية وإنسانية:
   إن اختلاف وجهات النظر فى التشريعات الفرعية حقيقة إنسانية وإسلامية لا محيص عنها ، ونشوء مدارس كبرى وصغرى على محاور قانونية مختلفة أمر لا غضاضة فيه ولا شر منه ولو أن القرآن نزل أمس وبعث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ به منذ البارحة لما كان هناك بد من تفاوت الأنظار فى أحكام الوضوء والصلاة لأن ذلك أمر طبيعي كما شرحنا. إن المخوف هو التعصب البليد، والتحزب السىء، وتحول الحرية الفكرية إلى فوضى واسعة، وذاك ما حدث للأسف، وما جعل العلماء يتجهون إلى إغلاق أبواب الاجتهاد ، وضبط الأفهام الكثيرة فى مذاهب أربعة. وعلاج الحرية الواسعة يكون بتنظيمها لا بمصادرتها. وقد كنت ـ أول أمرى ـ لا أرى حرجا من إغلاق باب الاجتهاد فى فقه العبادات وحده ، وقلت: تكفى بعض صور مما استراح إليه الأئمة ، ولا حاجة إلى ما وراءها ولو كان مقبولا. إذا كان للأسد عشرون اسما فما جدوى معرفتها كلها؟ تكفينى عدة أسماء! وإذا كانت وجوه القراءة للكتاب العزيز سبعا أو عشرا فلم أجهد نفسى فى استيعابها؟ تكفينى قراءة واحدة. إن التوسع فى هذا المجال ربما كان شغل الإخصائيين ، أما الجماهير فينبغى أن تذاد عنه وأن تساق إلى ميادين الكدح وسباق الحياة المدنية العارم ، فإن تخلفنا فى هذا المجال أزرى بنا ـ هكذا كنت أحدث نفسى ـ ورأيت فى تركات الأئمة من الأقوال ما يكفى ويشفى ، دون التعصب لمذهب معين. أما فقه المعاملات الذى جمد ـ وهذه مصيبة ـ من عشرة قرون ، فإن تجميده عجز فى دنيا الناس وقصور فى دين الله على سواء. والضرورات صارخة بأن الإسلام يحتاج اليوم إلى جهود ذكية دءوب فى الفقه الدولى والفقه الدستورى والفقه الإدارى ، وإلى ملاحقة ما تجدد فى عالم المال والتجارة وشئون العمل والعمال.. الخ. وقد تغيظت لأن بعض المنسوبين إلى العلم الدينى حاول الاجتهاد ، فذهب إلى دورات المياه ودور العبادة ، يستعرض عضلاته العلمية هناك.. مسكينة أمتنا. إن الاجتهاد فى بعض الأحكام العبادية ممكن. وقد صرت إلى هذا الرأى بعدما قرأت رسالة للفقيه المعاصر الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود عنوانها "جواز الإحرام من جدة لركاب الطائرات والسفن البحرية"، والعنوان يشير إلى الموضوع ، فإن مواقيت الحج حددتها السنة ، وقد جد فى عالم المواصلات ما لا معنى للتغابى عنه. والمسلمون يعمرون قارتين كبيرتين وينتشرون فى بقية القارات ، وبينهم وبين البيت العتيق أقطار فيح ، ومساحات هائلة ، فماذا يصنع حجيجهم الوافدون من المشارق والمغارب على متون الطائرات ، وظهور السفن ، وهم لا يمرون بهذه المواقيت؟ يقول الشيخ الجليل: والحكم يدور مع علته ، ولكل حادث حديث ، ولن يعجز الفقه الإسلامى الصحيح الواسع الأفق عن إخراج حكم صحيح ، فى تعيين ميقات يعترف به لحج هؤلاء القادمين على متون الطائرات لكون شريعة الإسلام كفيلة بحل مشاكل العالم ما وقع فى هذا الزمان ، وما سيقع بعد أعوام. وحاجة تعيين ميقات فى جدة للقادمين على الطائرات ، آكد من هذا كله. ولو كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيا ويرى كثرة النازلين من أجواء السماء إلى ساحة جدة ، يؤمون هذا البيت للحج والعمرة لبادر إلى تعيين ميقات لهم من جدة نفسها ، لكون ذلك من مقتضى أصوله ونصوصه. والحكمة فى وضع المواقيت موضعها ، أنها جعلت بمسالك الناس إلى مكة ، فهى كالأبواب إلى أم القرى وفيها يعمل الحاج عمله فى تنظيم دخوله فى إحرامه ، وما يتبع ذلك من التنظيف والاغتسال وتقليم الأظافر ، والطيب ، ثم التخلى عن المخيط ، ولبس الإحرام المشبه بالأكفان إزارا أو رداء ثم تعليم العوام كيفية الدخول فى النسك. وهذه الأعمال تتطلب وقتا ومكانا ، فشرع تعيين المواقيت لها. أوما علمتم أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى حجة الوداع نزل بذى الحليفة ميقات أهل المدينة ، ضحى ، فأقام بها يومه وليلته وبعض اليوم الثانى ، بحيث صلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، ثم رقد تلك الليلة حتى صلى الصبح ، فلما أضحى من اليوم الثانى اغتسل وتطيب. قال العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ فى كتابه "إعلام الموقعين ": "فصل فى تغير الفتوى واختلافها ، بحسب تغير الأزمنة والأمكنة ، والأحوال والنيات ، والعوايد "، قال : " وهذا فصل عظيم النفع جدا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة ، وتكليف ما لا يطاق ، مما يعلم أن الشريعة الباهرة لا تأتى به ، لأن الشريعة مبناها على الحكمة والمصلحة للعباد فى المعاش والمعاد ، وهى عدل ورحمة ومصالح ، وكل ما خرج عن العدل والرحمة والمصلحة فليس من الشريعة وإن نسب إليها " انتهى.
   وقد يظن بعض من يسمع هذا الكلام أن العلامة ابن القيم يقول بجواز تغيير نصوص الدين وأصوله كما سبق إليه بعض الناس… كلا. إنما يعنى به: تغير الفتوى فى فروع الفقه ، مما وقع فيه التسهيل والتيسير فى الشريعة نفسها ، فما جعل عليكم فى الدين من حرج ، وذلك ما وقع من النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى بعض الصور. من ذلك: ما روى الإمام أحمد وأبو داود، والدارقطنى، عن عمرو بن العاص ، أنه احتلم فى ليلة باردة شديدة البرد فى غزوة ذات السلاسل ، قال فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فتيممت ، وصليت بأصحابى صلاة الصبح ، فلما قدمنا على رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكر له أصحابى ما صنعت ، فقال لى: يا عمرو أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ قلت: نعم يا رسول الله، ذكرت قول الله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) فتيممت وصليت. فضحك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يقل شيئا ، مما يدل على إقراره لهذه السنة بمقتضى سكوته عنها ، وهى حقيقة فى تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال ، إن الأصل: وجوب الغسل لواجد الماء. ومثله ما روى النسائى ، وابن ماجة ، أن سعد بن عبادة ذكر لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رويجلا ضعيفا فى أبياتهم زنا بامرأة ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " اضربوه حده. فقال سعد: إنه أضعف من ذلك. فقال: خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه به ضربة واحدة "، ففعلوا. فقد عرف كيف تغيرت فتوى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى هذا من حالة الشدة إلى حالة التيسير ، إذ الأصل فى جلد الحد ، تفريق الضربات حتى تأخذ كل ضربة مكانها من جسده. ونظرا لضعف حاله، جعلها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جلدة واحدة بعثكول فيه مائة شمراخ. وله نظائر كثيرة. وقد أفتى الصحابة بجواز فطر الحامل والمرضع متى خافتا على أنفسهما ، أو على ولديهما ، وليس كل حامل أو مرضع تفتى بهذا. وهذا هو عين الفقه ، لو حكم بموجبه قاض لرموه بالتشنيع والزراية ونسبوه إلى عدم الرواية والدراية. والشيخ عبد الله بن زيد آل محمود رجل ثاقب الفكر يبحث عن الحق بإخلاص ، ويستعين على معرفته بثروة طائلة من الخبرة بكتب الأولين ، فإذا اهتدى إلى حكم ينفع الأمة جهر به دون وجل وجادل عنه بأصالة. وقد قرأت له جملة من الرسائل التى تعرض الفقه الإسلامى عرضا يناسب العصر ، لا استرضاء للمعاصرين ، ولكنها رحابة أفق فى فهم الدين..!
   أما الاجتهاد فى آفاق المعاملات ، فكما أسلفنا القول هو ضرورة إسلامية وإنسانية. ولن نملك زمام الحياة العامة ، ولن نثبت صلاحيتنا للقيادة وصلاحية ديننا لنفع العالم إلا إذا أجدنا فى هذه المجالات ، وبهرنا العيون فى النواحى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ، ومن قبل ذلك وبعده فى النواحى العبادية.. ومع الاجتهاد الفقهى لا بد من الموافقات والمخالفات بين المجتهدين ، فإذا توافقنا فبها ونعمت ، وإذا تخالفنا تعاونا فيما اتفقنا عليه وعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه.. إن الخلاف لا يفسد للود قضية ، ولا يقطع وشيجة ، وجل ما رأيت من شقاق يعود إلى أمراض نفسية كامنة ، وسنرى أن الشهوات الأدبية أخطر وأعنف من الشهوات المادية..
   إن التقوى تقوم على أمرين: عدم الطغيان وإيثار الآخرة من ناحية ، وخشية الله ومجاهدة النفس من ناحية أخرى… وهذا معنى قوله تعالى: (فأما من طغى * و آثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى). وقد رأيت ناسا يشتغلون بالتعليم والدعوة ـ وأعوذ بالله أن أكون منهم ـ يمضون فى ميدان التدين فاقدين هاتين الناحيتين ، وهم على استعداد لإشعال نار الخلاف والفرقة على نحو يأكل الأمة الإسلامية أكلا ويمكن أعداءها من خناقها. وما السبب فى هذا؟ قضايا فرعية يعلو فيها الصياح ، وعلاجها الطبيعى يتم بالهمس والتريث!! وذلك طبعا إلى جوار المعرفة القاصرة ، وحفظ شىء ونسيان أشياء ، والاغترار بالقليل الموجود والاستخفاف بالكثير المفقود. ويستحيل أن تدخل هذه الخلال فى جو فقهى إلا أفسدته ، ثم ارتدت النتائج على أمتنا بلاء وضياعا… الخلافات الموروثة .. قيمتها وأثرها تسللت إلى ميدان العقيدة والعبادة قضايا طفيلية ما أنزل الله بها من سلطان ، ومع خفة وزنها العلمى فقد انشغل بها العقل الإسلامى طويلا ، وتركت ذيولا أطول فى تفريق الكلمة وتباعد القلوب.. إن تصور فكرة ما على أنها من جملة العقائد شىء خطير.. لماذا؟ لأن جحد العقيدة الحقة جريمة أفدح من جريمة الخيانة العظمى ، فالذى ينكر الألوهية لا يقوم له عمل ، ولا تثبت له وجاهة! مثل ـ بل أشد ـ ممن يخون وطنه وقومه.. إننا نرفض الاعتراف بأى فضل لمن يقترف جريمة الخيانة الوطنية ، وتطوى صفحته طيا حافلا بالإزراء والمهانة.. كذلك ننظر ـ نحن المؤمنين ـ إلى الملحد الذى ينكر ربه.. إن إنكاره هذا يطيش بميزانه فى الحياة والممات ، فما نرفع له قدرا ولا نثبت له أجرا ، مهما عمل.. (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء). (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) وقد نقدم على القائد الذى خان ، جنديا صغيرا أمينا ونعرف له شرفه ووفاءه. من هنا تجئ خطورة القضايا المتطفلة التى حشرت نفسها فى مجال العقيدة ، وما هى من العقيدة فى قليل ولا كثير. فإن اعتناق هذه القضايا على أنها عقائد مكينة يرفع خسيسة أناس صغار ، ويرجح كفتهم مع فراغها من الصالحات. تصور أن إنسانا ما يدرس فى كتب العقائد أن الحرام رزق وأن الجنة والنار مخلوقتان الآن ، فيظن ذلك من عناصر الإيمان ومبانى العقيدة ، فيطوى فؤاده على هذه الحقائق ، ويحسب بذلك أنه استكمل دينه.. ثم… يفرط فى كثير من الصالحات ويستهين بكثير من الفضائل لأنها ـ فى الوزن ـ دون ما اعتقده ، ولأن إهمالها لا يضره ضررا بالغا بعد ما جمع معاقد الإيمان من هذه القضايا الطفيلية وأضرابها.. رأيت ناسا يعتقدون أنه لا مجاز فى اللغة العربية كلها ، ويرون ذلك من "السلفية"! وآخرين ينكرون دوران الأرض ويرون ذلك من التقوى والتحفظ! ورأيتهم بهذه المعتقدات السخيفة يفضلون أنفسهم على طوائف من المجاهدين والمثقفين.. وبديه أن أصل الإيمان وفرعه بريئان من هذا الشرود ، وأن القضايا الطفيلية التى تقرأ فى كتب العقائد ـ أو يختلقها الآن بعض السخفاء ـ لا يجوز الاعتداد بها أو جعلها مناط تقديم وتأخير. قرأت رسالة لأستاذ كبير فى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.. وموضوع الرسالة أن أبا الحسن الأشعرى رجع إلى مذهب السلف فى قضايا العقيدة ، وترك منهج التأويل.. والارتباط بالسلف هدف المصلحين فى عصرنا ، لأن آباءنا الكبار امتلكوا زمام العالم بجدارة ، وكان ارتقاؤهم العقلى والأدبى والتشريعى والسياسى هو الذى منحهم الصدارة ، فكيف يجدد الأبناء مسيرة الآباء؟ إنه بداهة بالعودة إلى منهاج السلف.
***

ليست هناك تعليقات: