الأربعاء، 6 فبراير 2013

نحو سلفية واعية


محمد الغزالي
نحو سلفية واعية
   الاصطلاح الشائع أن المذاهب الفقهية لا تعدو أن تكون وجهات نظر محترمة فى العبادات والمعاملات ، وأن الوحدة الجامعة بين أتباعها لا ينكرها أو يخدشها عاقل ، وأنه لا يجوز إطلاق كلمة فرقة على الحنفية أو الحنبلية مثلا ، فإن التبعية المذهبية ما كانت لتميز أحدهما عن جماعة المسلمين. أما اصطلاح فرقة ، فيتناول فى تاريخنا أصحاب الاختلاف العقائدى أو السياسى ، فيقال فرقة المعتزلة أو المرجئة ، أو الشيعة إلى آخره. ولا مشاحة فى الاصطلاح ، وعذر الذين فرقوا بين المذاهب والفرق أن التنازع فى الأصول غير التنازع فى الفروع ، وأن النتائج الكبيرة هنا غير النتائج المحدودة هناك. وأريد أن أقف وقفة تأمل فى هذه القضية ، إنه من فضل الله على سلفنا الأول أنه لم يتقعر فى بحوث ما وراء المادة ، ولم يحاول استكناه الغيبيات ، بل كان جيلا مستقيم الفطرة سوى النظرة أحسن علاقته بالله فى العبادة الخاشعة وأحسن علاقته بالناس فيما التزمه من خلق حسن وعدالة مطلقة ، وقد أعانه ذلك على إبلاغ رسالة الإسلام ، فشرق وغرب ، وتألق وتأنق واندكت أمام عزماته الصعاب والعقبات. ولو أنه اشتغل بالفلسفة اللاهوتية ، والمناظرات الكلامية ما خرج من جزيرة العرب ، بل لأرسلت له فارس أو الروم كتيبة من كتائبها تركته شذر مذر بين الرمال والتلال.. فلما ذهبت الأجيال الزاكية ، وولى رهبان الليل وفرسان النهار ، خلقت البطالة ناسا يحسنون اللغو ويطيلون الفكر العابث والنظر الشرود. وأوجد الفراغ مجالس كلامية كثيرة كان لها فى تاريخنا وكياننا أثر ردىء. ونستطيع القول بأن العراك الذى نشب كان جهادا فى غير عدو ، أو كان حربا عمياء أذكى نارها المراء والغباء. فالخوارج حين كفروا العصاة كانوا جهلة بطباع البشر ، وعجزة عن فهم الأسباب الدخيلة والأصيلة فى الانحراف عن الطريق القويم.
    والمرجئة حين هونوا من قيم الصالحات ، ومقارفة السيئات كانوا جهلة بحق الله وما أوجب على عباده! وكانوا عجزة عن صياغة المجتمعات وتحصينها ضد التحلل والعطب. ودعك من المتقعر السمج الذى تساءل: كيف كلم الله موسى تكليما؟ أكان الكلام بلفظ وصوت ، أم ماذا؟ والسمج الآخر الذى تساءل: كيف اتخذ الله إبراهيم خليلا؟ وكيف انعقدت مودة بين الله وعبده؟ ثم دعك من تقليد المعتزلة لليونان فى نمط تفكيرهم البالى. لقد اقتفوا أثر أرسطو فى فهم الألوهية ، ومعروف أن أرسطو أوغل فى تنزيه إلهه حتى قطع علائقه بالأرض وما فيها ، لأنه أكبر من ذلك! وجرده من أن تكون له صفة فوق الذات ، لأن مقتضى التوحيد أن يعلم بذاته ويرحم بذاته ويقدر بذاته ، فلا تكون له صفات العلم والرحمة والقدرة. وهذا التفكير لا وزن له من ناحيتى العقل والنقل ، ولكن المتأثرين بالغزو الثقافى تبنوه وشغلونا به ، وأقحموه إقحاما على تفكيرنا النظيف. ماذا لو بقى منهج السلف يخط أصول الإيمان كما ورثناه عن نبينا وصحابته؟! واشتغل الجمهور بما يرفع مستواه فى معاشه ومعاده؟! تلك صورة للهيجان العقائدى الذى اكتنف تاريخنا العلمى أول الأمر ، ثم تلاشى منه وبقى منه ما بقى. على أن هناك خلافات قد تنشأ من التدبر الذاتى للنصوص وقد نظرت فى هذه الخلافات فوجدت ما بها من نزق واستطالة أكثر مما بها من ذكاء وتعبد لله. فقضايا خلق الأفعال ، والتحسين والتقبيح كان يمكن علاجها بأفضل من الأسلوب الذى مزق الشمل وقسم الأمة. نعم من شيوخنا من رأى أكثر الخلافات لفظيا لا ثمرة له ، فالذين أنكروا رؤية الله مثلا أنكروا رؤية مادية لها جهة وتحيز وانحصار! والذين أثبتوها لم يقرروا لها هذه الخواص ولم يقيسوا غائبا على شاهد.
والذين قالوا بالصلاح والأصلح لم يحسنوا اختيار العبارة المهذبة ، وهم إنما عنوا وصفه بالحكمة والرحمة كما قال تبارك اسمه عن نفسه: ( كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه). وهذا الجدل بعيد عن دائرة العقيدة عند أولئك المعقبين.
   يقول الشيخ محمد المدنى: إنها نظريات كلامية لا عقائد تعتمد على اليقين الذى يحف أصول الإيمان ، فإن المسلمين متفقون على أن الله موصوف بكل كمال منزه عن كل نقص. ثم تأدى الجدل بعلماء الكلام إلى تساؤل: هل يجب على الله فعل الصلاح والأصلح أم لا يجب؟ فمن الناس من ينظر إلى الصلاح والأصلح على أنها كمال وجمال ، ويرى إيجاب ذلك على الله ـ لأنه أوجب على نفسه الرحمة ـ وهو متصف أبدا بكل كمال… ومن الناس من يقول : لا يجب على الله شىء لأن الإيجاب تقييد ، والله جل وعلا ليس عليه قيد ، ولا يمكن أن نوجب عليه شيئا ، ومن ثم يرفضون القول بأنه يجب على الله فعل الصلاح والأصلح. كلا الفريقين عند التأمل يقصد إلى تقرير الكمال الأعلى ، وإلى تنزيهه ـ سبحانه وتعالى ـ عما لا يليق به… ولكن اختلفوا فى إدراك هذا الشىء بالذات. هل هو من قبيل الكمال من جانب الله؟ أو هو يعد نقصا فى جانبه؟ فلا يثبته مؤمن إلا وهو معتقد أنه كمال ، ولا ينفيه مؤمن إلا وهو معتقد أنه نقصان. نقول هذا اعتذار لبق عن المعارك التى أدارها الكلاميون قديما ، وهى معارك كنا والله فى غنى عنها ، اختلقها الترف العقلى ونماها وشغلت بها الجماهير عن خير الدنيا والآخرة ، وبقيت فى كتب العقائد ذكريات مؤسفة. وها قد سلخ الإسلام من عمره المديد أربعة عشر قرنا ، وعانت أمته أياما عصيبة لانطلاقها بغير قواها وإلى غير وجهتها. ونحن ما نقلق من كثرة المذاهب الفكرية فى شئون الأدب والحياة ، ولا من كثرة هذه المذاهب فى ساحات العبادة والمعاملة ، مادام المفكرون المجتهدون من أهل الذكر وذوى الأصالة العلمية والخلقية. وإنما نكره التفرق فى المعتقد ، والتحزب فى أصول الديانة ، ونؤثر دراسة العقائد من منهجها القرآنى ونبعها النقى كما تدفق به الوحى الأعلى ، ونهض عليه سلفنا الصالحون.
 مفاهيم قاصرة لمعنى السلفية:
   والسلفية ليست فرقة من الناس تسكن بقاعا من جزيرة العرب وتحيا على نحو اجتماعي معين , إننا نرفض هذا الفهم ونأبى الانتماء إليه. إن السلفية نزعة عقلية وعاطفية ترتبط بخير القرون ، وتعمق ولاءها لكتاب الله وسنة رسوله ، وتحشد جهود المسلمين المادية والأدبية لإعلاء كلمة الله دون نظر إلى عرق أو لون. وفهمها للإسلام وعملها له يرتفعان إلى مستوى عمومه وخلوده وتجاوبه مع الفطرة وقيامه على العقل. وقد رأيت أناسا يفهمون السلفية على أنها فقه أحمد بن حنبل رضى الله عنه ، وهذا خطأ.. ففقه أحمد أحد الخطوط الفكرية فى الثقافة الإسلامية التى تسع أئمة الأمصار وغيرهم مهما كثروا. ورأيت ناسا يفهمون السلفية على أنها مدرسة النص ، وهذا خطأ فإن مدرسة الرأى كمدرسة الأثر فى أخذها من الإسلام واعتمادها عليه. وقد كان من هؤلاء من تسموا أخيرا بأهل الحديث ، وسيطرت عليهم أفكار قاصرة فى فهم الأخبار المروية ، وأحدثوا فى الحرم فتنة منكورة. والحديث النبوى ليس حكرا على طائفة بعينها من المسلمين ، بل إنه مصدر رئيسى للفقه المذهبى كله. ورأيت ناسا تغلب عليهم البداوة ، يكرهون المكتشفات العلمية الحديثة ولا يحسنون الانتفاع بها فى دعم الرسالة الإسلامية وحماية تعاليمها ، ويرفضون الحديث فى التليفزيون مثلا لأن ظهور الصورة على الشاشة حرام ، ويتناولون المقررات الفلكية والجغرافية وغيرها بالهزء والإنكار ، وهؤلاء فى الحقيقة لا سلف ولا خلف ، وأدمغتهم تحتاج إلى تشكيل جديد. ورأيت ناسا يتبعون الأعنت الأعنت ، والأغلظ الأغلظ ، من كل رأى قيل ، فما يفتون الناس إلا بما يشق عليهم وينغص معايشهم ، ويؤخر مسيرة المؤمنين فى الدنيا ، ويأوى بهم إلى كهوفها المظلمة. وهؤلاء أيضا لا سلف ولا خلف. إنهم أناس فى انتسابهم إلى علوم الدين نظر ، وأغلبهم معتل الضمير والتفكير. ورأيت ناسا يتبعون إلغاء الرقيق بعيون كئيبة! قلت لهم: ألا تعرفون أن هؤلاء العبيد هم أحرار أولاد أحرار اختطفتهم عصابات النخاسة من أقطارهم ، وباعتهم كفرانا وعدوانا ليكونوا لكم خدما ، وهم فى الحقيقة سادة؟!
   ما السلفية التى تقر هذا البلاء؟ وما هؤلاء العلماء الذين ضاقوا بسياسة الملك فيصل فى تحريرهم ، وإلغاء بيعهم وشرائهم؟ إن الرجل الشهيد أولى بالله منهم. ورأيت ناسا يقولون: إن آية (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا) مرحلية. فإذا أمكنتنا اليد! لم نبق على أحد من الكافرين. قلت: ما هذه سلفية. هذا فكر قطاع طرق لا أصحاب دعوة شريفة حصيفة ، و أولئك لا يؤمنون على تدريس الإسلام لجماعة من التلامذة بله أن يقدموا فى المحافل الدولية والمجامع الدولية. إن العالم الإسلامى الآن متخلف حضاريا ، ومضطرب أخلاقيا واجتماعيا وسياسيا ، وبينه وبين الأمم القائدة الصاعدة أمد بعيد. هذه الأمم تعلم ظاهرا من الحياة الدنيا ، وتفتقر إلى جيل من البشر يذكرها بالله ولقائه. والإسلام وحده هو المالك لهذه الحقائق الهادية. ولكى تؤدى أمته رسالتها يجب عليها أمران: الأول: أن تطوى مسافة التخلف الحضارى ، والاضطراب الإنسانى الذى يشينها ولا يزينها. والثانى: أن تتقدم بشرف وكياسة لتقول للناس كلهم: (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا). ولكى ننجح فى عملنا يجب أن نقتفى آثار سلفنا. والسلفية هنا عنوان كبير لحقيقة كبيرة أساسها العقل الحر المكتشف الدءوب. إن هذا العقل عندما ركب عن البحث فى الذات العليا وحقيقة الصفات ، كان يحترم نفسه عندما توقف. والعلم المعاصر نجح أيما نجاح عندما بحث فى المادة التى بين يديه ولم يبحث فى ربها ـ سبحانه ـ فأنى له البحث فيما لا يملك ولا يقدر؟! من أجل ذلك نرفض النظريات الكلامية ، ونقبل المذاهب الفقهية ، ونضع الشبكة القانونية التى يتطلبها انتقال الحياة من طور إلى طور.
   من أجل ذلك نهش للتقدم العلمى ونطوعه لنصرة مبادئنا ومثلنا. ومن أجل ذلك نرى ضرورة إزاحة البله وذوى العقد النفسية من قيادة الفكر الدينى ، فإنهم غشاوات على البصائر ، وحجب على الضمائر. إننا محتاجون إلى فقهاء يستطيعون النظر فى سياسة المال والحكم ، ويرفضون أن يسبقهم الإلحاد إلى اجتذاب الشعوب الفقيرة فى هذه الميادين الخطيرة. ومحتاجون إلى فقهاء يهيمنون على شئون التربية والإعلام برحابة الإسلام وبشاشته لا بالتزمت والتكلف. إن الفقه الإسلامى كما قدمه سلفنا حضارة معجزة ، أما الفقه الإسلامى كما يقدمه البعض الآن فهو يميت ولا يحيى.
السلفية فى إطارها الصحيح:
   لكن ما يسمى الآن سلفية ويقترح سبيلا للعودة شىء غريب حقا ، لأنه يتضمن جملة ضخمة من القضايا الطفيلية التى كان ينبغى أن تموت مكانها ، ولا تكلف الأجيال بدراستها.. وإذا جاز تناولها بالشرح فبين بعض الإخصائيين ، أو عند شرح طائفة من الأحاديث المروية ، أو عند ذكر الأقوال فى تفسير آية من الآيات. أما إيهام الجماهير بأن هذه القضايا عقائد من لب الإيمان ، وأن تجاوزها خروج على الدين ، فذلك باطل. ولو مات المسلم وهو لم يدر من هذه القضايا حرفا ما حاسبه الله على شىء. ما الذى فعله أبو الحسن الأشعرى حتى تاب من عوجه وصار سلفيا؟ قال مؤلف الرسالة: إنه آمن بأن الدعاء لموتى المسلمين والصدقة عنهم ـ بعد موتهم ـ تصلان إليهم. وأن الساحر كافر كما قال الله تعالى (!) وأن السحر كائن موجود فى الدنيا. ويرى الصلاة على كل من مات من أهل القبلة برهم وفاجرهم ، وتنقل المواريث بينهم. وأن من مات مات بأجله ، وكذلك من قتل قتل بأجله. وأن الأرزاق من قبل الله تعالى ، حراما كانت أم حلالا. وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه. وأن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله بآيات تظهر عليهم. وأن السنة لا تنسخ بالقرآن " كذا ". ثم قال فى الهامش: يعنى أن القرآن لا ينسخ السنة إلا مع سنة وأن الأطفال الموتى أمرهم إلى الله ، إن شاء عذبهم وإن شاء فعل بهم ما أراد… إلخ. إن الأشعرى كان زائغا حتى اعتنق هذه الأفكار.. وقد تدبرت هذه الكلمات ثم حكمت بأنها بعيدة عن ميدان العقيدة. ربما تضمن بعضها أحكاما فرعية كثر فيها القيل والقال ، وربما كان بعضها خطأ محضا ، وربما تساوى السلب والإيجاب فى أغلبها.. ونحن نعرف أن القرآن الكريم نسخ بعض السنن كما حدث فى عهد الحديبية ، إذ تنزل الوحى بعدم رد النساء المهاجرات. بل إن الاتجاه إلى الكعبة المشرفة تم بقرآن نسخ السنة العملية. ومع ذلك فإن العبارات المنقولة توهم أن القرآن وحده أعجز من أن ينسخ سنة ، وهذا شىء عجيب.. والموضوع كله من مباحث علم أصول الفقه ، فكيف ينقل رأى أصولى مرجوح أو مرفوض إلى شعب الإيمان وأصول الدين؟!.. إن السلفية عودة إلى الإيمان السهل السائغ البعيد عن التقعر ، البرىء من المماحكات ، وليست السلفية قنطرة لترويج بعض الآراء أو حبالة ينصبها البله فى المجتمع لاصطياد الأغرار.
***

ليست هناك تعليقات: