الخميس، 16 مايو 2013

كُلُّ ديِن منهَج حَيَاة



كُلُّ ديِن منهَج حَيَاة
المستقبل لهذا الدين 
سيد قطب

هنالك ارتباط وثيق بين طبيعة(النظام الاجتماعي) وطبيعة(التصور الاعتقادي) .. بل هنالك ما هو اكبر من الارتباط الوثيق. هنالك الانبثاق الحيوي: انبثاق النظام الاجتماعي من التصور الاعتقادي.. فالنظام الاجتماعي بكل خصائصه هو أحد انبثاقات التصور الاعتقادي؛ إذ هو ينبت نباتاً حيويا وفطريا، ويتكيف بعد ذلك تكيفاً تاما بالتفسير الذي يقدمه ذلك التصور للوجود، ولمركز الإنسان في هذا الوجود، ولغاية وجوده الإنساني.
وهذا الانبثاق ثم هذا التكيف هو الوضع الصحيح للأمور. بل هو الوضع الوحيد. فما من نظام اجتماعي يمكن أن ينشأ نشأة طبيعية سوية، وان يقوم بعد ذلك قياماً صحيحاً سليماً، إلا حين ينبثق من تصور شامل لحقيقة الوجود؛ ولحقيقة الإنسان، ولمركز الإنسان في هذا الوجود، ولغاية الوجود الإنساني.. إذ أن غاية أي نظام اجتماعي ينبغي أن تكون هي تحقيق غاية الوجود الإنساني.. كذلك فان الحقوق المخولة للإنسان بحكم حقيقة مركزه في هذا الوجود هي التي ترسم خط سيره، وتحدد وسائله التي له حق استخدامها لتحقيق غاية وجوده، كما تحدد نوع الارتباطات التي تقوم بينه وبين هذا الوجود، ونوع الارتباطات التي تقوم بين أفراد جنسه ومنظماته وتشكيلاته.. إلى آخر ما يعبر عنه باسم (النظام الاجتماعي)..
وكل نظام اجتماعي يقوم على غير هذا الأساس، هو نظام غير طبيعي. نظام متعسف. لا يقوم على جذوره الفطرية.. ولا أمل في أن تعمر مثل هذه النظم طويلاً. ولا أمل في تناسق حركة (الإنسان) في ظلها مع الحركة الكونية. ولا مع الفطرة البشرية؛ ولا مع احتياجات الإنسان الحقيقية.
ومتى فقد هذا التناسق فلا مفر من تعاسة الناس وشقوتهم بمثل هذه النظم، مهما استطاعت أن توفر لهم من التسهيلات المادية والإنتاجية.. ثم لا مفر بعد ذلك من تحطم هذه النظم، لتعارضها مع فطرة الكون، وفطرة الإنسان..
*    *    *
هذا الانبثاق ثم هذا التكيف وجه من وجوه الارتباط بين التصور الاعتقادي والنظام الاجتماعي.. يمكن تعميمه حتى يشمل لا مجرد النظام الاجتماعي، بل منهج الحياة كله، بما فيه مشاعر الأفراد وأخلاقهم وعباداتهم وشعائرهم وتقاليدهم؛ وكل نشاط إنساني في هذه الأرض جميعاً.
كما أن للمسألة كلها وجهاً آخر.. إن كل (دين) هو منهج للحياة بما انه تصور اعتقادي.. او بتعبير أدق بما انه يشمل التصور الاعتقادي وما ينبثق منه من نظام اجتماعي. بل من منهج يحكم كل نشاط الإنسان في هذه الحياة الدنيا.
كذلك عكس هذه العبارة صحيح.. أن كل منهج للحياة هو (دين). فدين جماعة من البشر هو المنهج الذي يصرف حياة هذه الجماعة..
غير انه إن كان المنهج الذي يصرف هذه الجماعة من صنع الله-أي منبثقاً من تصور اعتقادي رباني- فهذه الجماعة في (دين الله).. وان كان المنهج الذي يصرف حياة هذه الجماعة من صنع الملك، او الأمير او القبيلة او الشعب-أي منبثقاً من مذهب او تصور او فلسفة بشرية- فهذه الجماعة  في (دين الملك) او(دين الأمير) او(دين القبيلة) او(دين الشعب) .. وليست في (دين الله) لأنها لا تتبع منهج الله، المنبثق ابتداء من دين الله، دون سواه( )!.
والمحدثون من أصحاب المذاهب والنظريات والفلسفات الاجتماعية لم يعودوا يحجمون، او يتحرجون، من التصريح بهذه الحقيقة: وهي انهم إنما يقررون(عقائد)؛ ويريدون اخذ الناس بها في واقع الحياة؛ وانهم يريدون إحلال هذه العقائد الاجتماعية او الوطنية او القومية محل العقيدة الدينية..
فالشيوعية ليست مجرد نظام اجتماعي.. إنما هي كذلك تصور اعتقادي. تصور يقوم على أساس مادية هذا الكون، ووجود المتناقضات في هذه المادية.. هذه المتناقضات المؤدية إلى كل التطورات والانقلابات فيه. وهو ما يعبر عنه بالمادية الجدلية، كما يقوم على التفسير الاقتصادي للتاريخ، ورد التطورات في الحياة البشرية إلى تطور أداة الإنتاج.. الخ. ومن ثم فهي ليست مجرد نظام اجتماعي، إنما هي تصور اعتقادي يقوم عليه-او يدعي انه يقوم عليه-نظام اجتماعي.. وذلك بغض النظر عما بين اصل التصور وحقيقة النظام الذي يقوم الآن من فجوات ضخام!
كذلك سائر مناهج الحياة وأنظمتها الواقعية، يسميها أصحابها (عقائد) ويقولون: (عقيدتنا الاجتماعية) او(عقيدتنا الوطنية) او(عقيدتنا القومية).. وكلها تعبيرات صادقة في تصوير حقيقة الأمر: وهو أن كل منهج للحياة او كل نظام للحياة هو (دين) هذه الحياة، ومن ثم فالذين يعيشون في ظل هذا المنهج او في ظل ذلك النظام.. دينهم هو هذا المنهج او دينهم هو هذا النظام.. فان كانوا في منهج الله ونظامه فهم في (دين الله).. وان كانوا في منهج غيره او نظامه، فهم في (دين غير الله).

والأمر فيما نحسب واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.
*     *      *
ونظراً لهذه الحقيقة البسيطة لم يكن هناك دين الهي هو مجرد عقيدة وجدانية، منعزلة عن واقع الحياة البشرية في كل مجالاتها الواقعية. ولا مجرد شعائر تعبدية يؤديها المؤمنون بهذا الدين فرادى او مجتمعين. ولا مجرد (أحوال شخصية) تحكمها شريعة هذا الدين، بينما تحكم سائر نواحي الحياة شريعة أخرى مستمدة من مصدر آخر، تؤلف منهجاً آخر للحياة غير منبثق انبثاقاً من (دين الله).
وما يملك أحد يدرك مفهوم كلمة (دين) أن يتصور إمكان وجود دين الهي ينعزل في وجدان الناس، او يتمثل فحسب في شعائرهم التعبدية، او(أحوالهم الشخصية)، ولا يشمل نشاط حياتهم كله، ولا يهيمن على واقع حياتهم كله، ولا يقود خطى حياتهم في كل اتجاه، ولا يوجه تصوراتهم وأفكارهم ومشاعرهم وأخلاقهم ونشاطهم وارتباطاتهم في كل اتجاه..
لا.. وليس هناك دين من عند الله هو منهج للآخرة وحدها، ليتولى دين آخر من عند غير الله وضع منهج للحياة الدنيا!
هذا تصور مضحك لحقيقة الواقع الكوني والبشري.. وذلك أن مقتضى هذا التقسيم المفتعل أن يكون لله-سبحانه-جانب واحد من جوانب هذه الحياة ينظمه، ويشرف عليه، وينحصر (اختصاصه) فيه، ويكون لغير الله جوانب أخرى كثيرة ينظمها ويشرف عليها (أرباب) اخرون، يتعلق بها اختصاصهم.
انه-كما ترى- تصور مضحك للغاية، مضحك إلى حد أن الذين يفكرون على هذا النحو، سيضحكون من أنفسهم، ومن تفكيرهم، ويسخرون من سذاجتهم وركة أفكارهم.. لو انهم رأوا الأمر حقيقة من هذه الزاوية الصحيحة، وتحت هذا النور الهادئ الهادي..
*     *      *
على أن للمسالة وجهاً آخر.. إن (الشخصية الإنسانية) (وحدة). وحدة في طبيعتها وكينونتها. وحدة تؤدي كل وظائفها كوحدة. وهي لا تستقيم في حركتها ولا تتناسق خطواتها إلا حين يحكمها منهج واحد منبثق في اصله من تصور واحد..
فأما حين تحكم ضمير الإنسان ووجدانه شريعة، ثم تحكم واقعه ونشاطه شريعة.. وكل من هذه وتلك ينبثق من تصور مختلف .. هذه من تصور البشر، وتلك من وحي الله.. فان شخصيته تصاب بما يشبه داء الفصام (شيزوفرنيا)! ويقع فريسة لهذا التمزق بين واقعه الشعوري الوجداني، وواقعه الحركي العملي، ويصيبه القلق والحيرة.. كما نشاهد اليوم في أرقى البلاد الأوروبية والامريكية، ثمرة للصراع بين بقايا الوجدان الديني الذابلة وواقع الحياة العملية، القائم على تصورات وقيم لا علاقة لها بالوجدان الديني.. وذلك بعد (الفصام النكد) الذي وقع هناك بين الدين والحياة، وكانت له أسبابه الخاصة في تاريخ النصرانية بها( ).
و(دين الله) هو الذي يقدم التفسير الشامل الكامل للوجود، وعلاقته بخالقه العظيم. ولمركز الإنسان في هذا الوجود؛ ولغاية وجوده الإنساني.. ومن ثم يحدد تحديداً سليماً نوع الارتباطات التي تحقق غاية وجود النوع البشري، في حدود مركز هذا النوع في الوجود، وحقوقه المخولة له بحكم هذا المركز، والوسائل التي يبلغ بها هذه الغاية، ولا تخرج عن حدود حقوقه ومركزه، والتي يبلغ بها من ثم رضى خالقه العظيم؛ وسعادة الدنيا والآخرة، بمنهج واحد لا يمزقه كل ممزق؛ ولا يصيب شخصيته بداء الفصام اللعين! ولا ينتهي به إلى التصادم مع فطرته وفطرة الكون كله في نهاية المطاف!
من ثم جاء كل دين من عند الله، يقدم للبشر الأساس التصوري الاعتقادي، الذي يقوم عليه نظام حياتهم  كلها: الوجدانية والعملية.. جاء ليرد البشر إلى ربهم؛ ويرد نظام حياتهم إلى منهجه المتفرد.. كما يقع التواؤم والتناسق بين ضميرهم وواقعهم؛ وبين وجدانهم ونشاطهم؛ وبين حركتهم ونواميس الكون أيضاً..
وجاء كل دين من عند الله لينفذ في الدنيا الواقع، وليتبعه الناس في نشاطهم الحيوي كله، لا ليبقى مجرد شعور وجداني قابع في ضمائرهم. ولا مجرد تهذيب روحي في أخلاقهم. ولا مجرد شعائر تعبدية في محاريبهم ومساجدهم؛ ولا مجرد أحوال شخصية في جانب واحد من حياتهم: "وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله"..
[النساء: 64]
*     *      *
وهكذا جاءت التوراة تتضمن عقيدة وشريعة، وكلف أهلها أن يتحاكموا إليها في كل شؤون حياتهم؛ لا أن يجعلوها مواعظ تهذيبية لا تتجاوز وجدانهم، ولا شعائر تعبدية يقيمونها في هياكلهم:
"إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور. يحكم بها النبيون الذين اسلموا للذين هادوا، والربانيون والاحبار، بما استحفظوا من كتاب الله، وكانوا عليه شهداء، فلا تخشوا الناس واخشون، ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون. وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالاذن، والسن بالسن، والجروح قصاص. فمن تصدق به فهو كفارة له. ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الظالمون".
[المائدة:44-45]
وهذا الذي ذكره القرآن من شريعة التوراة مثل للكثير الذي تحتويه، والذي نظم به موسى-عليه السلام- ومن بعده أنبياء بني إسرائيل حياتهم الواقعية عدة قرون.
ثم جاء المسيح-عليه السلام- بالنصرانية.. أرسله الله إلى بني إسرائيل -فهو أحد أنبيائهم- ومن ثم جاء مصدقاً لشريعة التوراة- مع بعض تعديلات خفيفة، لرفع بعض الأثقال التي فرضت عليهم في صورة عقوبات تأديبية، او كفارات عن معصية؛ كالذي أشار إليه القرآن الكريم:
"وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر. ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها-إلا ما حملت ظهورهما او الحوايا او ما اختلط بعظم- ذلك جزيناهم ببغيهم، وإنا لصادقون"..
[الأنعام:146]
وقد أقرت هذه الشريعة المعدلة لتكون نظاما للحكم والحياة أيضاً:
"وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم، مصدقاً لما بين يديه من التوراة، وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة، وهدى وموعظة للمتقين. وليحكم أهل الإنجيل بما انزل الله فيه. ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الفاسقون".
[المائدة:46-47]
ثم جاء محمد-صلى الله عليه وسلم- بالاسلام، لا ينقض الشرائع السماوية الصحيحة قبله،ولكن يصدقها، ويهيمن عليها. بما انه الرسالة الأخيرة الشاملة للبشرية كافة، المعلنة عن الرشد الانساني، المتضمنة للتفسير الواسع الكلي، الذي يقوم عليه نظام الحياة الإنسانية، الذي يخرج الناس من (الجاهلية) إلى (الربانية) ويكل واقعهم إلى شريعة الله، كما يكل ضمائرهم إلى تقوى الله:
"وأنزلنا إليك الكتاب بالحق، مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه.. فاحكم بينهم بما انزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق. لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً.ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم. فاستبقوا الخيرات. إلى الله مرجعكم جميعاً، فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون.. وان احكم بينهم بما انزل الله؛ ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما انزل الله إليك. فإن تولوا فاعلم إنما يريد الله إنَّ يصيبهم ببعض ذنوبهم. وان كثيراً من الناس لفاسقون.. أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن احسن من الله حكماً لقوم يوقنون".
[المائدة:48-50]
ومن قبل هذه الديانات الرئيسية جاء كل دين ليرد الناس إلى ربوبية الله وحده؛ والى منهج الله وحده.. ومنذ نوح-عليه السلام- توالت الرسل على هذا المنهج الواحد، يختلف في تفصيلات الشريعة ويتفق في اصل التصور؛ وفي الغاية الأساسية الكبرى؛ وهي: إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله دون سواه. وإبطال الألوهيات والربوبيات الزائفة ورد الألوهية والربوبية إلى الله دون سواه..
وفي موضع آخر يُجمل القرآن الكريم هذه الحقيقة.. ويبين طبيعة ذلك المنهج الواحد الموصول بالله. بما ان الله هو خالق الكون والناس، وبيده مقاليد الكون والناس؛ ويبين كذلك مقام هذا الدين الأخير، وسبب مجيئه مهيمناً على الجميع، ويعلن المفاصلة بين أهل هذا الدين، وسائر الجاهليين:
"وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله. ذلكم الله ربي، عليه توكلت، واليه أنيب. فاطر السموات والأرض، جعل لكم من أنفسكم أزواجاً، ومن الأنعام ازواجاً، يذرؤكم فيه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. له مقاليد السماوات والأرض،يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، إنه بكل شيء عليم. شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه. كبر على المشركين ما تدعوهم إليه. الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب. وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم، بغياً بينهم، ولولا كلمة سبقت من ربك إلى اجل مسمى لقضي بينهم. وان الذين أوتوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب.. فلذلك فادع واستقم كما امرت، ولا تتبع أهواءهم. وقل: آمنت بما انزل الله من الكتاب، وأمرت لأعدل بينكم . الله ربنا وربكم. لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. لا حجة بيننا وبينكم. الله يجمع بيننا واليه المصير".
[الشورى:10-15]
وفيما يروي لنا القرآن عن شعيب-عليه السلام-وعن قومه، أهل مدين، يرد ذكر التشريع للحياة العملية، واعتراض القوم عليه، لعدم إدراكهم طبيعة الدين: وانه منهج للحياة شامل، لا للضمير المكنون وحده، ولا للشعائر التعبدية في الهياكل-شأنهم شأن أهل الجاهلية الحاضرة سواء!:
"والى مدين أخاهم شعيباً. قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره؛ ولا تنقصوا المكيال والميزان. أني أراكم بخير، وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط. ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين، بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين، وما انا عليكم بحفيظ.. قالوا: يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا، أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ انك لأنت الحليم الرشيد..!".
[هود:84-87]
كذلك تبدو تلك الحقيقة في حكاية القرآن الكريم لقول صالح-عليه السلام-لقومه:
"فاتقوا الله وأطيعون. ولا تطيعوا أمر المسرفين. الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون"..
[الشعراء:150-152]
فهو يردهم إلى دين الله ومنهجه للحياة، عن دين المسرفين المفسدين ومنهجهم.. أي انه يردهم من العبودية للعبيد، إلى العبودية لله في نظام الحياة.
وفي موضع آخر يحدد الله وظيفة الرسل كافة، ووظيفة كتاب الله عامة: بأنها الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه:
"كان الناس أمة واحدة. فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وانزل معهم الكتاب بالحق، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه"..
[البقرة:213]
فينتهي كل جدل في وظيفة الكتاب وفي وظيفة الرسل. ويتحدد معنى دين الله، ومرادفته لنظام الحياة الذي يريده الله..
*     *      *
ولا حاجة بنا إلى الإطالة اكثر من هذا-في البحث المجمل- عن طبيعة (الدين) وشموله لنظام الحياة الواقعية. فانه لا معنى للدين أصلاً إذا هو تخلى عن تنظيم الحياة الواقعية؛ بتصوراته الخاصة، ومفاهيمه الخاصة، وشرائعه الخاصة، وتوجيهاته الخاصة، فهذه الحياة الإنسانية لابد أن يقوم نظامها الأساسي على قاعدة التصور الاعتقادي، الذي يفسر حقيقة الوجود، وعلاقته بخالقه، ومركز الإنسان فيه، وغاية وجوده الإنساني، ونوع الارتباطات التي تحقق هذه الغاية. سواء الارتباطات بين الإنسان وربه. او الارتباطات بين الإنسان والكون من حوله. او الارتباطات بين الإنسان وسائر الأحياء. او الارتباطات بين بني الإنسان. كما يرتضيها الله لعباده.
وإلا يجئ هذا التفسير الشامل الكامل من عند الله، وإلا يقيم نظام الحياة كله على هذا التفسير الشامل الكامل، فهي إذن أهواء البشر. وهي إذن ( الجاهلية) التي جاء كل دين من عند الله لإخراج الناس منها، ورفعهم إلى (الربانية).
وإلا تكن العبودية لله وحده-ممثلة في التلقي عنه في هذا كله-فهي العبودية للعبيد.. وقد جاء دين الله لتحرير العباد من عبادة العبيد!
لا حاجة بنا للإطالة اكثر من هذا في هذه الحقيقة البديهية التي ما كان يجوز أن تكون موضع جدال. لولا تلك الملابسات النكدة التي قامت في أوروبا، وأدت إلى ذلك ( الفصام النكد) بين الدين والدولة. بل بين الدين والحياة.
إنما المهم أن نلقي الآن نظرة سريعة على تلك الملابسات النكدة.. التي عصمنا منها الله في تاريخنا وديننا. فاجتلبنا ثمارها النكدة لأنفسنا من هناك!

ليست هناك تعليقات: