الأربعاء، 6 فبراير 2013

معنى الابتداع وأنواع البدع


محمد الغزالي
معنى الابتداع وأنواع البدع
   الابتداع فى الدين نزعة تسيطر على نفر من المتدينين ، وتزين لهم أن يخترعوا من عند أنفسهم أفعالا وأحوالا ثم يجعلوها ضميمة أو جزءا من الدين الإلهى ويطلبون إلى الناس الأخذ بها ، كما يأخذون ما جاء من عند الله سواء بسواء. وقد رفض الإسلام "الابتداع " رفضا قاطعا للأسباب الآتية:
 ا ـ إذا أقررنا هذه الضميمة الجديدة إلى الدين ، ورأينا الدين الأصيل محتاجا إليها حقا ، فمعنى ذلك أن الله أنزل الدين ناقصا ، وهذا باطل ، قال تعالى : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). وقال رسول الله : " إياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" .
 2 ـ إقرار هذه الإضافات التى صنعها الناس يعنى إعطاء البشر حق التشريع فى العقائد والعبادات وما إليها.. وهذا الحق انفرد به رب العالمين: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) وفى القرآن الكريم حملات شداد على من يحلون ويحرمون وينسبون إلى الله ما لم يأذن به: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع قليل ولهم عذاب أليم). والزيادات المخترعة مرفوضة سواء ابتدعها أفراد أو مجامع ، إذ لا حق لأحد ابتداء أن ينشئ شريعة من عنده ، فإن ما ينشئه هو الهوى والضلال.
3 ـ انشغال العقل الدينى بالتحوير فى الدين أضر إضرارا بالغا بشئون الدنيا ، إذ إن المتدينين بددوا طاقتهم العقلية فى اختراع ما لا قيمة له ولا خير فيه ، والأصل فى شئون الدين الاتباع وفى شئون الدنيا الابتداع ـ لحديث أنتم أعلم بشئون دنياكم ـ ولكن هؤلاء المخبولين قلبوا الآية فطوروا تعاليم الدين وجمدوا شئون الدنيا ، وكان ذلك سببا فى تخلف الأمم وضياع رشدها..
4 ـ التعلق بالبدع المحدثة يتم على حساب السنن الأصيلة نفسها ، والذين يخترعون أشياء ليعبدوا الله بها يتحمسون لها وتكون أقرب إلى هواهم من التعاليم الثابتة عن الله ورسوله ، والجهد الذى يبذل فى أداء هذه المبتدعات قلما تبقى معه طاقة للقيام بما أمر الله ورسوله ، فما تنهض بدعة إلا على أنقاض سنة.
5 ـ طبيعة الدين العموم ، فقد وضع الدين كى ينتظم البشر كلهم ، والأثر النفسى الخاص لتألف ما لا ينهض حجة لتعميمه ، وأذكر أن أحد المتأدبين أرانى صلوات على رسول الله كتبها واستجادها ورأى نشرها بين الجماهير ، فلما قرأتها رأيت فيها عاطفة حارة، فقلت: عاطفة مقدورة ، ورأيت فيها جملا غامضة ومتكلفة فلم أقف عندها طويلا ، وإنما قلت للمؤلف استبق ذلك كله لنفسك ولا تشغل به الناس. قال: كيف؟ قلت: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ علم الناس كيف يصلون عليه فى أحاديث صحيحة ، ونفذ المسلمون ذلك بعد تحيتهم لله فى كل قعود أخير من الصلوات الخمس ، فلا مكان بعد ذلك لما ألفت! قال: إنه يترك أثرا حسنا فى النفس. قلت: فى نفسك أنت ، وليس من حقك أن تكلف الناس بما استحسنت ووقتهم ملك الله أولا ، وملكهم هم أخيرا ، وليس لك أن تستغله فى أمر من عند نفسك. إن الصلاة الواردة لا تستغرق نصف دقيقة ينصرف الناس بعدها إلى معاشهم ومعادهم ، وإذا كان ما ألفته يعجبك فاقرأه وحدك ، ولكن لا تجعل قراءته فريضة ولا نافلة ، فإن الفرائض والنوافل وضع إلهى ولا مجال لبشر هنا أن يلزم أو يستحب ، فليس لأحد من خلق الله أن يقول لعباد الله: شرعت لكم كذا وكذا ، ضموه إلى صلواتكم وزكواتكم ليكون إلى الله قربى.
وما الفارق بين شخص يضع حديثا وينسبه إلى رسول الله ، وآخر يضع مسلكا أو تقليدا أو عملا ما ثم يزعم أنه دين مستقيم وطريق إلى الآخرة؟ كلاهما قد اقترف أقبح الكذب.
أخطاء نستلفت النظر إليها ونحذر منها:
   إن المتدينين عندما يهن إيمانهم ويذهب رشدهم يرتكبون واحدا من ثلاثة:
الأمر الأول: أن يعطلوا النصوص ويميتوا أمر الله ، وهذا عصيان جرىء.
 الأمر الثانى: أن ينقلب ترتيب التكاليف فى أذهانهم فيقدموا الصغير ويؤخروا الكبير وتضطرب أوزان الأمور ، فتراهم يتجاهلون العظائم ويتقعرون فى التوافه ، كهذا الذى سأل الحسن البصرى عن الصلاة فى قميص به دم البعوض! فقال له الحسن : ممن أنت؟ قال: من العراق! قال: تسألون عن دم البعوض ، وتستبيحون دم ابن بنت رسول الله؟! وقد صور أبو الطيب المتنبى هذا الاعوجاج النفسى فى فهم الدين بقوله: أغاية الدين أن تحفوا شواربكم؟! يا أمة ضحكت من جهلها الأمم! وذلك فى قوم يحسبون قمة التدين إزالة شعر واستبقاء شعر.
والأمر الثالث: أن يستحسنوا ويستقبحوا من عند أنفسهم لا من عند الله ، ويختلقوا بدعا كثيرة فى شئون الدين وأصوله وفروعه ، تعمل فى الدين عمل السرطان فى الجسم ، ما تزال تنمو حتى تجهز عليه.. والابتداع ، وإن كان مرفوضا جملة وتفصيلا ، إلا أنه متفاوت الخطر والضرر ، إذ هو كالعصيان لا يقبل شىء منه أصلا ولكن منه صغائر وكبائر ، وللصغائر حكمها وللكبائر حكمها.. ومن هنا فالحرب التى توجه ضد البدع الصغيرة دون الحرب التى تعلن على البدع الكبيرة ، والفزع من مرض كالزكام لا يبلغ الفزع من إحدى الحميات التى يغلى منها الدماغ. وقد رأيت بعض المعنيين بالسنة يسوى بين الأمرين ، ويعامل المبتدع الصغير بنفس الشراسة التى يعامل بها المبتدع الكبير ، متعللا بالحديث "كل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار". قلت له: أرأيت قوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا). إننى لا أستطيع تطبيق الآية على مقترفى الصغائر ، وإن كانت لونا من العصيان.
   وإذا كانت البدع متفاوتة الشر فلنعرف أقسامها كما ذكرها العلماء حتى نحسن الخلاص منها بالتى هى أحسن.. ونكتفى هنا بما تعم فيه البلوى. من البدع ما هو حقيقى ومنها ما هو إضافى:
الأول مثل الطواف ببعض الأضرحة على نحو ما يفعل الحجيج بالكعبة المشرفة. وظاهر أن جوهر هذه البدعة لا صلة له بالدين. البدعة الإضافية:
   أما البدع الإضافية ، فهى أشياء دينية الأصل أتى بها على هيئة لم يقل بها الدين. فقراءة آيات من سورة الكهف مثلا حسن يوم الجمعة ، لكن جعل هذه القراءة من شعائر صلاة الجمعة ، وجمع الناس على سماع السورة أو بعضها قبل الصلاة لم يقع قط على عهد الرسول والسلف الأول. ومثل تأليف أوراد خاصة لتلاوتها فى أوقات معينة وبأعداد معينة.. بحجة أنها ذكر لله مثلا أو صلاة على رسوله..
البدع التَّركية:
  ومن البدع ما هو فعلى وتركى ، والقاعدة الكاشفة لذلك أن ما تركه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع وجود الداعى وانتفاء المانع ، فتركه سنة وفعله بدعة!! كان الناس يموتون ، ولم يتجاوز الأمر عند موتهم الدفن بعد صلاة الجنازة ثم قبول العزاء على نحو عابر لا افتعال فيه. وربما كلف جيران الميت بإعداد الطعام لأهله ، فإن مصابهم شغلهم عن إعداده لأنفسهم. لكن مسلمى اليوم رأوا أن يجتمعوا عقب الوفاة فى أندية أو سرادقات يستمعون فيها إلى القرآن ، ويستقبلون فيها الوفود ، وتوزع فيها السجائر والأشربة ، ويتكلف فيها أهل الميت ما يبهظهم. والجماهير ترى أن قراءة القرآن فى حشد يضم المعزين لا بد منه. ولكن العلماء مجمعون على أن الرسول وصحابته لم يفعلوا هذا مع وجود الداعى له وهو الموت وطلب الثواب وانتفاء المانع ، فالأمن مستقر والتجمع سهل…
وما دام الأمر كذلك فالترك سنة والفعل بدعة. وكم سن أشياء لم يفعلها السلف الأول حرص المسلمون اليوم على إقامتها وإدامتها وكأنها دين ، بل قد تكون عندهم أهم وألزم من الدين الثابت الصحيح!! والأستاذ حسن البنا رأى ـ فرارا من الاصطدام بحراس البدع الإضافية والتركية ـ أن يدخل الموضوع فى دائرة الخلاف الفقهى : والخلاف الفقهى يتحمل وجهات النظر المتباينة. ومن ثم لم ير حرجا من ترك مؤذن يضم الصلاة على رسول الله إلى ألفاظ الأذان! ولم ير حرجا من ترك الأسر الكبيرة والصغيرة تتكلف فوق طاقتها لأداء مراسم التعزية المخترعة.. والواقع أن صنيعه رضى الله عنه كان سياسة موقوتة لتجميع الأمة على أمهات الدين وقواعده المهددة ، فقبل المكروه اتقاء للحرام ، من باب ارتكاب أخف الضررين.. والحق أن البدع صغراها وكبراها لا يمكن إقرارها. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد عليه " ، وإن كان العلاج يحتاج إلى بصرة وأناة.. إن شر هذه المحدثات بعيد المدى فى المجتمع الإسلامى ، وأذكر أن موظفا فى فى دائرة عملى كان يغلبه النوم أحيانا كثيرة ، وعرفت أنه ينتمى إلى إحدى الطرق الصوفية ، فطلبت منه أن يطلعنى على الورد المقرر ، فلما استبنته وجدته يفرض ترديد عدد من أسماء الله الحسنى ، وبعض الكلمات والآيات بما يبلغ مليون كلمة كل ليلة ، فعرفت سر نوم المسكين وأشفقت أن يفقد يوما ما عقله.. وهذا الصنف من الناس يوشك أن يختفى لغلبة الحياة العصرية بصبغتها المعروفة… ولكن الذين يريدون الأوبة إلى الدين يجدون فى طريقهم هذه الأوراد فينتقلون من ضلال إلى خبال… وفى ذلك يقول الإمام الشهيد: "وكل بدعة فى دين الله لا أصل لها: استحسنها الناس بأهوائهم ـ سواء بالزيادة فيه أو النقص منه ـ ضلالة تجب محاربتها والقضاء عليها بأفضل الوسائل التى لا تؤدى إلى ما هو شر منها". "والبدعة الإضافية والتركية والالتزام فى العبادات المطلقة، خلاف فقهى لكل فيه رأيه، ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل والبرهان ".
***
   الحب والبغض فى الله ومعنى الولاية والسنة فى زيارة القبور وبناء المساجد احترام العظماء واجب ، ولا أعنى بالعظماء أصحاب الثروة ولا أصحاب السلطة ، فهؤلاء فيهم من يوقر وفيهم من يحتقر! وإنما أعنى بالعظماء أصحاب العلم الغزير ، والشمائل السنية ، واليقين الحى ، والجهاد المخلص! إنما أعنى الطلائع الإنسانية المعجبة التى تلمح فى صفوفها الأئمة والشهداء والمضحين فى صمت ، والفانين فى طاعة الله ، وقد يكونون أغنياء أو فقراء ، مرضى أو أصحاء عسكريين أو مدنيين ، حكاما أو محكومين! قد تكون فيهم الأم الحانية فى سكينة والزوجة الوفية على استحياء.. إن المواهب الربانية كثيرة بين العباد ، واحترام هذه المواهب وإجلال أصحابها دين ، والتنكر للسفلة ورفض مسالكهم والإزراء على أشخاصهم واجب ، ومهما كانت الظروف التى تحيط بهم ، ودوافع الرغبة والرهبة التى تنبعث من قتلهم ، فإن الانسياق معهم جرم ، وإحسان الحديث عنهم زور..!
   من طبائع الأشياء إذا ذقت ثمرة ناضجة أن تقول: هذه حلوة! وإذا ذقت حنظلة قبيحة أن تقول: هذه مرة..!! وإذا حكم امرؤ على الحلو بأنه مر ودعا إلى نبذه ، أو بالعكس حكم على المر بأنه حلو ودعا إلى إساغته فهو مدلس مخرف! يجب ـ باسم الله ـ أن يأخذ كل شىء قدره ووضعه! فالحب فى الله والبغض فى الله من الإيمان ، "وليس منا من لم يوقر كبيرنا ، ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه "! وقد أثنى رب العزة على الصالحين من خلقه ، ونوه بأخلاقهم ومسالكهم: (و اذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا) (و اذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد و كان رسولا نبيا * و كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة) والثناء على الصالحين قانون مطرد تتوارثه الأجيال جيلا بعد جيل ، وتخلد به تقوى العابدين ، وشجاعة الأبطال. قال الله تعالى عن "نوح " (وتركنا عليه في الآخرين * سلام على نوح في العالمين * إنا كذلك نجزي المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين). والحقيقة أن نجاح الرسالات الكبرى يقوم على أمرين متعادلين: التفوق فى زعيم ، والحب والإخلاص فى أتباع!! وفى ظنى أن القارئ الواعى المستجيد أخ للمؤلف المبتكر وأن الجندى المطواع المتفانى أخ للقائد الفاتح ، وهذا يفسر لنا الحديث الصحيح "المرء مع من أحب " . فى صدر تاريخنا الإسلامى ، كان المؤمن يدخل على الخليفة ليوقره احتسابا ـ أو ليذكره إذا نسى ـ وكان المجاهدون فى الجبهات البعيدة ينتظرون دعوات المؤمنين فى صلواتهم الجامعة. كان التحاب فى الله هو الرباط الوثيق بين الجماهير ، وهو الذى استبقى قافلة الإسلام على مر الأيام ثم انحلَّت عروة الحكم على عهد مبكر ، وسارت الجماهير وراء من تثق فيهم ، منحتهم ولاءها العميق! رأينا البخارى يضيق به حاكم بلده فيخرج منه لينشر علمه فى بلد آخر.. سبحان الله ، حاكم تافه يطارد قمة القمم فى علوم السنة!! وكان الجزاء الإلهى أن أبا عبد الله البخارى كرمته الأمصار والأعصار منذ ظهر إلى بقية الدهر (هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب). ومات ابن حنبل فخرجت بغداد كلها وراء جنازته ، ترى كم من معز مشى وراء جثمان الخليفة الذى جلده؟ إنهم مرتزقة القصر وحدهم! وقد التفت الجماهير حول رجالات الإسلام من فقهاء أناروا الطريق بالمعرفة ومن عُباد حببوا الله إلى الناس ، وشرحوا صدورهم بذكره.. ولا شك فى أن أئمة التعليم والتربية ظفروا بحفاوات شعبية بالغة ، أغنتهم عن تقدير الساسة ومغانم الحكم.. وما سعى واحد منهم إلى شئ من هذه المكانة ـ وإلا حبط عمله ـ وإنما هى عواطف الحب فى الله بين العاملين لله فى كل ميدان..
* * *
 تصحيح للمفاهيم:
   وعواطف العامة قد يشوبها من التصورات ما يحتاج إلى التعليق أو النقد. فالبطولة عندهم قلما تخلو من خوارق العادات.. هم يقولون: إن مريم كان يأتيها رزقها من السماء ، وكان كافلها يدهش وهو يرى أنه لا عمل له بعدما قامت الملائكة بعمله.. وهم يقولون: إن الملائكة تنزلت لقراءة القرآن فى بيت أسيد بن حضير ، ولو مضى الأنصارى العابد فى تلاوته لتكاثرت فى دروب المدينة حتى يراها الناس.. ولهم نقول كثيرة فى هذا المجال تطوع لهم أن ينسبوا إلى العلماء والأولياء حشدا من الخوارق لا آخر له..!! وقد كثر الحديث عن كرامات الأولياء وضرورة الإيمان بها إلى حد مستغرب ، ويكاد الدهماء يبطشون بمن ينكر خارقا نسبوه إلى أحد رجالهم ، بل إن أغلب كتب العقائد جعلت "الإيمان " بهذه الخوارق من معالم الصراط المستقيم.. وهذا الكلام كله يحتاج كما قلنا إلى نقد يكشف ما فيه. فتصور أن الولاية لا تتم إلا مع الخوارق الملغية لقانون السببية باطل!! إذ الولاية هى الإيمان والتقوى فحسب. قال تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون). فمن جمع بين الإيمان والتقوى فهو ولى ، رجلا كان أو امرأة.. إن زوجة ترعى بيتها وتربى أولادها وتسعد زوجها ناشدة بهذا كله وجه ربها هى من الأولياء ، وإن رجلا فى ديوانه الرسمى يحرس مصالح الناس ويعجل قضاءها ويهش لأصحابها مع وفائه بحقوق الله من صلاة وزكاة هو من الأولياء.. وليس من الضرورى بتة أن يقع له أى خارق من خوارق العادات!! إن اشتراط الكرامة لاكتمال الولاية أو لصحتها ضرب من الهزل ، وليس لهذا التفكير أى أصل دينى.. ربما تقع الخوارق ـ التى يعجب بها العامة ـ لأناس فقدوا أصل الإيمان والاستقامة. وقد قرأت عن أناس لا يمتون إلى الإسلام بصلة أخبارا مثيرة من رؤى جاءت كفلق الصبح ، ومن إخبار بمغيبات صدقتها الأيام ، إلى غير ذلك  ، فكان تعليقى الأوحد: لا كرامة لمن انقطعت بالله علاقته واضطربت فى الحياة مسيرته! فالكرامة قبل كل شئ وبعده عقل مؤمن وخلق قويم! ولا وزن لمن فقد ذلك ولو مشى على الماء أو امتنع عن الطعام الشهور الطوال.. ويحزننى أن الفكر الدينى عند العامة وأشباههم من أنصاف المتعلمين كاد يجن بالكرامات المادية ، وأولع بإحصاء المئات منها لمعارف ونكرات حتى سقط قانون السببية أو كاد ، وكان لذلك أوخم الآثار على الحضارة الإسلامية. بل إن ذلك أفسد القيم الخلقية عند الكثيرين ، واسمع إلى هذه النادرة: ارتكب أحدهم جريمة مزرية ، وشعر الجمهور فطارده ليقبض عليه ، وكان واثقا من الظفر به لأنه يقترب من شاطئ النهر ، ولكن المطاردين فوجئوا بصاحبهم يتجاوز اليابسة ويمشى بقدميه على الماء ، فوقفوا مشدوهين ، ونظر إليهم المجرم الولى يقول: هذا عطاؤه ، وذاك قضاؤه. يعنى هذا المشى الخارق عطاؤه ، وذاك الجرم السابق قضاؤه!! ودلالة القصة ظاهرة وأثرها خطر. ورأيت وأنا شاب رجلا على كوم من التراب فى ريفنا المصرى ، كان رث الهيئة مرقوع الملابس ظاهر البطالة! وقال لى أحد الناس: هذا الشيخ فلان من أولياء الله! فتجاوزته دون اكتراث ، فقال لى الرجل لائما: ألم يقل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "رب أشعث أغبر ذى طمرين لو أقسم على الله لأبره"؟. فقلت له: ويحك ، ما دخل هذا الحديث فى صاحبك القذر؟ إن الحديث يستلفت النظر إلى أن المواهب العظيمة لا يزرى بها الفقر ، فرب كادح مغبر الجبين أشرف من مترف معطر الملابس ، لأن هذا الكادح ـ كما رووا عن الإمام الشافعى: عليه ثياب لو تباع جميعها بفلس لكان الفلس منهن أكثرا وفيهن نفس لو تقاس بمثلها نفوس الورى كانت أعز وأكبرا لو كان صاحبك وليا لاحترف بدل أن يتبطل ، ولنظف جسده بدل أن يتوسخ ، أى ولاية هذه؟! ولا أنكر أنه قديما وحديثا وجد ناس بلغوا شأوا فى اليقين والتقى ، وأن خوارق العادات وقعت لهم ، أنعم الله عليهم بها فأحسوا فضله الأعلى وسط أنواء عصيبة كادت تعصف بهم. لكن ما علاقة الآخرين بذلك؟ وما يفيدون منه؟ إن الأنبياء أنفسهم لا يملكون ضرا أو نفعا لأحد ، فكيف بمن دونهم؟ (قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا * قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا). بيد أن السلبية والذنبية صفات تغلب على بعض الناس ، فهم يحبون أن يحيوا على حساب الآخرين ، ويكفيهم مجرد الانتساب دون معاناة سبب من الأسباب.. قالوا: عندما احتل الإنكليز القاهرة فى القرن الماضى ، ذهب حشاش إلى قبر الإمام الشافعى يلومه كيف عجز عن رد هؤلاء المغيرين؟ فقال له حشاش آخر معتذرا: إذا كان الأكبر منه ، الإمام الحسين نفسه عجز عن ردهم فما يفعل هو؟! الغريب أن هذا الكلام أو قريبا منه تردد على ألسنة الدهماء فى القرن السابع يوم استولى التتر على بغداد! (أتواصوا به بل هم قوم طاغون). إن الإسلام بعيد بعيد عن هذا الهراء. ويتأدى بنا البحث إلى الكلام عن القبور وساكنيها من عامة وخاصة ، من أبرار وفجار..
   صلة المسلم بالمقابر:
   إن هذه المقابر لا تضم إلا الرفات الفانى من كيان الإنسان ، أما الأرواح فإنها ذهبت إلى مستقرها بعيدا عن هذه الدار.. ومع ذلك فإننا نرتبط عاطفيا ببقايا من نحب مطمورة تحت هذه الأحجار..!
نعم فى هذه القبور أحباؤنا وأقرباؤنا ومن عشنا معهم آمادا طالت أو قصرت ، وكما قال المعرى: وقبيح بنا وإن بعد العهد هوان الآباء والأجداد إننا بزيارة القبور نسترجع ذكريات ، وقد "نسكب العبرات ، وندرك أين المصير مهما حيينا.. وقد كلفنا بزيارة القبور لترق الأفئدة ، وندعو لمن سبقنا بالمغفرة. وقد نزور قبرا معينا لنستحيى بزيارته معانى البطولة ، ونعلن وفاءنا وتقديرنا لصاحبه على نحو ما قال الشاعر لسحابة حافلة تعبر الأفق: أمِّى الضريح الذى أسمِّى ثم استهلى على الضريح ليس من العدل أن تشحِّى على فتى ليس بالشحيح وزيارة القبور بداهة ليست عبادة لها… وأعرف أن بعض الناس تربطهم بسكان القبور بعض مشاعر الرجاء.. وأعرف أن هذه المشاعر نفسها ـ أو أحر منها ـ موجودة عند رواد القصور ، وأذناب الحاكمين ، وهى مشاعر مرفوضة جملة وتفصيلا ما دامت توهن أمل الإنسان فى الله ، وترده إلى غيره من الأحياء أو الأموات. نحن نغار على عقيدة التوحيد ، ولا نسيغ شركا ونقبل آخر ، وكم يحزننا أن يكون قلب امرئ ما فارغا من الله مملوءا بغيره ممن بقوا أو هلكوا. والاستعانة على قضاء الحاجات تكون بالله تبارك اسمه ، ولا يجوز أن يتجه مسلم إلى قبر ليطلب من صاحبه عونا ، فلماذا نترك الملك الأعلى ونتعلق بعبد من عباده؟ وماذا يملك هذا المقبور لأمثاله من الناس؟ إنه لأمر مؤسف أن يشيع بناء القبور على المساجد مع ما ورد من تحريم ذلك ، حتى وهم الناس فى بلادنا أن المسجد ما يكون إلا على قبر لأحد الأولياء ، يعتقد العوام أنه مهوى القلوب وملتقى السائلين!! ومعرفتى بالمساجد تجعلنى أندد بأمور رأيتها.. زرت أحد المساجد بمحافظة البحيرة ، فرأيت القبر يتوسط المسجد توسطا منكرا ، بحيث تكون صفوف المصلين أمامه وخلفه عند امتلاء المسجد! قلت: إن المساجد لله، وهذا المسجد للقبر! فرض القبر نفسه على مساحته بهذا الوضع الغريب..
وقد تكون القبور فى حجر خاصة متصلة بالمسجد اتصالا مباشرا أو داخلة فيه! وهنا نرى انقساما بين المصلين فى الصلوات الجامعة! فالبعض يصلى فى المقبرة ، والبعض الآخر يصلى فى ساحة المسجد! وقد تتعدد الجماعات فى الوقت الواحد ، وتتشابك تكبيرات الانتقال ، ولا يفصل بين انتهاء الصلاتين إلا دقيقة أو دقيقتان!! وحاولنا منع هذا التعدد ، لكن الرعاع أثاروا ضجة كبيرة جعلت وزارة الأوقاف تتراجع اتقاء الفتنة!! وأذكر أن الجمعية الشرعية عندما بنت مسجدها الكبير بالعاصمة ، طلبت منى إزالة ضريح ولى الله "المدبولى" وضم أرضه إلى المسجد ليتسع وليمكن إقامة مئذنة تواجه بعض المعابد..! ولبيت الطلب على عجل ، ونقلت ما يُسمى رفاتا ـ على المجاز ـ إلى مجمع الأولياء بالمقابر.. وهنا حدث ضدى شغب بعيد المدى لم يطفئه إلا وزير الأوقاف الذى كان حسن الظن بدينى! إن تشييد الأضرحة وكسوتها وتزيينها بالمعادن النفيسة واستقدام الزوار إليها أمر شاع فى أمتنا ، ولا أصل له. وأعرف بقالا فى العاصمة بنى مسجدا ، وبعد إتمامه استصدر رخصة أن يدفن فيه ، وتم له ما أراد! وأصبح من أولياء الله! إن علاج ذلك الانحراف يحتاج إلى حكمة ، وإلى خطة طويلة المدى.. ويمكن من الآن منع تعدد الجماعات فى الوقت الواحد ، وصرف المصلين إلى الجماعة الكبرى فى المسجد نفسه ، كما يمكن عمل أبواب خاصة للمقابر الملحقة بالمسجد تيسر للزوار الوصول إليها دون حرج.. وفى القضية كلها يقول الأستاذ حسن البنا: "محبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم بما عرت من طيب عملهم قربة إلى الله تبارك وتعالى. والأولياء هم المذكورون فى قوله سبحانه (الذين آمنوا وكانوا يتقون )، والكرامة ثابتة لهم بشرائطها الشرعية مع اعتقاد أنهم رضوان الله عليهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، فى حياتهم أو بعد مماتهم فضلا عن أن يهبوا شيئا من ذلك لغيرهم ".
ثم يقول الإمام الشهيد: " وزيارة القبور أيا كانت سنة ، وهى مشروعة بالكيفية المأثورة. ولكن الاستعانة بالمقبورين ـ أيا كانوا ـ ونداءهم لذلك ، وطلب قضاء الحاجات منهم عن قرب أو بعد ، والنذر لهم ، وتشييد القبور ، وسترها ، وإضاءتها ، والتمسح بها، والحلف بغير الله وما يلحق بذلك من المبتدعات. كبائر يجب محاربتها ، ولا نتأول لهذه الأعمال ، سدا للذريعة.. ". بيد أن هناك أناسا يتأولون ويتسامحون ويرون ترك الأمور تجرى فى أعنتها ، وهذا خطأ ، ولا أتهم نياتهم فالقلوب إلى الله ، ولكنى أناشدهم الله أن يحفظوا حقائق الإسلام عقيدة وشريعة على سواء ، وأن يلتزموا ما صح من تعاليمه ، وأن ينبذوا الخرافات والبدع التى أزرت بجوهره ، وعرقلت مسيرته.. وهناك آخرون يحسنون الهدم أكثر مما يحسنون البناء. لقينى أحدهم وقال لى مغاضبا: بلغنا أنك صليت فى مسجد الصنم! فقلت دهشا: أى صنم؟! قال : فى مسجد الحسين!! لو قدرت على جلد هذا السفيه لجلدته.. إننى نظرت إليه فى تغيظ ثم قلت: مسعر فتنة أنت ، ما يجد الشيطان خيرا منك فى إذكاء العناد وتمزيق الأمة! نعم صليت فى المسجد مع جمهور كثيف ، يوحد الله ويرجو رضاه ويخشى بأسه! فيهم كثيرون أطيب منك قلبا ، وأسرع إلى ميادين الجهاد يبذلون دمهم فى ذات الله..! ورفضت استئناف الكلام ، فما جدوى الكلام مع امرئ مسعور يريد دمغ الناس بالشرك بدل أن يحببهم فى الحق ، وما أكثر هؤلاء الدعاة الفاشلين التوسل .. ما يجوز منه وما لا يجوز الخلاف فى جواز التوسل وعدم جوازه شائع بين الدهماء ، وقد استفحل أمره مع التخفف العقلى لأمتنا فى القرون الأخيرة ، وانشغال الكثيرين بالتوافه ، وغفلتهم عن معاقد الإيمان وعظائم الأعمال.. بل لقد كانت دولة الإسلام تنتقص من أطرافها وشرائعه تطوى من أصولها ، والرعاع فى دار الإسلام مشدودون إلى جدال حام غضوب : هل فلان ولى أم لا؟ وهل نتوسل به أم لا؟ وظاهر من ملاحظة تلك الأحوال الغريبة أن الأمة كانت قد فقدت خصائصها العلمية والخلقية ، وأمست غير صالحة ألبتة لقيادة أو ريادة ، والجنون فنون..
 معانى الوسيلة فى الشرع والعرف:
   تتبعت معانى " الوسيلة " فى الشرع والعرف ، فوجدتها لا تعدو هذه الصور الخمس:
 ا ـ التوسل إلى الله بذاته وأسمائه الحسنى: على نحو ما جاء فى الحديث: "اللهم إنى أسألك بأنك أنت الله الذى لا إله إلا هو الأحد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد". ومثل ما ورد فى حديث حفظ القرآن الكريم: "أسألك بجلالك ونور وجهك أن تلزم قلبى حفظ كتابك كما علمتنى". ومثل: "أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ". وقرأت لأحد الصالحين دعاء بدأه بهذه الجمل: "اللهم إنى جئت منك إليك ، ولا شىء أعز منك عليك ، فكن شفيعى لديك.. الخ ". وهذا النوع من التوسل لا شىء فيه يقينا ، بل هو قمة التوحيد!
2- التوسل إلى الله بطاعته ، وما قدمنا من عمل صالح نرجو به وجهه الكريم. وهذا هو المراد من قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون). وفى السنة حديث طويل عن ثلاثة انسد عليهم غار كانوا قد لجئوا إليه ، ولم ينجهم منه إلا توسل كل منهم بأحسن ما قدم من عمل. وذلك مصداق قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " تعرف إلى الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة "!.
3 ـ التوسل بدعاء الصالحين ، ومن نتوسم فيهم درجة الإحسان! ودعاء المؤمنين بعضهم لبعض ثابت من عهد نوح الذى قال لربه : ( رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا). وسواء كان الدعاء عن حضور أو عن ظهر الغيب ، وسواء كان من الأعلى للأدنى أو الأدنى للأعلى فهو مأثور مأجور لما له من دلالة حسنة. إن الملائكة حملة العرش تقول فى ورد دائم: ( ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم). والذين يعرفون العظيم يتوجهون له بالثناء والاعتذار إذا رأوا سفيها يسئ إليه ، فلا جرم تهتف الملائكة برب العالمين داعية راجية كلما أخطأ البشر وشردوا عن الطريق ، ثم ثابوا إلى رشدهم…! والخلف يدعون للسلف إشارة إلى وحدة المؤمنين فى مجال العبودية وإن اختلف الزمان والمكان: ( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ). والأمة الإسلامية تدعو لنبيها فى كل أذان وصلاة مترجمة بهذا الدعاء أو بهذه الصلاة عن حبها له وشعورها بما أسدى حين علم وجاهد وهدى.. وكان السلف من الأصحاب رضوان الله عليهم إذا تخلف المطر وخيف القحط يتوسلون برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فيرفع ذراعيه إلى السماء ويناشد الله رحمته فيجئ الغيث.. وقد توسل الصحابة بعد وفاة الرسول بعمه العباس ـ كأن فيه رائحة النبوة ـ فأقبل العم الصالح يدعو وهو خجل حتى نزل المطر.. إنه لا حرج أن تقول لمؤمن تحسن به الظن: ادع الله لى ، أو ادع الله معى. إن هذا النوع من التوسل لا حرج فيه كما رأيت.
* * *
 توسل مختلف عليه:
ـ التوسل بذات الرسول وما له عند الله من مكانة ، وقد وجدت رأيين فى ذلك:
 أولهما: أنه لم يرد ، وأن نماذج الدعاء فى الكتاب والسنة وهى كثيرة لم تتضمن شيئا من ذلك بل تضمنت دعاء مباشرا لله جل شأنه ، والاتباع فى هذا الميدان أولى..
 الثانى: أنه ورد توسل بشخص الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى حديث الرجل الذى أصيب بالعمى ، واستشفع بالنبى إلى ربه فى دعاء تعلمه منه ـ أو من غيره ـ فلما دعا الرجل ربه بهذه الصيغة رجع إليه بصره.. قالوا : وهذا اللون من التوسل وإن لم يروه الصحيحان فقد جاء من طرق تزيد على العشرة مما يشهد له! كلا الرأيين له ملحظ محترم عند من يقول بهما ، ومن الممكن اعتبار هذا الخلاف فى شكل الأداء لا فى حقيقة الوجهة.. إلا أن خصاما شديدا وقع بين الفريقين كاد يتحول إلى قطيعة مزمنة! والسبب عندى يحمل وزره الفريقان معا. الفريق الأول وصف الثانى بالشرك ، والثانى وصف الأول بكراهية الرسول. وتراشقوا جميعا بالتهم ، فلم يكسب الإسلام إلا فرقة سيئة بين بنيه. وزاد الطين بلة أن الفريق الثانى قاس على ذات الرسول! من يراهم أهل صلاح وولاية ، فاتسعت الدائرة لتشمل المعارف والنكرات ، ثم رأيناه يتجاهل أو يتجاوز ما لا شك فيه من صيغ الدعاء ، ويقصر سؤاله لله على الصيغ التى فيها قولان ، وهذا جهل منكور!! وكان يجب على هؤلاء ألا يقيسوا على رسول الله شخصا آخر ، فلا قياس فى العبادات ، وكان يجب أن يتقربوا إلى الله أولا بما صح فى كتابه وسنة رسوله ، وإذا صحت لديهم صيغة فلتكن بعض ما يقال أو آخر ما يقال… وبقى أن ننصح هواة الاتهام بالشرك أن ينظفوا سرائرهم وألسنتهم من سوء الظن ، وألا يبنوا أحكاما على أوهام…
* * *
  توسل مرفوض باتفاق العلماء : 5 ـ التوسل إلى الله بدعاء المقبورين. وهذا مرفوض باتفاق العلماء ، فإن مناجاة نبى أو ولى فى قبره ، وعرض الحوائج عليه رجاء قضائها شرك. ما يمنع أولئك الحمقى من سؤال الله وهو أقرب إليهم ، وأقدر على إجابتهم؟ إن الانصراف عنه إلى غيره عمى وزور.. والغريب أن ناسا عندنا يرسلون شكاوى مكتوبة إلى ضريح الإمام الشافعى ، وآخرين يفزعون إلى قبور بعض الأولياء متذللين يطلبون منها ما لا يقدر عليه إلا رب العالمين.. حكى بعض الظرفاء أنه كان جالسا فى مزار مشهور ، فجاء رجل يطلب من الولى الميت النجدة! لأن امرأته تلد والولادة متعسرة! وانصرف ، وإذا رجل يجىء بعده ليطلب مساعدة ابنه الذى دخل الامتحانات العامة! وهنا قال له الظريف الجالس: إن الولى ليس هنا ، فقد ذهب لتوليد حامل تعسر وضعها!! والواقع أن دعاء المقبورين أضحى مهزلة سخيفة ، وأن الاعتذار عن هذا المسلك لا يسمع من أحد. وأستلفت النظر إلى شىء قد يشتبه مع هذا الدعاء المرفوض ، وهو ليس منه! وأعنى به أدب المناجاة. فإن من المتأدبين من ينادى الليل ، أو القمر ، أو ريح الصبا ، أو خليله ، أو ما أشبه بذلك ، وهو لا يقصد نداء وإنما يريد مناجاة ما يبثه مشاعره ، ويشرح لديه ذات نفسه..! والذى يناجى الليل أو البدر لا يعبدهما بداهة ، بل الذى نادى قبر معن بن زائدة وقال له: ويا قبر معن أنت أول حفرة من الأرض خطت للسماحة مضجعا لم يعبد القبر ولم يفكر فى ذلك.. وكذلك الذى ناجى الرسول الكريم بقوله: يا خير من دفنت فى القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسى الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه النبل والكرم وعندى أن قصيدة شوقى التى بدأها بقوله: إلى عرفات الله يا خير زائر عليك سلام الله فى عرفات تضمنت مناجاة من هذا القبيل ، وقد يكون خيال الشاعر وفيض حبه قد أضفيا على كلامه شيئا من المبالغة ، ولكن ذلك فى رأيى لا يجعله موضع اتهام. يقول شوقى: إذا زرت بعد البيت قبر محمد وقبلت مثوى الأعظم النضرات وضاء شعاع تحت كل ثنية وضاع أريج تحت كل حصاة وفاضت من العين الدموع مهابة لأحمد بين الستر والحجرات..! فقل يا رسول الله ، يا خير مرسل أبثك ما تدرى من العبرات شعوبك فى شرق البلاد وغربها كأصحاب كهف فى عميق سبات بأيمانهم نوران: ذكر وسنة فما بالهم فى حالك الظلمات؟! وقد سبق إلى مثل هذه المبالغات البوصيرى ، فتجاوز الحد فى الإطراء ، ولكن هذه الهنات لا تسوغ اتهام الرجلين بالشرك ، كما يفعل أناس لا خبرة لهم بآفاق الأدب وأساليب البيان ، وإن كنا نؤثر البعد عما يثير الريب ، ونعلن غيرتنا عن كل ما يمس عقيدة التوحيد ، ونرى فى كلام هؤلاء الشعراء ما يستحق الضبط. ونعود إلى التوسل بذات الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين يدعو المسلم ربه. إن الخلاف بين المجيزين والمانعين ، كاد يشبه الخلاف بين دينين ، ولم أر لذلك سببا معقولا. وفى المسافة بين الفعل ورد الفعل ، ندَّت أحكام عن الصواب ، فرأينا ابن تيمية يكره زيارة قبر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ . لماذا؟ إن زيارة القبور كلها سنة ، فلم يشذ هذا القبر وحده؟!
لا ريب فى أن ابن تيمية فعل ذلك سدا لذريعة التوسل الذى يأباه.. وقد سلقه خصومه بألسنة حداد ، ونالوا منه منالا رديئا.. ونظن أن هذه المعركة التافهة يجب أن تخمد نارها ، وأن ينظر إليها دون تشنج ورغبة فى التهم. يقول الأستاذ الإمام: "والدعاء إذا قُرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه موضع خلاف فرعى فى كيفية الدعاء ، وليس من مسائل العقيدة" . أى أنه يوصف بالخطأ والصواب كالقضايا الفرعية فى فقه العبادات… ولا صلة له بالكفر والإيمان أو الشرك والتوحيد.
تقاليد المسلمين غير تعاليم الإسلام قد تكون تقاليد المجتمع صورة مطابقة أو مقاربة لتعاليم الإسلام ، وذاك ما وقع إجمالا فى القرن الأول ، قرن الأصحاب الذين حملوا الإسلام وبلغوه إلى المشارق والمغارب. ثم جاء بعد ذلك التابعون ، وأتباع التابعين فثبتوا الدعائم وأبرزوا المعالم ، واندفع بهم المد الإسلامى إلى الأمام.. ولا يزال هذا المد يشق طريقه إلى مستقبله المربوط بقيام الساعة ، وإن عرا التيار وَهَنٌ، وشاب صفوه كدر! وتقاليد المسلمين خلال التاريخ الطويل لا يمكن اعتبارها صورة دقيقة لتوجيهات السماء. إن هذه التقاليد قد تنحرف قليلا ، وقد يذهب بها الانحراف إلى أن تكون تشويها للإسلام أو ميلا شديدا عن نهجه! ولنذكر أمثلة خفيفة أو خطيرة لبعض التقاليد الشائعة.. قال لى رجل صالح: فى مساجد ليبيا وتركيا توضع مسابح لختم الصلاة، يستعملها من ليست فى أيديهم سبح! لماذا نرى يديك عاطلتين من ذلك؟! قلت: أوثر ختم الصلاة بيدى ، وأكره أن أحمل أى شىء وأنا أتقلب فى معايشى. وأمثل أساليب الذكر أن يكون الله فى ضميرى ، فإذا ترجم اللسان عن ذلك بلفظ ، أو لفظين ، فلا ضرورة لعدد ، وما أحسب التكرار ذكرا له وزن ، أو له فى التسامى النفسى والاجتماعى أثر! وقال لى آخر: لقد جاء فى السنن استحباب الصلاة فى النعال ، فلماذا تتركون هذه السنن؟ قلت: قد أصلى فى النعل وأنا فى حقل أو فى طريق ، أما فى المسجد فلا! لماذا؟ إن أسفل النعل ربما حمل وساخة أو نجاسة معفوا عنها! لكن هذه المقادير المعفو عنها إذا تكاثرت وتراكمت داخل المسجد حولته إلى مزبلة كريهة الرائحة ، فكيف أبيح للجماهير دخول المساجد لتلويثها على هذا النحو؟! قال: كان الصحابة يصلون فى المسجد بنعالهم. قلت: لم يكن المسجد مفروشا بشيء ، وكانت البيئة الرملية أغلب ، وهى تعين على النظافة.. ومن هنا نمنع المنتعلين من دخول المسجد حتى يخلعوا نعالهم فلا يوسخوا السجاد أو الحصير ، والإسلام مبنى على النظافة. وسألنى سائل: أترى هذه الملابس الفرنجية تصلح للمسلمين؟ قلت: إن الإسلام أباح لنا أنواع الأزياء ما دمنا بعيدين عن السرف والخيلاء. قال: هذه ملابس ضيقة ، وأفضل منها ملابسنا الفضفاضة البيضاء! قلت: ما تقول صفة ملابس الصحراء ، اللون الأبيض مستحب لأنه يرد أشعة الشمس بخلاف غيره ، والسعة تمنع العرق فى المناطق الحارة ، وامتداد غطاء الرأس على القفا للوقاية من حدة الشمس ووقدة الحر. والزعم بأن هذا الطراز من الأزياء إسلامى وغيره كفرانى غير صحيح. إن الله لا يكلف سكان المناطق الباردة أو المعتدلة أن يلبسوا عمائم لها ذنب أو لا ذنب لها ، حسب اللباس أن يستر العورات ويزين صاحبه ، وليكن ما يكون فى تفصيله وتقسيمه… وسمعت متحدثا دينيا يوجب بغضب أن تكون زكاة الفطر تمرا أو شعيرا ، أو ما شابه ذلك ، ويرفض أن تكون نقدا كما قال أبو حنيفة ، وشممت من لهجته أنه لو لقى أبا حنيفة لتناوله بالإساءة. قلت: هذا مفكر بدوى النزعة يوجب على لندن وباريس إذا دخلتا فى الإسلام أن تستوردا قناطير من الشعير أو التمر للصدقة على الفقراء.. ماذا فى إخراج الزكاة مالا يصلح الفقير به شأنه؟ ويقضى حاجاته كلها؟ إن فرض تقاليد الصحراء على الناس كلهم باسم الإسلام ضرب من البلاهة!

ليست هناك تعليقات: