الأربعاء، 6 فبراير 2013

التعصب المذهبى


محمد الغزالي
التعصب المذهبى:
 للرأى الفقهى مكانته العلمية ، ولمن شاء أن يأخذ به ، وأن يدعو إليه غيره.. ونحن قد نؤثر رأيا على رأى لأن اقتناعنا بهذا أكثر من اقتناعنا بذاك ، أو لأن هذا الرأى أدنى إلى تحقيق المصلحة العامة ، وأرفق بعباد الله. والشىء الذى نرفضه ويرفضه جمهور العقلاء أن يحسب أحد الناس أن رأيه دين ، وأن ما عداه ليس بدين ، وأن يجمد على ما عنده جمودا قد يضر بالإسلام كله ويصدع وحدته. وتنفيرا من هذا المسلك نقرأ قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون). وقد قرأت ورأيت من أمراض التعصب المذهبى ما يثير الاشمئزاز ويدعو إلى الدهشة… وكأن الذين خاضوا هذه المعارك الجدلية يقصدون قصدا إلى تمزيق المسلمين ، وإهانة معارضيهم فى الفكر بعلل مختلقة.
تعصب ممقوت:
   قال الشيخ عبد الجليل عيسى : سئل بعض المتعصبين من الشافعية عن حكم طعام وقعت فيه قطرة نبيذ ، فقال "فض الله فاه "؟ يرمى لكلب أو حنفى!! وسئل متعصب حنفى: هل يجوز للحنفى أن يتزوج امرأة شافعية؟ فقال: "فض الله فاه " هو الآخر: لا يجوز لأنها تشك فى إيمانها… يعنى هذا الأحمق أن الشافعى يجيز للمؤمن أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله ، تبركا. فهذا الاستدراك أو الاستثناء بالمشيئة جعله شكا يخرج من الملة!!
   أرأيت هذا السفه؟ وجاء حنفى آخر فزاد الطين بلة وقال: يجوز الزواج بها قياسا على الكتابية! ورأيت حنابلة يأبون إلا ذبح النسك فى منى أيام التشريق ، ويرفضون مذهب الشافعى فى الذبح بمكة قبل ذلك ، ويقبلون أن تنتن آلاف الذبائح ، ويحتاج تنظيف منى منها إلى المال والرجال.. ذلك لديهم أرجح من إطعام الألوف من فقراء مكة.. أوائل ذى الحجة.. وحنابلة آخرون يرون زكاة الفطر لا تكون إلا شعيرا أو قمحا ، ويرفضون باستعلاء مذهب أبى حنيفة فى إخراج القيمة مالا للفقراء. وتصور عواصم المسلمين تشحن بأرادب الشعير حتى لا يعمل الناس بمذهب أبى حنيفة.. لم هذا التعصب المذهبى؟! لقيت متعصبين كثيرين ، ودرست عن كثب أحوالهم النفسية والفكرية ، فوجدت آفتين تفتكان بهم: الأولى: العجز العلمى ، أو قلة المعرفة! هؤلاء يحفظون نصا وينسون آخر، أو يفهمون دلالة للكلام هنا ويجهلون أخرى وهم يحسبون ما أدركوه الدين كله. ولو أن هؤلاء اكتفوا بمنزلة المتعلم التابع ما عابهم ذلك كثيرا ، فليس كل مسلم مطالبا بمعرفة جميع الأقوال الواردة والدلالات المحتملة. المصيبة أن يشتغلوا مفتين أو موجهين وهم بهذا المستوى الهابط! نقل الشيخ عبد الجيل عيسى عن ابن إسحاق الشاطبى فى "الموافقات " هذه الكلمة الصائبة: " إن تعويد الطالب ألا يطلع إلا على مذهب واحد ، ربما يكسبه نفورا أو إنكارا لكل مذهب مادام لم يطلع على أدلته ، فيورثه ذلك حزازة فى الاعتقاد فى فضل أئمة أجمع الناس على فضلهم وتقدمهم فى الدين وخبرتهم بمقاصد الشارع وفهم أغراضه ". حدث لى مرة أن أفتيت بجواز حج المرأة وحدها فى الرفقة المأمونة ، فإذا طالب مكفوف يمسك بيدى وهو يرتعش من الغضب يقول: كيف تفتى بهذا الحكم المخالف للسنة؟! قلت: إنما أنقل مذهبى الشافعى ومالك رضى الله عنهما. قال: هما يخالفان السنة! قلت هما لا يخالفان السنة. إن حديث نهى المرأة عن السفر إلا مع محرم لها ، فهمه هذان الإمامان على أنه عند اضطراب الأمن وخوف الفتنة.
    واستدلوا على صحة فهمهم بأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تنبأ بأن الإسلام سوف يظهر ، وأن الدعار والفتانين سوف يختفون حتى تسير الظعينة من اليمن إلى العراق لا تخشى إلا الله.. وسفر الظعينة هذه المسافة الشاسعة لا يبشر الرسول به إذا كان حراما..! وعندما كنت مسئولا عن المساجد فى مصر جاءتنى شكايات ، ووقعت فتن ، من بعض المصلين لأن الإمام لم يصل فى صبح الجمعة بسورتى السجدة والإنسان ، كما يرى الشافعى. إن القصور العلمى عند أولئك وأمثالهم هو مثار الشغب والفوضى.
   والآفة الثانية فى التعصب المذهبى:
 سوء النية:
   ووجود أمراض نفسية دفينة وراء السلوك الإنسانى المعوج، ويغلب أن تكون آفات الظهور والاستعلاء أو رذائل القسوة والتسلط. كنت فى مجلس قرآن ختم القارئ فيه التلاوة بقوله صدق الله العظيم. فإذا جالس ينتفض كأنما لسعته عقرب يقول: هذه بدعة… قلت له: لا أبحث معك أنها بدعة أو سنة ، وإنما أسألك: ما هذا الفزع؟ لكأنما سقط على رأسك حجر!! الأمر ما يعالج بهذه العاصفة. اجلس. ورأيت فى أحد مساجد القاهرة رجلا تأخرت به السن يوشك أن يضرب نفرا من الطلاب الذين صلوا ورءوسهم عارية. أخذت على يديه ، وأفهمته بشق النفس أن الرأس ليس عورة ، وأن الصلاة صحيحة ، وأن مسلكه خطأ ، فما تركهم إلا مغلوبا على أمره ، غير مقتنع بما قلت. هذا الصنف من الناس لم يهذب نفسه بالأخلاق التى بعث صاحب الرسالة ليتمم مكارمها.. إن صور العبادة عنده غطاء لقلب غليظ ، وغرائز فجة. وهو يجد متعة فى قضايا الخلاف ليثور ويفور ، وظاهر أمره الغضب للدين ، وهو فى الحقيقة ينفس عن طبيعة معتلة ، وتربية ناقصة أو مفقودة. أرأيت إلى الشخص الذى قال لرسول الله: اعدل، هذه قسمة ما أريد بها وجه الله! إنه ـ والله ـ ما يغار على عدالة ، ولا يأبى على جور. إنه طالب ظهور عن طريق الغيرة على القيم ، يريد أن يقال عنه: استلفت معلم الإنسانية إلى ما فاته ، وأدرك ما لم يدركه ، وهو صاحب الرسالة العظمى. إنه هو وأمثاله كما قال رب العالمين: (إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه).
ولقد تألم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذا الكلام ، وقال لصاحبه: "ويحك من يعدل إذا لم أعدل؟ خبت وخسرت إن لم أعدل "!
انشغال بسنن وشكليات عن عظائم الأمور:
والواقع أن بين المتعصبين لبعض الآراء والمذاهب ناسا حظهم من الإيمان بالغ التفاهة.. ولذا اجتمعت الآفتان معا على افتراس الأمة الإسلامية المغلوبة على أمرها بين المحيطين الأطلسى والهادى. شعرت بذلك عندما اشتغلت ـ من عشرين سنة ـ بالإجابة عن الأسئلة الدينية فى برامج الإذاعات الموجهة بالقاهرة. لاحظت أن أسئلة كثيرة تجئ عن حكم سدل اليدين أو قبضهما فى الصلاة. كان النزاع محتدا ما بين أتباع مالك ، وجماعة أنصار السنة فى هذه البقاع النائية وخصوصا بين مجموعة الأقطار المتكلمة بالفرنسية. قلت: سبحان الله! هؤلاء قوم فقدوا اللغة العربية والتاريخ الإسلامى ، والولاء الجامع على هذا الدين ، وأظلهم حكم أجنبى لا يرجو لله وقارا ولا يحترم من حدوده حدا ، بل لا يقيم للإسلام ركنا ، ولا يحل حلالا ولا يحرم حراما. وجملة الحكومات هناك إما صليبية على كثرة مسلمة ، وإما مسلمة باللفظ ، ولا تهتم من تعاليم الإسلام بشىء ، ومع ذلك كله فالنزاع يحتدم حول سدل اليدين أو قبضهما فى الصلاة.. هل هذه مشكلة المشكلات؟! إن الشافعى الذى يجعل قبض اليدين سنة يصف هذه السنة بأنها هيئة ، أى يجعلها شكلا للصلاة ويرى أن ترك الهيئة سهوا أو عمدا لا يستتبع سجود سهو. فهل نافلة خفيفة على هذا الغرار تنسى الدعائم والمعالم ، وتشغل الجماهير عن أعمدة الإسلام التى انهارت أو تكاد..؟ إن ما حدث فى ظل الاستعمار الفرنسى حدث مثله فى ظل الاستعمار الإنكليزى. ولقد رأينا المسلمين الهنود الذين أنشئوا باكستان غلبتهم قضايا تافهة ، قصمت ظهر الدولة التى أنشئوها ، وبددت قواهم فى خصومات مذهبية لا طائل تحتها ، ولعلهم يستفيدون من تجارب الأمس ما يصون مستقبلهم المهدد. نظرت إلى شئون الناس فى أقطار أخرى ، فرأيت ما يستحق التسجيل. إن الشعوب تختلف على نطاق واسع فى تقدير مصالحها وفى رسم السبل التى تحققها. ففى انجلترا عمال ومحافظون وغيرهم ، وفى الولايات المتحدة جمهوريون وديمقراطيون وغيرهم ، وفى شتى الأقطار أحزاب تختلف على التافه والجليل. ربما اختلفوا فى نظام الجمارك أو فى نظام المقابر ، أو فى نظام الحكم المحلى أو فى نظام تأميم المرافق الكبرق. ومع هذه الاختلافات فإن ولاءهم لأوطانهم ثابت ، وانشغالهم بالدفاع عنها وإعلاء رايتها يجمعهم على عجل من كل ناحية ، وتطوى مسافات الخلف بين الكل فإذا هم صف واحد لنفع بلدهم ورفع شأنها. إن الخلافات الجزئية واقع لا بد منه ، وتجاوزها لما هو أهم منها واقع لا بد منه كذلك..! ولم أر ناسا حبستهم الجزئيات وغلبتهم على رشدهم مثل صرعى التعصب المذهبى عندنا. وأظن السبب فى ذلك أسلوب تعليم العوام. إن المدرس يقول فى ثقة: حكم الله كذا فى هذه القضية ، رأى الدين كذا فى ذلك الموضوع.. فيظن المستمع أن ما سمع هو حكم الله ورسوله. وما ينبغى أن يذكر حكم بهذا الجزم إلا ما قطع به ، أما الاجتهادات المذهبية فينبغى أن يقول المفتى: أرى كذا أو الحكم عندنا كذا أو صح الدليل لدينا بكذا ، ويترك مجالا للرأى الآخر فلا يحرمه من الانتماء إلى الإسلام. وعلى الأتباع أن يستبينوا قيمة ما يؤدون وما يدعون ، فلا يظنوا الإسلام حكرا على مسالكهم وحدها. واختيار المسلم لمذهب ما ، لا يجوز أن يتحول إلى لجاجة ومغاضبة ، فإن ذلك يفسد النية ويمزق الأمة ويوهى الصلة بالله سبحانه وتعالى. والموضوع كله لا مكان فيه لمكابرة واستطالة ، إنه أهون من ذلك كثيرا. سألنى صيدلى عن حكم من أدرك الإمام راكعا ولم يقرأ الفاتحة ، أتسقط الركعة عنه أم يعيدها؟ قلت: الجمهور على سقوط الركعة عنه ، وهناك من يرى قضاءها ، فاختر لنفسك ما يحلو. قال: أعرف ذلك ولكن أريد مناقشة من يرى عدم قضاء الركعة..! قلت له: ما جدوى ذلك عليك؟ ولماذا تتكلف ما لا تحسن وتترك ما تحسن..؟ قال: ما معنى ما تقول؟
قلت: أنت صيدلى ، وجميع الأدوية فى دكانك من صنع الصهيونيين أو الصليبيين أو الشيوعيين ، فإذا تركت أنت وزملاؤك هذا الميدان ، ميدان صناعة الدواء ، واشتغلت باللغو ، أفتحسب ذلك يرفعك عند الله وعند الناس؟ إنك للأسف تسهم فى سقوط الأمة وتجعلها غير جديرة بالحياة. قال: إننى أبحث فى حكم شرعى ولا أشتغل باللغو. قلت: الحكم الشرعى كما قرره أهل الذكر بين أمرين ، خذ منهما ما شئت ، ولا يجوز أن تحول الموضوع إلى لبان يمضغه الفارغون. إن كل ما يصرفك عن ميدان الدواء هو فى حقيقته عبث أو عيب أو ذنب تؤاخذ به. أما أن تؤلف رابطة عنوانها "جماعة من يقضون الركعة إذا لم تقرأ الفاتحة" فهذا سخف. ما قيمة هذا الرأى أو ذاك حتى يحشى به عقول الناس؟ إن المسلمين المعاصرين نسوا ضياع التركستان والقرم ، ولم ينسوا الخلاف على الجهر بالبسملة أول الفاتحة. لحساب من تستثار المشاعر المشبوبة وراء رأى فقهى؟ إن كان خطأ أو صوابا ، فهو مأجور. وماذا يبقى من مشاعر الناس بإزاء العقائد الأولى ، والوحدة الجامعة ، والتماسك فى وجه أعداء لا ينامون حتى يقضوا علينا..؟ إن التعصب لرأى أحد الفقهاء غباء ، اعمل به إن شئت ، ولا تستحمق إذا رأيت غيرك بعمل بضده. وإذا وجد مجال لبحث وجوه النظر وقيم الأدلة ـ لمن يقدرون على ذلك ـ فلا حرج! ثم يصير كل إلى ما يرى. إننى استيقنت من أن التعصب الشديد لمسألة ثانوية يتم على حساب الدماء والأموال والأعراض وكرامة الأمة وحياتها. وأذكر صحفيا ممن شهدوا القبض على الجماعة التى احتلت الحرم المكى هذه السنة ، قال لى: عندما أخذنا صورا لهم رأيت بعضهم يتململ ، فقلت له: مالك؟ قال لا تصورونا فالتصوير حرام! قلت له: ترى أن التصوير حرام ، وقتل الأبرياء فى المسجد وامتهان قداسته مباحان!! هذه هى عقلية المتشبثين ببعض الأفكار والفتاوى ، وذلك مبلغهم من العلم ، يعمون عن العظائم ولا يرون إلا ما يضخمون من وجهات نظر، قد يكون خطؤها أجلى من صوابها.
ذلك وقد ظهر نوع آخر من التعصب! جماعة يتسمون أهل الحديث ، يفهم أحدهم فى الخبر المروى فهما معينا ، فإذا خالفته فى فهمه اتهمك بأنك تخالف السنة ، أو تخاصم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهذا بلاء جديد شديد نشير إليه فى الفصل اللاحق إن شاء الله.
حوار جاد حول التقليد والاجتهاد :
   أحب للمتحدثين فى الإسلام ـ وأنا منهم ـ أن يرزقوا سعة العلم وعمق الفقه. إن فقر العلم كفقر الدم لا يعين على نشاط ولا يجود معه إنتاج ، وغزارة العلم مع ضحالة الفقه تضليل للسعى وضياع للثمرة. وكثيرا ما أستشعر الضيق فى مواجهة صنفين من الناس ، صنف حار العاطفة قليل الدراية ، وصنف ظاهر الجحود لأنه لا يدرى شيئا ، أو يدرى الأمور على نحو بعيد عن الحقيقة. وعصرنا هذا عصر حضارة ذكية الفكر عارمة الهوى.. وليس يجدى فى تقويمها إلا أصحاب بصائر نيرة وقلوب عامرة ، لهم من رحابة الاطلاع والأفق ما يسدد حكمهم ويقنع خصمهم. وقد آلت إلينا فى هذا العصر مواريث عقلية ونقلية ضخمة ، تمثل جهد آبائنا فى خدمة الإسلام وعلومه ، كما أن غيرنا لديه أشياء كثيرة يستريح إليها ولا يتنازل عنها بسهولة. ترى هل أحسنا الإفادة مما ورثنا؟ ثم هل عرضناه ـ بعد ـ العرض الذى يهيئ له القبول؟ رأيى لا. وبيننا وبين الخدمة الناجحة للإسلام أمد بعيد. وسأسوق بعض المجادلات التى دارت بينى وبين قوم يشتغلون بالقضايا الفقهية ، لعل فى سوقها ما يكشف الغاية التى أريد.
   حدث فى مدينة الإسكندرية أن قتل رجل ولديه ، ويظهر أنه فعل ذلك إسقاطا لنفقتهما ، بعدما طلق أمهما! وحكم القضاء الوضعى بإعدام الرجل ، وأحال أوراقه إلى المفتى للتصديق ، ورفض المفتى التصديق على الحكم لأن الشريعة تأبى ذلك ، ولكن القضاء الوضعى مضى فى طريقه وقتل الأب القاتل , وثار لغط كثير حول القانون والشريعة فى هذه القضية. وقال لى أحد الناس لماذا تصمت فى هذا الموضوع؟ قلت: إن هواى مع الإمام مالك فى القصاص من هذا الأب المجرم! قال : إن المفتى ذكر فى اعتراضه الحديث الصحيح عن ابن عمر أن رسول الله قال: " لا يقتل الوالد بالولد " قلت: هذه هى القاعدة ، والآباء يشقون ليسعد أبناؤهم ، بل قد يموتون فى سبيلهم ، فإذا حدث أن غلبت على الوالد نزوة غضب أو ساعة طيش فقتل ابنه عوقب بغير القتل ، لأن ما وقع منه لا يتصور ـ غالبا ـ أن يكون تعمد إهلاك ، أو قصدا واعيا لإزهاق روح أعز الناس عليه. فإذا تبين من التحقيق أن الأب شاذ ، وأنه تعمد ذبح ابنه عن إصرار وروية ، وجب القصاص. وقاتل ابنيه فى قضية الإسكندرية الآنفة استدرجهما ثم حملهما إلى أعماق البحر المتوسط بعيدا عن الشاطىء ، ورمى بهما بين الأمواج ، وعاد ليفر من أداء النفقة الواجبة لمطلقته ولهما معها!! إن الإمام مالكا يحكم بالقصاص منه ، ويحمل الحديث على صور القتل العارضة ، التى لا تحمل طابع التعمد والعدوان الدنئ!! قال لى صاحبى: إن غبارا لحق بسمعة الشريعة فى هذه القضية. أما كان ينبغى على المفتى أن يرى رأى مالك فى هذا الحدث؟ قلت: إنه حنفى المذهب ، وله وجهة نظره ، ولكن أبا حنيفة فى بعض قضايا القتل رجح ظاهر القرآن على نصوص السنة ، وقضى بقتل المسلم بالكافر إعمالا لقوله تعالى: (أَنَّ النَفْسَ بِالنَّفْسِ)، وحمل الحديث الذى يفيد عدم قتل المسلم بالكافر بأنه يعنى كافرا لا عهد له ولا ذمة ولا أمان! أما من عاش فى ذمة المسلمين فلا يهدر دمه ويجب الاقتصاص له. وقد كان المفتى قادرا على تقليد مالك ، أو التمشى مع منطق الأحناف إلى نهاية الطريق وهو منطق يرجح القصاص من الأصل فى عدوانه على الفرع؟ لأن وجهة نظرهم تقديم ظاهر القرآن على حديث الآحاد. والطريف أن الأحناف والمالكية اتفقوا فى قضية مسترق النظر ، ورأوا أن ما جاء بها من سنن هو للترهيب والتغليظ وحسب. إن بعض الناس قد يضع عينه فى ثقب باب مثلا ليطلع على عورات البيت ويستكشف محارمه ، وهذا بلا ريب سلوك دنىء ، وقد حذر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ منه ، وبين أن رب البيت لو فقأ عين هذا المتلصص ما كان عليه من بأس. وفى ذلك روى أحمد والنسائى عن أبى هريرة أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من اطلع فى بيت قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه فلا دية له ولا قصاص ". وبظاهر الحديث أخذ الحنابلة والشافعية ، أما أبو حنيفة ومالك فحملا الحديث على الترهيب وإشعار سارق النظرات أنه يفعل ما يهدر حقه وكرامته. قالا: لأن الأخذ بالظاهر يخالف الأصول العامة ، إذ إن هذا المرء لو اقتحم البيت ، وارتكب جريمة الزنى ـ وهو بكر ـ أو ارتكب من المنكر ما دون الزنا وهو متزوج ، ما فقئت عينه شرعا ، بل يجلد أو يعزر حسب حالته ، فكيف يكون المراد أن تفقأ عينه على الحقيقة ، ومم يقتص منه؟ يمكن تأديبه بعقاب مناسب ، وإذا حدث أن فقأ عينه رب البيت لزم تعويضه عن العاهة التى أحدثها. والمفهوم من كلام الأحناف والمالكية أن صاحب البيت الذى دافع عن محارمه يعزر فلا يقتص منه! ولكنه يؤاخذ فيحكم عليه بغرم مالى! قال لى محدثى: وماذا تقول أنت فى هذا الخلاف؟ قلت: لم أكون رأيا مكتملا فيه! ولا أستطيع الآن ترجيح رأى على آخر! أنا قصدت فقط استعراض وجهات النظر فى فقهنا الإسلامى ، وكان بجانبنا شاب يكاد يتمزق من الغيظ ، فعندما وصل الكلام إلى هذه المرحلة صاح يقول: تفاضلون بين أقوال الرجال وسنة رسول الله ، وتتناولون الأحاديث الصحيحة بهذا الأسلوب السيىء؟! إن هذا عمل يكاد ينتهى بأصحابه إلى الكفر! هذا تقديم بين يدى الله ورسوله ، هذا..
خصلتان مهمتان للشباب المسلم:
   قلت للشاب الهائج: على رسلك.. إنك قبل أن تخوض فى هذه الأمور باسم السلف يجب أن تستجمع خصلتين مهمتين: أدب النفس وحسن الفقه.. ولن نقبل ممن فقد الأدب والفقه كلاما فى هذه القضايا..! أما الأدب فأساسه ألا نتلمس للبرآء
العيب ، وألا نتشهى إلصاق التهم بالناس ، وإذا غلبنا سوء الظن بالآخرين استغفرنا الله للمخطئ كما نستغفر لأنفسنا.. وعندما اختلف الصحابة السائرون إلى بنى قريظة: أيصلون العصر فى بنى قريظة كما أمرهم الرسول بذلك صراحة ، أم يرعون حق الوقت ويصلون فى الطريق كما فهم غيرهم ، لم يقل الأولون للآخرين: خالفتم أمر رسول الله وكرهتم تنفيذه لأنكم أصحاب أهواء ولأنكم.. لم يقولوا لإخوانهم كلمة سوء ، ولما بلغ الأمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يلم أحدا أو يخطئه ، ووقف الكل جبهة واحدة ضد اليهود! إن أدب الإسلام كان صبغة عامة ، ولو كنت ـ والخطاب للشاب الهائج ـ أنت وأمثالك فى هذا الميدان لصنعتم مأساة فى الطريق ، وربما سفكتم الدم الحرام… ولندع الكلام عن أدب النفس واللسان لنرى فقه الموضوع الذى يفوت القاصرين. قال الإمام ابن تيمية: وفى الصحيحين عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال لأصحابه عام الخندق: " لا يصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة ، فأدركتهم صلاة العصر فى الطريق. فقال بعضهم: لا نصلى إلا فى بنى قريظة ، وقال بعضهم: لم يرد منا هذا.. وصلوا فى الطريق.. فلم يعب الرسول ـ لما بلغه الخلاف ـ واحدة من الطائفتين ". قال ابن تيمية يشرح فقه القضية: الأولون تمسكوا بعموم الخطاب فجعلوا صورة الفوات داخلة فى العموم ـ يعنى أنهم رأوا إضاعة وقت العصر من مفهوم النص النبوى. والآخرون كان معهم من الدليل ما يوجب خروج هذه الصورة عن العموم ـ إذ المقصود المبادرة إلى اللحاق باليهود قبل أن يتهيئوا للقتال. وهى مسألة اختلف فيها الفقهاء اختلافا مشهورا: هل يخصص العموم بالقياس ـ أم لا ـ؟ قال ابن تيمية: ومع هذا فالذين صلوا فى الطريق كانوا أصوب فعلا..!! هكذا يقول كبير العلماء السلفيين فى العصور الأخيرة. ولست هنا أرجح رأيا على رأى، وإنما يعنينى أن يتأدب ويتفقه من يخوضون فى هذه القضايا وأشباهها ثم ليختلفوا نظريا ما شاءوا. أما أن يتهجم نفر من الطلاب ، أو بعض البوابين والبقالين على الأئمة الكبار ، وينالوا من قيمهم الدينية والعلمية فهذا سفه منكور…!! إن جعل أمتنا بلا تاريخ ولا قادة عمل أخرق.. وتقدير الرجال الذين خدموا الثقافة الإسلامية لا يعنى نسبة العصمة لأحدهم ، كما أن نقدهم ليس كلأ مباحا لكل من فك الخط ، أو حفظ جملا من الأحاديث أو حتى حفظ ألوفا من السنن.. إن نقد الأئمة لا يتصدى له إلا من قارب مستواهم على الأقل.. وكان نقده بيانا للحق كما وقر فى نفسه دون أن يجعل الحق حكرا على فهمه هو ، ودون أن يحرم عباد الله الصالحين أجورهم على ما اجتهدوا ، أخطئوا أم أصابوا. قال محدثى: قد يكون الحق معك ، بيد أننا ينبغى أن نرفق بمن يرفضون تقليد الأئمة ويعتمدون على أنفسهم فى فقه الكتاب و السنة! قلت: إننى لا أتعصب لمذهب معين ، ولكنى أحترم القيمة العلمية للفقه المذهبى ، وأقدر الرجال الكبار الذين تناقلوه فى تاريخنا الثقافى ، وأرد الزعم الغريب بأنه قسيم لفقه السنة وأن كلا الطرفين بعيد عن الآخر. كأن المحدثين ألصق برسول الله وأغير على سنته! وكأن الأئمة الأعلام بعداء عن السنة يشقون لهم فى ميدان المعرفة الدينية طريقا آخر.. هذا غير صحيح . وربما غاب عن أحدهم أو عن بعضهم حديث ما ، فذاك لا يغض من جملة الحقائق التى قررها. ثم إن إنشاء فقه جديد يستمد مباشرة من الكتاب والسنة ـ كما يقال ـ جهد لا نعترضه عند من تكتمل ثقافتهم وتنضج ملكاتهم ، وليس لهؤلاء أن يعدوا أفهامهم هى مراد الله ورسوله ، فإنهم قد يوافقون أحكاما سبق أن قررها غيرهم من العلماء ، وقد يقررون أحكاما جديدة لا عصمة لها بداهة كما أنه لا عصمة لأقوال غيرهم. وقد رأيت الحصيلة الأخيرة لجهود هؤلاء فوجدت تشكيلة من فقه المذاهب القديمة أساسها التلفيق ، ورأيت أحكاما جديدة يدعى من بلغوها أنها الدين وهى لا تزيد عن أنها آراء لأصحابها يؤجرون عليها إن شاء الله أصابوا أم أخطئوا. مشكلة هؤلاء أنهم يفهمون فى الأثر المروى فهما ما ، فإذا خالفهم غيرهم قالوا : خالف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم . لا يا قوم إنه خالف فهمكم لمروياته، وقد يكون فهمكم شرا مستطيرا على السنة وصاحبها والدين ومستقبله ، فمن حق أولى الألباب أن يأخذوا على أيديكم ويحذروا الناس منكم..!! قال لى صاحبى : أوضح لنا ما تقول ، قلت : ألف بعضهم رسالة يزعم فيها أن شن الحرب على الأعداء يتم دون دعوة إلى الإسلام واستند إلى فهمه المنكور لحديث البخارى أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أغار على بنى المصطلق وهم غارون ، أى اجتاح أرضهم على غرة ، وأن الدعوة إلى الإسلام كانت فى صدر الإسلام… ثم؟ ثم أصبح المسلمون قطاع طريق عند هذا الأحمق الذى يدعى أنه يقرر فقه السلف! أصبحوا يغيرون على أعدائهم هكذا دون نذير..!! والحقيقة أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعا وتريث وأمل الخير فى الناس ، فلما وجدهم جمعوا الجموع لقتاله لم ينتظر حتى يستكملوا عدتهم فأخذهم على غرة..!! وأخذ بعضهم ينشر أن الزكاة لا تؤخذ إلا من الحبوب التى تدخر ، قلت له: إن أبا حنيفة يوجبها فى الفواكه والموالح والأزهار والشاى والبن، وكل ما تنتج الأرض من قطن ومطاط وقصب. الخ. قال: السنة: ما نقول ، وأبو حنيفة فى ميدان السنة ليس بشىء! قلت: السنة أن نترك زارع الشاى يكسب من فدانه ألف جنيه لا زكاة فيها ، ونأخذ من زارع الشعير الذى لا يكسب من فدانه خمسين جنيها زكاة؟! قال: نعم ، هذه هى السنة..! قلت ساخرا: بدعة أبى حنيفة خير من سنتكم ، إنكم وبال على الإسلام بهذا الأسلوب. إن أبا حنيفة اعتمد فى مذهبه على قرآن محكم… وما اعتمد على هوى! ربما ترك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذ الزكاة من الفواكه لأنها فى عهده أو فى أرضه لا تمثل ثروة محترمة ، أما اليوم والحصائل الزراعية مال خطير فما يمكن تركها.. وأبو حنيفة أرعى للسنة منكم ، وأدرى بملابسات الأحكام. إنكم تحفظون مئات الأحاديث دون وعى ، والقليل الذى حفظه أبو حنيفة أحسن الاستفادة منه…! هناك رجل يملك مائة بندقية ولا يحسن إصابة الهدف بواحدة منها ، وربما أراد الضرب فقتل بريئا ، أو قتل نفسه… خير منه من يملك بندقية واحدة يحسن استخدامها. ذاك مثلكم ومثل أبى حنيفة الذى تتطاول عليه…!
   عندما كنت مديرا للمساجد ، وصيت الخطباء فقلت: إذا رأيتم من دخل المسجد أثناء الخطبة يصلى ركعتى التحية فلا تجلسوه ، وإذا رأيتموه جلس دون صلاة فلا تنهضوه للصلاة. قال لى أحدهم: السنة أن يقوم ليصلى ويستلفته الإمام إلى ذلك! قلت ذاك ما رآه الإمامان الشافعى وأحمد فى الحديث المروى فى هذه القضية. أما الإمامان مالك وأبو حنيفة فيقولان يجلس ليسمع الخطبة ، ولا ينشغل عنها بشئ.! يقول مالك: هكذا وجدنا الناس يفعلون فى المسجد النبوى ، متوارثين ذلك عن الصحابة والتابعين ، فعملهم أدل على السنة من حديث البدوى الذى صح أن الرسول أمره بالصلاة ، لعل هذا الأمر كان ثم نسخ! وقال أبو حنيفة: تلك وقعة حال كان الرجل فقيرا يرتدى أسمالا بالية فاستوقفه الرسول وحث على الصدقة ليستدر العطف عليه ، والأصل أن الخطيب يتحدث ليستمع الجميع إليه لا ليشتغل الداخلون عنه بالصلاة. قال لى محدثى: إن ظاهر الحديث مع أحمد والشافعى. قلت: نعم وظاهر الحديث مع السائرين إلى قريظة ألا يصلوا فى الطريق! ومع ذلك فإن ابن تيمية رجح الصلاة فى الطريق ، ونحن فى توصيتنا لعلماء المساجد نرفض التعصب المذهبى ونمنع فتنا سخيفة. من تابع أبا حنيفة ومالكا فليتبعهما ، ومن تابع الشافعى وأحمد فليتبعهما..! ومازلت أوصى الخطباء بذلك ، وأرفض الزعم بأن نصف الأئمة خالف السنة الواردة ، قد يكون خالف فهمنا للسنة الواردة وله حقه غير منكور ، وللجميع أجرهم إن شاء الله. وأخيرا قلت لمحدثى: إن دقة الفقه لا تتاح لكل مسلم صالح. إنها هبة يؤتيها الله من شاء. أرأيت الخلاف الذى نشب بين عمر وبعض الصحابة حول الأقطار المفتوحة؟ كان هذا البعض يريد تخميسها وفق آية الأنفال ، ولو استجاب عمر له لوقف الفتح الإسلامى ، وتحول الفاتحون إلى إقطاعيين ، وانهار بناء الإسلام.. ولكن عمر رضى الله عنه جعل التخميس الذى نصت عليه الآية فى الأمتعة والأسلحة والأغذية وشتى المنقولات المغنومة ، أما الأرض المفتوحة فبقيت لأصحابها ووضعت عليها ضرائب معقولة لمصلحة الدولة. هذا هو الفقه وإن خالف ظاهر النص.. إننا لا نسمح أن يجئ نفر من الدهماء ليرفع خسيسته على حساب كبار الأئمة. وعندما تختفى القمم الفقهية من تاريخنا خلال أربعة عشر قرنا فمن يبرز بعد ذلك؟! أين الأدب الذى علمنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأخذ به فى قوله:
"ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه " ؟ . إن المجتهد ـ أخطأ أم أصاب ـ معذور ومأجور ، فلم التطاول والإيذاء؟ ثم من ألزم الجماهير برأى معين لواحد من هؤلاء الأكابر؟ ليكن أفقنا واسعا وخلقنا أوسع.
***
محمد الغزالي


ليست هناك تعليقات: