الأربعاء، 6 فبراير 2013

الخلاف الفقهي و تعدد المذاهب


كتبهامصطفى الكومي ، في 27 سبتمبر 2012 الساعة: 12:46 م


دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين                             
محمد الغزالي
الخلاف الفقهى وتعدد المذاهب
   المسلمون متفقون على أن كتاب الله وسنة ورسوله هما مصدر التشريع ، وأنهما المرجع الأوثق والأوحد لطالب الحق وناشد الرضوان الأعلى.. وليس بعد قول الله ورسوله مجال لاقتراح آخر ، أو مسلك مغاير! فإذا كان الأمر كذلك ، فما هذه المذاهب التى اعتنقها الناس وتوزعت عليها الأمة الواقع أن كلمة مذهب لا تعنى إلا "وجهة نظر فقيه ما فى فهم النص السماوى"! ووجهة النظر هذه لا عصمة لها ولا قداسة. إنها تفكير بشرى فى فهم الوحى الإلهى ، فالتعويل على الوحى ، والكرامة فى الانتماء إليه وحده.. ونتساءل: هل كل فكر فى فهم الوحى يقبل من صاحبه؟ والإجابة: إن التفاوت بين الناس فى الإدراك والاستنباط حقيقة معروفة ، والتشريع أمر خطير ، فلابد من صلاحية ذهنية وخلقية ترشح لهذا المستوى. نعم هناك حقائق شرعية يستوى الخاصة والعامة فى دركها ، كأصول العقيدة والأخلاق والعبادات والمعاملات. ومبادئ هذه المعرفة قد تكفى وتغنى فى ميادين كثيرة.. لكن الحياة أعقد من أن تسيرها المبادئ القريبة. وفى أيام السلام والقتال قد تجد شئونا تحتاج إلى العقول الكبيرة والتوجيهات العميقة ، وهنا لابد من انتظار رأى الخاصة والإفادة من خبرتهم. وفى هذا يقول الله تعالى ناعيا على بعض القاصرين : (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم). ويقول جل شأنه منوها بمكانة الاخصائيين وضرورة الرجوع إليهم: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون). وأهل الذكر ، أو أهل الاستنباط ليسوا طبقة من الكهنة أو نفرا من أصحاب السلطة ، بل هم رجال من صميم الناس توافرت لهم الإمكانات العلمية التى تجعلهم موضع الثقة. والمنابع التى تفد بهؤلاء دافقة على امتداد الزمان والمكان ، فلا تحكير ولا استغلال.. قد تقول: هل يفكر هؤلاء لنا؟ ونسارع فنقول: بل نفكر معهم. واذا كان لهم سبتهم أو امتيازهم ، فإن الله وهب لنا ما نقدر به على التمييز والموازنة. ومن راقه أن يتبع وجهة نظر لأحد هؤلاء العباقرة ، أو أن يمشى وراءه باستمرار فله ذلك ، ولا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها.. وهنا يجىء السؤال الأهم: إذا كان مرجعنا نحن المسلمين هو الكتاب والسنة ، فلماذا انشعبت هذه المذاهب ، أو وجهات النظر ـ كما تعبر أنت ـ وفرضت نفسها على الأمس و اليوم؟ ونقول: إن اختلاف العقول أمر طبيعى ، ومن العسير جمع الناس على مذهب واحد فى الفكر والاستنتاج. وتصور أن الأمة الإسلامية يمكن جمعها أو كان يمكن جمعها على وجهة نظر واحدة فى فهم النصوص الواردة ، شىء مستحيل أو قريب من الاستحالة..
مقررات قبل بيان أسباب الخلاف المذهبى:
 وقبل أن نذكر الأسباب العادية لوجود المذاهب الفقهية ، نحب أن نقرر أمورا ذات بال فى مجال الثقافة الإسلامية:
 1ـ إن المتفق عليه كثير جدا ، وإن التشبث به وحده كاف فى النجاة. فالإيمان بالله ولقائه والسمع والطاعة لما جاء عنه ، وأداء الأركان المجمع عليها فى ميدان العبادات وترك المعاصى المجمع عليها فى ميدان المحظورات ، وبناء النفوس على مكارم الأخلاق وأشرف التقاليد… إن هذا كله يقيم أمة لها مكانتها فى الدنيا والآخرة. ولكن جماهير من الدهماء ، والأذكياء شغلتها للأسف الخلافات العارضة ، ولم تحسن استثمار ما انعقد الإجماع عليه ، وكادت تضيع الإسلام ذاته بهذا العوج الفكرى.
2- المذاهب الإسلامية الكبرى اختلفت فى الفروع ، لا فى الأصل ، وكان من الممكن أن يتعاون الأتباع فيما اتفقوا فيه ، وأن يعذر بعضهم بعضا فيما اختلفوا عليه ، وهذا ما آثره أولو الألباب ، ولكن المرضى بالشقاق عكروا الصفو ومزقوا الشمل. ولنضرب مثلا لما نقول: إن الإيمان بالله ينمو بالنظر فى الكون ، والتأمل فى التاريخ ، وهذا الإيمان أصل جامع لا ريب فيه ، فلماذا لا نتعاون على تقويته ، وتنميته ، والإفادة منه فى المعاش والمعاد ، بتكثير الوسائل التى ترسخه فى القلب؟ وتضخم آثاره فى الفرد والمجتمع؟ ولماذا لا نتجاوز فى ميدان العبادة قضية: هل على المأموم قراءة فى الصلاة أم تغنى عنه قراءة إمامه؟ فيرى من شاء جواز القراءة ، أو وجوبها ، أو امتناعها ، ونترك له وجهة نظره فلا نضيع الوقت فى مجادلتها ، ونوفر قوانا النفسية والفكرية فى البناء على الأركان الممهدة وهى كما أسلفنا كثيرة؟
3- عند التأمل فى التركة الثقيلة من الخلافات التى ورثناها نجد أن بعضها أملاه الترف العقلى ، وأن بعضا آخر لفظى لا محصل له ، وأن منها ما أشعل ناره الاستبداد السياسى ، واستبقاه عمدا إلى يومنا هذا… وأن منها ما يصح أن يكون مسرحا لنفر من الخاصة ويُعد شغل الجماهير به جرما ، وأن منها ما جمده المقلدون المذهبيون لقصور شائن فى معرفتهم!.
أسباب الخلاف الفقهى
   ومع ذلك فإن الخلاف الفقهى فى الفروع كان ، ويكون ، وسيبقى ، إلى آخر الدهر ، لأسباب طبيعية مقبولة. ويجب ألا نتطير منه، وألا نحاول قتله أو تجاهله ، ونحن نذكر أطرافا من أسباب الخلاف:
 1ـ الطبيعة اللغوية.. هناك كلمات تفيد الشىء وضده. فإذا قال تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) ، فإن الفقهاء قد يختلفون فى تحديد معنى "قرء" أهو الحيض أم الطهر؟ ولا حرج عليهم إذا اختلفوا ، فرأى بعضهم أن المطلقة تعتد بثلاث حيضات ، ورأى آخرون أنها تعتد بثلاثة أطهار! ومن ذلك اختلاف الفقهاء فى تفسير كلمة (أو لامستم النساء) ـ عند إحصاء
دواعى التطهر ـ هل اللمس المراد أى لمس؟ أو هو لمس خاص؟ ونشأ عن ذلك القول بأن لمس المرأة لا ينقض الوضوء لأن الآية تعنى الاتصال الجنسى  ، والقول الآخر أن اللمس ينقض الوضوء لأن المراد باللفظ العموم. ومن ذلك الخلاف بين الجمهور وبين الظاهرية فى كفارة الظهار.. فإن الظاهرية يرون وجوب الكفارة عند تكرار الظهار، وغيرهم يراه عند نقض الظهار الأول. وسبب الخلاف هو فى تفسير حرف الجر فى قوله تعالى: (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة) هل المقصود يعودون فيما قالوا بالإبطال، أو يعودون إلى ما قالوا بالتكرار.. لاسيما أن الآية اللاحقة تذكر "اللام" بمعنى إلى (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه). وقد يختلفون فى معنى الأمر الوارد فى النص: هل هو للوجوب أو للندب؟ كالأمر فى قوله: (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله). فالأمر بالإشهاد للوجوب عند البعض ، واحتج بما احتف به من تشديد ، وذهب غيرهم إلى استحباب الإشهاد فقط. ولقائل أن يقول: إن السنة المطهرة توضح المراد فى هذه القضايا ، فلا مكان للاختلاف. ومن المجمع عليه ـ كما أسلفنا ـ أن اتباع الرسول دين ، وأن رفض كلامه مع الاستيقان من أنه قاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعد انسلاخا عن الإسلام.. بيد أن السنن المروية منها المتواتر الذى لا يغيب عن مسلم ، ومنها الآحاد التى يستحضرها بعض وتغيب عن آخر وقد يعرفها ولكنه يرجح عليها ما هو فى نظره أقوى منها وأحق بالقبول.. فهناك من يعطى المرأة حق مباشرة عقد الزواج إيثارا لظاهر القرآن الكريم الذى يقول: (حتى تنكح زوجا غيره). وإسناد العقد إليها حقيقة لا يوهنها ما جاء من أخبار مخالفة. ويرى كثيرون بطلان مباشرة المرأة لعقد الزواج للحديث الوارد "أيما امرأة أنكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل " . وهناك من يرى الجلد وحده هو حد البكر إذا زنى ، مكتفيا بالنص القرآنى (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) ويرى آخرون ضم النفى أو السجن سنة إلى ذلك أخذا بحديث وارد فى الموضوع. وهناك من يرى أن أحكام صلاة الخوف، وتوحيد الإمامة فى شخصه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما ذلك خاص به لقوله تعالى : (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك) الخ. ويرى آخرون وحدة القيادة والإمامة فى جبهة القتال على اختلاف الزمان والمكان محتجين بآثار مروية.. وهناك من يقتل المسلم قصاصا ممن قتلهم من المسلمين أو الذميين لعموم قوله تعالى (أن النفس بالنفس)، وقوله بعد (وأن احكم بينهم بما أنزل الله). ويرى آخرون أن المسلم لا يقتل فى الكافر مستشهدين بما ورد فى ذلك عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم .. وأعرف فى عصرنا بعض العلماء الذين يرون أن آية النور فى حد الزنا نسخت حد الرجم الذى كان مقررا فى السنوات الأولى بعد الهجرة ، ولم أر من قال ذلك إلا نفرا من المعتزلة والخوارج. وهم يستشهدون بآية النساء فى نكاح الإماء وجواز ذلك للأحرار من الرجال: (بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن ـ أى تزوجن ـ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب). ـ يعنى الحد ـ والرجم لا ينصف، فلابد أن الحد هو الجلد، وجمهور المسلمين ضد هذا الرأى..!
وقد ألف أحمد بن حنبل رسالة فى الرد على من يستغنون بظاهر القرآن عن السنن المفسرة له ، وهذا يتأدى بنا إلى الحديث عن سبب مهم من أسباب الخلاف الفقهى.
2- أحاديث الآحاد ودورها فى التشريع: كتب الإمام ابن تيمية رسالة جليلة فى أسباب الخلاف بين أعلام الأئمة كان فيها قمة من قمم العلم والنصفة. صور وجهات النظر المتباينة بأمانة وإحاطة دون أن يكون لرأيه الخاص أثر فى تشويه رأى معارض. نعم ، أجمل أسباب الخلاف ، وحدد نتائجه ، فى حياد نزيه ، ولمن شاء أن يقرأ رسالته "رفع الملام عن الأئمة الأعلام " ليستفيد منها فوائد جليلة… وقد ذكر عشرة أسباب للخلاف الفقهى ودور أحاديث الآحاد فى تعدد المذاهب ، ونحن نقتطف منها ما يشرح القضية، متصرفين فى العبارة على نحو يقرب المعنى إلى القراء المعاصرين.
أ‌-     ربما لا يبلغ الحديث الفقيه المجتهد ، فإن الأحاديث كثيرة والإحاطة بها متعذرة. وقد كان أبو بكر لا يعلم السنة فى ميراث الجدة حتى أخبره من يرويها. وكان عمر لا يعلم سنة الاستئذان حتى اطلع عليها من أبى موسى الأشعرى وغيره ، وكان لا يدرى حكم المجوس فى الجزية حتى ذكر له عبد الرحمن بن عوف حديث "سنوا بهم سنة أهل الكتاب " . ومن لم يبلغه حديث ما ربما اعتمد على ظاهر آية أو على حديث آخر ، أو على قاعدة عامة ، أو لجأ إلى القياس… إلى غير ذلك. وعندى أن الأحناف لم يجيزوا الجمع بين الصلاتين فى السفر ـ وأحيانا فى الحضر ـ لأن السنن فى ذلك لم تبلغهم ، وأسانيدها قائمة .
ب‌-قد يبلغ الحديث الفقيه ، ولكنه يرفض سنده لعلل قادحة فيه، وربما بلغ غيره بسند أجود فيأخذ به. والخلاف بين العلماء فى تقويم الرجال ، وبالتالى قبول المتون أمر شائع.
جـ ـ من الفقهاء من يشترط فى قبول خبر الواحد شروطا لا يوافقه غيره عليها، مثل اشتراط بعضهم عرض الحديث على كتاب الله وسنة رسوله ، أو اشتراطه أن يكون المحدث فقيها ، فإن جودة الحفظ لا تغنى عن حدة الذهن ، أو اشتراطه فى كل أمر شأنه العموم أن يجىء من طرق كثيرة فإن انفراد واحد وحسب بحديث فى قضية عامة مشهورة قد يثير التهمة.
د ـ اعتقاد ضعف الحديث لفكرة خاصة ، فإن كثيرا من الحجازيين مثلا يرون ألا يحتجوا بحديث رواته عراقيون أو شاميون إن لم يكن لهذا الحديث أصل بالحجاز. ومع أن الحجاز هو البيئة الأولى للسنن الأولى فإن هذا الاعتداد بالأسانيد الحجازية وحدها رأى خاص.
 هـ ـ أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده ولكنه نسيه. وذلك كنسيان عمر لحديث التيمم من الجنابة حتى ذكره به عمار بن ياسر… وكأن عمر رضى الله عنه لم يفهم من القرآن إلا أن التيمم يرفع الحدث الأصغر وحده. وعدم العلم بدلالة الحديث ، مثل ما ورد "لا طلاق فى إغلاق " : هل الإغلاق هو الإكراه؟ أم هو استغلاق الذهن وانسداد أبواب الفهم لسبب عارض ، كالغضب الشديد أو سبب مستمر كالجنون أو العته..؟ وقد اختلفت الفتاوى باختلاف الأفهام فى الكلمة. و ـ وقد يكون اللفظ مشتركا أو مجملا، أو مترددا بين الحقيقة والمجاز ، فإن بعض الصحابة فهم من قوله تعالى: ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر)، أن المراد حبل أبيض وحبل أسود، حتى عرفهم الرسول بأنه بياض النهار وسواد الليل. وربما كانت دلالة النص خفية لا يلحظها كل ذهن. قال أحد الدعاة لعامل يغالى فيما له من مطالب ، ويفرط فيما عليه من واجبات: أنت من المطففين الذين تناولتهم الآية: (الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون )، والتشابه بين المسلكين موجود.
ز- اعتقاد الفقيه أن لا دلالة فى الحديث على ما يراد.. والفرق بين هذا وما قبله أن الأول لم يعرف جهة الدلالة ، أما هنا فقد عرف الجهة وردها لسبب قائم عنده.. وقد ذكر ابن تيمية مصطلحات فنية من علم أصول الفقه تعنى المتخصصين ، ونرى أن نستبدل بها أمثلة أوضح ، فإن اختلاف العلماء فى دلالة الكلام ميدان واسع : خذ مثلا حديث "إنما الأعمال بالنيات "
. هل المقصود كمالها أم صحتها؟
وحديث " لا يدخل الجنة نمام " . هل يمتنع دخوله على التأبيد، أم لا يدخلها مع الأفواج الأولى ، ويقضى فى جهنم ردحا من الزمن؟ وحديث " لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن ". هل يكون كافرا ، أم الإيمان موجود مشلول؟ فإذا تجاوزنا هذه القضايا المفردة إلى قضايا أعم وأهم وجدنا الرأى يختلف اختلافا بعيد المدى. تحدث ابن تيمية عن القتال الذى يدور بين المسلمين والكفار، فتساءل: ما سببه؟ هل العدوان سبب المقاتلة أم مجرد الكفر…! الأول قول الجمهور كمالك وأحمد بن حنبل وأبى حنيفة وغيرهم. والثانى قول الشافعى وربما علل به بعض أصحاب أحمدوشرح ابن تيمية فى رسالته الآثار السيئة المترتبة على القول الثانى ، والتى ترجح رفضه ، ثم قالى مؤيدا الرأى الأول : "وقول الجمهور هو الذى يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار فإن الله سبحانه يقول : ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) فقوله الذين يقاتلونكم تعليق للحكم بأنهم يقاتلوننا فدل على أن هذا علة الأمر بالقتال. ثم قال: (وَلا تَعْتَدُوا ) ، والعداوة مجاوزة الحد ، فدل على أن قتال من لم يقاتلنا عدوان. ويدل عليه قوله بعد هذا : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)، فدل على أنه لا يجوز الزيادة. ثم قال: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله). والفتنة أن يفتن المسلم عن دينه كما كان المشركون يفعلون ، فلما كانت لهم سلطة حينئذ يجب قتالهم حتى لا يفتنوا أحدا ، وهذا يتحقق بعجزهم عن القتال… ولم يقل جل شأنه: وقاتلوهم حتى يسلموا… الخ. ثم قال: وادعت طائفة أن هذه الآية منسوخة… وبعد أن حكى قولهم قال: إن دعوى النسخ تحتاج إلى دليل، وليس فى القرآن ما يناقض هذه الآية، بل فيه ما يوافقها، فأين النسخ؟
أقول: ونحن نستغرب من بعض المفسرين ولوعهم بذكر النسخ حتى ليكاد يكون ذلك مرضا عند السيوطى غفر الله له ، فقد حكم بنسخ عدة مئات من الآيات متعلقا بآراء ومرويات تافهة. من ذلك ما حكاه من نسخ قوله تعالى: (لا إكراه في الدين) قال ابن تيمية فى تسخيف هذا القول : وجمهور السلف والخلف على أنها ليست مخصوصة ولا منسوخة ، بل يقولون: إنا لا نكره أحدا على الإسلام ، وإنما نقاتل من يحاربنا. وقد ذكرنا الأسئلة التى ذكرناها فى تعرف دلالات الكلام ، ووجوه الأحكام ، ليدرك القراء من أين يجىء الفقهاء بآرائهم ، ولماذا يختلفون مع أنهم جميعا يستقون من الكتاب والسنة.
 ح ـ وقد تتساوى الدلالات المختلفة فى إفادة معان كثيرة، ويصعب ترجيح وجهة على أخرى. قال ابن تيمية: "مثل معارضة العام بخاص ، أو المطلق بمقيد ، أو الأمر المطلق بما ينفى الوجوب أو الحقيقة بما يدل على المجاز ، إلى أنواع المعارضات الأخرى وهو باب واسع فإن تعارض الدلالات وترجيح بعضها على بعض بحر ضخم ". نقول: وينضم إلى هذا أن تختلف المرويات اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد ، فقد وردت كلمات الأذان ببضع عشرة صيغة ، وترجح لدى كل فقيه سند ، أو سبق إلى علمه ، وظاهر أن رسول الله أقرها كلها. ومثل ذلك كثير. قال الشيخ عبد الجليل عيسى: ثبت فى الصحيح أن ابن عباس صلى على جنازة فقرأ بأم القرآن جهرا ، وذكر أنه فعل ذلك ليعلم الناس أنها سنة. وذلك أن الناس فى صلاة الجنازة على قولين ، منهم من لا يرى فيها قراءة بحال كما قال كثير من السلف وهو مذهب أبى حنيفة ومالك ، ومنهم من يرى القراءة فيها سنة كقول الشافعى وأحمد لحديث ابن عباس هذا وغيره. ثم من هؤلاء من يقول: القراءة فيها واجبة كالصلاة، ومنهم من يقول : بل هى سنة مستحبة ليست واجبة. وهذا أعدل الأقوال الثلاثة ، فإن السلف فعلوا هذا وهذا وكان كلا الفعلين مشهورا بينهم ، كانوا يصلون على الجنازة بقراءة وبغير قراءة ، كما كانوا يصلون تارة بالجهر بالبسملة وتارة بغير جهر وتارة باستفتاح وتارة بغير استفتاح وتارة برفع اليدين فى المواطن الثلاثة وتارة بغير رفع وتارة يسلمون تسليمتين ، وتارة تسليمة واحدة وتارة يقرءون خلف الإمام بالسر وتارة لا يقرءون ، وتارة يكبرون على الجنازة سبعا وتارة خمسا وتارة أربعا. كان فيهم من يفعل هذا وفيهم من لا يفعل هذا. كل هذا ثابت عن الصحابة ، كما ثبت عنهم أن فيهم من يرجع فى الأذان وفيهم من لم يرجع فيه ، ومنهم من يوتر الإقامة وفيهم من كان يشفعها ، وكلاهما ثابت عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم . فهذه الأمور وإن كان أحدها أرجح من الآخر ، فمن فعل المرجوح فقد فعل جائزا وقد يكون فعل المرجوح أولى للمصلحة كما يكون ترك الراجح أولى أحيانا لمصلحة أهم. ـ قد يكون الفقيه ـ مع جودة حفظه واستنتاجه ـ قد أخطأ فى تقرير المقدمات التى انتهت بالنتيجة التى أرتاها ، وذلك مثل من يقول : لا أعلم أحدا أجاز شهادة العبد! مع أن قبول شهادته محفوظ عن على وأنس وشريح وغيرهم رضى الله عنهم.. ويقول آخر: أجمعوا على أن المعتق بعضه لا يرث ، وتوريثه محفوظ عن على وابن مسعود ، وفيه حديث حسن عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم . ويقول آخر: لا أعلم أحدا أوجب الصلاة على النبى (صلى الله عليه وسلم) فى أثناء الصلاة ـ وإيجابها محفوظ عن أبى جعفر الباقر.. ـ وأخيرا من الفقهاء من يرد الحديث الصحيح إذا خالف القياس الجلى ، ومنهم من يرده إذا كان عمل أهل المدينة المنورة على خلافه ، فإن عملهم أدل على السنة من خبر الواحد ـ كما ذكرنا عن مالك ـ. وقد رأى ابن تيمية أن ذلك خطأ ، وأن الحديث أولى بالتقديم من القياس ومن عمل أهل المدينة. قال ابن تيمية: ومن ذلك دفع الخبر الذى فيه تخصيص لعموم الكتاب ، أو تقييد لمطلقه ، أو تضمن زيادة عليه ، اعتقادا منه أن التخصيص ، والتقييد والزيادة نسخ ـ وهذا رأى أبى حنيفة ـ. والسنة لا تنسخ القرآن ، فيبقى الحكم كما تقرر فيه وبصرف النظر عن هذه الأحاديث…
وللأحناف فى ذلك كلام طويل يرجع إليه فى كتبهم من شاء…
أخبار الآحاد ووزنها العلمى :
كنا فى دراستنا الأزهرية لا نعرف إلا قولا واحدا هو أن أحاديث الآحاد لا تفيد القطع وأن العمل بها هو فى فروع الشريعة وحدها. وقد صور الأستاذ المحدث المحقق أحمد شاكر هذا الرأى فى تعليقه على المحلى لابن حزم عندما قال: "أما الظن ـ الذى هو بمعنى الطرف الراجح ـ فهو معتد به قطعا ، بل أكثر الأحكام الشرعية دائر عليه ". وهو البعض الذى ليس فيه إثم أى البعض المفهوم من قوله تعالى (إن بعض الظن إثم). إن خبر الآحاد معمول به فى الأحكام ، ولا يفيد بنفسه إلا الظن. والعمل به فى الفروع مذهب الأئمة الأربعة جميعا. وابن حزم سبق أن قال : إن الجاهل يسأل العالم عن الحكم فيما يعرض له فإذا أفتاه ، وقال له هذا حكم الله ورسوله، عمل به أبدا. قال الشيخ أحمد شاكر: ومعلوم أن هذه رواية أحادية من العالم بالمعنى ولا تفيد إلا الظن وقد أوجب قبولها. وكذلك أمر الله بإشهاد ذوى عدل ، فإن شهدا وجب على الحاكم الحكم بما شهدا به ، وشهادتهما لا تفيد إلا الظن ، بل كونهما ذوى عدل لا يكون إلا بالظن.. وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إنكم تختصمون إلى ، وإنما أنا بشر ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له ، فمن قضيت له من مسلم فإنما أقطع له قطعة من النار" . وهذا صريح فى أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حكم بالظن الحاصل عن البينة ، إذ لو كان بالعلم لما كان المحكوم به قطعة من النار ، ألا ترى أنه يجوز أن تكون البينة التى حكم بها باطلة فى نفس الأمر؟
ثم قال الشيخ أحمد شاكر ـ مستغربا من ابن حزم دعوى الاعتماد فى الفروع على اليقين وحده : " إنه فى هذا الكتاب ـ يعنى المحلى ـ يستدل بأخبار الآحاد ، وبعموم ألفاظها وألفاظ القرآن ، والكل لا يخرج عن الأدلة الظنية فاعرف قدر هذه الفائدة السنية ". نعم: قرأنا رأيا لابن الصلاح أن أحاديث الآحاد تفيد اليقين ، ولكن هذا الرأى لم يكن له رواج ولا وجاهة. فلما اتصلنا بعلماء آخرين من الحنابلة وغيرهم وجدنا أن الرأى المرجوح عندنا هو الفكر السائد عندهم ما يأبهون لغيره!! حديث الآحاد لديهم حجة فى الأصول والفروع والعقائد والشرائع على سواء. إن بين المذهبين خندقا بعيد القاع..!. وقد كان لذلك أثر رديء فى مسالك الأفراد والجماعات خصوصا بين العوام وأشباههم. وأجلت الفكر هنا وهنا ، فرأيت أن مدرسة الأزهر تحتضن المذاهب الأربعة بقوة ، وتغض من قيمة الحديث إذا خالف أحكامها مع أن الحديث قد يكون جديرا بالترجيح لثبوته وضعف الدليل المقابل له ، ورأيت أهل الحديث يشبهون أهل الظاهر ، فى ضعف الرأى وقلة الفقه وسوء الموازنة بين شتى الأدلة.
خبر الآحاد لا يفيد القطع:
   ونعود إلى أخبار الآحاد لنتساءل: هل تفيد القطع حقيقة؟ وهل هى فى قوة الحديث المتواتر؟ والإجابة التى نرتضيها: لا.. المتواتر يفيد ، أما حديث الآحاد فيعطى الظن العلمى أو العلم الظنى ، ومجاله الرحب فى فروع الشريعة لا فى أصولها. ويدفعنا إلى ذلك أمور:
 ا- الفرد قد ينسى أو يخطىء ، فهو بشر ، وقد تفاوتت كلمات الرواة فى نقل حادثة واحدة تبعا لذلك. وأوضح مثال لذلك ما جاء فى البخارى فى "باب سؤال جبريل النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الإيمان والإسلام والإحسان ". ففى بعض الروايات قال جبريل للنبى ـ صلى الله عليه وسلم : وما الإسلام؟ قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة ، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان ". قال: ما الإحسان..؟ قال: "أن تعبد الله كأنك تراه ..الخ ". قال الحافظ ابن حجر: فإن قيل إنه لم يذكر الحج مع أنه من أهم أركان الإسلام ، أجيب بأنه ذكره لكن بعض الرواة ، إما ذهل عنه أو نسيه ، والدليل على ذلك الروايات الأخرى لهذا الحديث ، ففى رواية أنس بزيادة "وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا". وفى رواية عطاء الخرسانى ذكر الحج ولم يذكر الصوم ، وابن عباس لم يذكر فى روايته لهذا الحديث غير الشهادتين ، وذكر التميمى فى رواية لهذا الحديث جميع ما ذكر متفرقا فى الروايات الأخرى وزاد بعد قوله والحج "وأن تعتمر وتغتسل من الجنابة ، وتتم الوضوء". قال ابن حجر: فتبين مما ذكرناه أن بعض الرواة ضبط ما لم يضبط غيره. ووقوع الخطأ أو النسيان فى مرويات الآحاد أمر لا ريب فيه ، ولذلك فمن المجازفات الزعم بأن خبر الواحد يفيد اليقين. جاء فى البخارى أن عبد الله بن عبيد الله بن أبى مليكة قال: توفيت ابنة لعثمان رضى الله عنه بمكة ، وجئنا لنشهدها ، وحضرها ابن عمر وابن عباس رضى الله عنهم ، وإنى جالس بينهما ، أو قال جلست إلى أحدهما ثم جاء الآخر فجلس إلى جنبى ، فقال عبد الله بن عمر ـ رضى الله عنهما ـ لعمرو بن عثمان: ألا تنهى عن البكاء؟ فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه ". فقال ابن عباس رضى الله عنهما: قد كان عمر رضى الله عنه يقول بعض ذلك!! ثم حدث قال: صدرت مع عمر رضى الله عنه من مكة ، حتى إذا كنا بالبيداء إذا هو بركب تحت ظل سمرة ، فقال: اذهب فانظر من هؤلاء الركب؟ قال فنظرت ، فإذا صهيب ، فأخبرته ، فقال: ادعه لى ، فرجعت إلى صهيب ، فقلت: ارتحل فالحق بأمير المؤمنين… فلما أصيب عمر دخل صهيب يبكى ويقول : وا أخاه! وا صاحباه! فقال عمر رضى الله عنه: ياصهيب أتبكى علىّ وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه!! قال ابن عباس رضى الله عنهما: فلما مات المؤمن ببكاء أهله عليه… ولكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه " وقالت: حسبكم القرآن ، ( ولا تزر وازرة وزر أخرى قال ابن عباس رضى الله عنهما عند ذلك: والله هو أضحك وأبكى..!. قال ابن أبى مليكة: والله ما قال ابن عمر رضى الله عنهما شيئا!! وظاهر من هذا السياق أن ابن عمر عرف خطأه فسكت  ، وسمع تعقيب ابن عباس وهو يؤيد أم المؤمنين ، فى خبرها وفقهها فلم يجد ما يقول!! وهناك قصة أخرى من مرويات البخارى تؤكد وقوع الخطأ والنسيان فى مرويات الآحاد. عن شقيق بن سلمة قال: كنت جالسا عند عبد الله ـ ابن مسعود ـ وأبى موسى ـ الأشعرى ـ فقال له أبو موسى: أرأيت يا أبا عبد الرحمن إذا أجنب فلم يجد ماء كيف يصنع؟ فقال عبد الله: لا يصلى حتى يجد الماء!! فقال أبو موسى: فكيف تصنع بقول عمار حين قال له النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : كان يكفيك ـ وفى رواية ألم تسمع قول عمار لعمر بن الخطاب ـ : بعثنى أنا وأنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى حاجة ، فأجنبت ، فلم أجد الماء.. فتمرغت فى الصعيد كما تتمرغ الدابة! فذكرت ذلك للنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا ، فضرب بكفه ضربة على الأرض ، ثم نفضها ، ثم مسح بها ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه ثم مسح بها وجهه. قال عبد الله: ألم تر عمر لم يقنع بذلك؟ فقال أبو موسى: فدعنا من قول عمار! كيف تصنع بهذه الآية ـ فى سورة المائدة (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا)- فما درى عبد الله ما يقول… فقال: إنا لو رخصنا لهم فى هذا لأوشك إذا برد على أحدهم الماء أن يدعه ويتيمم الصعيد! فقلت لشقيق فإنما كره عبد الله لهذا؟ وفى رواية وإنما كرهتم هذا لذا؟ قال: نعم. وهذا السياق يحتاج إلى تأمل طويل ، إن الفقهاء جميعا يرفضون فتوى ابن مسعود ، ويستغربون أن يستظهر لفتواه برأى عمر ، والقضية بت فيها القرآن الكريم بجواز التيمم لمن فقد الماء حقيقة أو حكما. ولا معنى لتخوفه من أن البعض سوف يتيمم عند البرد ، فقد فعل ذلك عمرو بن العاص وأقره النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وما نشره القرآن لا يطويه أحد لوهم عارض.. الحق أن عبد الله أخطأ ، وذاك سر قولنا: إن خبر الواحد لا يفيد اليقين ، ولا تؤخذ منه العقائد. وإذا كان قمة السند أعنى الصحابى ينسى فمن دونه أولى. وهاك من مرويات البخارى مثلا آخر. كم اعتمر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ؟ : عن مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر ـ رضى الله عنهما ـ جالس إلى حجرة عائشة ـ رضى الله عنها ـ وإذا أناس يصلون فى المسجد صلاة الضحى! قال: فسألناه عن صلاتهم؟ فقال: بدعة!! ثم قال له: كم اعتمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ؟ قال: أربع، إحداهن فى رجب! فكرهنا أن نرد عليه.. قال: وسمعنا استنان عائشة أم المؤمنين فى الحجرة ، فقال عروة: يا أماه يا أم المؤمنين ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟ قالت: ما يقول؟ قال: يقول: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ اعتمر أربع مرات ، إحداهن فى رجب! قالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهده ، وما اعتمر فى رجب قط . وظاهر أن عبد الله بن عمر كان واهما عندما أخبر أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ اعتمر فى رجب! كما أن إنكاره صلاة الضحى ، واعتدادها بدعة أمر يدعو للدهشة ، إذ هى سنة صحيحة من روايات كثيرة!! ونحن نؤكد أن خبر الواحد قديما وحديثا ما كان يفيد إلا الظن. والإمام أبو حنيفة له وجهة نظره المعقولة عندما استبعد خبر الواحد فى إيجاب أو تحريم محرم ، واعتبر أن ذلك يحتاج إلى القطع ، ويمكن الاحتجاج بخبر الواحد فى نطاق المندوب والمكروه ـ كما يعبر الأصوليون ـ ومع ذلك ففى عصرنا قوم يريدون بخبر الواحد إثبات العقائد!! العقائد التى يكفر منكرها..! وهذا ضرب من الغلو الممجوج ، وقد ينتهى بالصد عن سبيل الله! وقد رأيت ناسا يتسمون أهل الحديث ، صلتهم بالقرآن واهية ، قال لى أحدهم: إننا نعتقد أن والد الرسول فى النار كما روى مسلم!! قلت: ما دخل الاعتقاد فى هذا؟ إن القرآن حكم بنجاة أهل الفترة ، ومسلم روى فى الرضاع المحرم حديثا رفضه الأحناف والمالكية ، ومن حقهم وحق غيرهم رفض ما قال عن عبد الله. وأخبار الآحاد تناقش فى ضوء الكتاب ، وسائر السنن ، ثم يقرر الحكم بعد ذلك!!
 2 ـ نحن فى شئون الدنيا نستوثق للحقوق بجعل شهادة رجلين عدلين أو رجل وامرأتين ، فكيف نهبط بنصاب الثقة فى شئون الدين؟ وإذا كان خبر العدل لا يثبت عشرة دنانير فكيف يثبت عقيدة قد تطيح عند جحدها بالرقاب؟
3 ـ رأينا من أسباب الخلاف الفقهى أن خبر الواحد ربما لم يصل إلى الأكابر ، أو وصل إليهم ثم نسوه! فهل هذه القناة المحدودة تصلح مجرى لنقل العقائد الرئيسة التى يهلك من جهلها؟ إن المفروض ابتداء أن تأخذ هذه العقائد طريقا مستوعبة شاملة ، لا يبقى معها جهل ولا غفلة. إن أخبار الآحاد تشبه فى عصرنا حديثا صحافيا مع رئيس الدولة ، أما مصادر العقيدة والحقوق العامة فهى تشبه الدستور الذى ولد فى الساحات العريضة ، وتيسرت مواده لكل مطلع.. ص ـ المتواتر مصون كلا وجزءا ، أما أخبار الآحاد فقد تضمنت ما رفضه الأئمة والراسخون فى العلم ، ككون المعوذتين ليستا من القرآن ، أو أن سورة الأحزاب كانت فى طول سورة البقرة ثم نسخت.. أو أن إرضاع الكبار يحرم كرضاع الصغار ، أو أن لحديث الغرانيق أصلا ما ـ ولو أصلا ضعيفا ـ أو أن الصائم يتناول البرد ولا يفطر. إن هذه المرويات حبر على ورق عند رجال الإسلام مع ورودها فى كتب السنن!! والحق أن حديث الآحاد دليل محترم ما لم يكن هناك دليل أقوى منه وأولى بالقبول. قد يرى المالكية أن عمل أهل المدينة أدل على السنة الشريفة منه ، وقد يرى الحنفية أن القياس أدل على الدين منه ، أو أن ظاهر القرآن أولى بالقبول منه.. ما نناقش الآن هذه الفروض والآراء ، وإنما نثبت وحسب الوزن العلمى المجرد لخبر الواحد كما يبدو لنا.
   وأهل الحديث يرفضون هذا الكلام ، ويجعلون حديث الآحاد حجة لا تقاوم. وقد يرى بعضهم أن السنة تنسخ القرآن ، وهو رأى شاذ مرفوض. ويقوم تفكيرهم على حجة قريبة سهلة : إذا ثبت أن الرسول قال فلا اجتهاد لأحد ولا افتيات على المعصوم. بل قالوا: إن الحديث الضعيف فيه رائحة وحى ، أما القياس فهو فكر بشر ، وما يقدم فكر على وحى..! وقالوا: إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ، كان يرسل الأمراء ـ وهم آحاد ـ ويبعث برسله إلى الملوك ـ وهم آحاد ـ فينقلون عنه العقائد والشرائع جميعا ، فكيف تقع الريبة فى خبر الواحد الثقة بعد هذا؟! وفى هذا الكلام جانب من الصواب لا يمارى فيه مسلم. فإذا ثبت أن النبى قال ، فلا رأى إلا السمع والطاعة! ولكن أنى لنا الثبوت؟ إن الريبة فى قيمة السند ، هل يهب لنا يقينا أم لا؟ وذلك موضوع النزاع. وترجيح الحديث الضعيف على القياس مردود ، فإن هذا القياس يقوم على تعدية حكم شرعى ثابت فى قضية ما إلى مشابهة أخرى كتحريم الإجارة وقت النداء يوم الجمعة قياسا على تحريم البيع وقت النداء ، فأين هوى البشر هنا؟ وإذا كان البعض يشم من الحديث الضعيف رائحة الوحى، فإن آخرين يشمون منه روائح الوضع فلا لوم عليهم. أما أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يرسل الأمراء والمعلمين وهم آحاد، ويكونون حجة على غيرهم فهذا حق والحكومات لا تزال تبعث السفراء آحادا ، ونحن لا نزال نعين الأساتذة يدرسون للطلاب آحادا. وخبر الواحد هنا له احترامه ، لأن الملابسات التى تحيط به توفر ضمانات شتى ، فإن سفير الدولة إن أخطأ فى البلاغ لحقه ألف مصحح ، وكذلك المدرس بين تلامذته. وقد قلنا: إن خبر الواحد مقبول فى فروع الشريعة ومقبول فى نقل ما تواتر أصله. وعلى أية حال فإن العقائد فى ديننا ، لم تتلقها الأمة بأسانيد مفردة أو مزدوجة ، بل تلقتها بالتواتر المؤسس للثقة المطلقة. وما توجد فى مصادرنا الثقافية عقيدة عبرت إلى الأخلاف عن طريق آحاد ، ومن زعم ذلك فهو مختلق.
***
دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين

ليست هناك تعليقات: